الفصل السادس والعشرون

الانتقام

بينما كان مونسورو خارجًا عند الساعة التاسعة من اللوفر بعشرة من رجاله يتميَّز غضبًا وحنقًا على عدوٍّ لا يعرفه، وهو ذاهب إلى منزله لقتل امرأته ومَن تهواه.

وبينما كان الدوق يتردَّى برداء واسع يستر وجهه عن الناظرين، وهو يتأهَّب للخروج في إثر مونسورو إلى الموضع عينه.

كان باسي وديانا جالسَيْن على مقعد في غرفة تنبعث أشعة مصباحها الضعيفة، فيتماوج ظلها فوق شعر ديانا، التي كانت تعبث بها إحدى يدي عشيقها وهو مطوق بيده الثانية عنقها الجميل، يلهبه من حين إلى حين بقبلات الغرام.

وكأن العاشقَيْن قد علِمَا بما سُطر لهما في لوح المقدور، فكانت مرتسمة على وجهَيْهما ملامحُ من الحزن العميق، تكاد تضرب على نعيمِهما الحاضر.

وكان كلاهما يتنهَّد، حتى يخاله السامع أنه في أقصى دركات الشقاء، ثم لا يلبث أن ينظر إلى وجه مَن يحب، حتى تتبدل تلك الكآبة إلى هناء، ويستحيل ذلك الحزن إلى فرح تبتهج له النفوس وتقرُّ به العيون، فلا يعلمان أَهُمَا في شقاءٍ أم هما في نعيم!

وبينما كان باسي يسرح طرفه بمحاسن تلك الحسناء، بصر بعينَيْها فإذا هما مغرورقتان بالدموع.

فأجفَلَ منذعرًا وقال: ما بالكِ أيتها الحبيبة تبكين؟

فلم تُجِبْه بحرفٍ، بل نظرت إليه بتلك العين الباكية نظرةً كئيبة، ثم أرْخَتْ بنظرها إلى الأرض.

وانصرفت إلى التصور والذهول فطوَّقَها باسي بذراعَيْه، ومسح بشفتَيْه تلك القطرات المتساقطة على خدَّيْها، ثم قال: بالله أيتها الحبيبة … ألا ما أخبرتني بأحزانك، فقلد قطعتِ قلبي بهذا البكاء.

وماذا أسالَ دموعَكِ؟ بل ما يعوزكِ من السعادة وهي كلها بقُرْبِكِ وفي قبضة يدكِ؟

– لا تذكر لي السعادةَ أيها الحبيب؛ لأن قلبي يحدِّثني بانقلابها، وأن يستحيل ذلك الهناء إلى تنغيصٍ وكمدٍ.

– وأي تنغيص بالله، وأي كمد ما دام قلبانا في الغرام صافيَيْن، لا يكدِّرهما هجرٌ ولا ينغصهما جفاء؟

– ولكن الدهر ليس مثل قلبنا أيها الحبيب، وكأنَّ أيامَه التي لا تتشابه بالأحكام قد أقسمَتْ ألَّا تُسعِد قلبَيْن يتشابهان في الغرام.

– لقد شغلتِ قلبي بما تقولين، وإني أقرأ بين عينَيْكِ رسالةَ حزن وكدر، فهل سُطر لنا في لوح الدهر شيءٌ من ذلك؟

– بل هي نسخة الدهر تنظرها بعيني وتسمعها بكلامي؛ لأني أشعر بسهم الشقاء ينفذ إلى قلبي.

فأحمله مطرقة صامتة، لا أعيد ولا أبدي كما تحمل الحمامةُ سهمَ الصياد تحت جناحها، ريثما تستقر وتموت.

