الفصل الرابع

كيف قضت امرأة سانت ليك الليلة الأولى من زفافها

عَلِمَ القارئ شيئًا من أوصاف الكونت باسي، وقد رأينا أن نتم وصفه زيادةً في البيان فنقول:

كان هذا الكونت من أعظم أبطال فرنسا في ذلك العهد، وقد اشتهر بجماله، كما اشتهر بإقدامه وزلاقة لسانه وحرية ضميره وكبر نفسه، فكان الملوك والأمراء يخطبون ودَّه، وكانت الملكات والأميرات يبسمن له ألطفَ ابتسام.

وقد حظي بحب مارغريت ملكة النافار، التي كادت أن تتهتك بغرامه، حتى إن زوجها الملك هنري كان يغار عليها منه، وهو لم يعرف الغيرة في الغرام.

وقد حنق عليه أخوها الدوق دانجو وساءه هذا الغرام، غير أنه اضطرَّ إلى غضِّ الطرف لشدة احتياجه إلى ساعد هذا الكونت الذي كان يرجو أن يحقِّق به أمانيه العظيمة، وهي ارتقاؤه إلى العرش الفرنسي مكان أخيه.

أما باسي فلم يكن يحفل بوداد الملوك، ولا يأبه لغرام الملكات، بل لبث مستقلًّا بنفسه، مترفعًا عن صداقة الملوك، بعيدًا عن غرام الملكات.

ولبث ذلك الفؤاد الجريء الذي لم يعرف الخوفَ خاليًا من مكامن الغرام كالجوهرة التي تخرج من معدنها، فتراها عين الشمس قبل أن تمسها يد الصائغ.

وذلك أنه لم يكن في قلبه العظيم متسع للغرام الذي كان يأنف من الخضوع له والرضوخ لأحكامه؛ لما فُطِرَ عليه من الأنفة والكبرياء.

وقد كان هنري الثالث تزلف إليه بالود وعرض عليه صداقته، فأبى وهو يقول: إن أصدقاء الملوك خَدَمٌ لهم، ولستُ من الذين يخدمون.

ومما لا ريب فيه أن الدوق دانجو كان رئيسًا للكونت، ولكن مثله مع الدوق كان كمثل مَن يروض الأسد، فهو رئيس له ولكنه يخدمه ويطعمه حذرًا من أن يفترسه ويأكله.

وهكذا كان باسي بإزاء الدوق.

ومما كان يقوله في هذا المعنى أيضًا: إني لا أستطيع أن أكون ملك فرنسا، غير أن الدوق دانجو يستطيع أن يبلغ إلى هذا العرش، فَلْأكن إذًا ملك الدوق دانجو.

وبالحقيقة فإنه كان رئيسه في الباطن كما كان مرءوسه في الظاهر.

•••

وَلْنَعُدِ الآن إلى سياق الحديث فنقول:

إنه لما وصل الكونت إلى منزل سانت ليك الذي أمر السائق أن يسير به إليه كما تقدم، قابله الخدم بملء الاحترام، فسألهم عن مولاهم إذا كان لا يزال باقيًا في المنزل.

فأخبروه وملامح القلق بادية في وجوههم: إنه ذهب ليلة أمس مع الملك ولم يرجع إلى الآن.

فانذهل وسألهم: أَلَا تعلمون أين هو؟

– كلا.

– هل امرأته في المنزل؟

– نعم.

– استأذنوا لي منها بالدخول إليها.

فذهب أحدهم وعاد بعد حين، فدخل بالكونت إلى مدام سانت ليك التي خرجت إلى ردحة المنزل للقائه.

وكانت صفراء الوجه، وعيناها محمرتان من السهر، ويتبين منهما أثر البكاء.

فلما رأته وضعت يدها في يده، وبسمت له ابتسامًا مغتصبًا وهي تقول: إني أرحِّبُ بك يا سيدي، وإنْ كان قدومك الآن يخيفني.

فالتبس على باسي كلامها، وقال: ماذا تعنين يا سيدتي بالذي تقولينه؟ وماذا يحملك على الخوف من قدومي؟

– قُلِ الحقَّ بالله يا مولاي، أَلَمْ تتبارز بالأمس مع زوجي؟

فدهش باسي وقال: أنا تبارزت مع زوجك؟

– نعم، فلقد خلا بك أمس وكلَّمَك سرًّا، وإذ كنتَ من حزب الدوق وكان من حزب الملك، وعداوة هذين الحزبين يعلمها الجميع، فلم يَعُدْ لديَّ ريب أن اختلاءكما ما كان إلا لتعيين موعد المبارزة.

