الفصل الخامس

كيف اجتمعت امرأة سانت ليك بزوجها

أما الكونت فإنه ذهب توًّا إلى الغرفة المحاذية لغرفة منام الملك، وهو موقن من أن سانت ليك لا بد أن يكون مقيمًا فيها؛ لأن جلالته يحب أن يكون دائمًا بالقرب منه ليدعوه إليه في الحال كلما تمكَّنَ منه الضجرُ، الذي كان داؤه العقيم.

وكان يعلم باسي أيضًا أن جلالته لا يمكن أن يكون في غرفته؛ لأن أخاه الدوق دانجو قد طلب أن يراه عندما دخل إلى اللوفر، فهو سيكون ولا ريب في قاعة الاجتماع.

ولذا فقد تقدَّمَ إلى الغرفة بعزم ثابت وقرَعَ البابَ، فخرج إليه حاجب من ضباط القصر.

وقد كان دهشه عظيمًا عندما رآه؛ لأن جميع مَن في القصر كانوا يعتقدون أنه قد هلك.

غير أنه أظهَرَ الجلد، وقال له وهو يبتسم: بماذا يأمر سيدي الكونت؟

– إن جلالته يريد أن يكلم سانت ليك، فأين هو وماذا يعمل؟

– هو في هذه الغرفة يتلهَّى بمقامرة شيكو إلى أن يرجع جلالته.

– إني أرجوك إذًا أن تأذن لخادمي أن ينتظرني في هذا الرواق، وأن تدعو لي سانت ليك.

فامتثل الحاجب وانصرف.

وأشار الكونت إلى امرأة سانت ليك، فأتَتْ وأوقفها في عطفة من الرواق بحيث لا يراها زوجها.

وبعد برهة أتى سانت ليك وعليه ملامح التعب، فلما رأى الكونت باسي ينتظره دهش وقال: هذا أنت؟

– نعم أيها الصديق، وأول ما أبدأ به حديثي شكري إياك عمَّا بذلته لي من النصح ليلة أمسِ، مما يدل أشدَّ الدلالة على الإخلاص لي وصدق ودِّكَ.

فانحنى سانت ليك شاكرًا، وقال: ليس الإخلاص وحده الذي دفعني إلى تحذيرك من الأعداء، بل إني كرهت أن يغتال رجالُ جلالته بطلًا مثلك، ولقد كنتُ أحسبك في عداد الأموات، لثقتي من أنك قد ذهبتَ إلى لقائهم، ولِمَا شاع في القصر من أمر قتلك.

– لقد كادت تصحُّ هذه الإشاعة، فإني لم ينقذني من غدرهم غير القدر وحسن توفيقي.

– بل أنقذك ساعدك القوي وبأسك الشديد، وإن النجاة من خمسة وأنت وحيد فرد هي النصر العزيز لك، الذي يفتخر به مُحِبُّوك، وتنفطر منه أكباد الأعداء.

فبالله ألا ما أخبرتني أيها الصديق كيف كانت النجاة منهم، وكيف كانت تفاصيل هذا العراك؟

– إن الوقت يضيق دون تفصيلها، وسأخبرك عنها بما ستنتهزه من فرص الاجتماع وأوقات الخلوة، والآن فإني لم أقدَمْ إليك لمجرد شكرك لأن خدمة الأصحاب واجبة، ولا موجب للشكر عن قضاء واجب، غير أني قَدِمْتُ لأكافئك عن هذه الخدمة بخدمةٍ مثلها.

وقبل أن أتعرض لذكرها، أحبُّ أن أعرف شيئًا عن حالك في هذا المحبس.

– إني على أسوأ حال أيها الصديق، يكاد يقتلني الضجر في هذا القصر العظيم، الذي بعد أن كان لي جنةً أرتع فيها، أصبحتُ فيه كمَن زُجَّ في أعماق السجون، وأنا لا أختلف فيه بشيء عن المجرمين، سوى أن يدي ورجلي مطلقة فلا أرصف بقيودي.

وأشد ما أقاسيه قُرْبُ جلالته مني، وبُعْدُ امرأتي عني، فإنه يكاد أن لا يفارقني ساعة، ولا يرضى مني إلا بأحاديث الهزل، وأين أنا من المزاح في مثل هذا الموقف الذي وضعني فيه، فإذا أرضيته فلا أوافِق نفسي، وإذا وافقتُ نفسي فلا أرضيه؛ ولذا فإني أتقلَّبُ على نارين من جفائه ورضاه، وأتراوح بين شرين من صفائه وجفاه، وكِلَا الويلَيْن شرٌّ من الآخَر.

وأما بُعْدُ امرأتي عني فلا أزيدك علمًا بما أكابده من العناء لبُعْدي عنها، فتصوَّرْ كيف يكون حال مُحِبٍّ يُبعِدونه عمَّنْ يحب، ويمنعونه عن جناء الزهرة التي طالما سقاها بدموع الغرام.

