كشف السِّتار عن سر الأسرار

مذكرات عرابي باشا

على الرغم مما تشعر به من سوء الحظ ونكد الطالع الذي حَوَّط قائدَ الثورة المصرية سنة ١٨٨١، فإنك لا تفرغ من قراءة كتاب أو مقال فيما قام به عرابي من الأعمال، ولا تنتهي من قراءة مختلف تلك الآراء القائمة من حول ذلك الرجل؛ حتى تقتنع بأن الدنيا قد أنصفت عرابي كل إنصاف، وكيف لا تكون قد أنصفتْه وأنت في حينٍ تقرأ أنه بطل كامل البطولة وفي حينٍ آخر تقرأ أنه بطل سيئ الحظ منكود الطالع، ثم تتدرج من هذا إلى أنه رجل مليء طماعية وجشعًا وإسفافًا في النزعات؛ ثم تَهْوي به من بعد ذلك في مَهْواة الخيانة العظمى، فإذا بك أمام رأي فيه يزعم أنه خائن وأنه صنيعة الإنجليز، وأنه سلَّم مصر إليهم غنيمة باردة؟ وكل هذا في نظري إنصاف وإقساط، لأن الدنيا لا تعطي الإنسان حيًّا وميتًا أكثر مما في استطاعتها أن تعطيه.

والواقع أن بين صفتَي البطولة والخيانة فُرْجة تتمشَّى فيها النزعات الإنسانية وتتقلب فيها الأفكار، فتخلق من البطل خائنًا ومن الخائن بطلًا، وأنت بين هذا وذاك تسير في مضارب من الشك ومناحٍ من الريب غير عالم أي الحزبين في جانب الحق.

ونحن إذا شعرنا اليوم ونحن نكتب في مذكرات بطل الثورة الأولى شعورًا كاملًا بأنه ليس في مستطاعنا أن نقضي في أي الأحزاب أدنى إلى الحق وأيِّها أقرب إلى الصواب حكمًا يُرْضي نزعات العلم الحديث وموحِيات الأسلوب اليقيني الصرف، ونحن بعدُ لما نبعد عن عهد عرابي إلا نصف قرن من الزمان، فكيف يمكن أن نحكم على حادثات أعرق من هذا قِدَمًا وأشد إيغالًا في أحشاء الزمان؟

البطل الماثل أمامنا اليوم هو السيد أحمد عرابي الحسيني المصري، قائد الثورة المصرية سنة ١٨٨٢، وأول من رفع لواء القومية المصرية في وجه العناصر الأجنبية التي استبدت بالبلاد وأرهقت أهلها وناءت عليهم بقوة الاستعمار، تهْضِم حقوقهم وتستعبدهم استعبادًا. تخرج بهذا الرأي إذا أنت فرغت من قراءة الجزء الأول من مذكراته المطبوعة الذي أهدانيه صديقي عبد السميع بك عرابي. والخائن الذي يتمثل أمامك في بضعة آراء حوَّطت شخصيته بكثير من الأشياء والفكرات الخيالية الغريبة، تلك الآراء التي أذاعها بطبيعة الحال الحزب المقاوم لإرادة عرابي في ثورته؛ هو بعينه بطل القومية وأول من قال بأن مصر للمصريين دون غيرهم من شعوب الأرض قاطبة.