فذعر باسي لما سمع وقال: إن الحمامة أيتها الحبيبة لا تقوى على انتزاع السهم من تحت جناحها؛ لأنها لا تقدر عليه …

فهل إذا كنتِ مثل الحمامة في طهارة قلبك، تكونين مثلها في العجز والضعف عن نزع هذا السهم؟

وبعدُ فَمِمَّ تخشين وأنا بقُرْبِكِ؟ وماذا ينغصك ويدي معقودة في يدك، وغرامنا ثابت وطيد لا يفصله غير الله؟

– إني أخشى ذلك الله، ولا ينغصني في هواك غير تبكيت الضمير؛ لأني لزوجي قبل أن أكون لك، ولكن نفسي علقت بك دون ذلك الزوج، ولم تَخْشَ معصيةَ الله.

– ما بالكِ نادمة أيتها الحبيبة؟ أكانَ عقد قرانكما برضا الله؟ أَلَمْ تعقِدْ هذا الزواجَ يدُ الحيلة والإثم؟

فهل يرضى الله عن الآثام؟

وبعدُ … فمَنْ ربط قلبينا بهذا الوثاق إن لم تكن يد الله؟ فكيف تخشين عصيانه بهذا الغرام؟ بل كيف لا تشفقين من جرح قلبي بمثل هذا الكلام؟

فاختلجت ديانا وطوقت عنقَ مَن تحبُّ بيدَيْها، ثم وضعَتْ فمها على فمه وقبَّلَتْه بكلمة: «أحبُّكَ.»

ولكنها لم تكد تنتهي من لفظ تلك الكلمة، حتى دوتْ أرجاءُ الغرفة بصوتٍ هائلٍ.

ثم كُسِرت النافذة ودخل منها ثلاثة رجال مدججين بالسلاح، ودخل في إثرهم رجل رابع مقنَّع الوجه وهو يحمل بإحدى يدَيْه غدارة، وبالأخرى حسامًا مجرَّدًا.

فأجفَلَ باسي وارتاع لصيحة منكرة بدرَتْ من ديانا، فوقف هنيهة منبهتًا من غير حراكٍ.

ثم رجع إليه هُدَاه.

وأول ما خطر له أنه تخلَّصَ من ذراعَيْ ديانا، وجرَّدَ حسامَه للدفاع.

فصاح الرجل المقنَّع برفاقه يقول: لا تخشوا لأنه سيقتله الخوف قبل أن تقتلوه.

فصاح به باسي يقول: كذبتَ أيها الجبان، فلستُ ممَّنْ يخافون.

وكانت ديانا قد قربَتْ منه أيضًا، فقال لها: ابتعدي عني يا ديانا، إذا كنتِ تحبين خلاصي.

فلم تصغي إليه، بل اقتربَتْ منه وطوَّقَتْه بيدَيْها.

فأبعَدَها عنه بعنف قائلًا: إن حنوك هذا سيكون السببَ في قتلي.

فلم تجد بدًّا من الخضوع، ووقفَتْ وراءَه تصلِّي أمامَ صليبٍ من العاج.

فقال الرجل المقنَّع بصوت المتهكِّم: لقد ثبَتَ لي الآن ودادُكَ يا باسي، فلله أنت من صديق عرف أن صديقه مسافر، وأن زوجته تخشى المبيت وحدها، فأتى يؤانِسها في ظلام الليل.

فعلم باسي أن صاحب هذا الصوت هو مونسورو، فقال: أزِحِ القناعَ الآن يا كونت، لقد عرفتُكَ ولم يَعُدْ من حاجةٍ إليه.

– لكَ ما تريد أيها الصديق المخلص.

ثم أخذ القناع عن وجهه، ورمى به إلى الأرض، فظهر من تحته وجهُ مونسورو وهو باصفرارٍ يشبه اصفرارَ الأموات.

فسترَتْ ديانا وجهها بين يدَيْها وقالت: ويلاه!

أما باسي، فإنه نظر إليه نظرةَ ازدراءٍ وقال: افعل الآن ما أنت قادم لأجله، فإما أن تقاتل فتموت، أو تدعني أذهب على أن نلتقي في الغد.

فضحك مونسورو ضحكًا طويلًا، هلع له قلب ديانا من الخوف، وارتجف له باسي من الغيظ.

