الفصل الرابع والعشرون

عودة الدوق دانجو إلى باريس وحيلة مونسورو

وبعد ذلك بثلاثة أيام أقبلَتِ الملكةُ كاثرين أم الملك إلى دانجو، فقُوبِلت باحتفال عظيم، وخرج الدوق مع جميع أعوانه إلى ظاهر القرية لاستقبالها.

ثم خلَتْ بابنها الدوق زمنًا طويلًا، عقدَتْ فيه شروطَ الصلح بين الملك وأخيه.

على أن يصفح الملك صفحًا عامًّا عن أخيه وعن كل أعوانه، وعلى أن يرضخ الدوق للطاعة ويمتنع عن إثارة المشاغب والفتن، ثم اتَّفَقَا على الرجوع إلى اللوفر، على أن يُضمَن له حُسْن الاستقبال.

وفي اليوم التالي، أخبر الدوق جميعَ أعوانه بما عزم عليه من الرجوع إلى باريس.

فأخذوا يتأهَّبون للرحيل.

ثم خطر للدوق أن يذهب بمونسورو أيضًا؛ لأنه لا يحتمل البُعْدَ عن ديانا.

فذهب إلى منزله، وأخبره بجميع ما كان بينه وبين أمه، وكيف عقد الصلح بينه وبين أخيه.

وطلب إليه أن يرجع معه إلى باريس.

فتعلَّلَ مونسورو بجرحه؛ لأنه أدرَكَ غايةَ الدوق.

فأقنعه الدوق بضرورة الرحيل وأنه سيجد من عناية الأطباء في العاصمة ما لا يجده في هذه القرية الحقيرة، فاضطرَّ الكونت إلى الإذعان، وخرج الدوق راضيًا مطمئنًّا.

أما باسي فإنه اغتنم فرصةَ جرح الكونت دي مونسورو، فجعل يتودَّد إليه، ويتزلف منه حتى وقع من قلبه خير موقع، ونال من قُرْب ديانا أكثر ما يشتهيه.

وفي اليوم الثاني سار موكب الدوق تحفُّ به أعوانه، وقد صنعوا للكونت مونسورو محملًا لعدم تمكُّنه من الركوب.

فكان فيه أشبه بالسجن، غير أن باسي كان يؤانسه من حين إلى حين، ثم يعود إلى ديانا كلما وجد عينًا غافلةً من الدوق.

وما زالوا على ذلك إلى أن وصلوا إلى باريس بعد سبعة أيام، فدخل الجميع إلى اللوفر.

فقبَّلَ الملك أخاه، وزالت من قلبَيْهما الأحقادُ.

أما مونسورو فإنه ذهب إلى المنزل القديم الذي كانت تقيم فيه ديانا قبل الزواج، فأقام فيه مع زوجته.

وذهب باسي إلى شيكو، فشكره الشكر الجزيل، ثم ذهب إلى سانت ليك الذي توصَّلَ إلى الحصول على رضا الملك وعفوه، فكان بينهما حديث طويل.

أما باسي فإنه لزم منزل مونسورو، لا يخرج منه إلا إلى قصر الدوق، فيقيم بحضرته ريثما تنتهي مدة الخدمة، ثم يقفل راجعًا إلى منزل مَن يحبُّ بحجةِ إشفاقه على مونسورو وتسليته في مرضه.

وكان الدوق يزور أيضًا هذا المنزل في كل يوم، ولكن مونسورو يقطب جبينه عند مرآه ولا يسمح لديانا أن تبرز إليه، وفي كل مرة كان يعود هذا المريض، كان يجد باسي لديه وهو محفوف بإكرام أهل المنزل، محبوب من الجميع.

فكان الدوق حانقًا على باسي، عالِمًا بحبِّه لديانا وخداعه للزوج، ولكنه لم يثبت له أمر هذا الحب بالبرهان الجلي.

إلى أن زاره في إحدى الليالي حسب العادة، وكان قد قرب من أن يتماثل للشفاء.

فلم يجد باسي في تلك الليلة على خلاف المألوف.

لكنه لم يجد أيضًا ديانا.

فلما دَنَا وقت انصرافه نهض، وبدلًا من أن يذهب رأسًا إلى الباب الخارجي ذهب إلى غرفة ديانا.

فصاحَ به مونسورو: قد ضللتَ يا مولاي الطريق.