ما أثَّرت عليه في هذه العقيدة جامعة الدين التي كانت تربطه بالترك والجركس، ولا رابطة السياسة التي كانت تربط مصر بدولة بني عثمان، ولم يَبْهَره زخرف المدنية الأوروبية ولا بُهْرُجها الكاذب، فكان رجال الجيش والإدارة من غير المصريين سواسية في نظره، هم جميعًا عنده بمنزلة الدخيل المستعمر الذي يمتص دم بلاده امتصاصًا ولا تهزُّه نحوها أية عاطفة من الوطنية ولا يحرِّكه شعور قومي. وما أنت في كل ذلك بمحتاج إلى دليل تستخلصه من الحوادث ولا برهان تستقرئه من بين الآراء المتضاربة، فإنه يكفي عندك أن تقرأ ما أشار إليه السيد أحمد عرابي باشا من المديح في الضباط المصريين من قواد الجيش المصري، وأنهم لجديرون بمثله في كثير من ظروف التاريخ؛ لِتشعر شعورًا صادقًا يوحي إليك دائمًا بأن مصرية عرابي كانت مصرية كاملة النواحي متلائمة الأطراف محبوكة على حب عشيرته وتقديس قوميته، وما هو بمسئول مباشرة من بعد هذا عن النتائج التي خبَّأها له ولمصر القدر، لأن أرقى النزعات الإنسانية من الجائز أن تنتج أسوأ الشرور وأبلغ المصائب، وعكس ذلك قد يتفق أن يكون صحيحًا في كثير من الوجوه. ومن الجائز أن يكون عرابي قد خُدِع، وأيُّ إنسان لم يُخْدَع في هذه الدنيا؟

ألم نركن إلى فرنسا في بدء مقاومتنا للاحتلال بعد سنة ١٨٩٠ فلوَّحت فرنسا لإنجلترا تلويحًا، ثم لم تلبث الدولتان أن اتفقتا علينا سنة ١٩٠٤ ونحن بعدُ من خديو مصر إلى أصغر سياسييها شأنًا مخدوعون بفرنسا وبمقدرة فرنسا وشرف فرنسا … وما إلى ذلك من الخيالات الموهومة؟ فلو أن مصر تبدلت من السلام الذي ساد ربوعها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بثورة حاطمة ومضت في ثورتها واثقة بفرنسا، أيكون في قدرتك أن تعرف أيَّ النتائج كان من الممكن أن تترتب على هذا الوهم الشائع؟ لا مشاحَّة أنك تعجز عن ذلك عجزَك عن أن تعرف في أيِّ الجهات خُدِع عرابي. على أنه لو كان قد خُدِع في كل شيء فإن ضميره لم يخُنْه في مصريته يومًا، ولم يتحرك فيه عِرْق واحد ضد قوميته برهة واحدة. وكفى لمن يرفع لواء القومية المصرية فخرًا أن ينتزع سر هذه القومية من جوف أبي الهول القابع في صحراء مصر، بعد أن احتوتها جوانبه الصخرية الصمَّاء ثلاثين قرنًا من الزمان حيث تُرِكت نَسْيًا منسيًّا.

يخص كثير من الكتاب لدى بحثهم الأسباب والنتائج التي قامت من أجلها أو أدت إليها الثورة الفرنسوية، منقِّبين في حنايا التاريخ القديم والحديث، راجعين بالأسباب إلى أزمان بعيدة قد تفصل عرابي عن عهده نصف قرن ونيِّف، أو ذاهبين بالنتائج إلى مدى قصيٍّ بعيد، وما هم في الحالتين إلا في خطأ مبين، ذلك لأننا نعتقد أن الثورة قد خُلقت فجأة، وأنها لم تتكون إلا في قلب عرابي. نعم، إني لا أنكر أن الأسباب تتكون خلال الزمان تدرُّجًا، ولكن هل يمكنك أن تعرف لأيِّ الأسباب هي لا تؤتي نتائجها إلا في زمان محدود، سائل نفسك لماذا لم تقم ثورة القومية المصرية قبل عرابي، ألم تكن الأسباب قائمة من قبله؟ ألم تكن الحالات التي قَبَرَت القومية المصرية واقعة بالفعل قبل عرابي بقرون عديدة من الزمان؟ ونحن إن مضيْنا قانعين بأن أسباب الثورة قد تكونت خلال أزمان بعيدة عن عهد عرابي، فإن الثورة الحقيقة لم تقم قيامًا فعليًّا إلا في قلبه وحده، ومن الجذوة التي اضطرمت نيرانها بين جوانحه فاستنارت بها بقية القلوب.

