معضلات المدنية الحديثة

في المباحث الحديثة نزعة غير مرغوب فيها تجيز الخلط بين منتجات العقل البشري، فإن العلوم والآداب والفنون ثلاثة أشياء لكل منها حيزها الذي تستمد منه في كفاءات العقل الإنساني: فالعلم هو ما بلغ حد اليقين الثابت في مجموعة من المقدمات تصح نتائجها في كل الحالات وتحت تأثير كل ظرف من الظروف، والآداب كل ما تناول النظريات التي تحتاج إلى برهان يثبت صحتها، مضافًا إلى ذلك الصناعات الأدبية بفروعها، والفنون كل ما استمد من التصور والخيال. فالرياضيات التي يرجع فيها إلى حساب العدد، والفلك الذي يرجع فيه إلى الرياضيات وإلى قياس الحركة، معتبرة من العلوم، بل قد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنها كل ما أنتج العقل الإنساني من العلوم حتى اليوم. والاجتماع ومباحث الأنثروبولوجيا وما إليهما من المباحث لا يمكن أن تعد علومًا، كما أنها لا يمكن أن تعتبر من الآداب، فهي بحكم هذا علوم لا تزال في طور التكوين. أما الآداب والفنون فمنزلتان تبعد أولاهما عن العلوم بقدر ما تبعد الفنون عن الآداب.

نقدم بهذه الديباجة لأننا سنتناول الكلام في معضلات المدنية الحديثة من الوجهة الاجتماعية، والاجتماع علم لا يزال في طور التكوين، ظهرت بوادره في مؤلفات هردر التي وضعها في فلسفة التاريخ، وتطور في يد فولتير تطورًا أسلم إلى أهل القرن التاسع عشر فكرات تركزت في عقل الفيلسوف أوغست كونت بما أبرز لنا البدايات الأولية في المباحث الاجتماعية.

بدأ علم الاجتماع أشواطه الأولى بالنظر في الجماعات الإنسانية نظرًا سطحيًّا صرفًا، فكان علمًا وصفيًّا تناول طبائع الشعوب وعاداتها ونظاماتها المدنية والأهلية والسياسية، ولكنه لم يبحث في كيفية نشوء هذه النظامات إلا بعد أن وُضعت علوم الحياة على أساس من التجاريب العلمية، أفسحت للمباحث الاجتماعية سبيل النظر في الأسباب التي كونت الجماعات الإنسانية الأولى والأسباب التي ساقت إلى تطورها ونشوئها، فكانت هذه المباحث خطوة كبيرة خطاها علم الاجتماع متدرجًا في تلك السبيل التي لا بد من أن تسلم به يومًا لأن يكون من العلوم اليقينية الإثباتية بقدر المستطاع.

أكتب هذا بعد أن فرغت من قراءة كتابين في الاجتماع الإنساني: أولهما كتاب تاريخ النشوء الاجتماعي للدكتور مولر ليير الألماني، والثاني كتاب الفساد والتجدد الاجتماعيان للدكتور أوستن فريمان الإنجليزي. والمؤلفان على جانب عظيم من الكفاءة والقدرة على البحث في معضلات الاجتماع العملي، وكلاهما واسع الاطلاع على معضلات علم الحياة (البيولوجيا) قوي الحجة في التدليل، ثاقب النظر في الاستنتاج، ثابت القدم في الاستقراء، لهذا تجد أن اختلاف نظرهما في النتائج التي وصلا إليها يحدث في نفسك أثرًا قويًّا يحملك على الاعتقاد بأن المدنية الحديثة لم تصبح حلًّا موافقًا لطبيعة الإنسان خرج به من ظلمات الوحشية الأولى التي كانت تقف حائلًا بينه وبين الارتقاء، بل تعتقد أن هذه المدنية أصبحت بذاتها وعلى نظاماتها الحاضرة معضلة كبرى تسوق بالنوع الإنساني سعيًا في مدارج الانحطاط والفساد.

إن النظرة التي ينظرها رجل العلم الصرف في حالات الاجتماع مختلفة تمام الاختلاف عن نظرة الرجل السياسي، كما أنها تختلف عن نظرة المصلح الاجتماعي، فإن المتضلع من علم الحياة (البيولوجيا) لا يفكر إلا في القرون واللانهاية، ينظر في المستقبل وينظر في الماضي على نمط يكفي لأن يسقط أقوى السياسيين تمكنًا من عبادة الجماهير، فإن السياسي لا يهمه من شيء في الحياة إلا أن يرقب من أين تهب رياح الجماهير في الغد، ولكنه لا يحفل بالتفكير فيما سوف يحدث في المستقبل، قريبًا كان أم بعيدًا. كذلك يعتقد رجل العلم أنه لن يستطيع أن يغزو الطبيعة ويتسلط عليها إلا إذا مضى مطيعًا لنواميسها، وهو لن يعتقد أن الطبيعة البشرية يمكن أن تتبدل أو تتغير متطورة، حتى في خلال عشرة قرون متوالية، إلا إذا تعهدتها يد الانتخاب الطبيعي؛ تنتقل بها من درجة ارتقائية إلى درجة أخرى على تتالي الأجيال، فإن رجل العلم لا يؤمن بشيء إلا بما توحي إليه به مبادئ العلوم الثابتة التي هو عاكف على درسها وبحثها، هو لا يخاطب العواطف ولا الشعور ولا المعتقدات التقليدية التي يمضي عليها الناس عاكفين، بل يناجي أبا الهول الرابض في فلوات العالم المجهول، هو يناجي النواميس العنصرية التي لن تكذب ولن تموِّه، تلك النواميس التي تتحكم في مستقبل الأمم والشعوب والأنواع والسلالات المختلفة، كما تقتضي سننها الخالدة الثابتة، تلك السنن التي إذا سايرت الأحياء مقتضياتها تطورت وارتقت، وإذا صادمتها واعترضت طريقها اضمحلت وفنيت.

على أن العلم لم يصل بعد إلى درجة من التأثير تمكنه من أن يشكل معتقدات الشعوب العملية في الحياة على صورة ما؛ لأنه ظل طوال العصر الماضي بعيدًا عن التأثير في ميدان السياسة، مقصيًا به عن المشاعر بتأثير الدين. غير أنك تجد اليوم أن كل ما قام في رءوس الناس من محاولة التوفيق بين العلم وبين تقاليد أهل اليقين قد أهمل وترك في زماننا هذا، بل إن شئت فقل: قُضي عليه قضاءً تامًّا، فإن العلم على الرغم مما يثبت فيه إقدامه من ميادين العمل الصرف، لم يؤثر أي أثر في ثبات المعتقدات الدينية بصفتها عاملًا نشوئيًّا في تطور الشعوب. نزع العلم نزعته المادية الصرفة عندما أخذ يقاوم الأساطير والخرافات التي استمكنت من عقول الناس أزمانًا متطاولة عريقة في القدم، لكنك تجد أن العلم منذ أن حرر نفسه من أثر الأساطير ومعتقدات أهل اليقين، أخذ يخطو قَدمًا بعد قَدم نحو الفلسفة، وأخذ ينتفع بكثير مما ذاع في أواسط القرن الثامن عشر من مذاهب الفلسفة المثالية في ألمانيا وفرنسا. كذلك تحولت الموقعة من تناحر بين العلم والدين إلى شجار قوي قائم بين العلم وبين النزعات الثورية التي تجفل من حكم العقل، والتي تعمل بكل ما في مستطاع القوة أن تؤثر إفسادًا في الجماعات الإنسانية وتحليلًا من وحداتها المتجانسة، ولهذا تجد أن القائمين بغرس بذور الثورات الحديثة غالبًا ما ينفِرون من ذكر العلم والعلماء، عاملين بأقصى مستطاعهم على هدم نتائج العلم التي يخرجها المؤمنون بموحِيات العقل؛ نابذين موحِيات المشاعر؛ لأنهم في ثورتهم هذه لا يقومون في وجه النظام الاجتماعي القائم وحده، بل يثورون ضد القانون الاقتصادي وضد الجمعية البشرية، ككائن عضوي يرجع بنشأته إلى أعرق العصور قدمًا.

ومع كل هذا، وعلى الرغم من التطورات العظيمة التي انتابت الفكر الإنساني في خلال القرنين الفارطين، تجد أن ميول الرأي العام لا تنفك مؤثرة في مباحث العلوم بما يعوق خطاها المنبعثة في سبيل التقدم والاستكشاف العلمي، ولا مناص لنا من القول بأن أشد الباحثين استمساكًا باستقلال رأيه وأكثرهم تقديرًا واحتفاظًا بحرية تفكيره لا يمكن أن يخرج عن حكم الزمان الذي يعيش فيه والمؤثرات التي تتناوح رياحها من حوله، فهو على الرغم من كل هذا صنيعة نشأته وعبد بيئته، فإن ذلك الحلم اللذيذ الذي استقوى على الفكر الفرنسوي في أواخر القرن الثامن عشر، حلم أن الإنسان مستعد بطبعه إلى بلوغ درجة الكمال؛ قد تحيز في عقول الباحثين بحيث أصبح المعتقد أن النشوء والارتقاء قانون الطبيعة الثابت، وكانت مباحث «لامارك» الفيلسوف الفرنسوي الكبير مؤيدة لهذه الوجهة من النظر الطبيعي. فلما أن انقلبت أساليب الحياة الحديثة في أوروبا عامة وفي غربيها خاصة، من حياة الهدوء والسكينة التي ألفتها الجماعات هنالك طوال القرون الوسطى، إلى الحياة الاقتصادية الحديثة التي غشت أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر بحياة الإنتاجية الصناعية؛ وجد الناس في مبدأ التناحر على الحياة الذي وضعه العلَّامة «داروين» أكبر نصيب يرضي النزعة الحديثة في الذهاب بالمنافسات الاجتماعية إلى أبعد حد مستطاع؛ ليخلص كل شعب من الشعوب بحظه من الحياة، على قاعدة أن الحياة عبارة عن تناحر يؤدي من طريق الانتخاب الطبيعي إلى بقاء الأصلح، على هذا المبدأ الذي أساءت الجماعات فهمه وأساءت تطبيقه سارت المدنية الحديثة وعليه تسير.

(١) تاريخ النشوء الاجتماعي

يتخيل الدكتور مولر ليير النوع البشري خارجًا من بداياته الفطرية الأولى حيوانًا منحطَّ الصفات دنيء النشأة ماضيًا في سبيل النشوء والارتقاء درجة بعد درجة وحالًا بعد حال، متنقلًا من صورة إلى أخرى من صور الحياة، كان الإنسان في تلك الحال جاهلًا كل الجهل ما ينتظره من ضخامة المستقبل الذي هيَّأ له القدر أن يساق في سبيله، غير أنه مرَّت على الإنسانية في حياتها الأولى فترات أدرك فيها الإنسان حقيقة الخطوة التي هو ماضٍ في سبيلها، وعَدَت قوة إدراكه على حالته اللاشعورية الأولى فأدرك أن له وجودًا وأن له مستقبلًا. ومنذ ذلك الحين تبدَّل الإنسان من الاستهداء بقوة غرائزه بالاستنارة بقوة عقله ومداركه، وتبدَّل من حالة الجبر الغريزية بحالة الاختيار الإدراكية؛ فأصبحت كل أفعاله قَصْديَّة غائيَّة، بعد أن كانت فطرية لا إدراكية لا أثر فيها لقصد معروف ولا غاية مرسومة، وكبر عنده الأمل في أن يصبح يومًا ما قادرًا على أن يضبط مناحي تقدمه وأن يتحكم في درجات ارتقائه. غير أن هذا الأمل لم يتحقق حتى اليوم، ولن يمكن أن يتحقق قبل أن نفقه تلك السبل المشعَّبة التي مضى فيها النشوء الاجتماعي متدرجًا في عدد من الحلقات المتباينة. على أن دكتور ليير ليعتقد بأن هذه الحلقات يمكن استكناهها، وأننا إذا وقفنا على حقائقها وطبيعتها استطعنا أن نتخذها مطالع نرقب منها المستقبل. وهو يمضي في كل بحثه منتحيًا هذا المنحى متبعًا وحي هذا القول في تفسير حادثات التاريخ الاجتماعي؛ فهو يحصر بحثه في التطور الاقتصادي والأسرة والحكومة والعقل الإنساني والآداب والعدل والفنون، ويمضي في كل هذه الأبحاث فائضًا بآيات من الحق بينات؛ ليؤيد نظريته هذه من كل ناحياتها.

يعتقد دكتور مولر أن التهذيب العقلي حركة ارتقائية في مستطاعنا أن نتتبع آثارها منذ أن بدأ الإنسان في الظهور فوق هذه الأرض متطوِّرًا عن الحيوانات الأدنى منه في سلم الطبيعة نسبًا، فإن استكشاف طرق التفاهم بالكلام واستحداث النار واستعمال الآلات ثلاث حوادث كبرى يمكننا أن نَعُدَّها من بين الأشياء التي وضعت حدًّا فاصلًا بين عهدين متباينين مر بهما الإنسان في سُرَى تطوراته العديدة، فإن استعمال الآلات قد زاد عندما انتقل الإنسان من العصر الحجري إلى العصر النحاسي مارًّا بالعصر البرونزي إلى عصر الحديد، ولقد استقر عصر الحديد على مدنية الآلات الصناعية التي نستعملها في هذا العصر، على أنها مدنية حديثة كفى أن نعرف من حداثتها أنها لم تبدأ في إنجلترا — وهي عنوان الإنتاجية الصناعية القائمة على استعمال الآلات الحديدية — إلا منذ مائة وخمسين عامًا لا غير؛ حيث نماها هنالك وأسس قواعدها عدة استكشافات متتالية كان من نتائجها إحداث ذلك الانقلاب الصناعي الذي تقوم عليه مدنية القرن العشرين. ولقد ترى أن كل الجهود الآلية التي تحتاج إليها الصناعات المختلفة آخذة في سبيل التحول من الاعتماد على عضلات الإنسان إلى الاعتماد على قوة الآلات الميكانيكية المركبة، حتى قال دكتور ليير في ملاحظة فيها كثير من الروعة والجلال إن نبوءة أرسطوطاليس كادت تتحقق في زماننا هذا، إذ قال في كتاب السياسة: «إذا أصبح من الممكن أن تعمل أكرة المنسج من تلقاء نفسها وإذا أمكن أن يتحرك منقر القيثارة والزيثار من تلقاء ذاتهما؛ لم يصبح هنالك من حاجة إلى العبيد …» غير أنه يرى أن نشوء النظام الاجتماعي لم يساير تقدم الفنون العملية، ولم يساوِ ارتقاء الحياة الاقتصادية عامة، ولهذا ترى أن العمال الذين يعيشون من كدِّ سواعدهم تلقاء أجورهم لا يزالون في حالة أشبه بحالات العبيد المستَرَقِّين تمامًا، وهذه أكبر دلالة عند دكتور مولر على أن عصر الآلات المدني لا يزال في بدايته؛ لم يَدْرُجْ بعد من حِجر الأيام.

ولقد أظهر من بعد ذلك أن نظام الرأسمالية قد نما وتكثَّر في ظل الإمبراطورية الرومانية، وأن الثروات الفردية كانت تحت حكم هذه الإمبراطورية أكبر قيمة وأعظم كمية منها في كل الأزمان التي تقدمت القرن التاسع عشر، ولكن أساس هذه الثروات كان قائمًا على جهد العبيد لا على الآلات. وكان يحسن بدكتور مولر أن يقول من بعد ذلك بأن تقدم الآلات وارتقاءها قد عاقه ووقف في سبيله نظامُ الرق واستعمال العبيد، وعلى هذا يلاحظ مستنتجًا أنه كلما كان يفيض مَدُّ العبيد في روما كانت تنحط الإنتاجية؛ لأن القدماء لم يكن من عاداتهم أن يناسلوا العبيد بعضهم من بعض في مرابط (كمرابط الخيل) كما يفعل في هذا العصر المستنبَتون في ولايات أمريكا الجنوبية، وبذلك يمكنهم أن يزيدوا من عدد العبيد محتفظين منهم بعدد تتزايد نسبته الرياضية جيلًا بعد جيل. ومنذ ذلك العهد الذي تحطمت فيه الإمبراطورية الرومانية الغربية، حتى العصر الذي وقعت فيه ثورة الانقلاب الإنتاجي؛ كانت الرأسمالية ضعيفة الأثر ضئيلة القوة مشلولة الساعد، فإن الكنيسة لم تهمل ساعة واحدة أن تَشُنَّ عليها الغارة تلو الغارة، وتُنازِلُها في موقعة تلو موقعة، كما أن نظام القطائع لم يوسع لها مجال التكثر والازدياد، والسبب في هذا راجع إما إلى أن الرغبة في الكَنْز والاستجماع كانت في طبائع الناس خلال القرون الوسطى أضعف مما هي في العصور الحديثة، وإما أن الظروف التي كانت تجعل استجماع الثروات المالية أمرًا مرغوبًا فيه لم تكن متوافرة في ذلك الزمان.