ولكن الدوق قد تظاهَرَ بالصمم وفتح بابَ الغرفة، فرأى فيها ديانا وبالقرب منها رجل لم يتبيَّنْ وجهه في الظلام.

فاكتفى بما رآه وانتبه لصوت مونسورو، فاعتذَرَ وخرج مع رفيق له كان واقفًا على الباب وقفة المتنصت.

فلما صارَا في الطريق قال له: إن الموعد غدًا يا مولاي عند منتصف الليل.

– وأي موعد تعني؟

– موعد ديانا مع مَن تحب.

– وكيف عرفتَ ذلك؟

سمعتُ العاشقين يتواعدان، وآخِر ما سمعتُها تقول له: غدًا عند منتصف الليل تصعد إليَّ من النافذة على السلم الحريرية، ونبِّهني إلى قدومك بالصفير.

– ألم تعلم صاحب هذا الصوت؟

– أظنه باسي، ومع ذلك فإذا أمَرَ مولاي فسأكمن له في الغد ساعة الموعد، فأقف على كل شيء.

– سنكمن معًا أيها الرفيق، والويل لباسي إذا كانَتْ قد بلغَتْ جسارتُه إلى هذا الحد.

وكان مونسورو قد علم أيضًا من أحد خدمه أن امرأته تخونه، ولكن ذلك الخادم لم يعرف ذلك الرجل.

فكان أول ما تبادَرَ إلى ذهن هذا الزوج التعيس أن ذلك الرجل لم يكن غير الدوق.

فالتهَبَ فؤاده غيظًا، وعزم على أن يكمن في الليلة الثانية خارج المنزل، وعلى أن يقتل كلَّ مَن يتأكَّد له أنه معتدٍ على عرضه، مهما بلغ مقامه من السمو.

غير أن باسي لم يعلم بشيء من هذه المكامن، فأقبَلَ في الليلة الثانية عند منتصف الليل، حتى وصل إلى منزل مونسورو.

فرأى نورًا في غرفة ديانا.

فصفر ثلاث مرات حسب الاتفاق، فأُطفِئ النور في الحال، ثم فُتِحت النافذة وخرج منها رأس ديانا، التي جعلت تفحص الطريق بنظر الخائف حتى وقع بصرها على باسي من خلال أشعة القمر.

فبرقت أسرة وجهها من الفرح، وقالت له بصوت الهامس: ألقِ إليَّ بالسلم لأعلِّقها، وأسرِعْ بالصعود لأن أهل المنزل نيام.

فأخذ باسي سلمًا حريرية من جيبه، ورمى بطرفها إلى ديانا فربطته إلى حديد النافذة.

ثم صعد إليها ودخل منها إلى الغرفة، فأرجع السلم إلى جيبه وعادَتْ هي فأشعلت النور.

ومن غرائب الاتفاق أنه بينما كان باسي يصعد إلى حبيبته على السلم، كما كان يصعد من قبله روميو إلى لقاء جولييت.

كان مونسورو ينزل على سلم المنزل، متكئًا على ذراع الخادم كي يكمن لذاك العاشق، الذي أُخبِر عنه أنه يقدم إلى منزله كل ليلة عند منتصف الليل.

فلما وصل إلى الطريق كان باسي قد بلغ إلى الغرفة، وقد طوقته يَدَا ديانا تلهب فمه تقبيلًا.

فدهش مونسورو بعد أن أقام هنيهة، إذ لم يَرَ أحدًا … وقال لخادمه: كان ينبغي أن أقيم من المنزل وأرقب غرفتها.

– كلا يا مولاي، والذي أراه أنه خير لنا لو أقمنا في مكمن على الطريق.

فأنت ستقتل ذلك القادم من غير بدٍّ.

فإذا قتلتَه على الطريق تزول الشبهات وتدرأ عنك ملامة الناس، على أنك لو قتلتَه في المنزل لما أمنتَ تقوُّلَ الأعداء.

وفوق ذلك، فقد يأتي ذلك الرجل فيدخل إليها خلسةً من غير أن تراه.

ولكنك لو كنتَ خارج المنزل، فلا بد من أن تراه عند دخوله؛ لأنه سيدخل من النافذة أو من الباب.

فأذعن مونسورو لرأي خادمه وقال: أنت مصيب فيما تقول، فأين ترى أن نكمن؟

– في هذه الحفرة … لأننا سنرى فيها كلَّ مَن يمر، بغير أن يرانا أحد.