قامت الثورة في قلب عرابي متأجِّجة قوية، وما هبَّت رياح الحوادث من حوله إلا لتُذْكي نيرانها وتبعث بلهيبها المتسَعِّر المضطرم في أنحاء البلاد، وما كان هو على جهل بما يحُفُّ مركز مصر السياسي من مَنَازع الاستعمار ورياحه المتناوحة، فإنه قد أنحى على بيع أسهم قناة السويس وعلى من باعها بلَوْمه، وما نسي يومًا أن المحافظة على الأجانب ومصالحهم تُكَأَةٌ قوية يدفع بها الخطر الأجنبي، وما غفل عن أن الامتيازات الأجنبية افتئاتٌ على حقوق مصر وانتزاع لاستقلالها من بين جنبيْها. غير أنه لم يحسب للقوة والمطامع الإنجليزية حسابًا ولم يجعل لها وزنًا، والغالب أنه ارتكن في ذلك خطأً على فرنسا وعلى تركيا، عالمًا أنهما لن تسمحا لإنجلترا أن تَلِج الشرق من بابه فتتحكم قوتها في مصالح الدنيا ومن فيها، ولكن على الضد من هذا الرأي سارت الحوادث، وعلى العكس منه مضت ظروف الدنيا. وأنت بعد حتى اليوم لا تعرف كيف رضيت فرنسا أن تثبِّت إنجلترا قدمها في مصر، ولا كيف قَنَعَت تركيا بأن تترك درة تاجها نهبًا لمطامع الاستعمار الإنجليزي.

ارجع في كل ذلك إلى الأسباب القريبة منك الواقعة في جوِّك ولا تتلمس لذلك أسبابًا بعيدة تلجأ فيها إلى النظريات التاريخية العقيمة، فكما أن الثورة المصرية لم تقمْ إلا في قلب عرابي، كذلك لم يقم الخوف من التدخل في المسألة المصرية بعد أن اغبرَّ جوُّها إلا في قلب عبد الحميد أمير المؤمنين — رحمه الله وغفر له — وكيف يمكن أن يرسل عبد الحميد الأناني المستبد جيشًا تركيًّا إلى مصر الثائرة في سبيل حقها المهضوم ليعود إليه مسمَّمًا بروح الحرية والدستور؟ ذلك هو السبب الأوحد الذي قام في رأس الطاغية المستبد وحال بينه وبين أن يدرك مصر من خطر الوقوع في يد إنجلترا، لا حوادث السياسة ولا دسائس «دوفرين» ولا مهارة «ماليت» ولا شيء في الدنيا بأجمعها غير هذا، وإلى أي حد كانت تذهب مهارة هؤلاء لو أن هذه المهارة قد لاقت في تركيا قلوبًا مشْبَعَة بقوة الإيمان في حق الحرية من الحياة وفي حق الشعوب من الوجود والبقاء؟ أما في فرنسا فإنك لا تجد من سبب إلا سلامة القلب البالغة من السذاجة مبلغ البلاهة في الاكتفاء بوعود الأسد البريطاني المنقلب شاة وادعة، حتى إذا ما تمكن من فريسته انقلب أسدًا تارة أخرى.

حوِّل فكرك البعيد القصيَّ باحثًا وراء الأسباب الخفية، وقلِّب صفحات التاريخ من الغزو الفرنسوي إلى محمد علي الكبير إلى معاهدة سنة ١٨٤٠ وما تقدم ذلك من الحوادث، وتمعَّن في عصر إسماعيل وفي الوزارة الثنائية وفي البعثات المالية؛ فإنك لا تلمس في كل هذا إلا ظاهر الحياة ولا تقع إلا على العَرَض دون الجوهر، ولن تقع على الجوهر الكامن في جوف الطبيعة البشرية إلا في قلب عرابي الثائر المصري وأنانية عبد الحميد العاهل التركي وبلاهة فريسنييه الوزير الفرنسوي.