ثم قال بعد ضحكه الطويل: كلا أيها الصديق، فأنت أتيتَ لتنام في هذا المنزل، إذًا فَلْتَنَمْ نومةً لا هبَّةَ بعدها إلى الأبد.

وبعد ذلك دخل من النافذة رجلان أيضًا، وانضَمَّا إلى رفاقهما، فنظر إليهما باسي نظرةً هادئةً وقال: لقد أصبحوا ستة، فأين الباقون؟

فأجاب مونسورو قائلًا: إنهم ينتظرون على الباب.

فوقعت ديانا جاثية على ركبتَيْها وهي لا تعلم ماذا تقول.

ونظر باسي إلى مونسورو فقال: أَلَا تعلم أيها الكونت أني من رجال الشرف؟

– لا ريب عندي في ذلك، فلقد تأكَّدْتُ من شرفك وإخلاصك، كما تأكَّدْتُ من طهارة زوجتي وعفافها.

فاحتدَمَ باسي غيظًا، ثم عادَتْ إليه سكينته فقال: قُلْ ما تشاء الآن أيها الكونت، فستأتي ساعة الحساب، ولكني أقسم لك بالله إني ألتقي بك متى شئتَ … فلا تجعل منزلَكَ ساحةً للقتل.

– لا تَقُلْ ستأتي ساعةُ الحساب، بل قُلْ أتَتْ.

ثم أشار إلى رفاقه وقال: هلمَّ أيها الشجعان.

فانذهل باسي وقال: إذًا فأنت لا تريد مبارزتي، وأنت لستَ بشريف، بل أنت تريد قتلي بخناجر الأشقياء.

ولكن ثِقْ أيها الكونت، إن هذه الخيانة الشنعاء لا تروق لعينَيِ الدوق.

فضحك مونسورو ضحكةَ الاستهزاء، وقال: إن الدوق نفسه الذي أرسَلَني.

فأنَّتْ ديانا أنينَ القنوط.

ورجع باسي خطوةً إلى الوراء، فرأى بالقرب منه منضدة، فوضعها بينه وبين أعدائه لتكون حاجزًا يَقِيه خناجرَ أولئك الأشقياء، وأشهر حسامه في وجوههم وهو يقول: تقدَّموا الآن، ولكن اعلموا أن هذا الحسام قاطِع صقيل.

فوثَبَ إليه جميع أولئك الأشقياء وثبةَ كلابِ الصيد على الفريسة، فكان أَجْرَؤُهم أقربَهم إلى الموت، وهجم عليه آخَر منهم فكان نصيبه نصيب رفيقه الأول، ولم يشعر بحسام باسي وقد بلغ إلى قلبه حتى صاح صيحة ألم شديدة، وانقلَبَ يهوي صريعًا إلى الأرض.

وسمع باسي صوتَ خطوات مستعجلة في الرواق، فظنَّ بأنها خطوات أعداء وأنه أصبح بين نارين.

فهروَلَ مسرعًا إلى الباب ليمنع دخول القادمين.

ولكنه لم يَكَدْ يبلغ إليه حتى فُتِحَ الباب، وبرز منه رجلان مدججان بالسلاح.

فما رآهما باسي حتى صاح صيحةَ الفرح وهو يقول: هذا أنت يا سانت ليك … هذا أنت يا رامي …

فأجاب سانت ليك يقول: طِبْ نفسًا أيها الصديق الحميم؛ لأننا قد أتينا حين حاجتكَ إلينا، وسنحميك من خناجر أولئك اللصوص.

فنظر باسي عندئذٍ إلى مونسورو وقال: أتأذن لنا أيها الكونت بالمرور؟

فلم يُجِبْه مونسورو بحرف، بل دَنَا من النافذة وصاحَ بصوت مرتفع قائلًا: إليَّ أيها الرفاق!

فدخل ثلاثة رجال أيضًا من النافذة، وانضموا إلى رفاقهم الآخرين، فركعَتْ ديانا أمام الصليب وقالت بصوت يتهدج من الحنان: ربِّ أنقذه بعونكَ وفضلكَ.