ولا يذهب بك دكتور ليير بعيدًا، بل يعود بك إلى سنة ١٨٢٥ ليذكر لك أن أسطول «بريمن» — وهي ميناء في شمال ألمانيا — لم يكن في تلك السنة ليزيد من حيث حمولة الأطنان على شحن باخرة واحدة من البواخر التجارية التي تمخر الآن عباب البحار. ومن قبل أن يُستخدم البخار ليقوم مقام عضلات الإنسان والسوائم في إيفاء الصناعات بما تطلب من قوة، كان السواد الأعظم من العمال عبارة عن مجموع من مهرة الصناع الذين يعتمدون على حنكتهم الذاتية وفنهم الشخصي، وكان كثير من الأسر في مستطاعها أن تعيش منفردة من غير احتياج إلى مساعدة غيرها معتمدة على قوة الابتكار في أفرادها ومرانهم على العمل والإنتاج، مكفيَّة شر الحاجة مستقلة تمام الاستقلال في كل مرافق حياتها، فلما أن أدركت مدنية القرون الوسطى ثورة العصر الاقتصادي، كانت الخطوة نحو التغاير والانقلاب مقدورة على المتاجر القديمة التي نمت على مر القرون ونشأت كصناعات يدوية أولًا؛ ثم تلتها المتاجر الحديثة كتجارة المطاط والسكر والأعمال الكيماوية ثانيًا؛ ثم خروج اليد العاملة من صناعات الغزل والنسيج والدباغة وصناعة لَبِنَاتِ البناء والفخار ثالثًا؛ وهي صناعات ظلت آلافًا من السنين عبارة عن صناعات منزلية عادية. ومن ثم اختفت الأسرة المعتمدة على ذاتها المكفِيَّة شر الحاجة إلى غيرها المستقلة في إنتاجها؛ من عالم النظام الاجتماعي؛ لأن معامل الإنتاج الحديثة أخذت تحشد العمال حشدًا، وتوارت عن الأعين الأكواخ القديمة بمعداتها، من مطبخ ومعمل وحديقة، وعلى الجملة — كما يقول دكتور ليير — إن الإنتاج الفردي قد أفسح المجال للإنتاج التعاوني، كما هدم مبدأ اقتسام العمل حياة الصناعات اليدوية، وقضى على الفنان المنتج المستقل بذاته، فأصبح بذلك نجاح العصر الرأسمالي بمقتضى هذا النظام قائمًا على ازدياد مقدار الصادر والوارد في التجارة.

يمضى دكتور مولر في مباحثه هذه شديد الاقتناع ثابت اليقين في مبدأ من مبادئ الفيلسوف «عمانوئيل كانت»، إذ يقول: «إن أوجه التقدم كلما ازدادت سرعة قصرت صورها»، فهو لهذا يعتقد أن الصورة الاجتماعية التي نعيش نحن اليوم مكتنَفين بآثارها خاضعين لنظاماتها ستكون أقصر عمرًا من الصور التي تَقدَّمتها؛ فإن حالات الاندماج والتخالط، وعلى الأخص بين رأس المال والعمال، تزداد حدوثًا، والإنتاج الاشتراكي الذي تلجأ إليه بعض الحكومات في بعض الظروف يزداد أهمية وخطرًا. وما منع الناس من تجربة التساكن التعاوني إلا قوة المحافظة في نظام البيت الاقتصادي، على الرغم من أن التساكن التعاوني يعوض على النساء كثيرًا مما يسرفن فيه من قوتهن العملية. غير أنه يعتقد أن الصعوبة التي تحول دون إخراج مثل هذه المشروعات من حيز النظر إلى حيز الفعل، محصورة في حساسيتنا الاجتماعية التي أصبحت فينا من المشاعر الوجدانية بحكم تراكم الطبقات الاجتماعية المقسومة في مراتب تَفْضُل إحداها الأخرى، وفي ذلك الميل المؤصَّل في فطرة كل أسرة من حب المعاشرة لطبقات خاصة.

غير أنه يستحيل على الإنسان أن لا يشعر بحزن عميق صادق كلما ذكر أن الإنسانية فقدت المهارة اليدوية في الصناع الفنانين بحكم ذيوع الإنتاجية الميكانيكية، فإن الهمج المتوحشين يحاولون دائمًا أن يعرفوا من الرواد الذين يَغشُون مرابضهم عما إذا كانوا هم الذين صنعوا آلاتهم ومعداتهم بمهارتهم اليدوية، ويدهشون إذا صارحهم أحد منهم بأنه لا يستطيع أن يصنع شيئًا منها، ولقد ذكر أحد السياح الإنجليز أنه رأى في جزائر تاهيتي أن الآهلين يمكنهم أن يصنعوا بيتًا من الأغصان وأوراق الشجر، وأن الكساء يصنع خلال نزهة قصيرة يقضيها الهمجي باحثًا وراء الثمار في غابة من الغابات، وقد تستولي على هؤلاء الهمج الحيرة والعجب إذا ما سمعوا بأن البريطاني المتمدين يضطر حكومته لأن تنفق ألفًا من الجنيهات تبذلها من جيب دافع ضرائبها لتعد له بيتًا يسكنه، وأنه يضطر إلى البقاء أشهرًا بلا مأوى قانعًا حتى يتم بناؤه. وفضلًا عن هذا فإن الإنسان في حالته الطبيعية الأولى يمكنه أن يختار شكل المعيشة التي تلائمه وأن يشغل نفسه فيما يستخدم فيه كل قواه بالتساوي، فيحرك أطرافه كما يريد، وينبه قوة الملاحظة في خلايا مخه، ويستجمع قواه العقلية ليدرك ما هو بعيد عن إدراكه كما يشاء، على العكس من الحالة المدنية في عصر الإنتاج الميكانيكي، فإننا لا ننمو إلا من ناحية واحدة، فنصبح عبيد العمل لا أسياده المتحكمين فيه، إذ يقضي أحدنا العمر يحْفِر أو يخْرُز أو يَطْلِي أو يكتب أو يلاحظ آلة ميكانيكية، في حين أنك تجد أن صيد السمك أو القنص البري، وهي من أولى الأشياء التي يعكف عليها الهمج، أصبحت في مدنيتنا الحديثة من الملاهي التي ينعم بها ذوو اليسار.

•••

لا يبغض الدكتور مولر ليير من شيء أحدثته الإنتاجية الميكانيكية في المدنية الحديثة أكثر من تلك النزعة التي أنبتت في النفس الإنسانية ما يسميه «البليونكسيا Pleonexia»، وهي كلمة إغريقية معناها الطماعية والجشع، فإن هذه النزعة قد خلقت عالمًا محوطًا بالصعاب، محفوفًا بالمخاطر، مشئوم الطلعة على الإنسان، بغيض النتائج، عالمًا تنحصر الفكرة المستمكنة من عقول أفراده في أن الإنتاجية الصناعية هي كل الغرض من الحياة، وأن الزمان عبارة عما يقاس بالكسب المادي، وهذه الطريقة «الأمريكانية» — كما يقول الألمانيون — قد غزت أمم الغرب، وتمكنت من أخلاقهم، وانتشرت بينهم انتشار وباء مجتاح، وهي على الرغم مما تبث في الجماعات من نشاط يفوق تصور الإنسان، بل يفوق مقدرته، وفضلًا عن أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بما تبعث في الأنفس الخاملة من حب العمل والكسب؛ فإنها لم توفق إلى إحداث حالة تزيد من سعادة الإنسان ورفاهيته، بل على الضد من ذلك لم تزد إلا من دناءات الحسد والغيرة الممقوتة.

والحقيقة أن التهذيب العقلي لم يزد نصيب الأكثرية من سعادات الحياة، بل أنقصها، وجعل حظها أتعس مما كان، فإن الإنسان في حالاته الفطرية الأولى كان ذا قدرة على أن يستخدم كفاياته بما يقتضيه ذوقه وترضى عنه ألفة حسه، كان بعيدًا عن المفاجآت والمغامرات، مكفيًّا شر التفكير في المستقبل، راضيًا بما قُسم له، قانعًا بما بين يديه. في حين أنك ترى في الجماعات التي بلغت أرقى حدٍّ من الإنتاجية الصناعية، أن جموعًا من الناس قد حُشدت في معامل خُصِّص فيها العمل تخصيصًا حَوَّط العاملين بسياج من الواجبات والقيود لا ترى لها من سبب إلا حب العناية بالإنتاج أو الاستغراق في الطماعية والجشع الذي يملأ نفوس المنتجين، وكل هذا لا يخلق إلا جوًّا من الاضطراب والقلق يرضى به الإنسان المتمدين مقسورًا عليه، في حين أن الهمجي المتوحش لا يتصور أن يُحَوَّط بجو مثله إلا وملء نفسه الجزع والاستكراه.

مع كل هذا يعتقد دكتور ليير أنه لا مفر من النتائج التي تترتب على هذه الحال؛ لأن الجماعات التي بلغت من رقي النظام الاجتماعي أبعد مبلغ، هي التي تحوز أكبر قسط من فرص البقاء، بينا تجد أن حظ الفرد في مثل هذه الجماعات لا أثر في صد هذا الأسلوب الاجتماعي عن الانبعاث في سبيله المحتوم، خذ لذلك مثلًا من حالة الجماعات في حياتها الفطرية الأولى، فإن أمة تتخذ استرقاق العبيد صناعة، ويكون في مُكْنتها أن تعكف على مزاولة فن الحرب أكثر من غيرها؛ تكون أقوى ساعدًا وأشد بطشًا من أمة تزاول مهنة الزراعة والاستنبات، كذلك الحال في الجماعات الحديثة، فإن أمة تزج بالأكثرية من أبنائها في غمرات نظام إنتاجي تبعد أحكام اقتسام العمل فيه عن مقتضيات الطبيعة أشد بُعدٍ، تستطيع أن تتفوق، لا بل تستطيع أن تُفْني أمة عَكَفت على وسائل في الإنتاج أدنى إلى موحِيات الفطرة، وأبسط نظامًا، وإن كانت أجمل نسقًا، فإن القوات العنصرية العمياء تتطلب الكمال في النظام الاجتماعي، أكثر مما تؤيد مصلحة الفرد، على أن هذا الأسلوب قد بلغ بين الجماعات الحيوانية مبلغًا نراه قصيًّا، فإن خلية النحل تزودنا بدرس كامل في الاشتراكية الحكومية التي وصلت إلى أقصى حد من النظام، بل بلغت بالتطور أرقى النتائج المنطقية.

يقول دكتور مولر بعد هذا: إن النوع الإنساني ثائر ثورة حقة ضد هذه الحال، فإن صرختي «الفردية» و«الاشتراكية» ليستا إلا تعبيرين ينمَّان عما يتطلب النوع البشري من السعادة، أما إذا أردنا أن نحلل طبيعة هاتين الفكرتين المتضايفتين، وأخذناهما على أن إحداهما تعبر عن نظام الحرية والأخرى عن نظام العمل، اعتقدنا أن كلتيهما متممتان لبعضهما وأنهما ليستا متضادتين. ولا تسقط قيمة الفرد إلا في نظر الحكومات المنظمة لتثير الحروب، فتحت نظام هذه الحكومات تضيع مصالح الفرد، بل وتَضْحَى حياته بلا حساب، أما العلاقات التجارية الدولية فتعمل دائمًا على أن تُوحِّد بين أطراف المدنية المشعَّبة، فإذا بلغت هذه العلاقات مبلغًا كبيرًا، فإن الحكومات ينقلب نظامها من نظام قائم على تنظيم قوات الحرب وتضحية المصالح الفردية إلى واسطة تعمل على زيادة رفاهية الناس وسعادة الرعية، وبالأحرى ترتد الحكومات إلى وظيفتها الحقيقية التي تقوم من أجلها أصلًا. على أن هذا النظام لا يتحقق قبل أن تسود حالة اجتماعية ثابتة بعيدة عن التزعزع والقلق، وهو يعتقد أن حالة الثبات الاجتماعي ممكن أن تتحقق في المستقبل القريب، أما معتقده هذا فيقوم على سببين؛ الأول: أن أطراف العالم لم يبقَ فيها من شبر أرض غير مملوك لدولة من الدول، وهذا سبب من أوجه الأسباب التي تمنع الحروب التناحرية على الاستعمار. والثاني: أن هنالك علامات تدل على نزعة تعمل على تحديد النسل الإنساني بحيث لا يمضي الناس في أعقاب النسل إلى حد بعيد عن المقتضيات الطبيعية والحاجات الاجتماعية، فإن دكتور مولر لموقن بأنه ما من شيء كان أبعث على حلول المصائب والكوارث الاجتماعية بالمدنية الحديثة، وما من سبب شلَّ حركة الثقافة والتهذيب الارتقائي عن أن تنبعث في سبيل ترقية الإنسان وزيادة نصيبه من السعادة فوق هذه الأرض؛ بأعظم خطرًا من ازدياد نسبة النسل زيادة كبيرة في القرن التاسع عشر.

يقول الدكتور مولر: «عندما يصبح علم البحث وراء المؤثرات الاجتماعية بذاته مؤثرًا اجتماعيًّا، فهنالك يحق لنا أن نقول: إن النشوء الاجتماعي سوف يصل في المستقبل إلى نهايات لم يتخيلها فكرٌ من قبل، وإن خطأ النشوء سوف يسوق إلى عهدٍ تسود فيه عوامل التهذيب العقلي الكامل، بحيث لو وضعت عوامل التهذيب السائدة في عصرنا هذا بجانبها وقيست بها لظهرت كما تظهر غرارة الإنسانية الأولى بجانب مدنيتنا الحديثة، فإننا كلما تأملنا من مآسي الحياة الإنسانية لا نلبث أن نشعر شعورًا صادقًا يوحي إلينا بأن هنالك نزعة كامنة في تضاعيف الحياة تسوق بالبشر إلى أرض المعاد والخلاص.»

على هذا نرى أن دكتور مولر ليير من أولئك الكتاب الذين يملأ التفاؤل صدورهم، ولذا فهو يختم كتابه موقِّعًا على نغمة دينية يرن صداها ضئيلًا إذ تصدر من قلم رجل درس حالات الحياة المادية درسًا عميقًا، ولم يتكون في عقله من أثر أثبت من أثر الاحتقار لتلك المعتقدات التقليدية التي عاش الإنسان مستظلًّا بظلالها الوارفة في العصور الأولى.

كتب دكتور ليير مؤلفه هذا قبل أن تهب على المدنية عواصف الحرب العظمى، وتكونت عناصر آرائه في ذلك الجو الذي كان يغشى الأفكار والعقول قبل سنة ١٩١٤، وما من أثر بارز محسوس يؤلف في العقل كفاءة يُقتدر بها على تحقيق ما بلغت إليه كارثة الحرب العظمى من تغيير وانقلاب في حياة الجماعات الحديثة تغلغل إلى أغوارها واستعمق في صميمها؛ من تلك الحقيقة الملموسة، حقيقة أن في مستطاع كل من درس المؤلفات الاجتماعية التي ظهرت خلال ربع قرن فَرَط من الزمان أن يعرف بغير كبير صعوبة أيًّا من الكتب التي تتناول البحث في العلم الاجتماعي قد كُتب قبل الحرب العظمى، وأيَّها كُتب بعد أن انجلت غمرتها، فإن هذه الحرب لم تقف آثارها عند ثَلِّ العروش واجتياح الأمراء، بل ثلَّت عرش نظريات ومبادئ كان يعتقد الباحثون أنها ثابتة ثبات المبادئ الأولية في الرياضيات والفلك.

يعتقد ليير — كما كان يعتقد كل الكُتَّاب الاجتماعيين قبل وقوع الحرب العظمى — أن فكرة النشوء التفاؤلية السائقة بالإنسانية إلى أبعد حد يُستطاع تصوره من الارتقاء فكرةٌ فُرغ من الكلام فيها، وأصبحت من المقررات الأولية في العلم الاجتماعي، وأن الطريق الذي شقَّته المدنية للحيوان الناطق خلال الأزمان لم تكن القاعدة الثابتة فيه هي قاعدة التحول من حال التجانس والغَرارة إلى التنافر والارتقاء لا غير، بل كان طريقًا تدرج فيه الإنسان من حالة اللاعقلية إلى حالة عقلية نوعًا ما في الحياة الاجتماعية، وأن عصر الإنتاج الصناعي المعتمِد على الآلات الميكانيكية إن ظهر في هذا العصر بمظهر نظام ينقص من سعادة الإنسان ويذهب بكثير من عناصر رفاهيته؛ فإن هذا الانحراف المدني لا بد من أن يبلغ في عهد قريب حدًّا يُصلِح فيه خللَه ويُقَوِّم مُعْوَجَّه. كذلك تجد أن هذا المؤلِّف الكبير لم يسلم من التأثر بكثير من تُرَّهَات «كارل ماركس» وسفاسفه، بدليل أنه كثيرًا ما كرَّر في مواطن عديدة من كتابه هذا أن النظام الاقتصادي القائم اليوم من شأنه أنه يزيد الغني غنًى والفقير فقرًا، في حين أن الإحصاءات التي تناولت مسألة الدخل القومي في كثير من ممالك أوروبا قبل الحرب قد نقضت هذا الزعم نقضًا تامًّا وأبانت عن أخطائه، بل قضت على طائفة كبيرة من براهين الاشتراكيين والشيوعيين، تلك البراهين التي كانت تُتَّخذ لها هذه النظرية دِعامة وسندًا.

ولمَّا أن حاول أن يضع حلًّا للمعضلات الاقتصادية الحديثة، لم يجد من نظرية يلجأ إليها سوى نظرية المِلكية الشعبية وإدارة الحكومة، وهذه نزعة غريبٌ أن تصدر من مؤلف ألماني، فإنه مما لا شك فيه أن الحكومة الألمانية قبل الحرب كانت أدق الحكومات إدارة وأثبتها نظامًا، وكانت بعيدة جهد البعد عن مواطن الضعف والإسراف التي جعلت صيحة الملكية الشعبية في إنجلترا نغمة مألوفة وصرخة يؤيدها الواقع وتزكيها الحوادث، غير أن جدارة الحكومة في ألمانيا ونظامها كان راجعًا إلى قوة بناء هرمي مشيد من مجموعة من النظم البيروقراطية المتماسكة العناصر، يديرها رأس مفكر يقف على قمة الهرم لا تحت قاعدته، ومع كل هذا فإن من المعترف به أن نظام ألمانيا الحكومي كان حجر عثرة في سبيل نماء الكفايات الفردية وتمتعها بكامل حريتها التي تتطلبها حاجات التناحر في المدنية الحديثة، كما كان حائلًا دون حدوث ذلك التكافؤ الاجتماعي الذي يوفق بين الجماعات وبين بيئاتها، تلك الصفة الخطيرة التي طالما فخرت بها أمريكا كميراث كبير ورثته عن المدنية الأنجلوسكسونية.