•••

الفاصل الزماني بين الثورة الفرنسوية وبين الثورة المصرية قرن واحد من الزمان، وهو عهد قصير في عمر الأمم. ومن غريب ما ترى في حوادث مصر التاريخية أن نتائج الثورة الفرنسوية لم تلحق إيطاليا إلا في منتصف القرن التاسع عشر، ولم يُبْزَر بِزْرُها في مصر إلا في أواخره. فكأن فكرات الحرية وحقوق الإنسان قد احتاجت إلى قرن كامل من الزمان لتتم هجرتها من فرنسا إلى مصر، فما أبطأَ الفكر الإنساني في تقبل الآراء الحديثة، وما أسرعَه في العودة دِراكًا إلى تقاليده الموروثة!

على أنك لا تعجب أن تحركت في نفس عرابي عوامل القومية، ولكنك لا تعرف أية علاقة لهذه النزعة بالفكرات الديمقراطية الدستورية وبحق الأمم في تقرير شكل الحكم الذي تمضي خاضعة له. لا نشك في أن بين الفكرتين؛ فكرة القومية وفكرة الحرية الديمقراطية، علاقة وآصِرة، ولكن تدلنا حوادث التاريخ على أن أقرب ما يستعان به على حماية القوميات حكومات تُسْتمدُّ من الشعوب التي تمثل تلك القوميات، وما أشك مطلقًا في أن الفكرة الدستورية التي قامت في رأس عرابي كانت مستمدة مباشرة من الفكرات الفرنسوية.

جاء في مذكرات عرابي ص١٥ بعد أن ذكر عطف المغفور له سعيد باشا عليه ما يأتي:

ولشدة إعجابه بي أهداني تاريخ نابليون بونابرت باللغة العربية، طبع بيروت، وهو بادي الغيظ على أنْ تمكَّن الفرنسويون من التغلب على البلاد المصرية والتحريض على وجوب حفظ الوطن من طمع الأجانب. ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سببًا في مطالعتي كثيرًا من التواريخ العربية.

على أن عرابي إن استطاع أن يضرم نيران الثورة في قلوبٍ ما كانت تعرف للثورة طريقًا ولا فهمت للقومية معنًى عمليًّا، فإنه ولا شك أخفق كل الإخفاق في طبع الشعب على الحياة الديمقراطية الدستورية، ولا ريبة في أنه أخفق فيما كان يخفق فيه غيره مهما أوتي من قوة القلب والعقل، لأن تغيير أفكار الشعوب واستعداداتها دفعة واحدة كجرعة الدواء تُعطى مرة في حين أنها من الواجب أن تُعطى أقساطًا. أما الأقساط الدستورية فقد أخذها الشعب المصري من يد ممرِّضيه العاملين على حفظ نسبة خاصة من الصحة والمرض بقدر حاجتهم فاشيةً في جثمانه، أخذًا في مدى خمسين سنة من الزمان. أما إذا كان الشعب المصري قد بلغ من النَّقَاهة من أمراضه القديمة المزمنة مبلغَه الآن، فمن المرجح تغليبًا أن الثورة العرابية ما كانت لتسير في ذلك الطريق الذي أسلم بها إلى الفشل وبزعمائها إلى منفى سرنديب شُقَّةً وأقصى مزارًا. ولكن مزاج الشعب قد تغير وقوته المعنوية قد تطورت وبدا فيها من مجالي النشاط والقوة ما حمل المستبدين على الرضوخ لرأيه في زعمائه. والأمة إن نسيت زعماءها سنة ١٨٨١ سراعًا وظلت تنساهم ثلاثة عقود ونيِّف من الزمان وهم في آلام النفي وشقاء الغربة، فإنها لم تنسَ زعماءها في أصيل الربع الأول من القرن العشرين لحظة واحدة، ولا فاتها أن تمضي في تضحياتها الكبيرة دفاعًا عن حقها المهضوم وحِماها المستباح.

