الفصل السادس

توبة هنري الثالث وجهل السبب

ثم خرج الجميع من حضرة الملك، وخرج هو بعدهم، فذهب توًّا إلى غرفة سانت ليك، فرآه مضطجعًا على فراشه، وهو يَئِنُّ متظاهرًا أنه مريض.

ورأى امرأته جالسةً بملابس الغلمان على مقعد في زاوية الغرفة، وهي ساترة وجهها بيدَيْها … فلم تنهض عند دخوله، ولبثت متظاهرةً بالنوم.

فقال الملك: ما بالك يا سانت ليك، ومن هذا الغلام النائم في هذه الغرفة؟

– هو غلام لي يا مولاي، أحضرتُه من منزلي لخدمتي … وأما أنا فمريض.

– لا بأس عليك، فسأرسل إليك طبيبي الخاص، والآن فهيا بنا إلى غرفتي؛ لأن شيكو ينتظرنا فيها.

– عفوًا يا مولاي، فإني مريض ولا يروق لك مجلسي.

– سيان عندي فإني أكتفي بمرآك، وإذا فاتني حُسْنُ لفظك فإني قانع بحسن سمعك.

– إذًا، فسأذهب إليك بعد حين ريثما ألبس ثيابي … لأني بملابس النوم.

– حسنًا بشرط أن تُسرِع.

ثم تركه وانصرف.

فنهضت حنة منذعرة من مقعدها وقالت: كيف تذهب إليه وتتركني وحدي؟ وما يؤمنني أن يدخل أحد إلى هذه الغرفة فينكشف حالي؟

– لا تخشي من ذاك أيتها الحبيبة؛ لأني لا أغيب عنك أكثر من ربع ساعة؛ لأني سأتظاهر بالمرض الشديد في حضرة الملك، حتى يملني أو يشفق عليَّ فأعود في الحال، فَالْبَثِي في هذا المكان إلى أن أعود، وسأوصي الحاجب فلا يأذن لأحد بالدخول إلى هذا المكان.

ثم غادرها ومضى إلى الملك فأقام عنده زمنًا وجيزًا ريثما انتهى من طعامه، فتمكَّنَ بحجة المرض وبمساعدة شيكو على الإفلات منه، فرجع إلى امرأته والفرح ملء فؤاده.

أما جلالته فإنه أحيا الليلة بمنادمة شيكو، إلى أن دَنَا وقت الرقاد، فانصرف الجميع من حضرته، وصعد إلى سريره فأُطفِئت الشموع وسادت السكينة والظلمة.

ولم يمضِ على ذاك ساعتان حتى خرج من غرفة صاحب الجلالة صوت هائل أيقظ جميع النيام، ثم تكرَّرَ هذا الصوت فسمع الحراس أن جلالته يستغيث، فهبوا منذعرين إلى غرفته والسيوف مشهرة في أيديهم، فوجدوه ساقطًا على الأرض بالقرب من سريره، وعلائم الرعب بادية في وجهه المصفرِّ من الخوف، وعيناه شاخصتان، ويداه ترتجفان ارتجافًا شديدًا، وقد عقد لسانه فلم يستطع الكلام.

ولم يجسر أحد من الحراس الذين أسرعوا إليه على سؤاله.

وفيما هُمْ على ذاك ولا أحد يعلم السبب الذي حمل جلالته على الصياح، إذ أقبلت الملكة بثياب النوم ومخائل الرعب بادية بين عينَيْها، فمسكت يدَيْ زوجها المرتجفتين وأنهضته فأجلسته على كرسي وسألته عما أصابه فلم يُجِبْ، فصبرت عليه برهة إلى أن هدأ روعه فقالت له: بالله قُلْ ما أصابك، فهل تريد أن أدعو الطبيب؟

فأجابها بصوت متقطع: كلا، فليس جسدي المريض، بل إن نفسي هي المريضة وأنا في حاجة إلى كاهن لا إلى طبيب.

فذُهِلَ الجميع لجواب جلالته، وأخذوا يجيلون أنظارهم في جوانب الغرفة؛ علَّهم ينظرون ما حمله على هذا الرعب، فلم يروا شيئًا.

أما الملكة فإنها أمرت في الحال أحد الحرس بالإسراع إلى الدير وإحضار رئيسه، فامتثل وانطلق عَدْوًا.

وبعد برهة أتى رئيس الدير، فزالت الغوغاء من القصر وساد السكون والخشوع فيه، وخلا جلالته برئيس الدير ما بقي من ذاك الليل.

وعند الصباح أمر جلالته أن تُقفَل أبواب القصر ولا يدخل إليه أحد، ثم دعا جميع أصفيائه وجميع رهبان الدير، فأحاطوا به في ردهة من القصر وأمرهم أن يخلعوا الثياب عن أكتافهم، وأن يجلدوا أنفسهم بالسياط تكفيرًا عن خطاياه، وكان هو أول مَن بدأ بنفسه، فلم يجدوا بدًّا من الاقتداء به، وكلهم يجهل السببَ في انقلاب جلالته وبلوغه إلى هذا الحد من التعبُّد، فخلعوا ثيابهم وجعلوا يجلدون أنفسهم إرضاءً لمولاهم.

وأحَبَّ شيكو أن يمزح حسب عادته، فبدرت إليه نظرة هائلة من جلالته تفيد أن ليس هذا وقت المزاح.

فحبس لسانه عن الكلام وأخذ سوطًا قويًّا في يده، ولكنه بدلًا من أن يجلد نفسه جعل يجلد سواه، فلا تسمع غير صائح من وقع ضرباته القوية وهو لا يعلم من أين ينهال عليه هذا الضرب الموجع.

وداموا على ذاك ساعة حتى كلَّتْ أيديهم، وكادت أن تدمى أبدانهم، فأمرهم جلالتهم أن يذهبوا معه حفاةَ الأقدام إلى زيارة الدير، فذهبوا بصحبته، وأقاموا في ذاك الدير يصلُّون ويبتهلون إلى الله كي يغفر لجلالته ذنوبه إلى أن غابت الشمس، فرجع بهم إلى القصر حيث عادوا فيه إلى الجَلْد بالسياط إلى أن دَنَتْ ساعة الرقاد، فأذِنَ لهم بالانصراف، ولم يَبْقَ لديه غير شيكو.

وإنما أبقاه ليقرأ له بعض فصولٍ من الكتاب المقدس، أمَرَه بتلاوتها رئيسُ الدير قبل أن ينام.

فانصرف الجميع وفيهم سانت ليك، الذي كان جلالته انتدبه إلى هذه المهمة التي انتدب إليها شيكو فأبَى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