ثم توجَّهَ الاثنان إلى الحفرة التي عيَّنها الخادم، فأقام مونسورو يرقب بعين ساهرة مرورَ الناس.

وجعل الخادم يهيئ البندقية لمولاه ويحشيها.

فلم يلبثَا فترةً من الزمن حتى سمعَا وَقْع حوافر خيل.

فالتهبَتْ مقلتَا مونسورو بشرر الغيظ، وأطلَّ من مكمنه ينظر نظرةَ الذئب المفترس.

فنظر فارسَيْن يدنوان من المنزل حتى إذا بلغَا إليه، ترجَّلَ أحدهما عن جواده، ثم ترجَّلَ الآخَر على إثره.

فربط الجوادين إلى حلقة في الحائط، وقال أحدهما لرفيقه: أظن أننا قد وصلنا متأخرين وأنه أصبح في المنزل.

– كيف كان الحال، فإننا إذا لم نَرَه داخلًا … فلا بد لنا من أن نراه خارجًا.

– حسنًا، ولكن كيف يتيسَّر لنا أن نراه؟

– ذلك سهل ميسور، وهو أنك تطرق الباب فتدخل مستطمنًا باسمي عن صحة مونسورو.

ومتى طرقتَ البابَ وأحسَّ بدخولكَ، فهو لا بد أن يخرج حذر الفضيحة، فأراه من غير بدٍّ.

– حسنًا … فابتعد الآن قليلًا عن المنزل … وأنا سأطرق الباب.

ثم أعطاه لجامَ جواده.

أما مونسورو فإنه سمع صوت المتحادثين، ففهم أن واحدهما الدوق دانجو والآخَر أورلي.

فاحتدم غيظًا وقال: لقد تحقَّقْتُ الآن أن هذا الرجل لا يدور في عروقه دمٌ ملكي، وَلْيكن دوقًا أو ملكًا، فإني قاتله لا محالة.

ثم نظر إلى الخادم وقال: أشعل الزناد، لقد آنَ لهذا الفاجر أن يموت.

وبينما أولي يعطي لجام الجواد إلى الدوق، إذ سمع صوت مونسورو … ونظر إلى شرر الزناد يضيء، فاضطرب من الخوف على مولاه وقال: هو ذا كمين يا سيدي، فَلْنُسرِعْ بالرحيل.

فقال الدوق: وأي كمين تعني؟

– سمعتُ صوتًا خارجًا من هذه الحفرة، ورأيتُ شررَ الزناد … فَلْنسرِع يا سيدي … فلعل الكامن في هذه الحفرة من أتباع باسي.

– لقد أصبتَ بحذرك؛ لأني أرى ما تراه فَلْنذهب إذًا.

ثم امتطى الاثنان جوادَيْهما وانصرفَا.

فهبَّ مونسورو من مكمنه وهو يرتعش من الغضب، وقال لخادمه: اذهب في الحال، وهيِّئْ لي المركبة … لأني ذاهب إلى منزل الدوق.

– سيدي، ماذا تفعل أتذهب إليه في مثل هذه الساعة؟

– نعم، وإذ لا أستطيع أن أنتقمَ بالسيف فَلْأنتقم بالحيلة.

ودخل بعد هذا القول إلى المنزل مغضبًا متوعدًا، فجعل يفتح الأبواب بمنتهى الحدة، ويكسر كلَّ ما وقع أمام عينَيْه من أثاث المنزل، حتى انتبَهَ العاشقان.

فأسرع باسي بالهرب، فربط السلم بالنافذة ونزل منها مسرعًا، فنَجَا مما كان يتوقَّعه من الخطر.

وبلغ إلى الأرض آمِنًا.

بينما كان الدوق يسير وجلًا في جهة قصره.

والكونت مونسورو يزبد حانقًا، ويملأ المنزلَ صياحًا لتأخُّرِ الخدم في تحضير المركبة.

وبعد أن أُعِدَّتِ المركبةُ ركب فيها الكونت، وأمر السائق بالذهاب إلى قصر الدوق.

فسار به حتى وصل إلى القصر.

فاستأذن بالدخول، فنزل خبر قدومه على الدوق نزولَ الصاعقة، لكنه لم يجد بدًّا من قبوله.

فأَذِن له.

