الفصل الثالث والعشرون

مبارزة مونسورو وسانت ليك، ورامي ينقذ مونسورو

أما ديانا وباسي، فلم يكونَا ينتظران عودةَ مونسورو بمثل هذا الشوق.

فوقع قدومه عليهما وقوع الصاعقة؛ لأنه حال دون اجتماع هذين العاشقين … اللذين حسبا أن أيام سعادتهما بهذه الخلوات لا تفنى.

وبينما كان العاشقان يفتكران في طريقة تجمع بينهما، كان سانت ليك يفتكر بطريقة تمكِّنه من مكافأة باسي بقتل مونسورو، والجمع بين العاشقين بلقاءٍ لا فراقَ بعده.

فجعل ينظر إلى ديانا نظرات الغرام.

ولما لاحَتْ له فرصة بالقُرْب من زوجها، تلبَّسَ أمامَه بهيئة العاشق السعيد.

وجعل يروي أمامه قصصًا مبهمة تدل على أن علائق الحب مستحكمة بينه وبين ديانا الذي كان ضيفها مع امرأته.

وأقام على ذلك ثلاثة أيام، وهو لا يَدَع فرصة تمكِّنه من إثارة الغيرة في قلب مونسورو إلا اغتنمها، حتى ترك ذلك المسكين في حالة تحمل على الإشفاق.

كل ذلك وباسي وديانا يجهلان نوايا سانت ليك، ويذللان كل صعب لاجتماعهما …

فاهتديَا إلى طريقةٍ تمكِّنهما من اللقاء، وهي أن باسي كان يأتي في كل يوم فيصعد على السور المحيط بالحديقة، وينزل إليها فيجد ديانا تنتظره تحت شجرة غضة في وقت معين، فينهبان الملذات بينما يكون مونسورو عند الدوق يتآمَرُ وإياه على خلع الملك.

وكان سانت ليك واقفًا على جميع ذلك؛ لأن باسي كان يخبره عن كل شيء.

فينما كان مونسورو عائدًا يومًا من عند الدوق إذ أبصَرَ عن بُعْد برجل قد خرج من الحديقة متسلِّقًا سورها، ثم قفز إلى الأرض، فامتطى جوادًا وانطلق به ينهب الأرض.

فهروَلَ مونسورو مسرعًا ليتبيَّنَ ذلك الرجل.

ولكنه لم يلبث أن بلغ إلى الحديقة، حتى توارى الفارس عن نظره ولم يَعُدْ يراه.

فجُنَّ من الغيرة، وأول ما تبادَرَ إلى ذهنه سانت ليك، فالتهَبَ صدره حنقًا عليه.

ودخل إلى المنزل وهو عازم على مبارزته والانتقام منه بالقتل.

وعند الظهر، جلس أهل المنزل على المائدة، وبينهم سانت ليك، فلما فرغوا من الطعام نظر مونسورو إلى سانت ليك نظرةَ الاحتقار وقال له بلهجة المتهكم: لي كلمة أُلقِيها إليك أيها الضيف العزيز … أتسمح لي بمقابلة؟

– نعم، فمُرْ بما تشاء.

فخرج مونسورو، وخرج بإثره سانت ليك حتى وصلَا إلى السور.

فوقف مونسورو حيث خُيِّل له أنه رآه وقال له: ألستَ أنت الذي رأيتُه يتسلَّق هذا السور … عند الصباح؟

ففطن سانت ليك إلى ما يعلمه من اجتماع باسي بديانا، وعلم أن مونسورو رآه عند الصباح وحسبه سانت ليك.

فقال في نفسه: هذه فرصة مناسبة للمبارزة، وبلوغ ما أتمناه من خدمة باسي بقتل هذا الرجل.

ثم نظر إلى مخاطِبه نظرةَ المتهكم، وقال: نعم.

– ماذا أردتَ بدخولك الحديقة على هذا النمط؟ وما كان المانع عن الدخول إليها من بابها؟

– لأني رأيتُها مقفلةَ الأبواب كثيرةَ الحجاب، ثم رأيتُها جنةً دانيةَ القطوف فهبطت إليها من السماء.

فاحتدم مونسورو من الغيظ وقال: ولكن ستبقى فيها حيث طاب لك المقام، ثم سيُدفَن معك هذا السر لأنه خليق بالكتمان.

فضحك سانت ليك ضحك الساخر، ثم قال: لك ما تشاء أيها الزوج الغيور.

فامتشق الزوج حسامه، وقال: أرى على جنبك سيفًا طويلًا، فإذا كنتَ تتقلَّده لغير الزينة فجرِّدْه من غمده.

فجرَّدَ سانت ليك حسامه والتقى السيفان، فأخذَا في مبارزة عنيفة زمنًا طويلًا.

حتى لاحت لسانت فرصة من خصمه، فابتدره بطعنة قوية خرَّ بها على الأرض صريعًا.

وخرج الدم من صدره يتدفَّق كأفواه القرب.

ثم أطبَقَ عينَيْه قائلًا: لتلعنك السماء.

فأكَبَّ سانت عليه، ووضع يده على قلبه فلم يشعر بحركةٍ، فعلم أنه مات.

وللحال، مسح سيفه بأطراف ثوبه وانطلق مُسرِعًا إلى امرأته، فخَلَا بها وقال: أسرعي بإعداد مهمات الرحيل لأننا مسافران الساعة.

فارتاعَتْ حنة مما سمعت وقالت: ما بالك مضطرب الصوت؟

وما السبب في هذا الرحيل؟

– لقد طعنتُ طعنةً ترقص لها عجائز هذه القرية، ولكنها تضمن سعادة مَن نحب.

– بالله أوضح ما تقول، فلقد شغلت قلبي.