فبالله يا سيدي ألا ما قلت الحق، فإن زوجي قد ذهب مع الملك غير أنه لم يَعُدْ، وكيف تبارزتُمَا؟ وأين هو؟

– عجبًا إني كنتُ أتوقَّعُ أن تسأليني عن جرحي؟

– أرأيت أني صادقة بزعمي، وأنكما تبارزتما … فقُلْ لي أَهُوَ الذي جرحك؟

– كلا، فإننا لم نتبارز، ومعاذ الله أن يقع عدوان بيني وبين هذا الصديق العزيز، الذي لا بد أن يكون أخبرك بما استحكم بيننا من الوداد.

– كيف يخبرني بذلك وأنا لم أره بعد خروجه مع الملك؟

– إذًا فإن ما أخبرني به الخدم من عدم رجوعه صحيح!

– أجل، فهي الحقيقة بعينها، وإني لم أره منذ تلك الساعة.

– فأين هو؟

– إني لا أعلم شيئًا، ولذا إني أسألك.

– بالله ألا ما قصصتَ عليَّ هذا الأمرَ، فإني لا أرى أغرب منه!

فقصَّتْ عليه جميعَ ما تعلمه ويعلمه القراء من أمر الملك له بالذهاب معه إلى اللوفر، ورجوع الحراس الذين بعثهم أبوها مع زوجها بعد أن أُقفِلَ القصر.

ولما انتهت من حكايتها قال لها باسي: نعم، لقد فهمتُ الآن.

– ما الذي فهمتَه؟

– إن الملك قد اصطحب معه زوجك إلى اللوفر، ومتى دخل زوجك إلى اللوفر فلا يخرج منه.

– كيف متى دخَلَ لا يخرجُ؟

فارتبَكَ الكونت وقال: إنك تسأليني أن أُبِيحَ لكِ بأسرار المملكة.

– غير أني ذهبتُ مع أبي إلى القصر، فأخبرنا حراسه أن زوجي قد خرج منه.

– هذا ما يؤكِّد لي أنه لا يزال باقيًا فيه.

– أتظن ذلك؟

– كلا، بل أؤكِّده، وإذا شئتِ فأنت تقدرين أن تؤكدي كما أكدت بذهابك إلى اللوفر.

– أَلَمْ أقُلْ لكَ بأني ذهبتُ إليه، وعمَّا أجابوني به؟

– وأنا أعيد عليك فأقول: أتريدين الذهابَ إلى اللوفر؟

– لماذا؟

– لأجمعك بزوجك سانت ليك.

– قلتُ لك إنه خرج من القصر.

– وأنا أقول لك إنه لا يزال فيه.

– إني لا أجد بحديثك غير ألغاز وأسرار غريبة.

– كلا، بل هي أسرار ملكية.

– أتقدر أنت على الدخول إلى القصر؟

– ذلك لا ريب فيه؛ لأن ما حظر عليك لا يحظر عليَّ.

– إنك تقول الآن بأن دخولي إلى اللوفر محظور عليَّ، كيف تقول لي أن أذهب إليه لأرى زوجي فيه؟

– إني سأدخلك بالحيلة، فأطلعك على مكامن في ذلك القصر لا تستطيعين الدخول إليها وأنت معروفة بامرأة سانت ليك.

وذلك أني يصحبني إلى اللوفر كلما دخلتُ إليه، خادمٌ في مقتبل الشباب، لا نباتَ بعارضَيْه، وهو يشبهك بقوامه وبعينَيْه، فهل فهمتِ الحيلةَ؟

فاحمرَّ وجهها وقالت: ما هذا الجنون؟ أَلَا تحسب ذلك طيشًا؟

– كلا، بل هو عين الحكمة؛ لأنه ليس لديَّ طريقة أفضل من هذه، ولك الخيار بين الرفض والقبول، فافتكري وأَجِيبي … أتريدين أن تري زوجك؟

– إني أبذل كلَّ عزيز للوصول إليه.

– أما أنا فسأوصلك إليه … من غير أن أكلِّفَكِ بذلَ أي شيء.

– ولكن افتكِرْ بالعاقبة.

– قد افتكرتُ بكل شيء، فإنْ أحببتِ فأنا أذهب بك إلى زوجكِ ولا خوفَ عليكما.

– وأنا قد قبلتُ … غير أنه يجب أن أتزيَّا بزيِّ خادمك هذا.