فلما دخل الكونت، تكلَّفَ الدوق هيئةَ القلق والتودُّد فقال: هذا أنت يا كونت؟ وكيف تَقدَمُ إليَّ في مثل هذه الساعة وأنت لا تزال مريضًا؟

أَلَا تشفق على نفسك؟

– لم أقدَمْ يا مولاي إلا لخدمة سموِّكم التي أوثرها على نفسي.

– قُلْ إذًا أيها الصديق الوفي عمَّا حملَكَ على المجيء؟

– إنَّ ما أتيتُ لأجله لا يقال أمام الناس.

فصرف الدوق مَن حوله بإشارةٍ.

ولما خلا المكان بالاثنين، قال له الكونت: أراكَ قادمًا حديثًا من الشوارع.

– كيف عرفتَ ذلك؟

– أرى الوحل لا يزال طريًّا فوق رجلَيْكَ.

– هذا صحيح يا سيدي.

– أتراك تمتهن غير مهنة رئيس الصيد؟

– نعم، لأني قد امتهنت أيضًا مهنة الرقباء على الطرق.

– وماذا تريد بهذه المراقبة؟

– أريد أن أعرف مَن يمر بها.

ثم جلس على كرسي قبل أن يأذن له الدوق بالجلوس … وقبل أن يجلس نفسه.

فقال له الدوق بلهجة المتهكِّم: أتأذن لي أيها الكونت بالجلوس؟

– لا تتهكم يا سيدي على أصدق الناس إخلاصًا في خدمتك … وشهد الله لو تمكَّنْتُ من الوقوف لما جلستُ … ولكنني مريض كما تعلم.

– إذًا قُلْ ما الذي جاء بك إليَّ؟

– إني قادم من قِبَل سمو الدوق دي كيز.

– إذًا ادنُ مني واخفض صوتك لئلا يسمعنا أحدٌ.

فلما دَنَا منه قال له الدوق: ماذا تريد أن تقول بلسان الدوق، هل كتب إليك؟

– كلا.

– إذًا لقد اجتمعتَ به في المعسكر.

– لا هذا ولا ذاك يا سيدي، بل هو قد أتى إلى باريس.

فدهش الدوق دانجو مما سمع وقال: كيف أتى إلى باريس؟ وكيف لم أَرَه؟

– إنه لم يأتِ إليكم حذرًا من أن يعرِّضَكم للخطر.

– ولكن أَلَا يخبرني على الأقل بقدومه؟

– لقد أخبرك يا سيدي، أَلَمْ أحضر إليك لهذا الشأن؟

– حسنًا، ولكن ما الذي حمله على المجيء؟

– قد أتى إيفاءً للموعد الذي ضربتَه له.

فارتاع الدوق وقال: أنا ضربتُ له موعدًا؟

– نعم يا سيدي، وأنا الذي ضربتُ له هذا الموعد بأمرك، وغدًا يحين الأجل المضروب، فإذا كنتم قد نسيتم، فابن عمكم لم ينْسَ.

فاصفرَّ وجه الدوق؛ لأنه كان قد عزم بعد صلحه مع أخيه أن يقلع عن الدسائس، ثم قال: نعم لقد ذكرتُ ذلك، ولكني قد رجعتُ عن جميع هذه الأفكار …

ولذا فقد نسيتُ هذا الموعد.

– إذًا يجب أن يعلم الجميع ذلك، حذرًا من أن يسيء ظنه بك، فيصبح عليك بعد أن كان معك.

– لو كان معي لما عدم وسيلةً في سبيل إنقاذي، أيام كان محجورًا عليَّ في اللوفر.

– ذلك لأنه كان أيضًا غير آمِنٍ عقاب الملك، فاضطر إلى الخروج من باريس.

ولكنك عندما بلغتَ إلى دانجو، أَلَمْ يكتب إليك انك إذا رغبتَ أن تمشي إلى باريس فهو سيكون معك في طليعة الجيش؟ فلستَ الآن بحليفٍ الدوق فقط، بل أنت شريكه بالجرم.

فعضَّ الدوق على شفتَيْه من الغيظ.

ثم غيَّرَ نمط الحديث فقال: قلتَ لي إنك آتٍ من قِبَل الدون دي كيز، فماذا عهد إليك أن تقول؟

– كل شيء يا سيدي؛ لأنه يعلم أني موضع ثقتك وصفِيُّكَ.

– إذًا قُلْ ما هي غايته؟

– هي دائمًا نفسها يا سيدي، وهي جعل الدوق دانجو ملك فرنسا.