فقال باسي وقد تأثَّرَ لحال صديقه: وما يمنعك عن الذهاب إليها؟

– هذا السجن الذي أنا فيه، ومَن يحيط به من الحُجَّاب الذين يكادون أن يعدُّوا عليَّ أنفاسي.

– وما يمنعها أن تأتي هي؟

– إلى أين؟

– إلى اللوفر.

– ما هذا الجنون؟

– لا أنكر أن هذا الرأي غريب في بابه، ولكنه ممكن.

– بالله دَعِ المزح أيها الصديق، فإن نفسي حزينة وصدري الضيق لا يتسع لهذا المزاح.

– كما تريد، ولكن إذا اجتمعْتَ بها أَلَا يزول ضجرك؟

فتنهَّدَ سانت ليك، وقال: بل أكون من أسعد البشر، ولكن أنَّى يكون لي ذاك؟

– طِبْ نفسًا فسأجد طريقةً تجمعها وإياكَ، والآن فقد ذكَّرَني ضجرك خادمًا لي صحبته معي إلى اللوفر، كان يؤنسني في أيام ضيقي ويزيل عني كلَّ كرب بلطف حديثه ونكاته الغريبة، فسأبقيه عندك يؤانسك من هذه الوحشة إلى أن يفرِّجَ اللهُ عنك هذا الضيق.

فشكره سانت ليك وقال: عفوًا أيها الصديق؛ لأن منظر الخدم يزيد من كربي الذي أنا فيه، وقد أذن لي جلالته أن أُحضِر إلى اللوفر مَن أشاء من خدمي، ولكني لا أطيق النظرَ إليهم، فما أُحضِر أحدًا منهم.

– ولكن هذا الخادم ليس كسواه من الخدم.

– وأنا لستُ كسواي من الأسياد.

– أرجوك أن تقبل هذا الخادم.

– ذاك ما لا أستطيع إليه سبيلًا.

– قلتُ لك اقبله؛ فإني أعرف الذي تحتاج إليه.

– دَعِ المزاح أيها الصديق، ويكفيني ما أنا فيه.

– لا بأس في ذاك وسأدعوه.

ثم نادى امرأة سانت ليك باسم خادمه.

فاحتدم سانت ليك غيظًا، وجعل يعترض على باسي الاعتراض الشديد والكونت يضحك حتى دَنَا الخادم.

فلم يَكَدْ ينظر إلى وجهه حتى عرف أنه امرأته بملابس الخفاء، فصاح صيحة الدهشة وهرول مسرعًا يصافح امرأته.

فقال الكونت: أَلَا تزال ترفض قبوله؟

فوضع سانت ليك يده بيد باسي، وقال له: إني أشكرك أيها الصديق شكرًا لا يفيه لساني، فلقد قيَّدتني بالولاء، وربطتني بوثاقٍ من ودِّكَ لا انفصامَ له.

– دَعِ الآن حديثَ الشكر، واحذر من أن تنظر إليها بغير نظرك إلى الخدم، فإن الحجَّابَ إذا كانوا لا يسمعون حديثنا فهم ينظرون إلينا، وافتكر الآن بطريقةٍ تحجبها فيها عن عيون الرقباء.

وفيما هُمْ على ذاك إذ سمعوا صوتَ صياح من قاعة الملك، وخرج الحاجب ويده على حسامه، فقال باسي: هذا الدوق دانجو يختصم مع أخيه، فاسمحَا لي بالذهاب لأني أحب ألَّا تفوتني كلمةٌ من حديثهما.

ثم ودَّعَهما وخرج مسرعًا وهو فَرِح بما كاده للملك.

فلما دَنَا من القاعة سمع من جلالته وأخيه الحديث الآتي:

قال الدوق: إني مؤكِّد لجلالتكم بأن أبرنون وشومبرج والبارون دي أو وموجيرون وكاليس، كانوا كامنين له بالقرب من فندق التورنيل.

قال الملك: مَن قال هذا؟

– أنا رأيتهم بعيني.

– قد رأيتهم في الظلام أيها الدوق وقد كان شديدًا.

– إني لم أتبيَّنْهم من وجوههم.

– كيف عرفتهم إذًا؟ أَمِنْ أكتافهم؟

– كلا، ولكني عرفتهم من أصواتهم.

– هل تكلَّموا معك؟

– لم يتكلموا معي فقط، بل إنهم هجموا عليَّ أيضًا وحاولوا الفتك بي لو لم يعرفوني من صوتي أيضًا؛ لأنهم حسبوني الكونت دي باسي.

– أنت كنتَ هناك؟

– نعم، أنا!

– وما الذي دعاك إلى الذهاب نحو هذه الجهات المقفرة في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل؟

– وماذا يهم ذاك؟

– أريد أن أعرف كلَّ شيء.