– ذلك لا ريب فيه، وسأبعث إليك في هذا المساء بثوبٍ من ثيابه، فترتدين به وتخرجين من المنزل وحدك إلى شارع بروفار، حيث أكون بانتظارك.

– وبعد ذلك؟

– وبعدها نذهب إلى اللوفر سويةً.

فوضعَتْ يدها بيده وجعلت تضحك وهي تقول: إن هذا الفكر مضحك يا كونت.

– نعم، وستضحك منه أوروبا بأسرها، بل سيضحك منه الملك نفسه بعد أن تهدأ ثورة غضبه.

وأنا شاكر لك ثقتكِ بي، وستجتمعين بزوجك بالرغم من الملك وعن أصفيائه.

ثم ودَّعَها وانصرف إلى منزله … فأرسَلَ لها الثوبَ الذي وعدها بإرساله.

•••

وفي المساء، اجتمع الكونت وامرأة سانت ليك في الشارع المعين وبالساعة المضروبة.

وكانت حنة بملابس الغلمان، وقد زادَتْها ملابس الخفاء جمالًا على جمالها.

فمشى الكونت أمامها بعد أن سلَّمَ عليها، ومشَتْ وراءه مشيةَ الغلمان وراء أسيادهم.

حتى إذا وصلَا إلى منتصف الطريق، رأى الكونت أن الدوق دانجو يسير أمامه على مسافة طويلة، ويكاد أن يحتجب عنه لإسراعه في المسير.

فناداه بصوت مرتفع.

وما زال يصيح به حتى سمعه الدوق، فلما علم أنه الكونت أسرع إلى لقائه، فصافَحَه وهو يقول: إني كنتُ أحسبك طريح الفراش لما علمتُ من أمر جرحك، وقد كنتُ ذاهبًا إليك، كيف أنت؟

فلم يشكره الكونت بكلمة وقال: إنك تُلقِي بي إلى المهالك عند حاجتك إليَّ، ولا تسأل عني عند حاجتي إليك.

ولقد كمن لي أمس خمسة من أعدائك، فاستنزفوا جميع ما في جسدي من الدماء.

– طِبْ نفسًا أيها الكونت، فإن ذلك الدم العزيز لا يضيع هدرًا، وسأخطف روحًا من أرواحهم عن كل قطرة سُفِكت من تلك الدماء.

– ذلك ما تقوله باللسان أيها الدوق، وإنك ستبتسم لأول مَن تلقاه من أولئك الأعداء.

– إذا كنتَ لا تثق بما أقول، فسِرْ معي إلى اللوفر وسوف ترى ما يكون.

– وماذا عسى أن يكون يا مولاي؟

– سترى بماذا أخاطب أخي الملك عن هذا الشأن.

– إني أعرفك يا مولاي حقَّ المعرفة، فأنت ستناضل عني النضال الشديد وتشدِّد النكير عمَّا أُصِبْتُ به من الغدر، وتطلب حقي بالحمِيَّة الصادقة والرأي السديد، ولكنك ستقبل أول ترضية تُعرَض عليك عن هذا الحق.

– كفاك قحة أيها العنيد، واذهب معي فسترى ماذا أفعل.

ثم مشى الدوق بغير أن ينتظر جوابه، فتبعه الكونت وإلى جنبه امرأة سانت ليك فقال لها: قد سمعتِ ما كان بيني وبين الدوق، وإني لم أفعل ذلك إلا لأزيد من حماسته، وليطول الجدال بينه وبين الملك، فأغتنم هذه الفرصة لجمعك بزوجك.

وبعد ذاك عاد إلى الدوق، فأخبره بجميع ما كان في تلك الليلة الهائلة بالتفصيل.

وما زالوا يسيرون حتى انتهوا إلى اللوفر فولجوه جميعًا، ولما وصلوا إلى قاعة الملك، قال له الكونت: إني مفارقك يا مولاي؛ لأن لي حاجة أقضيها مع أحد الأصحاب في هذا القصر.

– أَلَا تدخل معي إلى جلالته؟

– كلا، بل أنتظرك إلى أن تخرج من عنده.

فدخل الدوق إلى القاعة الملكية، وأخذ الكونت امرأةَ سانت ليك فأجلسها في إحدى الغرف، وقال لها: انتظريني قليلًا ريثما أعود.

فأقامت وحدها في الغرفة وهي ترتعد من الخوف، غير أنها كانت ترى من النافذة المكان الذي ذهب إليه باسي، فكانت تستأنس بمرآه عن وحشتها وتأمن من خوفها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