فبرقت أسرة الدوق من الفرح وقال: هل الفرصة مناسبة الآن؟

– ذلك مناط بحكمتك وحسن تعقُّلِك، وها أنا مُفصِح لكَ عن جميع ذلك بالكلام الموجز، فأقول إن عيد الرب قريب، وإن الملك سيخرج حسب عادته في كل عام فيزور جميعَ الأديرة.

وعندما يبلغ إلى دير جنفياف، يدخل إليه فلا يخرج منه إلا وأنت في مكانه على العرش.

هذه هي الخطة التي سيجرون عليها.

هل تعترض في شيء؟

فوجم الدوق ولم يَفُهْ بحرفٍ.

فقال الكونت: ما بال مولاي لا يجيب؟

– ذلك لأني أفتكر …

– بماذا؟

– أفتكر أن أخي لم يُولَد له ولي للعهد إلى الآن، ولن يُولَد له لما هو عليه من الهزال وضعف البنية.

فإذا صبرتُ فإني أبلغ إلى ما أتوقُ إليه من غير أن أعرِّضَ نفسي للأخطار؛ لأنه لا يوجد لعرش فرنسا وريث غيري من بعده.

– أنت مخطئ يا مولاي؛ لأن أمراء دي كيز إذا كانوا لا يستطيعون أن يكونوا ملوكًا، فهم قادرون على تنصيب الملوك، فإذا خرجتَ عن رأيهم فإنهم يجدون وريثًا سواك.

فقطب الدوق جبينه وقال: مَن يجسر أن يتولَّى مكاني على عرش شارلمان؟

– إن أسرة البوربون هي مساوية لأسرتكم في حقوق التاج.

– أتريد بذلك أنهم يولُّون ملكَ النافار؟

– هو ذاك يا سيدي، فإنه شجاع مقدام.

– نعم، لكنه بروتستانتي.

– أَلَمْ يعتنق المذهب الكاثوليكي في مذبحة برتلماوس؟

– نعم، لكنه عاد إلى سابق اعتقاده بعدما أمن الخطر.

– وما الذي يمنعه أن يصنع لوقاية تاجه ما صنع لوقاية حياته؟

– وهل كان ما تظن؟ … أتخال أني أَدَعُ حقوقي تضيع من غير دفاع؟

– إنَّ أعداءك من رجال الحرب أيضًا.

– لكني أترأَّسُ الحزبَ الديني.

– وهم حياته التي يحيَا بها.

– إني أنضمُّ إلى أخي.

– لكنه يكون قد مات.

– إني أدعو إلى نصرتي ملوكَ أوروبا.

– إن الملوك تساعد الملوك، ولكنها لا تثير الحروبَ على الشعوب.

– كيف ذلك؟

– إن أسرة دي كيز مستعِدَّة لكلِّ خطب يا سيدي، حتى إلى قلب الملكِيَّة نفسها، وتأسيس جمهوريةٍ كسويسرا وجينوه وفينيسيا.

– لكن حزبي لا يأذن بمثل هذا الانقلاب.

– هذا إذا كان لك أحزاب يا سيدي، أما أحزابك اليوم فهي أنا وباسي، وليس لك نصير سوى هذين الرجلين.

– إذًا فأنا ضعيف خامل، وماذا عسى أن ينتفع دي كيز من ضعفي وخمولي؟

– ذلك أنك لا تستطيع أن تُقدِم على أمر إذا كنتَ فردًا، أما إذا كنتَ يدًا واحدة، فأنت تصبح قادرًا على كل شيء، فقُلْ يا سيدي كلمةً واحدةً تغدو ملكًا من غير بدٍّ.

فنهض الدوق مضطربًا مذعورًا، وجعل يمشي في الغرفة بخطوات قَلِقة، ثم وقف أمام مونسورو وقال: لقد أصبتَ أيها الكونت، فلم يَعُدْ لي من أحزابي غير أنت وباسي.

فبرقَتْ أسرة مونسورو من الفرح وقال: إذًا لقد علمتَ أني صادِق فيما أقول.

– نعم، قُلِ الآن ما تشاء.

– ليس لي ما أقوله بعد ما أوضحتُه لك، سوى أن تصادِق على مقتل الملك في الدير.

– إني أصادِق.

– لا يكفي القول وحده في مثل هذا المقام يا مولاي، بل ينبغي أن تخطَّ بيدِكَ ما قلتَه بلسانكَ.

