الفصل الثامن

كيف أن صوت الرب قد كلَّمَ شيكو بدلًا من أن يكلم الملك

ولبث الاثنان عشر دقائق، لم ينبس ببنت شفة، ثم هبَّ الملك من فراشه خائفًا مذعورًا، واستوى جالسًا على الأرض.

فذُعِر شيكو أيضًا، وسأله بصوت منخفض عمَّا دعاه إلى النهوض، فأجاب: شعرت بمرور الهواء على وجهي كما شعرتُ به أمسِ، وهذه إشارة إلى أن الله يريد أن يخاطبني.

ثم مرَّتْ هبَّة ثانية فأطفأَتْ شمعتين، وثالثة فأطفأَتْ ما بقي من الشموع.

فارتجفَتْ أعضاء جلالته من الخوف، وقال لشيكو: أصغِ لأن الصوت سيتكلم.

ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الصوت يناديه، قائلًا: أيها الخاطئ التعيس، أصحوتَ من رقادك؟

فاصطكَّتْ أسنان هنري من الرعب، وقال: نعم، أيها الرب!

– أسامع أنت لما أقول؟

– نعم، فلا تُلْقِ عليَّ صواعقَ الغضب.

– لقد ظننتُ أنك أطعتني بما فعلْتَه اليوم من التقشُّف، ولكن قد أطعتني بالظاهر لا بالباطن … ولم تُرضِني بالقلب، ولكنك أرضيتني باللسان.

فدَنَا هنري وهو يضطرب من شيكو، فقال له: أآمنت أيها الكافر؟

– نعم، لقد اقتنعتُ ولم يَبْقَ عليَّ غير أن تقتنع.

فدهش هنري وقال: ماذا تريد بذاك؟

– أريد أن تُجلِسني في مكانك وتجلس في مكاني.

فأطاعه هنري وقد بدأ يفهم المراد، فلما صار شيكو في سرير الملك عاد الصوت إلى الحديث فقال: ما بالك لا تجيب أيها الخاطئ؟ أرأيتَ كيف أن قلبك لم يطهر بعدُ من الذنوب؟

فأجاب شيكو مقلِّدًا صوتَ الملك: عفوك اللهم، واسبل عليَّ سترَ مراحمك، فأنت توَّاب رحيم.

ثم أكَبَّ على أذن هنري يقول: أرأيت كيف أنه لم يميِّز بين الملك وبين نديمه؟

فاحتدم هنري غيظًا وقال: من أين أتى هذا الصوت؟

– تأنَّ واصبر قليلًا، فسترى أمورًا أخرى.

ثم عقب الصوت فقال: لقد أقررتَ أيها الخاطئ التعيس بأنك مجرم أثيم، فاعترِف الآن بجميع آثامك.

فقال شيكو: نعم، إني معترف بجميع ما ارتكبته من الآثام، وأول ما أقرُّ به من ذنوبي وأستغفرك عنه هو خيانتي لابن عمي البرنس دي كوندي وإغوائي لامرأته، وإني نادم أشد الندامة.

فقال الصوت: تكلَّمْ!

– إني أعترف بأني اغتصبْتُ أخي تاجَ بولونيا، واستبددْتُ بالملك دونه، وهو حقه الصريح.

فأجفَلَ هنري وقال: ما شأنك وهذه الأحاديث القديمة؟

– هذا لا بد منه لإغوائه … وليوقن بأن الذي يحدِّثه هو الملك بعينه.

فقال الصوت: ليس هذا كل شيء، فاعترف بجميع الذنوب.

– وأعترف أيضًا بأني اعتصبتُ مع والدتي كاترين دي ميديسيس على طرد صهري هنري دي نافار بعد أن غيرت عليه أصحابه وامرأته أختي بعد أن فرَّقت عنها عشاقها.

فقال هنري وقد أخذ منه الغضب: تبًّا لك من وقح، ما لك وللتعرُّض لمثل هذه الشئون؟

لا يجب على المؤمن أن يكتم شيئًا عن الله.