أما وقد بلغ دكتور ليير من بحثه المستفيض هذا المبلغ، أما وإنه من أولئك النشوئيين المتفائلين؛ فإنه لم يجد من مندوحة عن معاودة الكلام فيما سماه ﺑ «البليونكسيا» أي الجشع الاجتماعي، محاولًا أن يثبت أن الإنسان سائر في طريق سوف يسلم به سريعًا إلى التخلص من هذه الرذيلة، التي يعتبر أنها غرس الإنتاجية الحديثة. غير أنك إن تأملت من حالات الإنسان خلال كل أدوار تاريخه، لما أمكنك أن تحكم حكمًا صحيحًا إذا ما أردت أن تنظر في الرجل الأوروبي الحاضر متسائلًا هل هو حقيقة أشد طماعية وأذهب في الجشع من أسلافه السابقين، أو أن هذه الصفة أمكن في طبيعته مما هي في طبيعة الرجل الآسيوي أو الأفريقي؟ على أنك إذا أردت أن تبحث عن شخص فيه من استعداد الإجرام القائم على الجشع قدرٌ لا يجعله يتلكأ في قتل أعز صديق له طمعًا في بضعة دراهم معدودة؛ فإنك قد لا تعثر عليه في عواصم البلدان الصناعية، في حين أنه من السهل عليك أن تلتقي به عند منقطع السبل وفي الوديان المُعْشَوْشِبة الخصيبة؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نحد من رغبة الإنسان في الكسب واستجماع الحطام بالتحكم في الظروف التي تزيد في الإنسان من تلك الرغبة، وها نحن أولاء نرى أن صغار ملاك الفلاحين، حتى في مصر أودع البلاد طبيعة وأصفاها سماءً وأسلسلها للمنتجين قيادًا وأرغدها عيشًا وأسخاها أكفًّا، هم أجشع كل الناس وأشدهم طمعًا وأحبهم للكسب وأزهدهم في الإنفاق وأمعنهم في حب الاستجماع!

إن القاعدة التي تقوم عليها فكرة النشوء التفاؤلية في رءوس المفكرين في معضلات الاجتماع، هي أن في الرذائل الاجتماعية ضعفًا طبيعيًّا كامنًا يسوق بها إلى حيث تُفني إحداها الأخرى، كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. ومما لا مُشَاحَّة فيه أن هذه الفكرة لا تستند على حقائق قيمة، وليس في التاريخ من شيء يجيز الاعتقاد بصحتها، فإن ازدياد أوجه التخالط والاشتباك في الأنظمة الاجتماعية لا يدل دائمًا على أن هناك ارتقاءً، إذا كنا نعني بالارتقاء مجرد الانتقال من حالة تقل رغبة الإنسان فيها إلى حالة تزداد رغبته ميلًا إليها، ولا يجب أن يَعْزُب عن أفهامنا مطلقًا أن تشابك حلقات الأنظمة الاجتماعية وازدياد تنافرها إنْ هي إلا حالة لن يبرِّر فرضها على جمعية ما إلا أنها ذات صفات تزيد من فرص البقاء للجماعات. وليس لدينا من مبرر يجعلنا نعتقد بأن ضروب الإصلاح الاجتماعي واقعًا في جماعات بلغت من نظام الإنتاجية الصناعية أقصى مبلغ؛ قد يمكن أن تلائم مقتضيات الحياة من غير أن تُضعف من تلك الكفايات العليا التي يرجع إلى قوتها بقاء الجماعة في ذاته. هذه المسألة في الواقع معضلة المعضلات الاجتماعية، هي معضلة يجب أن يصل المصلحون إلى حلها، على أن حلها لا يقتضي مطلقًا أن نعتقد كما يعتقد دكتور ليير في أن هنالك قوة خفية قد فرضت وقدرت أن الإنسانية لا بد من أن تسير إلى حد الكمال في النظام الاجتماعي.

وكثيرًا ما ينسى الاجتماعيون أن الحيوانات الاجتماعية التي بلغت من الرقي الاجتماعي مبلغًا قصيًّا، كجماعات النحل والنمل، لا بد من أن تكون قد مرت بدور تتابعت عليها فيه صور النشوء والارتقاء دِراكًا وانتابتها سِراعًا، حيث تطورت حياتها الاجتماعية إلى ما نرى اليوم في نظامها من تشابك واختلاط، ثم مضت من بعد ذلك ثابتة غير متغايرة محتفظة بنسبة متوازنة من النظام تلوح كأنها خالدة لا تتغير. ومن الراجح أن يكون النوع الإنساني قد مرت عليه ألوف الألوف من الأعوام محتفظًا بطابع ما من غير أن ينتابه أي تغاير، وأن روح التقدم المتوثبة التي كانت ثائرة مطاوعة لسنن النشوء والارتقاء في حالات عدم التكافؤ بين الأحياء وبيئاتها؛ قد هدأت ثورتها عندما بلغ الإنسان حدًّا من الرقي أصبح عنده أكثر ألفة مع ما يحيط به من ظروف البيئة. نقضي بهذا بعد أن وقفنا على كثير من صور الانحطاط والفساد الاجتماعي التي نمت عليها حالات الحرب العظمى، فأظهرت خفاياها وأبانت عن سوآتها في كثير من بقاع العالم المتمدين وغير المتمدين، وتلك حالات أضعفت من حسن ظننا في مستقبل النوع الإنساني بقدر ما أفسح كمونها وعدم وجود الظروف التي تظهرها المجال لأبناء الجيل السابق في التفاؤل وحسن الظن، فقد ثبت الآن أن ذلك الارتقاء الذي عاش أهل القرن التاسع عشر معللين أنفسهم بأن يبلغ أبناؤهم إلى قمته العليا في فاتحة القرن العشرين، وذلك الأمل الذي رقبه الذين ضمتهم من قبلنا عصور التراب في الماضي القريب؛ كان:

كأنه برق تألَّق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع

وما من شك يدور بخلدنا في أن الأستاذ ليير ينزع إلى الأفكار الاشتراكية المتطرفة في كثير من أبحاثه، فإن التفاؤل المطلق في مستقبل النوع الإنساني كان بلا أدنى ريب ميراثًا تنقَّل من جيل إلى جيل حتى تركز في آخر حالاته على صورة تضخمت في رءوس الشيوعيين، وتراثًا ورثه «كارل ماركس» — عَلَم المدرسة الاشتراكية الحديثة ومؤسس دعائمها — عن معتقدات أهل القرون الوسطى، ولهذا ترى أن روح التعصب المذهبي فائضة من نواحي هذا المذهب، كما ترى أنه بعيد جهد البعد عن مطاوعات الشك واللاأدرية.

والحقيقة أن المفكر قبل سني الحرب العظمى كان يقف حائرًا بين عاملين فكريين يتجاذبان عقله: عامل التفاؤل وعامل التشاؤم في مستقبل الجماعات الإنسانية، أما وقد نمت كوارث هذه الحرب عن الخلق المؤصل في تضاعيف الفطرة الإنسانية، وأبرزت الإنسان مجردًا عن أثواب المدنية وعلى نفس الصورة التي تصورها لنا حالاته الفطرية الأولى، حيوانًا جشعًا مسفًّا خارجًا من جوف الطبيعة ثائرًا ضد كل ما فيها حتى نوعه الذي ينتمي إليه، حاملًا فوق رأسه منجل الحصاد يحصد به الأنفس البشرية، وفي يده آلات الهدم والتخريب، نابذًا كل تقاليد الشرائع الأدبية؛ فهنالك لم يبقَ من مجال يوسِّع لشعور التفاؤل أن يستقوي في الفكر على شعور التشاؤم في مستقبل الإنسان.

وما لنا ولهذا؟ فكِّر ساعة في أن تقل مواد الغذاء إلى حد الندرة وتخيل حال الإنسان واقعًا تحت تأثير مجاعة تحدث فجأة، فماذا تتصور؟ تتصور أن الإنسانية التي يلوك أفرادها مبادئ الأديان بأفواههم، ويحركون شفاههم بكلمات الآداب والمثالية وما إليها، لا تمضي وادعة إلا بعد أن تمتلئ بطون أفرادها خبزًا وإدامًا، وما بالتطبع يتغير وما بالطبع لا يتغير.

لقد قلَّت الثقة بفكرة التفاؤل في مستقبل النوع الإنساني، ولا يدلك على هذا مثل وقوفك على رأي الأستاذ «بيري» في كتابه «فكرة التقدم الإنساني: بحث في أصلها ونشوئها»، فإنه يقول في مقدمة كتابه هذا:

إن الأمل في بلوغ درجة من درجات السعادة فوق هذا السيَّار تنعم بها الأجيال المستقبلة أو حالة يمكن أن نعتقد نسبيًّا أنها سعيدة؛ قد حل محل الأمل في المتعة بنعيم الآخرة. على أننا رغم ما نجد من أن الاعتقاد في خلود الشخصية لا يزال معتقدًا شائعًا حتى اليوم، لا يسعنا إلا أن نقول بجانب هذا: إن ذلك المعتقد لم يصبح الفكرة الأساسية المسيطرة على الحياة العامة، ولم يعدْ بعدُ ذلك المقياس الذي تقاس به كل التقييمات الاجتماعية، فإن كثيرًا من الناس ينكرون صحته وكثيرًا غيرهم يعتقدون أنه من الشك بحيث لا يصح أن يكون المحور الذي تدور من حوله أفكارهم، وتتأثر به مشاعرهم ومقومات حياتهم. ولا مُشَاحَّة في أن الذين يؤمنون بصحة هذا المعتقد هم الأكثرية، غير أن درجات الاعتقاد تختلف ويصعب أن يُعَدَّ مخطئًا ذلك الذي يقول بأن هذا الاعتقاد لا يمضي مسيطرًا مستبدًّا بأمره في تصورات الآخذين به، حتى إنك لتجد أن عواطفهم وانفعالاتهم لا تنعكس عليه إلا واهنة ضئيلة، وإنهم يشعرون بأنه أدنى إلى جانب النُّؤْيَة والشك، كما تجد أنه قلَّما يكون تأثيره على السلوك أقصى مدًى من تأثير تلك المناقشات العميقة التي تُحشَى بها كتب الأخلاق بما يتخللها من الأدلة والبراهين.

ثم يقول:

إن النقد الذي وُجِّه إلى بضع صور استحالت إليها فكرة الارتقاء وإلى بضعة براهين أقيمت لتأييدها؛ لا يصح أن يُتخذ دليلًا ينفي صحة الفكرة، غير أني أذكر ملاحظتين: فإن الشكوك التي نثرها مستر «بلفور» حول فكرة الارتقاء منذ ثلاثين سنة مضيْن في خطاب فلسفي ألقاه في «جلاسكو» لا تزال قائمة بكل ما كان لها من قوة، ولم ينقضها أحد من الباحثين. كما أنه يغلب أن كثيرًا من الذين خُيِّل إليهم منذ ست سنوات مضيْن — كتب هذا سنة ١٩٢٠ — أن المدنية الغربية ستأخذ في دور الفساد والانحلال السريع، لا بتأثير القوات العنصرية بل بتأثير بلوغها حد النماء الممكن لها، ويعتقدون الآن بأن ما خُيِّل إليهم كان وهمًا؛ ليشعرون اليوم بأنهم أقل ثقة بالمستقبل مما كانوا من قبل، على الرغم من أن الأمم العظمى قد كوَّنت عصبة لتحُول دون الحرب، تلك العصبة التي يقول دعاة الارتقاء وأنصاره إنها أكبر الخطوات التي خطاها الإنسان نحو المثل الأُوتوبي.

لكل حركة فكرية كما لكل حادث من حوادث الطبيعة أثران: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ولا يقتضي هذا النظام أن يكون الإيجاب خيرًا وأن يكون السلب شرًّا على تتالي الحوادث وتوالي خطوب الزمان، فقد يتفق أن يكون عكس هذا صحيحًا، وقد يتفق أن يكون أثر السلب خيرًا وأثر الإيجاب شرًّا، تستبين ذلك إذا ما نظرت في فكرة التفاؤل في مستقبل الجماعات الإنسانية من جهة تأثيرها على الأخلاق، فإن هذه الفكرة بقدر ما جرَّت جماعات الإنسان في مدنيته الحديثة إلى معارك مُمِضَّة مُعْنِتة تحت تأثير فكرة أن الرقي المنشود معقود على ارتقاء الإنتاجية الصناعية والتناحر الميكانيكي، فأفسدت أوجه الارتقاء الحقيقي وقذفت بالإنسانية إلى أوعر المزالق؛ قد غيرت من قانون الأخلاق تغييرًا كبيرًا. وفي ذلك يقول الأستاذ «بيري» في كتابه الذي مر ذكره:

تحت تأثير فكرة الارتقاء تحوَّر قانون الأخلاق في الغرب خلال العصور الحديثة خضوعًا لمبدأ ذي مكانة عظمى، يمت إلى هذه الفكرة بآصرة ونسب، فإن «إيزوقراط» عندما وضع حكمته المعروفة «اصنع بغيرك ما تريد أن يصنع غيرك بك» لم يفكر هنيهة في تطبيق حكمته هذه على الهمج والعبيد، بيد أن الرواقيين والمسيحيين طبقوها على كل الإنسانية، ولكن هذه القاعدة قد بلغت في العصور الحديثة مدًى قصيًّا لم تبلغه من قبل، بأن وسَّع تطبيقها أجيال المستقبل التي لم تتمخض عنها الأيام، فإن مبدأ الواجب نحو الأعقاب والخلائف ليس إلا تاجًا توَّج به المحدثون فكرة الارتقاء، فكثيرًا ما علت الصيحة خلال الحرب العالمية بمبدأ التضحية في سبيل القرون المقبلة، مستمَدًّا من تلك الفكرة. فإذا قابلت هذا بالحروب الصليبية، وهي أخص الحروب التي قام بها أسلاف أهل الغرب في القرون الوسطى؛ وجدت أن فكرة النهاية الإنسانية والغايات الأخروية، وكانت آخذة بزمام العقول، قد دفعتهم إلى مزالق أمضَّتْهم فيها المشاق، وابتلعتهم من فوقها لجة الموت في جوفها العميق.

وما من شك يدور بخلدنا في أن صيحة التضحية في سبيل الأجيال المستقبلة صيحة مثالية فيها كثير من طُلاوة الفضيلة وروعة الأخلاق العالية. ولكن ألا يجوز أن هذه الصيحة لم تكن إلا صيحة اليأس الذي يهيِّج في الأنفس كوامنها فتلجأ إلى المثاليات السقراطية كلما أعوزتها الانفعالات في سبيل الوصول إلى غرض ما، فإن الخوف واليأس — كما يقول «ليكي» — أبلغ من الحب في النفس أثرًا؟ وأليس من الجائز أن هذه الصرخة لم تصدر إلا عن قلوب لا تعي من معناها إلا بقدر ما تعي الألسن التي تحركت بها، والأقلام التي خطتها على الورق؟ على أن في هذا المبدأ، مبدأ التضحية في سبيل الأجيال المقبلة، لقسطًا عظيمًا من غموض الغيبيات وإبهام ما بعد الطبيعة، فمن أين أتى للذين يضحون بأنفسهم على شفار السيوف بأن الأجيال المقبلة جديرة بأن تضحي في سبيلها الأنفس، مبيعة بيع السماح في ميادين حروب لا نعرف بدورها إن كانت سعودًا أو نحوسًا على ما سوف يُخلق من أجيال الإنسانية؟ إن في ذلك لكثيرًا من مواطن الشك، على أننا نأمل أن يكون شكنا قائمًا على غير أساس، وعسى أن يجد في حالات الاجتماع خطب يوقظ الجماعات من رقدتها، ويفيقها من سباتها العميق.

(٢) الفساد والتجدد

(٢-١) في الاجتماع

يمثل الدكتور أوستن فريمان تلك المدرسة الحديثة التي تفكر في الحالات التي قامت بعد الحرب العظمى، وانبعثت في التأمل من حالات اجتماعية على اعتبار أن هذه الحرب قد وضعت حدًّا فاصلًا بين عهدين، ثبت الناس في العهد الأول منهما على فكرات نقضها العهد الثاني، وذهب بأثرها من عالم الفكر كنظريات يمكن تطبيقها على الحالات الاجتماعية، أو مبادئ يستطاع على الأقل أن تتخذ قواعد لوضع نظريات حديثة في المدنية الإنسانية، وأي مظهر من مظاهر المدنية الحديثة يسترعي انتباه الباحث أكثر من استبداد الآلات الميكانيكية بالنوع الإنساني تستعبده استعبادًا وتمضي مؤثرة في بيئته الطبيعية التي خلقتها حاجاته منذ أبعد العصور؟ لهذا ترى أن الأستاذ فريمان لم يدُرْ في كتابه حول محور آخر، بل أخذ يدور في دائرة من البحث، مركزها تحكم الآلات الميكانيكية في حياة الإنسان وما تحدثه حياة الإنتاجية الميكانيكية في البيئة التي تحوط جماعات المدنية الحديثة من الآثار السُّوأَى، فإن نصيب العضلات والقوة الحيوية من التأثير في الإنتاج الصناعي أخذ يقل بنسبة سريعة خلال القرن الفارط، في حين أن العمدة في الإنتاج منذ مائة عام لم تكن لترتكز على شيء سوى النشاط الإنساني والجهود العضلية التي كان يبذلها الأفراد في سبيل الإنتاج، أما اليوم فإنك تجد أن الآلات المركبة قد أخذت تجد مكانًا حتى في أقل الصناعات احتياجًا لجهود الإنسان، وكذلك الحال في النقل فإن السياحة والانتقال من مكان إلى آخر وحمل الأثقال لم يكن يُعتمد فيها إلا على السير على الأقدام أو على ظهور الدواب الداجنة، وكان أجدادنا الأقربون لا يفكرون هنيهة في سياحة يبلغ مداها ثلاثين ميلًا إلا كما نفكر نحن في الانتقال مستقلين وسيلة من وسائل النقل الحديثة ميلًا أو ميلين داخل مدينة مُهِّدت فيها الطرق وسُلكت فيها السبل ذُلُلًا، بل إننا نفضل أن نمتطي عربة أو سيارة، على أن نمشي بضع مئات من الأمتار، هذا على الرغم من أنه من الذائع المعروف الآن في العلم الطبيعي أن إغفال الخاصيات وإهمالها ينتج فقدان الخاصيات ذاتها، بل ويمضي بالأعضاء في سبيل الضمور والزوال.