– لقد قتلتُ مونسورو، ولم يَعُدْ شيء يحول بين العاشقين.

فاضطربت لهذا النبأ وقالت: والآن ماذا نفعل؟

– نسافر في الحال.

– وديانا؟

– لا نَدَعُها تعلم بشيء، بل نسافر خفيةً وسنكتب من باريس عن حقيقة الأمر.

فأسرعي بتهيئة المعدات بينما أكتب رسالة إلى باسي.

فذهبَتْ حنة بشأنها وجلس سانت ليك على منضدة، فكتب إلى باسي ما يأتي:

أيها الصديق العزيز

أكتب إليك وأنا على أهبة الرحيل إلى باريس، لأخبرك بما دعاني إلى هذا السفر الفجائي، وهو أني قتلتُ في هذه الساعة الكونت دي مونسورو.

ولا أخالك تظنُّ بأني قتلتُه غدرًا أو عدوانًا، بل قد قتلتُه والسيف في يده …

وهو الذي دعاني إلى المبارزة …

أما سبب هذه المبارزة، فهو أنه رأى رجلًا يتسلَّق جدارَ الحديقة (وأظنُّكَ ذاك الرجل).

فحسبني إياه …

وأقبَلَ إليَّ يستوضح مني عن هذا السلوك، فأفضى به الأمر إلى الموت.

أما الآن وقد خَلَا لك الجو، فاسمح لي أن أعزِّيك بوفاة هذا الفقيد العزيز.

وسنلتقي في باريس، إن شاء الله.

مُحِبُّكَ
سانت ليك

ثم طوى الرسالة ودعا الخادم، فقال له: اذهب بهذا الكتاب إلى الفندق المقيم فيه الكونت دي باسي، وأَعْطِه إياه.

وبعد ذلك سار مع زوجته في طريق باريس، بغير أن يطَّلِع على سفرهما أحدٌ.

•••

ولم يمضِ على ذلك ردح من الزمن، حتى شاع في جميع القرية مقتل مونسورو.

وبلغ الخبر إلى الدوق دانجو …

فسُرَّ لموته سرورًا مزدوجًا؛ لأنه دُفِن مع هذا الرجل جميع ما كان يربط بينهما من الأسرار الهائلة.

وزادت مطامعه في اختطاف ديانا.

لكنه لما وصَلَ إليه هذا النبأ تظاهَرَ بالحزن الشديد، وأسرَعَ في الحال إلى زيارة منزل ديانا لتعزيتها بوفاة زوجها.

وما كان أشد دهشته عندما دخل إلى المنزل، وهو يردِّد بين شفتَيْه عبارات العزاء …

عندها وجد مونسورو مسجَّى على فراشه، وقد تلبس بلباس الحياة.

فأقام عنده حينًا وهو مندهش من هذا الاتفاق، ثم سأله عن جرحه وعن الذي جرحه.

فأنكَرَ مبارزته مع سانت ليك إبعادًا للظنون.

وادَّعَى أن أحد اللصوص قد اغتاله على الطريق، وطعَنَه بمُدْيَة لم تُصِبْ منه مقتلًا.

فانصرف الدوق قائلًا في نفسه: يا ليتها كانت القاضية!

أما باسي، فإنه تأثَّرَ التأثُّرَ الشديد عندما اطَّلَع على كتاب سانت ليك.

وأيقَنَ أن صديقه قد اختلق حجةً للمبارزة، كي يجد سبيلًا إلى قتله.

وفيما هو عازم على الخروج من منزله إلى تعزية ديانا، إذ دخل عليه طبيبه الخاص.

ورأى عليه إشارات الكآبة، فعلم ما كان من تأثير كتاب سانت ليك عليه.

فأخبره بأن مونسورو لم يَمُتْ، بل هو جريح، وسيبرأ بعد القليل من الزمن البرءَ التامَّ.

فاستغرب باسي ما سمعه من الطبيب، وقال: عجبًا! كيف رُدَّتِ الحياةُ إلى هذا الرجل، بعد أن نفذ إليه حسامُ سانت ليك؟

– إن مرجع الفضل بذلك إليَّ يا مولاي.

ذلك أني كنتُ مارًّا من جهة منزل ديانا، فرأيتُ جمهورًا من الناس محيطين بما لم أعلم.

ثم سمعتُ النائحة، فعلمتُ أنهم يجتمعون حول جثة، فأسرعتُ لأتحرَّى الخبرَ.

فرأيتُ الكونت دي مونسورو صريعًا على الأرض، غارقًا في بحر من الدماء ولا حراك به.

وكانوا كلهم يعتقدون أنه ميت.

ففحصت النبض والقلب، فرأيتُ فيهما دلائلَ الحياة.

فأمرتهم بإدخاله إلى المنزل، ثم كشفتُ عن الجرح فإذا هو غير خطير، ولم يكن قد أُغمِيَ عليه إلا لما نزف منه من الدماء.

فطيَّبْتُ خاطر أهله وضمدتُ الجرحَ.

ثم تأمَّلْتُ بذلك الموقف الذي كنتَ فيه، ورأيتُ أن حياةَ هذا الرجل في يدي، وأن سعادتك ونعيمك متوقِّفان على قتله.

فغلبَتْ عليَّ عواطفُ المروءة، فعالجْتُه وأنقذتُه من الموت، وسيندمل جرحه في أقرب حين.

– لقد أحسنتَ يا رامي بإنقاذ هذا الرجل، ولو لم تبادِرْ إلى معالجته لَعُدَّ عملك من أعظم الجنايات، ولَكنتَ قاتلًا مجرمًا، إذا نسي الناسُ جرمَكَ فلا ينساه الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