– إذا كان لا بد من ذاك، فأقول لك إني كنتُ ذاهبًا إلى مناساس.

– مناساس اليهودي المتكهن؟

– نعم، أَلَا تذهب أنت أيضًا إلى ريجياري بائع السموم.

– أنا أذهب حيث أشاء لأني الملك.

– ليس هذا بالجواب المقنع.

– ومع ذاك فقد قلت لك إن باسي هو البادئ بالعدوان.

– باسي كان البادئ؟

– نعم.

– وأين كان ذاك؟

– في منزل سانت ليك ليلة زفافه.

– أتظن أن باسي يعتدي على خمسة وهو فرد، إن ذاك محال يا مولاي؛ فإن هذا الكونت شجاع ولكني أنزِّهه عن الجنون.

– قلتُ لك إنه كان البادئ بالعدوان، وقد سمعته بأذني في تلك الحفلة، ولم يكتفِ بذاك بل إنه جرح شومبرج، وكسر فخذ أبرنون، وكاد أن يُجهِزَ على كاليس.

– لم أعلم شيئًا من هذا لأن باسي لم يخبرني عن شيء من هذه الجراح، فإذا صحَّ هذا فإني أهنِّئه بهذا الانتصار.

– وأنا لا أهنِّئ أحدًا، بل أحب أن يأخذ العدل مجراه، وأن أضع حدًّا لمثل هذا العدوان.

– وأنا سأرى أيضًا إذا كان يوجد في فرنسا مَن يجسر أن ينظر إلى أعظم أمرائها، وأخ الملك فيها، من غير أن يغضَّ الطرفَ إجلالًا واحترامًا.

وعندها دخل باسي إلى القاعة فانحنى أمام جلالته، وقال: تفضَّلْ يا مولاي بقبول احترامي.

فالتفَتَ الملك إليه وقال: هو ذا باسي.

فقال الكونت: أرى مولاي يشرفني بالاهتمام بشأني.

– نعم، وقد سررتُ لمرآك، فلقد علمتُ عنك ما استأْتُ له أشدَّ الاستياء؛ ولذا فإني أحب أن ترفع شكواك إلينا كي يجري العدلُ في مجراه.

فقال باسي: لا أجد يا مولاي سبيلًا إلى الشكوى.

فالتفَتَ الملك إلى أخيه وقال: كيف ذاك؟ وما تقول؟

– أقول بأن باسي قد أُصِيب بضربة حسام.

فقال الملك: أصحيح يا باسي ما قاله الدوق؟

– هي الحقيقة بعينها يا مولاي، ومَن كان أخًا لجلالتكم فهو لا يعرف الكذب.

– إذا كان ذاك أكيدًا فما يمنعك من الشكوى؟

– لا أشكو؛ لأني أريد أن أنتقم بنفسي … وسيكون انتقامي شديدًا أيها الملك ولا مردَّ له، فلو أمرتم بقطع اليد التي أريد الانتقام بها، لَبقي لي يدٌ أخرى لذلك الانتقام.

فاصفرَّ وجه الملك وقال: أنت شديد الوقاحة يا كونت!

ورأى الدوق أن الكونت باسي قد أغاظ جلالته بقحته، فتداخل في الأمر خشيةً من شر العاقبة، وأن تدفع الحدة بأحدهما إلى ما لا تؤمن مغبته، فأخذ عنه الكلام وقال: إنكم وعدتم يا مولاي بإجراء العدالة، وهذا غاية ما نرجوه، فَلْتأمر جلالتكم بفحص هذا الأمر، ومعرفة الباعث لأولئك المعتدين على أن يقفوا للكونت في ذاك الكمين.

فاحمرَّ وجه هنري وقال: كلا، بل إني أؤثر في هذه المرة أن أغضَّ الطرف عن المجرمين، وأن أشمل الجميع بعفوٍّ عامٍّ، بل أحبُّ أن تزول تلك العداوة من الفريقين ويستتبُّ بينهما السلام … ولذا فقُلْ لي مَن كان من أولئك الخمسة أكثر إظهارًا للعداء؟

– هو كاليس.

قال الملك: إذًا فإني آمر كاليس وباسي أن يتصافحَا أمامي بهذه الحضرة.

وكان كاليس قد حضر، فذُعِر لهذا الأمر وقال: مولاي، ماذا أمرتَ؟ وما المراد بهذا؟

– أريد أن تزول من بينكما أسبابُ البغضاء، وأن تتصافحَا أمامي في الحال.

فلم يجد الاثنان بدًّا من الرضوخ لأمر جلالته، فتصافحَا على ما يريد، وعند مصافحتهما قال كاليس هامسًا في أذن باسي: أؤمل أن يكون هذا السلام إلى حين.

فأجاب باسي: طِبْ نفسًا لأن الأيام بيننا وسنلتقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