إذا استطعت أن تحضر من مرابض أفريقيا القصية رجلًا همجيًّا لم يستشم من ريح المدنية شيئًا، وأخذت بيده إلى ملعب من ملاعب الرياضة ورأى إخوانه أبناء المدنية الحديثة يقفزون فوق قطع الخشب، وآخرين يتسابقون، وغيرهم يحملون الأثقال وقطع الحديد ليمرنوا عضلاتهم على نسق خاص وليوقظوا فيها خصائصها الطبيعية؛ لما كان أشد عجبًا من شيء يراه في مدنيتنا الحديثة من منظر هؤلاء المتريضين؛ لأن ما يفعله هؤلاء بحكم مدنيتهم يفعله هو بحكم طبعه مختارًا وفي أي وقت يريد.

أترك هذا إلى الأيدي العاملة في معامل الصناعة، فإن هؤلاء العمال لَضحايا تقدَّم قربانًا على مذبح الآلات الميكانيكية، فما منهم إلا المريض المعتل الضعيف التكوين المضمحل البنية المنحل التركيب، والأكثر فيهم عجاف الأجسام صغار الأحلام، أخذ منهم الهزال والضعف مأخذًا كبيرًا، وقد فسدت أسنانهم فما تجد منهم إلا مصابًا بمرض في الأمعاء أو اضطراب في الجهاز الهضمي، أما نسبة الوفيات بينهم فأزيد كثيرًا مما هي بين قُطَّان الأقاليم الزراعية وأهل الريف. نضيف إلى ما يقرره هنا الدكتور فريمان أن الإحصاءات الحديثة الموثوق بها قد أثبتت بما لا سبيل إلى إدحاضه أنه على الرغم من تقدم العلوم الطبيعية ووسائل العلاج في العصر الحديث، فإن الأمل في ازدياد متوسط عمر الإنسان لأكثر من ستين عامًا بين كل طبقات المجتمع على الإطلاق قد ضعف عما كان منذ نصف قرن فَرَط من الزمان، وذلك دليل قاطع على أن جماعات المدنية الحديثة لا تعيش عيشًا توافرت فيه الشروط الصحية كما يخيل إلى بعض الناس، وعلى هذا ترى أن المدنية الحديثة، وهي مدنية المدن المحشودة بالسكان، لم تكن إلا فشلًا عظيمًا أصاب الإنسان إذا أنت نظرت فيها من الوجهة الصحية الصرفة.

•••

ينتقل دكتور فريمان بعد هذا إلى النظر في حالات التقدم الإنساني، فيرى جليًّا، ويرى بحق أن للتقدم البشري مظهرين: فهو إما راجع إلى تغايرات تنتاب البيئة بما فيها ما استخزنته الطبيعة الإنسانية من تجاريب الماضي والمران المتوارث على مدى الأزمان، وإما إلى تلك التغايرات التي انتابت تكوين الإنسان وكان من شأنها أن تذهب به متنقلة في درجات متتابعة من التهذيب والارتقاء. وهو يعتقد فوق هذا أن هذين الوجهين يسيران متساندين ويمضيان متكافئين تأثيرًا في الجماعات.

فالتطورات الداخلية التي انتابت الإنسان وغيرت من صفاته الكامنة، وعلى الجملة ضروب التهذيب الارتقائي التي طرأت عليه تكوينيًّا ومورفولوجيًّا، كانت في معتقد دكتور فريمان كبيرة بالغة الأثر، وجائز في رأيه أن تكون قد تعاقبت عليه سراعًا وانتابته دراكًا عندما بدأ شوط الخروج من عالم الحيوانية إلى عالم الإنسانية الفطرية الأولى. أما صور التهذيب والتكافؤ الخلقي التي كانت ذات أثر واضح وطبيعة حاسمة في تكوين الطبيعة الإنسانية، فترجع إلى حدوث تغايرات ثبتت في تضاعيف الفطرة البشرية، وكان من طبيعتها أن ترفع مستوى الإنسان إلى منزلة بدأ يدرك عندما بلغها كيف يستطيع أن يُخضع العناصر الطبيعية لقوة إدراكه. غير أنك إذا رجعت النظر كَرَّة في الماضي البعيد، أي إلى ذلك الماضي الذي يعود بك إلى عهد يفوق هذا العهد الذي وصفناه ضربًا في أحشاء الدهور ويَبُزُّه عراقةً في القدم؛ رأيتَ أن أوجه الارتقاء الإنساني كانت ترجع إلى تأثير البيئة وفعل الوسط الذي أحاط بالجماعات الإنسانية في حياتها الوحشية الأولى. أما التغايرات التي وقعت على تلك الصلات التي ربطت الإنسان بما أحاط به من ظروف البيئة ومؤثراتها، فإن التأمل فيها باعث على أشد العجب، مثير لأبلغ حالات الحيرة.

إن ذلك الحيوان الأنسل الذي دَرَجَ من حجر الطبيعة وخرج من جوفها خفية متسللًا إلى عالم الوجود، معرضًا لقواسرها، قليل الحيلة، ضعيف الأمل في الحياة، وأخذ يجوب سطح هذا السيار ويطوي سهوله وحزونه، ويتسلق جباله وتلاله، وما إن تراه في جماع ذلك إلا ألعوبة العناصر تتناوح من حوله رياحها العتية، وتحوطه بويلاتها وكوارثها، وما إن تجده إلا أُلْهِيَّة الطبيعة وفريسة السباع والضواري التي كانت تفوقه قوة وبطشًا؛ هو بذاته الإنسان الذي بنى عظمة المدنية التي تحفُّ بك روعتها، وهو الذي استجمع كنز المعرفة وراثةً عن جيل بعد جيل، فأخضع به هذا العالم الصغير الذي نعيش فيه، وسخر لمشيئته كل ما أحاط به من صور الحياة، بعد أن كان من أضعف ما فيها قوة، وأقلها حيلة، وأوهنها في الجِلاد سلاحًا، وبعد أن عاش أزمانًا مديدة لا يدبُّ في منكب من مناكب الأرض إلا متخيِّلًا أن أسباب الموت تمتد إليه من كل مكان متعقبة خطاه أينما حل وكان، مقتفية آثاره في الإصباح والعشي، هابطة عليه من السماء، فاغرة عليه أفواهها من الأرض وكل ما فيها من الحيوان والنبات والصخور والبحور والعناصر.

هذا الحيوان الضعيف يحفر الآن الأرض بالغًا إلى أغوارها القصية ليستخرج كنوزها، ويطوي بِيدها وفيافيها، ويمتطي طبقات هوائها يجتازها بسرعة، يتخيل معها أقصى الحيوانات سرعة وأبعدها على العدْو قدرة أنه ثابت لا يتحرك، ويغوص البحار إلى أبعاد لا يستطيع الحوت أن يبلغ إلى أعماقها، ويغشى الجو إلى ارتفاعات ما عرفها النسر ولا ارتادتها العنقاء.

أما في أزمان السلام والأمن، فكثيرًا ما تعددت الفوائد التي يجنيها الإنسان من هذه المخترعات، وغالب ما نتصور أن المدنية لا بد من أن تتأثر بالمستكشفات الحديثة إلى حد ينتقل عنده الإنسان إلى تلك الحال التي نَشَدَها الفلاسفة، وخُصَّ بالبحث عنها منهم ديوجينيس، نظل على هذا الاعتقاد ونمضي عليه عاكفين ما رفَّت أجنحة السلام فوق رءوسنا، فإذا نُفخ في صُور الحرب ودقَّتْ طبول الجِلاد، تنبهت فينا غريزة القتال بعد كمونها، وتيقظت فطرة التوحش في الحيوان الناطق فهبَّ يَدَّرع الحديد، وتوثب يمتطي السحاب، لا لشيء إلا ليظفر بأخيه الإنسان قتلًا وتقطيعًا. على أن ويلات الحرب في العصر الحديث لم تتناول الجند المسلح وحده، بل تعدت إلى غير المحاربين من أبناء آدم، ودارت على الشِّيب والأطفال والنساء الوادعات رحًى تطحن ثِقالها ما أُلقمت، وتَهْصِم لهوتُها ما أُلهمت، ونارًا تحصد ما جمع العمل والسعي، ويدًا هوجاء تبدد ما جنى الجد والكد، لوَّاحة للحطام والبشر، لا تُبقي ولا تذر. كل هذا لا تنتجه إلا مخترعات العصر الحديث التي نتصور في عصر السلام أنها من نعم العقل الإنساني على المدنية، وما هي في حالات الحرب إلا نقمة الطبيعة على ابنها الثائر عليها، الخارج على سلطانها.

أما اختراع الطيران فيعتقد الدكتور فريمان أنه من أشد نقم العقل على الإنسان، ومن أخطر ما أخرج الفكر من مخترعات على المدنية ذاتها، بل ونزيد على هذا أنه أشد سلاح تذرَّع به القوي قضاءً على حرية الضعيف، وأقوى وسيلة تسلَّحت بها النزعات البشرية الهوجاء لتُرضي ما فيها من نَهْمَة القتل ونزوات التفظيع من المحاربين وغير المحاربين.

كذلك هو على اعتقاد من أن الانغماس في الترف واللذائذ وإرضاء الشهوات ليست إلا وسائل نمضي من طريقها مُمْعِنين في زيادة تأثيرات البيئة في كياننا، ولهذا تراه يمضي معجبًا تَيَّاهًا بكلمة ديوجينيس إذ يقول:

إن ثروة الإنسان يجب أن تقاس بنسبة عدد الأشياء التي يستطيع أن يعيش من غير احتياج إليها.

فإن دكتور فريمان لَيعتقد اعتقادًا لا يُوهِنه شك ولا تحُفُّ به ريبة في أن استجماع الثروة وتكثير العدد من غير أن يرتقي الفرد أخلاقيًّا وعمليًّا لا يسوق إلى السعادة، بل ولا يؤدي إلى الطريق التي تسلم إليها.

•••

النظريات التي تقوم عليها الحكومات وطرق التنفيذ الإدارية قد اقتُسمت في رأي دكتور فريمان بين فئتين: فإما اجتماعيون تَنَطَّسُوا في العلم وفقدوا القوة، وإما سياسيون تمتعوا بثمار القوة وفقدوا العلم، ولذا تراه يقول:

إن الرجل السياسي الممتهِن لحرفة السياسة، ذلك الذي خلقته نظامات الديمقراطية الحديثة، يختلف كل الاختلاف عن بقية كل ذوي المهن، غير أنه لا يمتاز عليهم بشيء إلا بأنه فاقد لكل الصفات التي تؤهل به لأن يكون في منصبه ذا نفع للرعية التي يُوكل إليه أمر تدبير شئونها.

فإن كل ما يحتاج إليه رجل السياسة في العصر الحاضر من علم، وكل ما في مستطاع دُور النيابة أن تزوده به من تجاريب الحياة؛ ينحصر في أن يَفْقَه كيف يعتلي المنصب وكيف يحافظ عليه بعد أن يصبح في قبضة يده، هو بعيد عن حكمة التشريع، ناءٍ عن فلسفة السياسة وفق إرادة الشعوب وحكمها. فإنك إن أردت أن تتخذ من الحالات القائمة في إنجلترا مثلًا تضربه لفوضى النظامات الديمقراطية الحديثة، لما وجدت من مَثَل أبلغ من أن تعرف أن كرسيَّ رئيس الوزارة في إنجلترا أو رئاسة إمارة البحر فيها مُعَدٌّ منذ اليوم لصانع أحذية أو جامع حروف في مطبعة أو عامل في مصنع خمر أو سمسار في بورصة الأعمال، هذا في زمان تزداد فيه سلطة الحكومات على الأفراد والجموع حينًا بعد حين.

•••

يمضي بك دكتور فريمان بعد هذا إلى البحث في حالات الإنتاج، وينظر نظرة عميقة في نظرية اقتسام العمل في المدنية الحديثة؛ ليقول لك في النهاية إن الأساس الذي قُسِّم به العمل في الانقلاب الإنتاجي الأخير كان من شأنه أن يقضي على الفنان القديم، فلست تجد اليوم عاملًا في مصنع أحذية في مستطاعه أن يصنع حذاءً كاملًا، حتى في مدارس الفنون فإن النشء لا يتعلمون فيها كيف يصبحون فنانين، بل لا يتعلمون إلا ليكونوا مديري معاهد تُعلِّم الفن، ولست تجد أن الحال بأمثل من هذا في مدارس الصناعة.

يعرف كل الباحثين في الحالات القائمة اليوم في نواحي العالم أن الإنسان لا يقف على حقيقة ما تتضمنه إدارة الحكومات من إسفاف وإسراف وعجز، إلا إذا قاس ما فيها من جماع هذه الصفات بما في الإدارات الفردية التي يقوم بها الأفراد المستقلون من نظام وجدارة وحسن إدارة، فإن كل رجال العمل الذين رافقوا الجيوش في الحرب الأخيرة والذين قلَّما عرفوا شيئًا من أحكام الإدارة الصحيحة، قد أجمعوا على الاعتقاد بأنه إذا قُدِّر على مصنع من المصانع أن يدار على نفس القاعدة التي كان يدار بها الجيش المحارب، فإنه لا بد من أن يتردى في مهاوي الإفلاس بعد أسبوع واحد من الزمان. ومع كل هذا فإنا نسمع صيحة الملكية الشعبية وإدارة الحكومات رانَّة الصدى بعيدة الغور في الأسماع، وما هي إلا صيحة لا تؤدي في فهم دكتور فريمان من معنى إلا معنى التبدل من نظام دلت التجاريب على صلاحيته وثباته كوسيلة للإنتاج، بنظام لم تقم من تجربة واحدة على أن فيه صفة واحدة من الصفات التي تضمن له النجاح.

لا يلبث هذا الباحث بعد أن يمر بك في أغوار سحيقة من تحليل الاجتماعية الحديثة، أن يقذف بك في غور آخر من أغوار البحث في طبائع الجماعات، وإذا بك تبحث معه في تقسيم الجماعات الإنسانية إلى فئات صغرى، كلٍّ منها تُحكم بقوة نظام قائم في تضاعيفها، ولا تسود في فئة منها من صفة إلا صفة العناد والمنافسة لغيرها من الفئات، بل وللجمعية التي تنتمي إليها هذه الفئات في مجموعها، ثم لا يلبث أن يخلص من بحثه بنتيجة لا تشعر إلا بحزن، ولا تحِسُّ إلا بقلق كلما فكرت فيها أو تأملت منها، إذ يقول:

لقد تبدلت الإنسانية من روح الوطنية والحب المتبادل والعطف الرعوي، تلك الروح التي أقامت دعائم المدنية والتي لن تقوم المدنية بدونها؛ بروح العداء المتبادل بين الجماعات، مشفوعًا بالجشع الاجتماعي والإسفاف في الطماعية والحسد الممقوت.

(٢-٢) أثر البيئة الاجتماعية

ما هي البيئة الاجتماعية؟ قد يمكن أن نضع لها تعريفًا، وقد يتفق أن يكون تعريفًا جامعًا لمدلولاتها، غير أن البحث في الحالات الاجتماعية يتطلب من الباحث أن يضع بجانب ما يحدد من تعاريف أمثالًا تزيد كل من أراد الإكباب على درس معضلات المدنية الحديثة ومشكلات الاجتماع وقوفًا على حقيقة الظروف القائمة حول الإنسان وجماعاته المدنية. على أننا نعتقد أن وضع التعاريف طريقة كاد يمضي زمانها في البحث العلمي، لتحل محلها طريقة الشروح المستفيضة المشفوعة بالأمثال التي تكون في العقل كفاءة يُقتدر بها على فهم النظريات الحديثة مقتطَعة من مشاهدات واقعة وحالات ثابتة قائمة، هذه هي الطريقة المتبعة على الأقل في علوم الحياة الاجتماع، وعلى الأخص في علم التاريخ الطبيعي وفروعه الكثيرة.

لهذا لا نحاول أن نضع تعريفًا للبيئة الاجتماعية، بل نمضي في بحثها لا لنصف لك ضروبًا من مختلِف المؤثرات التي أثرت في الإنسان في حالاته الماضية والحاضرة، بل لنكشف لك عن أن أثر البيئة إذا ما تراكمت جموع البشر في بقاع من الأرض تنقلب آيته من عامل نشوئي ارتقائي إلى عامل مُهدِّم لكيان الجماعات.

للبيئة ثلاث حالات؛ الأولى: حالة يكون فيها تزايد الأفراد في جمعية ما عاملًا على زيادة قوتها ورفاهيتها وغلبتها، إذ يكون في البيئة نواحٍ من الفراغ لا بد من أن يسد فراغها تزايد أفراد الجمعية، والثانية: حالة يبلغ فيها عدد الأفراد حدًّا لا تحتمل البيئة أكثر منه، والثالثة: حالة يزيد فيها عدد الأفراد على ما تستطيع البيئة أن تحتمل منهم، فيُخلق جوٌّ مصطنع يمضي بالجماعات في سبيل الفساد والفناء. وسنرى الآن أن جماعات المدنية الحديثة في أوروبا، عنوان هذه المدنية ومَهْبِط وحيها، قد بدأت تَدْلِف بقدمها في مَهاوي الحالة الثالثة من حالات البيئة الاجتماعية.

نريد الآن أن نضرب لك مثلًا نطبقه على هذه الحالات الثلاث، ولذا نرجع بك إلى معمل من المعامل البكتريولوجية الحديثة، ونضع بين يديك أنبوبة من الزجاج نملؤها بمادة جيلاتينية تساعد على نماء الجراثيم، ونزرع فيها كمية قليلة من الميكروبات، ونتركها لتتكاثر بالانقسام شأن بقية الخلايا الحية، في هذه الجراثيم أو الميكروبات، أو ما شئت فادْعُها صفة الحياة، فهي تتكاثر جيلًا بعد جيل على قدر ما في أجيالها من قِصَر البقاء، وإن كان بقاؤها خالدًا لأنها إنما تتوالد بالانقسام، إذ تنقسم كل خلية منها إلى قسمين، يصبح كل قسم منهما فردًا مستقلًّا بذاته.