فاحتدَمَ مونسورو غيظًا عند سماعها، وأسرَعَ إليها والسيف مشهر بيده يريد قتلها.

فوثَبَ إليه باسي وثبةَ النمر المفترس، وطعَنَه بحسامه طعنةً وقعَتْ في عنقه، فجرحَتْه جرحًا غير بالغ وردَّتْه على أعقابه.

فهجم بالحال خمسةٌ من رجاله هجمةً واحدةً على باسي، فجرح واحدًا منهم، وقتَلَ سانت ليك رجلًا آخَر.

وصاح رامي متحمسًا يقول: إلى الأمام.

فقال له باسي: كلا أيها الصديق، لا تهتم بنا الآن، بل اصرف اهتمامك إلى ديانا وأَبْعِدْها عن هذا الموقف.

فأسرَعَ رامي ممتثِّلًا لأمر مولاه، ودَنَا من ديانا يحاول حملها والفرار بها، فامتنعَتْ ودافعَتْ الدفاعَ الشديد وهي تقول: كلا، لا أَدَعه يموت وحده بل أموت معه.

فلم يعبأ رامي بدفاعها وحملها بين يدَيْه، فجعلَتْ تصيح مستغيثةً بباسي صياحًا مزعجًا.

فنادَاها باسي قائلًا: لا تخافي أيتها الحبيبة واهربي مع طبيبي، فسألحق بكِ بعد حين.

فأخذ مونسورو غدارته وأطلَقَها قائلًا: نعم، ستلحق بها في الحال.

فارتاع باسي وحسب أن الرصاص قد أصاب ديانا، وصاح صيحة منكرة وهجَمَ هجومَ الأسود فقتَلَ اثنين من ثلاثةٍ كانوا قد اعترضوه في هجومه، ثم سمع رامي يقول بصوت خافت: لا تخَفْ يا مولاي، لقد تحملتُ الموتَ عنها، وقد وقعَتْ رصاصةُ زوجها بصدري.

ثم خرَّ على الأرض صريعًا.

فنظر باسي نظرَ القانط إلى ما حواليه، فرأى سانت ليك يجول بين الهاجمين، فقال له: أستحلفكَ بالله وبمَن تحب أن تنقذ ديانا.

– وأنت؟

– أنا رجل أدافع عن نفسي حتى الموت.

فأسرَعَ سانت ليك إلى ديانا وقد كان أُغمِيَ عليها، فحمَلَها وخرج بها هاربًا من الباب.

وصاح مونسورو: إليَّ أيها الرفاق! اقتلوا الخائن.

فانقضَّ عليهم باسي انقضاضَ الصاعقة، فجرح العدد الكثير وقتل مَن قتل، واخترق صفوفهم كما يخترق الرعدُ سكونَ الليل، وأبلى بهم البلاءَ الحسن، ولكنَّ العددَ يغلب القوةَ.

وهكذا فقد كانت المعركة بين كرٍّ وفرٍّ، فعندما يتكاثرون عليه يتراجع ليؤمن ظهره، ولكن عندما يفتكر بحبيبته وما قد يحصل لها تنتابه قوةٌ غريبةٌ يعاود بها الهجوم ويُجبِرهم على التراجع.

لقد أُصِيب إصاباتٍ طفيفةً في أنحاء جسمه، وكانت هناك إصابةٌ بليغة في كتفه، وعندما أمن أن حبيبته قد أصبحَتْ في مأمن، أخذ يشقُّ طريقه بينهم ليفرَّ من وجوههم، وكان قد قطَعَ شوطًا كبيرًا، ولم يزل بحاجةٍ إلى نجدة صغيرة؛ لأن بوادرَ النصر بدأَتْ تلوح له، وبينما يجيل النظر في وجوه أعدائه لاحَ له من بعيدٍ وجهان لصديقين، ففرح لأن الأمل بالنصر عاد إليه بقوةٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