فعاد الصوت إلى الحديث فقال: لا أريد أن تعترف لي بالجرائم السياسية بل الأدبية.

– نعم، وإنها كثيرة؛ لأني رجل ولكني أنثوي الطباع؛ كسول، فاتر الهمة، كثير المكر والخداع، أُسِيء معاملة النساء … ولا سيما امرأتي.

فقال الصوت: نعم، ويجب على الإنسان أن يحب امرأته كنفسه، وأن يفضِّلها على سواها من العالمين، ولا سيما الملوك … إذ يجب أن يكونوا قدوةً لسواهم من رعاياهم.

لا أن يفعلوا كما فعلتَ مع سانت ليك أيها الخاطئ، بإبعادك إياه عن امرأته ليلة زفافه.

فقال شيكو: عفوك يا رب! فمُرْني بما تشاء أصدع بأمرك.

– أريد أن تُرجِعَه صباح الغد إلى منزله … وأن تجعله دوقًا وتجعل امرأته دوقة …

وإلا فأنت من الهالكين!

فالتفت شيكو إلى الملك وقال له: يظهر أنَّ الله مُحِبٌّ لسانت ليك … فانظر أيها الملك إلى السقف …

– ما تريد بذلك؟

– أريد أن الصوت خارج منه، وأن ليس بينك وبين الله غير هذا الحائط!

فاذهب إلى الغرفة المحايدة تجده.

– وإنْ تكلَّمَ الصوت؟

– أنا أجيبه … بل سأشغله بالحديث كي لا يفطن لذهابك … فاذهب …

ثم دفعه بيده، فذهب الملك يمشي على رءوس أصابعه، فلا يسمع له أحدٌ ركزًا.

وفتح الباب وخرج منه إلى الغرفة، فحاوَلَ أن يقرع الباب، ولكنه رأى نورًا ينبعث منها.

فوضع عينه على قفل الباب، ولم يلبث أن تمكَّنَ من النظر حتى رجع إلى الوراء منذعرًا، وتبدَّلَتْ هيئته من اصفرار الخوف إلى احمرار الغضب.

ذلك أنه رأى في زاويةٍ من تلك الغرفة سانت ليك، واقفًا بملابس النوم.

وهو قد وضع قصبةً مثقوبةً في ثقبٍ من الحائط، وجعل ينفخ فيها الكلام الذي كان يحسبه الملك صوت الله.

ورأى إلى جنبه امرأته أيضًا بملابس النوم، وهي واضعة يدها على كتفه.

وكانت تبتسم لما يقوله زوجها.

فلما رأى الملك ما رآه، علم كل شيء وأخذ منه الغضب، فرفس الباب برجله فانكسر.

ودخل إلى الغرفة …

فصاحَتْ حنة صيحةً منكرة، وذهبَتْ تستتر من غضب الملك، وتحجب عُرْيَها وراء السرير.

وسقط سانت ليك جاثيًا على ركبتَيْه والقصبة في يده، ولم ينبس ببنت شفة.

فأشار الملك بمنتهى العظمة والازدراء وقال له: اخرج من هنا!

ثم جذب القصبة من يده بمنتهى الحدة، وحاوَلَ أن يضربه بها على جنبه …

فانتصب سانت ليك واقفًا وقال: لا يحق لك يا مولاي أن تضربني إلا على الرأس؛ لأني شريف.

فطرح الملك القصبة على الأرض، فأسرع شيكو إلى أخذها وحال بين سانت ليك والملك.

ثم أخذ حنة بيدها إلى جنب زوجها، فوضع القصبة على رأسَيْهما كما يُوضَع الإكليل، وقال: لقد ارتكبتما من العصيان في اللوفر كما ارتكَبَ آدم وحواء من قبلكما في الفردوس … فَلْتخرجَا من هذه الجنة، فلن تعودَا إليها أبدًا.

ثم همس في أذن سانت ليك يقول: لا تُقِم ساعة في باريس، بل امتطِ جوادًا، واقطع عشرين مرحلة قبل الصباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