يحيط بهذه الميكروبات، لأول عهدها بالازدراع في تلك الأنبوبة، بيئة تصلح لانقسامها وتكاثرها، إذ تحوي كل المؤهلات الضرورية التي تعضد بها عددًا محدودًا من الأفراد زائدًا عن العدد الذي زُرع فيها، ومن طريق التكاثر يزداد عدد هذه الميكروبات آنًا بعد آن حتى تسد في البيئة كل فراغ يمكن أن تعيش فيه أفرادها المتولدة عن العدد الأول، غير أن الطبيعة لم تهب الإحياء بما فيها الإنسان من الوسائل التي يحدد بها عدد النسل وسيلةً يُستطاع بها أن يحفظ عدد الأحياء المتكاثرة بنسبة رياضية متضاعفة دواليك، واقفًا عند حد لا يقلب نظام البيئة من عامل نشوئي إلى مؤثر انقراضي، لهذا تجد أن الميكروبات إذا تكاثرت لأزيد مما يكون في مستطاع البيئة أن تعضد، أصبح تكاثرها عاملًا من العوامل المؤثرة في البيئة ذاتها تأثيرًا يذهب بالأحياء سراعًا في طريق الفناء والانقراض، فإنك إذا لاحظت أنبوبة الجيلاتين التي يزرع فيها ذلك العدد المحدود من الميكروبات، لا تلبث أن تجدها تتكاثر بسرعة كبيرة بداءة ذي بدء، وأنها تستمر على نسبة هذه الزيادة زمانًا ما دام في مستطاع البيئة أن تحتمل من الأفراد عددًا لا يفسد جوها ويشبعه بعوامل الفساد، ثم لا تلبث على هذا هنيهة حتى تجد أن نسبة التكاثر قد أخذت تقل شيئًا فشيئًا حتى تقف تمامًا عند ذلك الحد الذي تصبح فيه البيئة غير قادرة على أن تعضد عددًا آخر من الأفراد، ثم ماذا؟ ثم تجد أن جو البيئة لا يمضي بعد ذلك إلا قليلًا حتى يتشبع بتلك السموم التي تفرزها الأفراد التي عجزت عن مقاومة مؤثرات البيئة بعد أن امتلأت جنباتها بما ضاق عن سعتها، فتأخذ من ثَمَّ نسبة الفناء تُمعِن ازديادًا كلما زاد تشبُّع جو البيئة بهذه السموم، حتى إذا بلغت نسبة الفناء أقصى حد أخذت في التناقص، لا لتفسح مجال الحياة والبقاء للبقية الباقية من الأفراد، بل لتترك فلول الجمعية المحطمة على صخور البيئة منهوكة القوى ضعيفة التكوين عاجزة عن التكاثر فتفنى فردًا بعد فرد حتى تذهب تمامًا من عالم الوجود. ولن تجد في تلك الكتلة الجيلاتينية من أثر يدل على أنها كانت يومًا ما بيئة صالحة أهلت بها جماعة من جماعات الأحياء، اللهم إلا آثارًا لا تدل على شيء إلا على مأساة الخراب والدمار واقعة على الجماعة التي غشيتها بفعل البيئة، إذ تنقلب من عامل نشوئي إلى عامل فنائي بفعل التكاثر والازدياد.

شبَّه هذه الأنبوبة بمعمل من معامل الإنتاج الميكانيكي بما يحيط به من منازل العمال ومساكن الصناع، وشبَّه الكتلة الجيلاتينية بما تستطيع الأيدي العاملة أن تربح من جهد أيديها، وشبَّه انقسام الميكروبات بتكاثر العمال بالتناسل تكاثرًا يزيد عما في طوق الأيدي العاملة أن تُعضِّد، وأنت لا تلبث أن تجد أن النتيجة محتومة في البيئات الإنسانية التي تبلغ هذا المبلغ، كما هي محتومة على كل الأحياء، إن هي قلبت بتكاثرها وحشدها المصطنع نظام البيئة من مؤثِّر نشوئي إلى مؤثر انقراضي.

(٢-٣) تحليل الكائن الاجتماعي

الكائن الاجتماعي اصطلاح وضعه العلَّامة «هربرت سبنسر»، ليثبت أن للجماعة حياة خاصة تشابه حياة الفرد. ولقد طبق نظريته هذه تطبيقًا بديعًا مقارِنًا بين تكوين الفرد وتكوين الجماعة مقارَنة لا تخلق في نفسك من ريبةٍ في صحة نظريته إذا ما درست فكرته بما تستحق من عناية.

غير أنه في جماع ما كتب في الكائن الاجتماعي قد غفل عن أمر لا يجعل المقارنة بين الفرد والجماعة تامة من كل الوجوه، بل إن شئت فقل إنه يجعل المقارنة بينهما مبدأً من مبادئ النقص في الأبحاث الاجتماعية؛ لأنك إن مضيت في أبحاثك في الجماعات منتحيًا منحى سبنسر، معتقدًا أن بين الفرد والجماعة أوجهًا تامة من التشابه يمكن أن يقاس ما في أحدهما بما في الآخر، زلَّت بك القدم في مفارقات بعيدة جهد البعد عن الحق الثابت. ذلك الأمر الذي أغفله الفيلسوف سبنسر قد ظفر به الأستاذ العلَّامة الدكتور أوستن فريمان في مؤلَّفه القيِّم، وما وصل إليه إلا مستعينًا بما بثق البحث من أنوار علوم الحياة.

يمضي الدكتور فريمان في كل أبحاثه مقتنعًا بأن بين الفرد والجماعة فرقًا كبيرًا لا تسده المباحث النظرية مهما أوتيَت من قوة البرهان ومتانة الدليل، وينحصر هذا الفرق عنده في أن الفرد إنما هو كل عويص التركيب، مكون من وحدات بسيطة، في حين أن الكائن الاجتماعي إنما هو كل بسيط مكون من وحدات عويصة التركيب، هذه القضية لا يظهرك على حقيقتها مثل تأملك من مبادئ أولية تلقيها في روعك مباحث البيولوجيا، لهذا نمضي بك من طريق دكتور فريمان في شوط تقف إذا ما بلغت نهايته على حقيقة ما يريد أن يثبت بقوله هذا، ولنخلص من بعد ذلك بنتيجة ذات أثر بالغ في الحالات الاجتماعية القائمة من حولنا.

تتكون كل الأجسام الحية من خلايا في كل منها قدرة على التكاثر من طريق الانقسام، هذه الخلايا الحية هي وحدات الأجسام التي تتصف بصفة الحياة، وكذلك الإنسان، فإنه إنما يتكون من خلايا حية منها يتركب كل ما فيه من الأعضاء والعظام والشرايين والأنسجة والأغشية إلى غير ذلك، هذه الوحدات بسيطة التركيب يمكن إعادة تركيبها ثانية إذا حُلِّلت في معمل كيماوي كما قال العلامة وولاس زميل داروين وشريكه في وضع نظرية الانتخاب الطبيعي، غير أن هذه الوحدات البسيطة إذا تركب منها إنسان أصبح كلًّا عويص التركيب متخالط التكوين، وكفى على عويص تركيبه دليلًا أن تفكر قليلًا في انفعالاته وتفكيراته وخَطَرَاته ونزعات نفسه وتوثُّبِ روحه وفيض عقله وامتداده بالفكر إلى ما وراء العالم المنظور وتغلغله إلى أعماق العالم المجهول من الفلسفة.

يريد سبنسر أن يقارن بين هذا الكل الفردي العويص التركيب وبين الكائن الاجتماعي على بساطة تكوينه، فإن الجماعة تضارع من حيث بساطة التركيب تلك الخلية الحية التي يتكون منها الجسم الحي، في حين أن كل وحدة من وحدات ذلك الكائن هي بذاتها ذلك الكل العويص التركيب الذي تكونه الخلايا الحية الأولى. وعلى هذا يعتقد دكتور فريمان أن الكائن الاجتماعي من أحطِّ صور الكائنات الحية تكوينًا وأبسطها تركيبًا، إذ إنك لا تجد بين وحداته المكونة له من الترابط ما تجد بين الخلايا التي تكون أدنى الأجسام الحية في الطبيعة.

•••

من قبل أن يدلي الدكتور فريمان بنظريته الثابتة في الكائن الاجتماعي، مضى الناس في المقارنة بين ذلك الكائن المفروض وبين الفرد على تلك الطريقة التي ابتدعها يَرَاع العلَّامة سبنسر في كتابه «مبادئ علم النظام الاجتماعي»، قانعين بأن العمل على إصلاح الجماعة ككائن مترابط الأجزاء من شأنه أنه يؤدي إلى إصلاح حالة الأفراد، غير ذاكرين أن بين الكائن الاجتماعي والفرد فرقًا لا يجعلهما يلتقيان في منهج من مناهج الارتقاء والنشوء، إلا إذا بدأ الإصلاح بذلك الكل العويص التركيب، أي الفرد؛ ليصلح من طريق إصلاحه الكل البسيط التكوين، أي الكائن الاجتماعي، هنا انقلبت آية النظر في طرق الإصلاح الاجتماعي من طريق انقلاب الفكرة في المباحث الاجتماعية، وعلى هذا مضى الدكتور فريمان في كتابه موقنًا بأن إصلاح الجماعة بغير إصلاح الفرد أمر مستحيل نظريًّا وعمليًّا، وأن الفرد على ما فيه من عويص التركيب وما فيه من غريب الخصائص إن امتصته الجماعات امتصاصًا تامًّا، وهي على ما رأيت من بساطة التركيب وانحطاط الخصائص الحيوية، بحيث تقضي على كل مؤهلاته كفرد تامِّ الاستقلال من حيث تمتُّعُه بكل مزاياه ومواهبه التي وهبته الطبيعة؛ فإن هذا لا يزيده إلا تطوُّحًا في حالات العجز والفساد، ولا يعود عليه إلا بنقص في الخصائص وضعف في المواهب والكفايات لا يجني ثمارها إلا الجماعات.

وبعد أن فرغ الدكتور أوستن فريمان من نقد نظامات المدنية الحديثة، وإظهارها بمظهر الإسفاف والسقوط والفساد، مستندًا إلى براهين وأدلة فيها كثير من بواعث الروعة والجلال، على ما تضمنته من استنتاجات قيمة واستقراءات تزكيها الحوادث والمشاهدات؛ هيَّأ عُدَّته وجمع ما حَبَتْه به الطبيعة من قوة الابتكار، لينحي بجماعها على الآلات الميكانيكية وأثرها في المدنية الحديثة.

يقول: إن الإنتاج الميكانيكي عنصر مستقل محكوم بقوانينه الخاصة به، وليس له من علاقة ضرورية بحاجات الإنسان أو بسعادته، وإن ارتقاء الآلات الميكانيكية ينزع دائمًا وفي كل آن إلى زيادة استخدام الحركة غير الإرادية «الأوتوماتيك». أما اضمحلال العمال وإفسادهم أدبيًّا ومعنويًّا وطبيعيًّا، فنتيجة من أجلها تدور الآلات، وقصدٌ من أجله تجري على سننها المعروفة في علم الآلة «الميكانيكا»، وأن ليس لهذا الأمر من غاية إلا أن يخرج الإنسان من مجاله الذي هيَّأته له الطبيعة، ومن ميدان نشاطه الذي لا ملجأ له غيره.

أما الاستبداد الذي احتكرت به الآلات هذه الأرض، فقد غيَّر وجه البقعة التي نسكنها، وأرخى عليها سدولًا من الشقاء، وناء عليها بضروب من الفقر والخصاصة، كما غشاها بمسحة من الحزن والانقباض تراها مسطورة على أوجه الناس، وتلحظها بادية على ملامحهم كما أوغلت في البقاع الصناعية، وتلفيها أكثر انطباعًا على الوجوه وأكثر التزامًا للأنفس، إذا أنت جرَّتْك خطاك إلى المراكز العظمى التي تعتمد في المدنية الحديثة على الإنتاج الميكانيكي.

كانت المدنية في العصر الأول، وعلى الأخص في القرون الوسطى، رقعة من حسن الذوق وسلامة الاختيار وجمال الشكل، تزيد في طبيعة الأرض جمالًا، وتضاعف ما في منظرها من بديع الصنعة وباهر الاتساق، على العكس من مدنية العصر الحاضر، فإنها ليست إلا خلية من البيوت حُشدت فيها الأنفس حشدًا، وجُمع فيها الناس لا ليعيشوا في هدأة الطبيعة كما تقتضي حاجتهم، بل كما تقتضي حاجة الجو المصطنع الحافِّ بهم، ولا ليُمتَّعوا بما في الطبيعة من نعم ولذائذ، بل ليزيدوا من مصائب الإنسانية ويضاعفوا من كوارث الحياة. وكذلك الحال إذا نظرت في ماخرات العباب، فإن السفينة الشراعية القديمة لَقطعة حية من الفن يتمثل فيها جمال الشكل وبساطة التركيب، أما بواخر العصر الحاضر فكتلة من المادة غير متناسقة الوضع وليس فيها من شيء إلا أنها بقوتها وعظمتها وضخامتها إنما تمثل نزعة العصر الحديث في العمل على حيازة القوة الوحشية بكل طريق مستطاع.

كان من الواجب على الدكتور فريمان وهو يقرر هذه الآراء أن لا يغفل عن أن العصر الذي نعيش فيه إنما هو عصر انقلاب وثورة لم تبلغ بعدُ منتهاها، ولم تنكشف بعدُ غمرتها، فإن انتقال الإنسان من وداعة القرون الوسطى إلى تناحر العصر الحاضر، لأمر يجعل حكمنا على الأشياء الإنسانية كما هي كائنة، نسبيًّا لا مطلقًا.

في مستطاعنا أن نحكم حكمًا قاطعًا في حادثات فرغ من تكوينها الزمان، في مستطاعنا أن نحكم على عصر الإصلاح البروتستانتي وأن ندلي فيه برأي حاسم، وفي مُكْنتنا أن ننظر في أثر الحروب القديمة أو في نابليون بونابرت أو في الثورة الفرنسوية، وأن نقضي في كل من هذه الأشياء برأي نقنع به. أما في ثورة انقلاب لا يزال شررها يتطاير من حولنا، ولا يزال غبارها يظلل رءوسنا؛ فمن المتعذر أن نحكم فيها حكمًا نقطع بصحته، ونكون في الوقت ذاته قد أرضينا نزعة العلم ولم نُنضب معين الفلسفة. خذ لذلك مثلًا: فإنك إذا أردت أن تتخذ من الحوادث التي وقعت في ثلاثة أرباع قرن فَرَط من الزمان حادثةً كنقطة ارتكاز تبدأ منها نظرك في تاريخ تضعه في تطور الفكر خلالها؛ لما وقعتَ على حادث واحد يصح أن يكون نقطة ابتداء تبدأ منها، وفي هذا دليل ثابت على أن ثورة الانقلاب من حياة العصور الوسطى إلى حياة المدنية الحديثة لا تزال قائمة بفئوسها ومعاولها. ولقد عجز العلَّامة «تيودور مرتز»، أشهر من أرَّخ في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر، عن أن يعثر على نقطة ابتداء يبدأ منها نظره القصيَّ في تاريخ عهد هو أحفل العهود بالحوادث الاجتماعية، وأنضجها ثمرة، وأبينها للفكر صورة، قال:

خُصَّت بعض عصور التاريخ بقيام حركات فاصلة وحوادث عظيمة امتصَّت كل القوى العاملة النشيطة، واندمجت فيها كل العناصر العقلية والتخيلية، فتجد أن تلك الحركات قد مضت مستبدَّة بأمرها، إما لتُخضع كل القوى المنبعثة في عصر ما للعمل في سبيل إبراز غرض معين أو تثبيت فكرة بعينها، وإما أن نلفيها وقد جرفت أمامها كل شيء إلى جوٍّ من التنازع والجِلاد، يوجَّه بكل ما فيه من مختلِف الصور والقوى إلى تزكية الحادث الرئيسي الذي تلتف من حوله قوة الفكر والعناصر.

والأمثال التي يرويها التاريخ كثيرة، منها تلك القرون الطويلة التي يقص أخبارها تاريخ اليهودية، والعصور الأولى التي أينعت فيها الكنيسة النصرانية، والزمان الذي تكثفت فيه عن أفق المدنية سلطة البابوات، وزمان الإصلاح البروتستانتي، وعهد الثورة الفرنسوية.

فإذا عدنا إلى دراسة الفكر في مثل هذه العصور، لما أعوزنا البحث عن مرتكز نرتكز عليه أو نقطة ابتداء نبدأ منها؛ لأن من الهيِّن أن نعثر على سيارها الذريري الذي يحرك بحركته كل القوى الكائنة، ويبعث العبقرية من مكمنها، ويوقظ الكفايات والمواهب العقلية من رقدتها. ففي عصر كعصر الإصلاح البروتستانتي مثلًا يمكننا أن نتكلم في السياسات الخاصة به، وصور الدين التي أنْبتها، والفلسفة والأدب والفن، وكل المنتجات العقلية التي أنتجها، وأن نمضي في بحثنا موقنين بأننا لا بد من أن نقع على كل وجه من وجوه التقدم العام، وعلى كل الخطى الارتقائية التي خطاها العصر، وأن نقف على كل الفكرات التي ذاعت فيه، سواء أأرضت معتقدنا أم ناقضته. وإنه لمن الظاهر الجلي أن العصر الذي أؤرخ فيه — القرن التاسع عشر — لا يتضمن حادثًا من تلك الحوادث التي تمتص القوى وتبسط سلطانها المطلق على عالم الفكر.