– إنهم يريدون أن يتسلَّحوا بتوقيعي!

– هو ذاك يا مولاي.

– إذًا فإني لا أكتب ولا أصادِق.

– كلا بل تصادِق يا مولاي؛ لأن الرفضَ خيانة تضرُّ بكَ، وفوق ذلك فإني أخشى عليك العاقبة.

– أية عاقبة تخشى؟

– عاقبة الموت.

– أيجسرون أن يمدُّوا يدًا أثيمة إلى أمير من الأسرة المالكة؟

– نعم يا مولاي؛ لأن تلك اليد ستُمَدُّ إلى الملك نفسه.

فبهت الدوق هنيهة، ثم قال: إذًا سأوقِّع في الغد.

– كلا يا سيدي، بل ستوقِّع الليلة وفي هذه الساعة؛ لأن ذلك خير لك.

– ومَن يكتب الصكَّ؟

– هو مكتوب وها هو.

ثم أعطاه الصكَّ.

فأخذه الدوق وقرأه بنظر قَلِق مضطرب، ثم وقَّعَ عليه بيدٍ مرتجفة، وأرجَعَه إلى الكونت الذي كان ينظر إليه خلسةً بعين تلتهب من الغضب والحنق، فأخذه مونسورو ووضعه في جيبه.

ثم نظر إلى الدوق فقال: والآن يا سيدي، فلم يَبْقَ إلا أن أنصحك باتِّبَاع الحكمة، وعدم الخروج في الليل مع أورلي كما صنعتَ الليلة منذ وقت قصير.

– ماذا تعني بذلك؟

– أريد أنك كنتَ ترود حول منزل امرأة يحبها زوجها حبًّا يقرب أن يكون عبادةً، وربما دفعَتْه الغيرةُ إلى قتلِكَ حيثما يجدك.

فبهت الدوق لكلام الكونت، وقال: ألعلك تريد بتلك المرأة وذلك الزوج أنت وامرأتك؟

– نعم، ولا أنكر عليك؛ فإن ديانا ماريدور هي امرأتي أمام الله والناس، وأقسم لك بهذا الخنجر أنها ستبقى لي وحدي، فلا يدنو منها ملك ولا أمير.

ثم جرَّدَ خنجره، ووقف أمام الدوق وقفةَ المنذِر المتوعِّد، فقال الدوق: أتنذرني يا كونت؟

– كلا يا سيدي، ولكني جرَّدْتُ الخنجرَ لأقسم لك عليه أن زوجتي ستكون لي وحدي.

– لقد فاتَ أوانُ انتباهِكَ أيها الأبله؛ لأن زوجتك أصبحَتْ بيدِ سواك.

فصاحَ الكونت صيحةً منكرة، وهزَّ الخنجر بيده هزة القانط، ثم قال: أأنت هو هذا الرجل؟

فدَنَا الدوق من الجرس كي ينادي بقرعه الخَدَمَ عند مسيس الحاجة، وقال: إن منظرك يحمل على الإشفاق.

– أنت واهم فيما تظن وأنت تقول زوجتي أصبحَتْ في يدِ سواي.

– نعم، وأنا أعيد ما قلتُ.

– إذًا اذكر لي اسمَ هذا الرجل؟

– أَلَمْ تكن الليلةَ كامنًا في الحفرة مع خادمك؟

– نعم.

– إن ذلك الرجل كان مختليًا في الوقت نفسه مع زوجتكَ في غرفتها.

– أرأيتَه داخلًا إليها؟

– كلا، بل رأيتُه خارجًا من عندها.

– أَخَرَجَ من الباب؟

– كلا، بل من النافذة.

– أعرفتَه؟

– نعم.

– إذًا فاذكره لي أيها الدوق، وإلَّا خرجتُ عن موقف الرشاد.

فابتسَمَ الدوق ابتسامَ الساخر، ثم قطب جبينه وقال: أقسم لك أيها الكونت بدمي الملكي، وبالله العلي، أني سأخبرك باسم هذا الرجل بعد ثمانية أيام.

– أتقسِم بذلك؟

– نعم، فقد سبق إليك قسمي.

فضرب مونسورو بيده على صدره في المكان الذي وضع فيه الصكَّ، وقال: إذًا بعد ثمانية أيام أيها الدوق، والويل لمَن يخون.

ثم خرج مزبدًا حانقًا، وهو ينظر إلى الدوق نظرات الإنذار والوعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