إليك ما ذكره هذا العلَّامة الكبير بعد أن عدَّد كثيرًا من حوادث القرن التاسع عشر، مُظهرًا أنها ليست من الحوادث التي يلتئم من حولها الفكر لتغير من عناصره أو لتؤثر في الاجتماع:

ولقد نرجع في النهاية إلى ما أنتج أكبر عقل جاد به القرن التاسع عشر؛ لنستمد منه نقطة ابتداء نرتكز عليها، قد نرجع إلى كتاب «فوست» الذي أخرجه نابغة النوابغ «جوته»، قد نرجع إليه لنتخذه مثالًا لأعمق ما جاء به القرن التاسع عشر من صور الفكر بما فيها من الشكوك والآمال، إذ يتنقل بك كاتبه من تيه الفلسفة الموحش إلى ميدان العلم الفائض بالنور المحفوف بالإيناس والطمأنينة، أو ليأخذ بيدك إلى أقصى أغوار الحياة الفردية المستورة وراء ظواهر هذا العالم، ليقذف بك في مطمأن المعتقد الديني والإيمان، بما فيهما من الأسرار الخفية المحيطة بطبيعة الخطيئات والرجوع عنها إلى التوبة والاستغفار.

ثم يقول:

على أننا من أية من تلك النقط نبدأ سفرنا الطويل، وعلى أية من بؤرات الارتكاز تقع أبصارنا لدى أول نظرة نلقيها على ما بين يدينا من ذلك الميدان الفسيح الذي نريد أن نستكشف نواحيه؛ نجد أن هنالك مظهرًا واحدًا يتحيز في عقولنا منذ البدء، سرعان ما يلقي في روعك أن ذلك الميدان الفسيح ليس بالجنة التي تطمح فيها بالسكينة والهدوء، وليس هو المكان الذي تؤمِّل أن تزوَّد فيه بمهيِّئات العمل الهادئ الذي تبذر بذره وتجمع حصاده بِدَعَة ولين، وليس هو منبت التعاون واقتسام العمل الذي تظفر فيه بالسلام البعيد عن خشونة الصراع والجِلاد، إنه لَميدان أشبه ما يكون بأرض تناولتها القوات العنصرية بالتخريب، وانتابتها الزلازل العتية بعواصف التدمير؛ فتركتها شوهاء لا تفرق بين صعيدها والأخدود، وإنك لتعثر فوق ذلك على بضعة أناس أخذوا على عواتقهم أن يسدوا منه فجوات أحدثها الماضي ونقائص خلَّفها السلف، وآخرين آخذين في تشييد أسس جديدة على قواعد جديدة، وتقع على غير أولاء وهؤلاء، فتجدهم متنابذين متصارعين على حيازة الملك أو اقتسام التراث، حتى أولئك العمال الوادعون في مصانعهم لا تتركهم طبيعة المجتمع الحافِّ بهم آمنين، بل تدعوهم الظروف إلى الاشتراك في تلك المعارك، أو تهزهم شكاوى الذين يجاورونهم من مظالم أهل السطوة والجاه، فيَهُبُّون من مراقدهم عطشى صرعى، ويرتدُّون كَلْمَى هزيمة وانكسار.

وإليك بعد ذلك رأيه في طبيعة القوات التي وحَّدت بين النزعات التي فشت في القرن التاسع عشر، عصر الانقلابين الفكري والإنتاجي، قال:

على أنه إن كان في القرن التاسع عشر من قوة وحَّدت بين المؤثرات التي انبثَّت فيه، فإنها لم تظهر طافية على وجه الحياة، بل ظلت دفينة في أعماق الطبيعة البشرية. والمعضلة التي أخذنا على عاتقنا أن نبلغ إلى حلها بسبب، قد ظلت مستترة، وكذلك الغرض الذي قضينا مجاهدين في سبيل إبرازه، فإنه لن يظهر سافرًا غير مقنَّع، إذن نعتقد أنه غرض يمكن أن يدرك من طريق الاستنتاج وحده، فلا نستطيع له تحديدًا ولا حصرًا، وعلى هذا نوقن بأن الغرض الذي من أجله عشنا وشقينا وجاهدنا — أي في القرن التاسع عشر — لم يظهر لمشاعرنا تامًّا بينًا، كما ظهر للذين عاشوا خلال عصر الإصلاح البروتستانتي أو عصر الثورة الفرنسوية، وإلا لما سقنا بأنفسنا لولا هذا الأمر إلى فلسفة «اللاشاعرية» و«المجهول»، ولما انتهى القرن التاسع عشر مختتمًا بالتساؤل: «أَمِنْ قيمةٍ لهذه الحياة؟»

هذه الصورة التي صور بها العلَّامة «مرتز» عالم الفكر وتَهَوُّشه وقلقه في عصر الانقلاب الحديث؛ لها صورة تقابلها ولا تقل عنها تهوُّشًا واختلاطًا في عالم الاجتماع. على أن هاتين الصورتين على بعد ما بينهما من مَنَازع الأسباب تلتقيان في أنهما نتاج لثورة الانقلاب التي خرج بها الإنسان من حياة القرون الوسطى. وكذلك لا نغفل عن أن نخرج من هذه المقارنة بنتيجة أظن أنها صحيحة من وجوه كثيرة، فكما أننا لا نستطيع أن نقع على نقطة ارتكاز نبدأ منها سفرًا طويلًا نقضيه في التأمل من تاريخ الفكر الحديث، كذلك لا يحتمل أن نعثر على نقطة ارتكاز نتخذها أساسًا للبحث في الحالات الاجتماعية القائمة من حولنا، ذلك لأن كلتا الثورتين؛ الثورة الفكرية والثورة الاجتماعية، لا تزالان قائمتين، ولم تنجلِ غمرتهما عن نظام محدود يمكن الحكم على تأثيره في مستقبل الإنسان حكمًا ثابتًا.

نعود بعد هذا إلى الدكتور فريمان، فنراه يقول:

إن المدنية التي تقدمت مدنية الإنتاج الميكانيكي قد تركت بيئة الإنسان غير مدخولة بشيء جديد يفسد جوها، غير مغزوَّة بعامل من عوامل الفساد، فلم يدخل في تلك البيئة عنصر جديد يشوه مظاهرها، كما أن مخزوناتها ظلت غير منقوصة، وثرواتها حُفظت تامة كاملة. على أن مدنية العصور الأولى مهما كان فيها من صور الانعكاس على حياة الإنسان، فإن هذه الصور لم تزدْ إلا مضاعفات جعلت الأرض أكثر صلاحية لعيش الإنسان ورفاهيته.

لقد شهد القرن الفارط انقلابًا عمَّ أثره كل الحالات، فإن الإنسان في عصر الإنتاج اليدوي قد عاش منتجًا من خيرات بيئته، في حين أن عيشه في عصر الإنتاج الميكانيكي محمول على رأس المال، إن الآلة المنتجة عنصر لا بقاء له بغير الفحم والحديد، ذلك في حين أن كل الإحصائيين يعتقدون أن كمية الفحم المخبوء في باطن الأرض لا تكفي العالم ألفًا من السنين، بفرض أن العمل على استخراجه قد تنتابه فترات إضراب تكفُّ فيها الأيدي عن إخراجه إلى سطح الأرض، وكذلك الحال في الغابات، فإنها آخذة في الزوال بنسبة سريعة لتزود الجرائد والصحف على الأخص بما تحتاج إليه من ورق الطبع، نزيل اليوم هذه الغابات من سطح الأرض لنتبدَّل من ذلك الفردوس الناضر بمدن للإنتاج تضعف فيها الإنسانية وتَذْبُل دوْحتها، نجتث الغابات العظيمة لنصدر الجرائد، في حين أن نظرة هدوء واستسلام قد تكون في فكرنا، إذا ما أشرفنا على غابة من الغابات، كفاءة نقتدر بها على أن ندرك من الطبيعة عظة؛ هي أدنى إلى نفع الإنسان من كل ما تُحشى به جرائد العالم من دروس تفيض بها رءوس القائمين بتحريرها من سقط الكلام، وثَيِّب من القول.

تتجلى مظاهر الإنتاجية الميكانيكية الحديثة في تلك المدن الوخِمة القذرة التي امتلأت جنباتها بمعامل الإنتاج تجلِّلها غابات باسقة من المداخن البشعة المنظر، حيث ينبت تحت أصولها جموع من المنازل المتلاصقة تسكنها جموع محشودة من أقذر ما أخرجت عصور التاريخ من بني آدم وحواء، وقد ارتفع فوق رءوسهم نَقْعٌ كثيف من الدخان الأسود يُشبِّع هواءها الفاسد بفضلات من الفحم تزيده فسادًا، وقد تَطْمُو موجة ذلك النقع في الفضاء أميالًا ليفسد صفاء الريف الذي يحوط المعامل الإنتاجية. ولو صح ذلك الرأي الفلسفي الذي يريد أن يثبت أن الجمال صفة من صفات الخالق، وأن بارئ الأشياء لا يبغض من شيء بقدر ما يبغض بشاعة المنظر ودمامة الخَلق وقبح التركيب، فإن دكتور فريمان لا يشك في أن مدنيتنا الحديثة هي من أبغض ما أبرز الفكر الإنساني إلى الله.

ويحصر الدكتور فريمان مؤثرات الإنتاجية الميكانيكية على جماعات المدنية الحديثة في ستة أشياء:
  • الأول: القضاء على الفنان القديم الذي كان يعتمد على مهارته الذاتية وقوة ابتكاره، والتبدل منه بعامل نصف ماهر أو عاجز كل العجز، يقضي زمانه عبدًا لآلة تدور بلا اختيار منه أو منها.
  • الثاني: القضاء على الصناعات المحلية الصغيرة.
  • الثالث: ضياع المصنوعات اليدوية التي تلائم حاجات الإنسان ومطالبه والتبدل منها بأشياء تخرجها مصانع الإنتاج الميكانيكي، أما الصفة التي تسود في منتجات العصر الحديث فزيادة في الكمية مع نقص في الصفة وفساد في الكيفية، وهبوط في السعر مقرون بفساد في الصناعة.
  • الرابع: نزول المستوى العام في الإنتاج.
  • الخامس: ذيوع عادات الإسراف والنظر إلى المصنوعات بعين السخرية والاحتقار.
  • السادس: إضعاف الذوق العام في الأفراد بإدمانهم على النظر في أشياء لم يراعَ في صنعها ذوق، ولم يُنظر في إنتاجها إلى اتساق.

وعلى الجملة يمكن أن يقال، إذا مضينا قانعين بنظرية دكتور فريمان: إن المدنية الميكانيكية الحديثة كانت فشلًا تامًّا أصاب الفرد، وسنرى عما قريب أنها طامة كبرى على الجماعات.

مضى الأستاذ فريمان حتى الآن يُظهر تأثير الإنتاجية الميكانيكية الحديثة على الإنسان فرديًّا، فهل هنالك من تأثير تحدثه هذه الإنتاجية على الإنسان مجتمعًا؟ وهل تلك المؤثرات التي تنتاب الفرد في مدنية الآلات الحديثة تتخطى الفرد إلى المجتمع العام لتنال منه إفسادًا وتحليلًا كما أفسدت من طبيعة الأفراد وحلَّلت حياتهم الطبيعية الأولى، وبدَّلتهم من بيئتهم الفطرية بيئة مصطنعة من أوضاع العصر الحديث، فيها من البعد عن حاجات الإنسان ومقتضيات سعادته بقدر ما في البعد بين الحقيقة وبين القول بأن الأرض مركز النظام الشمسي وأن الجاذبية لا تأخذ بضلع في نظام العالم المادي. أما الأستاذ فريمان فشديد الإيمان ثابت اليقين في أن أثر الفساد الذي أنتجته حاجات العصر الحديث المرتكزة على الإنتاج الميكانيكي لا يقل في الجماعات منه فعلًا في الأفراد.

إن الانقلاب الإنتاجي الحديث لَأكبر انقلاب ثوري انتاب الإنسان في كل العصور. عاش العامل في العصور الأولى عيشًا محوطًا ببيئة تضمنت كل بواعث السعادة وهُيِّئت بكل عوامل الراحة والاطمئنان، وعلى الرغم من أن ساعات العمل كانت كثيرة فإن الواجبات التي كانت تُلقَى على عاتق العامل لم تكن لتثقله أو تهبط قواه، وغالب ما كان يتخلل العمل أحاديث تتناول مختلف الموضوعات أو تدور حول العمل الذي يعكف عليه العاملون. وفضلًا عن هذا فإن العامل كان سيد نفسه، كان يحدد ساعات عمله كما يشاء، وكان يقيم ثمار عمله كما يريد، وكان يبيع بنفسه ثمرات عمله، وبذلك يعود عليه كل الربح الذي هو حق له دون غيره.

لقد تغير كل هذا بتأثير الإنتاجية الميكانيكية، فإن أولى النتائج التي تترتب على هذا الانقلاب الكبير أن تتحلل جمعية العمال التي كانت توزع على المجتمع العام توزيعًا تفرضه مقتضيات الحالات والظروف، فلما تم انحلالها جمعت الإنتاجية الحديثة الأيدي العاملة في جموع قَسَرَت على عادات وطبعت على أخلاق ومذاهب في آداب السلوك مغايرة كل المغايرة لعادات بقية الطبقات وأخلاقها وآداب سلوكها.

إن الحالات التي خلقتها المعامل الحديثة قد كوَّنت مشاعر خاصة أحدثت خلال خمسين سنة مضيْن صورة جديدة من صور الحياة مُلئت بالمفاسد وضروب الانحطاط، وكان أَبْيَن ما فيها من الآثار ازدياد روح البغضاء والقلق في أنفس العمال، مقرونة بكل ما تسوق إليه من الصفات المرذولة، كالحسد والأنانية والغَيْرة وحب الخصام، إرضاءً لمطامع، وقمعًا لشهوات هي بذاتها من خلق النظام الاجتماعي الحديث. وكانت النتيجة أن يكون العمال جماعات تتحكم فيها نظامات استبدادية لا تذهب بالعمال في طريق الخير ولا تقودهم إلا إلى حيث يَهُبُّون من جنبات معاملهم عطشى صراعٍ وجِلاد، ليرتدُّوا كَلْمَى هزيمةٍ وانكسار.

أصبح عامل العصر الحديث ميَّالًا بمقتضى الظروف التي تحوطه إلى حياة الاشتراكية، وإن شئت فسمها «الضمامية»، تلك التي لا تؤدي في ذهن المفكرين من معنًى أسمى من معنى فقدان الذاتية الفردية الصحيحة وتضحية الشخصية قربانًا على مذبح الاجتماعية الحديثة. وكذلك تراه بعيدًا عن التفكير في أن يعود إلى حياة الصناعة اليدوية الأولى، على أنه لا ينصرف عن التفكير في هذا إلا لأنه لم يَذُقْ طعم الحياة الاستقلالية ولم يفقَهْ للحرية معنى ولا أدرك لها وجودًا، وهو على الرغم من هذا عاجز كل العجز عن أن يقوم بأَوَده منفردًا، ولهذا تراه منغمسًا في حياته الاجتماعية، شاعرًا بعجزه عن الانفصال عنها.

إن عامل العصر الحديث هو أعجز عامل أقلَّته الأرض منذ أن كان للإنسان وجود على سطحها، هو عامل فَقَدَ كل مهارته الفنية، ولا يدلُّك على هذا من كتاب الدكتور فريمان كاستشهاده بحالة قامت خلال الحرب العظمى، فإن هذه الحرب لم تكد تُدَقُّ طبولُها ويُنفخ في صُورها حتى خرج العمال من مصانعهم لينضموا إلى صفوف المقاتلين، وكان من المنتظر أن يتعطل العمل في مصانع الإنتاج ولكن الحال كان على الضد من هذا، فإن ذهاب العمال قد أفسح المجال لفئات من العاطلين المستولين في المدن ولفتيات الريف الوادعات القانعات، وقد سار العمل في المصانع بهم وبهنَّ، كما لو كان في أيدي العمال المدربين عليه.

أما نظام النقابات فأكبر ما أصاب المدنية الحديثة من مفاسد البيئات المصطنعة، فهو نظام مضاد لحاجات الاجتماع، مناقض لأبسط مبادئ الديمقراطية، ولا يخلق من شيء إلا جوًّا للتنازع المفني المضيِّع لجهود طبقات المجتمع، فينقلب العامل الهادئ من يدٍ منتجة مُشيِّدة إلى يد مُهدِّمة مخرِّبة. بهذا يقول الدكتور فريمان وعليه يمضي في بحث مستفيض، ليثبت لك أن خُلُق العامل الموروث قد تبدَّل تحت تأثير الإنتاجية الحديثة، فلست تجد اليوم ذلك الصانع القديم الذي كنت تستقرئ من أخلاقه أثر الهدوء والقناعة والرضا بما بين يديه، بل تجد عاملًا مُلئ طمعًا، لا في أن يصبح أرقى فنًّا أو أمهر يدًا أو أكثر إنتاجًا، ولكن في أن يصبح بذاته مالكًا صاحب رأس مال يستذِلُّ به من طريق الملكية أعناق غيره من عباد الله، الذين قد يتفق أن يكونوا أزكى منه طبيعة وأكثر للمجتمع نفعًا وأمهر في العمل يدًا وأرقى في الابتكار ذهنًا وأصح على العمل عزيمة، وما مَثَل العمال في صيحتهم التي ترتفع في هذا الزمان بمبادئ الشيوعية والاشتراكية، إلا كمَثَل من استجار من الرمضاء بالنار، فهم يريدون أن يتبدَّلوا من حالهم التعيسة بحالة لا تتناول مفاسدها العمال وحدهم، بل تتعدى إلى بقية الطبقات فتنزل بمستواها إلى حيث تبور المدنية ويفسد المجتمع.

وينتقل بك دكتور فريمان بعد هذا إلى وجه آخر من مساوئ الاستغلال الإنتاجي الحديث، ينتقل بك إلى الكلام في الفرص التي يهيئها النظام الحديث لصاحب العمل، أي صاحب رأس المال، أو بالأحرى لعدد قليل من الأفراد تساعدهم ظروف المجتمع على أن يجمعوا من الثروة كمية كبيرة تصبح لعنة من لعنات الترف والبذخ على أنفسهم وعلى أسرهم، وفضيحة من فضائح المدنية. وهو يمضي بك في هذا البحث متخذًا لك مثالًا من فرد يفتتح محالَّ للتجارة يحتل بها جوانب مملكة من الممالك، فلا يخلو بلد من بلدانها ولا قصبة من قصباتها من مركز تجاري له، فيصبح عما قليل منتجًا ومستوردًا، وصاحب سفن للنقل وصانعًا وبائعًا بالجملة وبائعًا بالقطَّاعي، وعلى الجملة يصبح كل شيء في شيء واحد، رابحًا من كل درجة من هذه الدرجات أرباحًا تتضاعف في كل درجة منها، أما الدرجة الأخيرة التي تنتهي عندها سلسلة هذه الأرباح فتكوين شركة تختص باحتكار متجر من المتاجر، وأما أصحاب الملايين الكثيرة فهم عنوان هذا النظام، وولائد هذه الصورة المدنية الحديثة، هم عنوان على التكثُّر المالي، الذي لا مبرر ولا معنى له، وهم في المجتمع مبدأ قلق وفوضى لا نهاية لتعدد صورهما.

يسمي الدكتور فريمان هذه الفئة فئة «البلوتوقراطيين»، وهي كلمة تؤدي معنى الحكومة القائمة على نفوذ ذوي الثروة والجاه، وهؤلاء يُضطرون أن يحموا أنفسهم ضد المجتمع الذي يمتصون دمه، فلا يجدون من سلاح يدَّرعونه أمضى حدًّا ولا أقطع مضارب ولا أثبت في المكاره جَنانًا ولا أفصح عند الحاجة بيانًا من سلاح الصحافة، فهم يشترون الصحف الكبرى والمجلات ويديرونها بما تشاء أهواؤهم، وعلى ما يتفق ومصالحهم، وبذلك يسممون الديمقراطية في منابعها الأصلية بسمومهم المهلكة، حتى إن الصحافة على هذه الصورة قد أخذت تنقلب سلاحًا قويًّا يتذرَّع به أصحاب الأموال لاستعباد المجتمع والوقوف سدًّا حائلًا دون كل إصلاح اجتماعي.

•••

هنالك خطر آخر لم يغب عن ذهن دكتور فريمان أن يتناوله ببحث مستفيض، يقول بأن الناتج من الصناعة يزيد عادة عما في مستطاع سكان كل قطر أن يستهلكوا منه، وبهذا تتجدد الحاجة إلى البحث عن أسواق يُستهلك فيها الزائد من الإنتاج، ومن هنا تدير الأمم والحكومات بنظرها في نواحي العالم لتخلق أسواقًا جديدة، ومن هنا تأتي فكرة الاستعمار بما يتبعها من مفاسد الاستبداد ومساوئ الحروب العامة.

هَمَس وحي الإنتاجية الحديثة في رُوع الشعوب، خطأً وتضليلًا، بأن إمكان التصدير لا حد له، وأن العالم في مستطاعه أن يبتلع كل السلع التي نلقي إليه، فهبَّ العمال والشعوب يُخرجون بكل ما بلغ إليه مستطاعهم سلعًا يُلقمونها لكرة الأرض، حتى إذا ما هبت عواصف الثورات أو تناوحت رياح الحروب أو انتاب حالات التجارة اضطراب في النقل أو الاستيراد، زاد عدد العاطلين في البقاع الصناعية زيادة كبيرة، وليس لزيادة عدد العاطلين تحت تأثير هذه الظروف الحادثة من معنًى إلَّا أن يعيش جمع غفير من أفراد المجتمع متطفلين — وليس ذلك من نتاج إرادتهم — على ما تنتج اليد العاملة النشيطة، ولهذا ترى أن زيادة عدد السكان مع زيادة نسبة عدد العاطلين أمران هما غرس المدنية الميكانيكية الحديثة.

•••

تمثَّل الشاعر دانتي المشهور إنسانًا وأفعى، وقف أحدهما بإزاء الآخر، وما لبثا أن يقفا حتى تولَّاهما انقلاب خَلقي خطير، إذ انبطح الإنسان على الأرض واندمج ساعداه في جنبيه والتحمت ساقاه، وأخذ جسمه يستدِقُّ ويزداد استدارة وامتدادًا، في حين أن الأفعى انتصبت على ذَنَبها وأخذ رأسها يتضخم ونَبَتَ لها ساعدان، وانفلق نصف جسمها الأسفل فكان ساقين، ثم نظر كل من الإنسان المنقلب أفعى والأفعى التي انقلبت إنسانًا بعضهما إلى بعض برهة، ثم مضى كل منهما في سبيله. فلو أن الشاعر العظيم أدرك هذه المدنية التي يصفها الدكتور أوستن فريمان هذا الوصف الممتع العميق، لما تخيل أن إنسانًا وقف إزاء أفعى ليأخذ كل منهما صورة صاحبه، بل تخيل إنسانًا وقف أمام آلة ميكانيكية فنيت إرادته في إرادتها، فأصبح آلة، وأصبحت الآلة إنسانًا.

•••

الإنسان من الوجهة الفردية في المدنية الحديثة من أكثر الأشياء بذلًا وخسارًا، انظر في العديد الأوفر من العمال تجد أنهم إنما يعيشون متطفلين على الآلات الميكانيكية، تلك الآلات التي أخرجتهم عن وظائفهم الطبيعية التي خُلقوا مُعَدِّين للقيام بعبئها، خذ لذلك مثلًا حمولة سفينة من السفن العظمى تُوسِق عمالًا من الذين دربتهم مصانع الإنتاج الحديثة لتلقي بهم على جزيرة من الجزائر الخصبة غير المعمورة، فهل يمكنك أن تتصور أن في مستطاعهم أن يكونوا جمعية متمدينة مكفية شر الحاجة، كما فعل أول المهاجرين إلى أمريكا؟ من الواضح أنهم يعجزون عن هذا كل العجز، وهم إن أفلتوا من يد الموت جوعًا، فإنك تجدهم بعد ستة أشهر من هجرتهم في أقصى حالات الهمجية وأحط دركات التوحش.

روى الدكتور فريمان أنه شاهد ثلاثمائة من زنوج أفريقيا قذف بهم النَّوْء على شاطئ مهجور من شواطئ أفريقيا الغربية الغني بأشجاره وغاباته، فما لبث أن رآهم بعد أن غابوا ساعة في أعماق الغابة عائدين بحزم من الأغصان والحبال المفتولة، وما كان أشد عجبه إذ تطلع بعد قليل فوجد قرية قائمة معدَّة للسكنى، وهذا المثال يشابه المثال الذي رواه الدكتور مولر ليير نقلًا عن سائح في جزائر تاهيتي. هذه المهارة وضروب غيرها من الفنون فقدها العامل في المدنية الحديثة بفضل الإنتاج الميكانيكي، وعلى هذا لا نستخلص من بحث دكتور فريمان إلا أن الإنسان في مدنيته الأخيرة ذاهب في سبيل الفساد من الوجهتين الفردية والاجتماعية.

(٢-٤) التطفل الاجتماعي

صور التطفل في الحياة كثيرة، متشابهة وغير متشابهة، فالتطفل في عالم الحيوان مبدأ يؤدي إلى نتيجة هي بذاتها التي يؤدي إليها في عالم النبات، تلك النتيجة المحتومة التي تؤدي إليها صور التطفل هي الفناء، فناء الأجسام المتطفِّلة وفناء الأجسام المتطفَّل عليها.

إن الميكروبات بأنواعها أجسام حية تعيش متطفِّلة على الأحياء، وبعضها حيواني وأكثرها نباتي، وهل ترى لتطفلها من نتيجة غير الموت المحتوم الذاهب بها وبالأحياء التي تتطفل عليها إلى عالم الفناء؟ وكذلك النباتات العليا، فإن منها ما يعيش متطفلًا على نبات غيره كعشب الدِّبْق، إذ ينبت على أصول أشجار التفاح والبلوط، فلا يلبث إذا ما تكاثر عليها أن يُفنيها ويقتلها، إذن فالتطفل مبدأ في عالم الحياة له آثاره المشاهدة في عالمَي الحيوان والنبات. فهل في عالم الاجتماع أثر من مبدأ التطفل الذي يفسد نظام الجماعات ويفنيها كما يفني التطفل الأجسام في عالم الحياة الفردية؟ سوف ترى معي أن في عالم الاجتماع من صور التطفل ما يذهب أثرها إلى غور أبعد من ذلك الغور القصيّ الذي تصل إليه في عالم الفرد.

ذاعت فكرات الاشتراكية في العصور الحديثة كدواء لأمراض يشكو منها المجتمع الحديث، فكانت كالسم يُسقى لمن لدغته أفعى، فإن صورة التطفل التي يخلقها نظام الاشتراكية لصورة لا تنتج إلا داء عضالًا ما تَبرأ منه الجماعات إن هي دَلَفَت يومًا بقدمها في مفاوزه الوعرة.

تذهب مع الاشتراكيين في وصفهم لمتاعب المجتمع الحديث وضروب المظالم التي يخلقها النظام المدني القائم من حولك، فلا تذهب إلا في جوٍّ من الإقناع واليقين بأن النظام الحاضر قائم على أساس كل ما في عالم الحياة يدعو إلى تغييره والتبدل منه بنظام يكفل للإنسانية قسطًا من المتعة بسعادات الحياة. ولكنك لا تذهب معهم إلى وصف الدواء حتى تعرف أنهم أمهر كل أطباء المجتمع تشخيصًا لدائه، كما أنهم أقصر باعًا وأعجزهم يدًا عن علاجه.

سل نفسك ماذا يطلب الاشتراكيون ليكون دواء من سقام النظام الحاضر؟ تجدهم يطلبون المساواة بين الناس في فرص الحياة وفي الحطام، أوَتدري أية نتيجة تتوافر مع المساواة؟ لا يتوافر معها إلا جوٌّ من التطفل لا نهاية له إلا فساد المجتمع وتحليل روابطه الوثقى؛ لأنه من المحتوم عليك في اشتراكية المساواة أن تسوِّي بين الذين لم تسوِّ بينهم الطبيعة في الكفاءات والمواهب، فتكون النتيجة أن يخرج كل من الأقوياء بنسبة قوتهم، والضعفاء المكدودين بنسبة ضعفهم، ولكن النتيجة أن يقتسم الكل حاصل الضرب على نسبة واحدة، وليس لهذا من نتيجة إلا أن يزداد نصيب الضعف على نصيب القوة إذا رُوعيت نسبة الناتج منهما، وبذلك يعيش قسم من المجتمع متطفلًا على مجهود غيره وبهذا تنحطُّ قوة الأقوياء؛ لأنهم لا يصيبون من الناتج على نسبة ما يستحقون تلقاء عملهم، ولا نهاية لهذه الحال إلا انحطاط المستوى العام إلى درجة الفناء والعدم الصِّرف إذا ما توالت تأثيرات هذه الحال بضعة قرون متوالية.

•••

أما العمال في مدنية الإنتاج الحديث ففيهم نزعة إلى التطفل على جسم المجتمع الحافِّ بهم، ولا يبغض دكتور فريمان من شيء في عالم الاجتماع بقدر ما يبغض هذه الصورة التي سوف نوقفك على رأيه فيها، على أنك لا تكاد تنتهي مما كتب فريمان في التطفل الاجتماعي قراءة، حتى يشملك حزن عميق، وحتى يقوم في ذهنك من مضارب الآراء ما يحملك على التساؤل أية مهواة من مهاوي هذا النظام وأي صدع من صدوع هذه المدنية سوف يبتلع جماعات العصر الحديث؟ كأنك ترى الفساد والانحلال الاجتماعييْن ماثليْن أمامك تمثالًا متحركًا يضرب في الأرض على قدميه إلى غور سحيق يكاد يتردَّى فيه.

إن المحور الذي تدور حوله رحى التطفل في جماعات العمال الحديثة ينحصر في العمل على طلب الجراء أو الأجر المحدود بإرادة المنتج من غير تدبر في قيمة العمل الذي ينتجه العامل. ولا يجد دكتور فريمان من صعوبة في أن يظهر لك كيف يقنع العامل بأن يُمتصَّ دمه من جهاته الأربع، لا لشيء إلا ليرضي المنتج نزعات الخاملين الذين فقدوا القوة على العمل والابتكار وتزودوا من الحياة بقوة المال، تلك الجموع البيروقراطية التي لم تخلق في المجتمع إلا لتبدد ما تخرج اليد العاملة من ثمرات.

يمضي العامل طوال عمره عاملًا على أن يرضي ذوق غيره لا أن لا يرضي ذوقه، هو يعيش إذن لغيره لا لنفسه، وهو يُجهد نفسه دائمًا لدرس أحط ناحية من نواحي النفس الإنسانية، ناحية الضعف بشيء خاص ينتجه ليربح المنتج أضعاف ما ينال العامل من عمله، وبهذا يُخلق جو من التطفل على صفات الإنسان مستمَدًّا من إرضاء نزعاته الخاملة وشهواته الدنيئة، يعيش عليها العامل والمنتج كلاهما عيش تطفل وخمول، لا عيش جد وابتكار حقيقي. وأنت أينما ولَّيت وجهك باحثًا في صور الإنتاج الصناعي، لا ترى إلا هذه النزعة فاشيَة في كل ما تنتج اليد العاملة، فالإنتاج اليوم عبارة عن إخراج كميات كبيرة ترضي من المستهلك أحطَّ نزعاته، لا عبارة عن إخراج صفات في المنتجات ترضي ذوق العامل وفيها من القيمة بقدر ما يؤخذ تلقاءها نقدًا، وعلى الجملة تستطيع أن تقول بحق: إن مصنوعات العصر الحاضر نتاج لفكرة ثابتة في رأس المنتج يدفع العامل على تنفيذها قسرًا عنه، قوامها استخدام المشاعر الدنيئة والشهوات السافلة من طريق الإغراء سعيًا لابتزاز أموال الجماهير، والسرقة من طريق أخذ كميات من النقد لا توازيها صفات المصنوعات المبذولة فيها، وهذه بحق صورة من أحطِّ صور التطفل الاجتماعي لا تتناول آثارها تبديد الثروات والحطام لا غير، بل يتناول أثرها إفساد اليد العاملة المنتجة بما يحطُّ من مستواها، بل ومن مستوى الجماعة التي تعيش فيها.

•••

على أنني لا أعلم كيف ترك الدكتور فريمان صحافة العصر الحاضر دون أن يصف لنا ما فيها من نزعات التطفل الاجتماعي التي بلغت في كل الأمم المتمدينة أقصى دركات الانحطاط والإسفاف، وعندي أن ما يظهر في صحافة العصر الحديث من صور التطفل البشع لَأبلغ أثرًا في النَّيْل من ترابط الجمعيات الإنسانية من كل عوامل التطفل الأخرى، على ما هي مجهزة به من مهيِّئات الهدم والتخريب، وما من شيء في الصحافة الحديثة إلا وفيه من دم التطفل قطرة تفيض أو عِرق ينبض. وعلى الرغم من أن الصحف سلاح حديث تذرَّعت به جماعات المدنية الحديثة للدفاع عن مصالحها، وعلى الرغم من أن المبدأ التي خُلقت له الصحافة يبعد جهد البعد عن جو التطفل على تعدد صوره واختلاف ألوانه؛ فإن ما غُرس في طبع الإنسان المتمدين من مَنَازع الجشع الاجتماعي — البيلونكسيا — كما يدعوه الأستاذ مولر ليير، لم يُبْقِ للصحافة من حياة إلا إذا مضت متطفلة على جسم المجتمع القائم من حولها. وأنت إذا رأيت الصحافة الحديثة على هذا النحو من الحاجة إلى التطفل لتعيش ماديًّا، فهل لك بعد هذا إلا أن تعتقد بأن كل ما هو كائن من حولك طفيليات تعيش هائمة في الطبيعة على وجهها ولا هادي لها إلا البحث عن جسم تغزوه أو جيب تسلبه، وأنت بعدُ لا تعرف على من تقع نواتج هذه النزعات، إلا على تلك الكتلة الصماء التي تكونها وحدات بشرية مفكرة مدركة وندعوها إصلاحًا بالمجتمع الإنساني.

إن أقرب ما ترى من صور التطفل في الصحافة الحديثة بحثها وراء ما يرضي نزعات قرائها، مهما بلغت هذه النزعات من الانحطاط والدناءة. وبعد فهل ترى من الصحف، لا في مصر وحدها بل في أنحاء العالم كله، ما هو أروج من تلك الصحف التي تنشر صور الغانيات مُظهرة لبعض جمالهن مُسْتغويَة بذلك الشيب والشباب من طريق التطفل على نزعاتهم وشهواتهم النكداء؟ وبعدُ فهل ترى في عالم الصحافة أروج من تلك الصحف التي تروي القَصَص مقذوفًا به في كل ناحية من نواحي الدَّنِيَّات، مُظهرة لك من الإنسانية صورة لم يخلقها إلا فكر واضع القصص، ولم يقم في ناحية من نواحي العالم لها من مثال صحيح؟ على أن في المبالغة في وصف المبادئ العليا من الخلق الإنساني لَمنحدر تنحدر فيه الأخلاق وآداب السلوك إلى حيث تخرج عن طورها الذي يجب أن تقف عنده، وإلى حيث تصبح وهمًا وخيالًا. خذ لذلك أمثال التضحية التي تقرؤها في قصص المجلات والصحف، وسائل نفسك بعد أن تقرأها: هل هذا حقيقة مثال الخلق الإنساني؟ وهل هذه الأمثال يمكن تطبيقها على حالات واقعة بالفعل؟ وأنت لا تلبث أن ترى أنك في عالم من الخيال لا في عالم من الحقيقة. وبهذا وبكثير من أمثاله يفسد المجتمع وتسبح الجماعات في جو من الخيال الصِّرف لا أثر له في تقويم خُلق ولا في غرس فضيلة.

أما إذا نظرت في الصحافة هذه النظرة، ومضيت تتأمل في كثير من صور التطفل التي تظهر لابسة الثوب الصحفي الحديث، وعدت بنظرك إلمامًا إلى الحالات القائمة في سياسة الشعوب الحديثة وبين جدران دور النيابة؛ فإنك لا تجد أقوى من عامليْن تكاتفا على التغرير بالجماعات ليعيش ممثِّلوها تطفلًا على أعناق الجموع البشرية: سياسيُّ العصر الحديث وصحفيُّه، كلاهما يُرضي نزعة واحدة، هي نزعة القبض على خناق الجماهير ليستعبدها وليعيش متطفلًا عليها تطفلًا لا يكفل لها من شيء ولا يسوق بها إلى نتيجة، اللهم إلا إلى الانحلال والفناء المحتوم.

الوظيفة التي قامت من أجلها الصحافة إرشادية صرفة، هي قوة للإرشاد والتعليم وإذاعة المعارف، لا ابتغاء إرضاء الناس، ولكن ابتغاء إرضاء الحق والضمير. إذن لا يبحث الصحفي فيما يرضي الجماهير، ولا فيما يرضي الأحزاب، ولا فيما يوافق ذوق الناس، ولا فيما يرضي نزعاتهم الهوجاء؛ إلا ويكون قد خرج عن وظيفته ليعيش متطفلًا على شهوات الجمعية يرضيها بالقول لترضيه بالحطام. فهل في صحافة العصر الحديث برُمَّتها من شيء يدل على أنها ظلت خلال عصر من العصور أمينة للمبدأ الذي من أجله وُجدت والتي لا يجب أن توجد إلا له؟

(٢-٥) الانحطاط الضمامي

نترك عالم الصحافة وعالم العمل بما فيهما من صور التطفل الاجتماعي لنعود إلى الدكتور أوستن فريمان، لنمضي وإياه في بحث آخر غير التطفل تناول به انحطاط الإنسان المتمدين عن الإنسان المتوحش، فقال:

إذا قارنت بين عبد من عبيد أفريقيا المتوحشين وبين رجل إنجليزي أفسدته عوامل المدنية الحديثة، وجدت أن الثاني أقل كفاءة من الأول، وجدت أنه يميل إلى الكسل والبطالة، وفيه نزعة إلى البَلَه وضعف العقل، فضلًا عما فيه من العجز وعدم القدرة على العمل اليدوي، وهو على الجملة فاقد المِران والفن، بل جاهل بكل صنوف المعارف العامة جهلًا كاملًا. أما الهمجي الأفريقي فعلى العكس من هذا تجده فرحًا يميل إلى المَجَانة منشرح الصدر راضيًا قانعًا، وهو فوق ذلك على علم بطبيعة الحيوانات والنباتات التي تعيش في محيطه، وله إلمام ببعض مبادئ الدين التقليدية وأساطير آبائه وعادات القبائل التي يعيش معها، وله اطِّلاع على بعض مبادئ الموسيقى، فضلًا عن مِرانه اليدوي واكتفائه بقوة يده وابتكاره عن مساعدة غيره من الناس له في حاجات حياته، فإنه يستطيع أن يبني بيتًا وأن يرفع سقفًا وأن يحصل على غذائه وأن يعده إذا كان غير مُعَدٍّ للتغذية، ويمكن أن يولِّد نارًا بلا ثقاب وأن ينسج خيطًا مغزولًا وأن ينسج ألياف القطن ويهيئ منها ثوبًا يرتديه، وقد يصنع كل أدواته التي يحتاج إليها وأن يصلح ما يفسد منها بيده. أما من الوجهة الطبيعية فهو قوي البنية، ممشوق القوام، سريع الحركة، قادرًا على العمل، نشيط الحصاة.

إن ازدياد عدد السكان عند دكتور فريمان ظاهرة تتصل ببقاء الأطلح من الناس اتصالًا وثيقًا، وأنه ما من مؤثر من مؤثرات المدنية الحديثة بأبلغ من الإنتاجية الميكانيكية أثرًا في خلق تلك الحالات التي تساعد على بقاء الطالحين وإفناء الصالحين اجتماعيًّا. أما كل ما يمكن أن تجمع من كتاب دكتور فريمان من وصف لتأثير الميكانيكية الحديثة على مجتمع العصر الحاضر، ففي استطاعتك أن تقف عليه إذا ما قرأت قوله:

إن ميكانيكية الإنتاج الحديثة بما تؤثر به على الإنسان وعلى بيئته، عامل من العوامل المضادة لسعادة الجماعات الإنسانية؛ إنها قد قضت على الابتكار الصناعي وبدَّلت الإنسانية منه بمجرد إنتاج بائر مكدود، كما أنها جرَّدت أعمال الإنسان عن صفات الرقي والفن ونزلت بمستواها، إنها هدمت قوة الوحدة الاجتماعية وبدَّلت الإنسان منها بانحلال اجتماعي وتناحر بين الطبقات بلغ درجة تهدد المدنية الحديثة بالزوال والفساد، إنها مزقت تكوين المثل الأعلى من الجماعات الإنسانية؛ إذ وضعت أساس نظامها على قاعدة لا يبذل فيها سوى الفرد ولا يخسر بها سوى الفرد، إنها زودت الإنسان الطالح اجتماعيًّا بقوة سياسية يستخدمها في سبل تضر بالصالح العام؛ إذ يستطيع أن يخلق بها نظامات ومعاهد من أخطر ما أحدثت المدنية من أسلحة الهدم والتقويض، وإنها بما تؤيد من منشطات الحروب إنما تحدث عاملًا قويًّا يهدم من قوة الإنسان الطبيعية ويُفني من مهيَّآتها ويذهب بالحضارة والثقافة إلى حيث العدم الصرف؛ فهي بذلك لا تشابه في الحياة من شيء إلا تلك الأجسام المضادَّة للحياة التي تعيش متطفلة على غيرها، تلك التي لا تذهب بالأجسام التي تغزوها إلا إلى الفناء الصرف وإلا إلى العدم المطلق.

(٣) خاتمة البحث – نقد وتقرير

نختتم الآن البحث في معضلات المدنية الحديثة، وقد أحطنا فيه برأي مؤلِّفيْن من كبار مؤلفي هذا العصر، كلاهما على علم تامٍّ بما يكتب، وكلاهما درس الموضوع الذي تكلم فيه دراسة عميقة أدت به إلى تقرير رأي خاص.

أما دكتور ليير فرجل ينزع إلى الآراء الاشتراكية، المتطرفة بعض الأحيان، وهو كبير الاعتقاد في أن الرذائل الاجتماعية فيها نزعة فطرية تمضي بها إلى جو من التنازع والتناحر حيث تفني إحداها الأخرى، إذن فهو يعتقد أن الإنسانية ترتقي وتتقدم من الجهة الأخلاقية. ولا مشاحَّة في أن كل من يقرأ تاريخ تطور الفكرة في الأدب منذ بداءة العصر الوثني في أوروبا إلى عصر النهضة العلمية أو عصر الثورة الفرنسوية؛ يقضي بأن لذلك الرأي نصيبًا من الصحة، وأن فيه قسطًا من الصواب. غير أن القول بأن في الرذائل الاجتماعية نزعة أصيلة تمضي بها إلى الزوال بتأثير إحداها في الأخرى، فقول لم يثبته دكتور ليير ولم يثبته أحد غيره، بل وأظن تغليبًا أنه ليس في مستطاع أحد أن يثبته من طريق عملي يرضي نزعة العلم في العصر الحديث. كذلك لا أتخيل أن تطور الآداب قد مضى في سبيل التدرج بخُطًى تجاوزت خُطَى التدرج التي خطاها النوع الإنساني في الناحية العضوية الصرفة، نعم إنه لَحَقٌّ أن الفكرة في الأدب قد تطورت، ولكن طبيعتها لم تتغير تغيرًا كثيرًا يعادل مقداره تطور الفكرة ذاتها. وأما دكتور فريمان فإنه إن كان يتفق ودكتور ليير في أن عصر الإنتاجية الميكانيكية لم يَحْبُ المدنية إلَّا بكل عوامل الفساد والانحطاط؛ إلَّا أنه يمضي في نظرته التشاؤمية إلى آخر ما يمكن أن يبلغ بها مفكر من مفكري العصر الحديث، فأنت في كتابه برُمَّته لا تخرج إلا بفكرة واحدة شملت أطرافه، فكرة أن الإنسان ينحطُّ فرديًّا واجتماعيًّا وأن أبْين صور الاجتماعية الحديثة هي صورة التطفل التي قضت على كل الصفات التي خرج بها الإنسان من مهد تطوراته الأولى. أما وقد وصف كلٌّ من الكاتبيْن أمراض المدنية الحديثة، أما وقد شخَّصا داءها تشخيصًا دقيقًا؛ فإنهما لم يختما بحثهما إلا بعد أن وصف كلاهما دواءً يراه صالحًا للأخذ بيد المدنية الإنسانية من وَهْدَتها التي تردَّت فيها حديثًا، لهذا نمضي في تقرير الرأيين، فنخرج من ذلك بفكرة فيما يمكن أن يكون مخرجًا من ظلمات العصر الحاضر.

أما دكتور ليير فلا يصف من دواء محدود الخاصيَّات ليُبْرِئ به الإنسانية من سقامها بعد قيام عصر الإنتاج الميكانيكي؛ هو يكتفي بأن الإنسانية ترتقي وتتطور وأنها تتخلص شيئًا فشيئًا من رذائلها بطريقة سحرية لم يصفْها ولم يعبِّرْ عنها تعبيرًا يرضى عنه العلم ويَسْلَم به القياس المنطقي، وهنا تقع على أول فشل تشعر به إذا أنت حاولت أن تقع فيما كتب على نتيجة عملية ما من الناحية البنائية. وكذلك الحال إذا أنت رجعت إلى دكتور فريمان، فإنه إن شارك دكتور ليير في وصف الداء وفي تشخيصه بأبلغ ما وصل إليه كاتب من كتَّاب العصر الحديث درسًا واستعماقًا في النظر؛ فإن الناحية التشييدية من كتابه، تلك الناحية التي حاول أن يصف فيها دواءً للمدنية تُعْطَاه جرعةً واحدة، كانت فشلًا تامًّا. وإذا أنت جمعت بين نجاح الكاتبيْن في وصف الداء وبين فشلهما في وصف الدواء، ألْفيتَ بحقٍّ أن المدنية واقعة في مشكلات عظمى ومعضلات كبيرة، قد تذهب بها إلى الفساد والانحلال.

يعتقد دكتور فريمان أن أعظم ما ينتاب المدنية الحديثة من الحالات المضادَّة لطبيعة الارتقاء القبضُ على خناق الانتخاب الطبيعي أن ينبعث في سبيله المحتوم تأثيرًا في طبائع الجماعات، ولهذا فهو يعتقد أن نصيب الطالحين اجتماعيًّا من البقاء وأعقاب النسل أوفى من نصيب الذين كان من الواجب أن يُترك الانتخاب الطبيعي آخذًا بيدهم في سبيل التكاثر والازدياد، ولهذا لا يجد الدكتور فريمان من سبيل يمضي فيه بعد ذلك إلا سبيل القول بانتقاء بقية من أصلح ما يتضمن المجتمع الحاضر من الأفراد، يؤخذون كنواة تتكاثر من حولها جماعة هي بذاتها تلك الجماعة التي تضاد في بيئتها وطرق معاشها جماعات المدنية الحديثة، هو يقترح انتقاء جمع من الرجال والنساء يُستدلُّ من حالهم على أنهم أصلح الناس للبقاء وأنسبهم لمطالب الانتخاب الطبيعي، يُعزلون عن بقية المجتمع ليعيشوا في عزلتهم وانقطاعهم عيشَ المدنية المناسبة لمقتضيات الطبيعة، بعيدين عن استبداد الآلات، قادرين على أن يقوموا باستيفاء حاجات بعضهم بقوة سواعدهم وبمهارتهم اليدوية. على أن في هذا الاقتراح على سهولة التفكير فيه لَصعاب يتعذر معها تنفيذه، فإنك إن أردت أن تجمع فئة منتقاة كهذه لتعزلها عن بقية المجتمع لما استطعت ذلك في أكثر البلدان الصناعية، يتعذر عليك ذلك في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، بل وفي كثير غيرها من الممالك المتمدينة الواقعة تحت سلطان تلك الحالات العقيمة التي وصفها دكتور فريمان ذلك الوصف البليغ. وإذا فرضنا جدلًا بأن هذه الفئة استطاعت أن تتكون في ناحية من نواحي مملكة مثل فرنسا، فكيف يمكن أن تكون بمَنجاةٍ عن تحمُّل تلك الأثقال التي تُلقيها الحكومات على عاتق بقية رعايا الدولة؟ وما هي في الواقع إلا مسئوليات لا يمكن تحمُّلها إلا بالركون إلى استخدام تلك الوسائل التي ينحي عليها دكتور فريمان ويحمل عليها حملته الصادقة، إنهم سيدفعون ضرائب للحكومة! ومن طبيعة النظام الاجتماعي القائم أن يُمضى جزءٌ من الخيرات التي تُصرف في سبيلها الضرائب على سكان المملكة حتمًا، إذن فهم سوف يعملون على زيادة رفاهية الطالحين اجتماعيًّا، وسوف يساعدون على تمهيد السبيل لزيادة عدد العاطلين وترويج سوق النساء اللاتى فيهن استعداد طبيعي للفساد، وسوف يُمِدُّون موظفي الحكومة بجزء من مرتباتهم، وكذلك السياسيون الانتهازيون الذين لا يعيشون إلَّا في جو التطفل الذي أبدعه العصر الحديث. وعلى هذا تبدأ تجربة دكتور فريمان في جو استجمع كل المهيِّئات اللازمة لإحباطها.

جماع هذه الحالات تجعل نجاح هذا الدواء في حكم المستحيل في بلاد استحكم فيها استبداد الإنتاجية الميكانيكية، غير أني لا أرى سببًا يجعلنا نشك في نجاحها في بلاد أخرى، فإن شركة من الشركات من الممكن أن تتكون على أن تختص باستغلال قطعة من الأرض في بلاد كروديسيا أو طسمانيا أو كندا الغربية أو جنوب أمريكا، ويمكن أن تعيش فيها جمعية منتقاة مستجمِعة لكل ما يضمن لها البقاء تحت تأثير الحالات الطبيعية الأولى التي رغب فيها دكتور فريمان ويمضي ناصحًا بها، ذلك لأن النظريات الاجتماعية يجب أن توضع موضع التنفيذ؛ لأنه في الواقع المَحَكُّ الصحيح الذي يمكن أن يُعرف به بمقدار ما في النظريات من حق، ومقدار ما في الفروض من صواب، وليس من شك في أن ذلك جائز، فإن الشيوعية على ما فيها من نزعات الاستبداد وعلى ما تنطوي عليه من مطامع، لم تَأْنَف من التجريب، ولا تزال مُمْعِنة في سبيل تجاريبها، رغم أنها لم تفلح في شيء إلَّا في الناحية الزراعية، وإن كان فَلَاحًا محدودًا، ذلك في حين أن جمعية دكتور فريمان سوف لا تطمع في شيء إلا في أن تعيش عيش الناس في القرون الوسطى ومن قبل أن يجتاح المدنية عصر الآلات الحديث، ففي أية من بقاع الأرض يمكن أن توجد مساحة خصيبة قوية العناصر من المستطاع أن تعيش فيها مثل هذه الجمعية، ولكن ذلك غير ميسور في كل بقاع الأرض، كلما أنه بعيد أن يوجد في البلاد الصناعية.

وبعد كل هذا فإنا لا نستطيع إلا أن نقول إن تشخيص الداء شيء غير العلاج، فإن هذين الكاتبين الكبيرين ليتفقان في تشخيصهما لداء الجمعية الحديثة، وقد نزيد على هذا أن حسن تشخيص الداء فيه نصف مهمة الطبيب، فكلاهما يتفق وصاحبه في أن الإنسان إذ مضى يتسوَّد على قوى الطبيعة قد مضى في سبيل أنقص من ناسوتيته ومن رجولته وأوهن من صفاته الطبيعية، فأفسد من هذا بمقدار ما تغلغل هو إلى صميم الطبيعة التي يعيش في جوفها، يقولان بأن الإنسان قد نجح، ولكن في الحد من مواهبه وكفاياته، فأغفل كثيرًا من الانتفاع بأوجه نشاطه الطبيعي، وبذلك أضحى أَوْهَى تكوينًا وأقل سعادة مما كان، وعلى هذا يقرران أن المدنية في خطر أن تصبح ثورة نظامية ضد الطبيعة الكونية. أما الباحث الألماني فعلى الرغم من كل هذا يعتقد أن اجتياز هذه العقبة مستطاع بأن تُهذَّب النظامات الاجتماعية، وبالأحرى بأن تستكمل المعدات التي تؤهل الإنسان لكي يتحكم في بيئته بمحض اختياره تحكمًا تامًّا، وأن الإنسان إذا بلغ إلى هذا الحد مضى يضرب في سبيل النشوء إلى مدى قصيٍّ بعيد، فهو من المتفائلين، ولكنْ تفاؤله موقوف على هذا ولا على شيء غيره. أما الباحث الإنجليزي فشديد الإيمان بفساد المدنية، ولذا يلجأ إلى «اليوجنية» يستدِرُّ وحيها ليتخذ من مبادئها ما يطبقه تطبيقًا عمليًّا تفلت به الجماعات من الأغلال المحتومة عليها إن هي مضت عاكفة على طرائقها القائمة اليوم. أما الأول فلأنه كتب قبل الحرب العظمى، فمن الجائز أن يكون قد أسرف في التفاؤل، وأما الثاني فلأنه كتب بعد وقوع الكارثة فمن الجائز أن يكون قد أسرف في التشاؤم. وسوف يُظهر لنا المستقبل القريب عما إذا كانت المدنية الحديثة من المستطاع إصلاحها أم أنها سوف تلحق بما سبقها من صور المدنيات.

على أنا لا نستطيع أن نتصور كيف أن مدنية لا تسود فيها الفردية المستقلة يمكن أن تُكتب لها الحياة! ولا بد من أن تنبعث في الجماعات حياة روحية جديدة تُوَلِّي بها نحو مثل أعلى في حياتها الدنيا، قبل أن نقول بحق إن المدنية أفلتت من عوامل الفساد المنبثة في تضاعيفها.

برقين – ١٩٢٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