•••

على أن الزعماء والأبطال ليسوا إلا بشرًا مخلوقين على ما في الطبيعة الإنسانية من نقائص وكمالات، فهل كان السبب في فشل عرابي أن نفسه لم تتَّسع بدرجة كافية لتلك الصفات المدنية التي تمد الثورات عادة بكل ما يهيئ لها أسباب النجاح؟ الحقيقة أن المذكرات التي فرغت من قراءتها أمس لا يمكن أن تُظْهرنا على شيء من نفسية ذلك البطل المنكود الحظ السيئ الطالع. على أن ظروف العالم الذي أحاط به ومشكلات السياسة العامة، ما كانت تفسح لنقائص عرابي مجال الانبعاث في سبيل شهواتها الدنيا، ذلك احتمال قد يكون صحيحًا وقد يكون غير صحيح. غير أن الذي نستطيع أن نقضي فيه بحكم ثابت هو أن نفسية عرابي لا تظهر في ذلك الجزء من مذكراته إلا غامضة مبهمة، لهذا نترك الحكم فيها إلى المستقبل الذي نرجو أن يزودنا ببقية تلك المذكرات عما قريب.

أما طبيعة الثورة ذاتها فإنها لا تخرج عن طبيعة كل ثورة عسكرية أخرى تتحكم فيها القوة بما تشاء أن تتحكم. والخطأ الوحيد الذي وقع فيه عرابي أنه لم يترك للقوة المدنية أية فرصة من الانتفاع بنتائج ثورته العسكرية، وهذا الخطأ بعينه هو الذي وقع فيه كرومويل، وهو بعينه الذي اجتاح زعماء الثورة في فرنسا والاتحاديين في تركيا وغيرهم في ممالك أخرى. فلو أن تدخل عرابي في سلطة الحكومة قد وقف عند مظاهرة عابدين وعند انتزاع الدستور وتقرير حق الأمة، ثم ترك السلطة السياسية والسلطة الإدارية كلاهما تسير بالبلاد في جوٍّ بعيد عن عواصف الثورة العسكرية؛ لما وجدتَ في تاريخه كله من خطأ يأخذه عليه التاريخ. والغالب أن هذه الطريقة التي اتَّبعها في تدخل القوة العسكرية في الإدارة والسياسة المدنية كانت فاتحة لسلسلة أغلاط حوَّطته بظروف لم يستطع الإفلات في نتائجها ومن ضغطها.

خذ لذلك مثلًا تلك المشادة التي وقعت بينه وبين شريف باشا بعد مظاهرة عابدين مباشرة وبعد إعلان الدستور، على تعيين وزير الحربية؛ فقد جاء في مذكراته ص٢٣٨ ما يلي:

وفي يوم ١٠ سبتمبر سنة ١٨٨١ توجهتُ إلى سراي شريف باشا وهنَّأته برياسة الوزارة الجديدة، وطلبت منه أن يُعنى بانتخاب مَنْ يؤازرونه في سرعة تشكيل مجلس النواب ونشر الحرية في البلاد، ورغبت إليه في تعيين محمود سامي باشا ناظرًا للجهادية، ومصطفى فهمي باشا ناظرًا للخارجية، لِمَا أعلمه من ميلهما مع العدل والحرية؛ فأبى وقال: إني لا أقبل أن يكون في وزارتي محمود سامي ولا مصطفى فهمي، لأنهما لم يوفِّيا بالعهد الذي تعاهدنا عليه من قبل، فقد اتفقنا على أنه إذا رفض الخديو الموافقة على تشكيل مجلس النواب استقالت وزارتنا ولا يشترك أحد منا بعد ذلك في الوزارة الجديدة، ولكنهما نكثا بالعهد وقبلا الدخول في وزارة رياض باشا التي قامت بعد وزارتنا والتي سقطت بالأمس، لذلك لا أستطيع أن أشتغل معهما. قلت له: إن لكل وقت حكمًا وإني واثق بحبهما للحرية والعدل والمساواة (لاحظ أن هذه نغمة فرنسوية)، وفضلًا عن ذلك فإن العسكرية لا تطمئن لغير محمود سامي.

فقال: أفلا ترضوْن أن أكون ناظرًا للجهادية، فإني قد تربيت معكم في العسكرية؟ فقلت: لقد اخترناك رئيسًا للوزارة ولا بد من مراعاة ميول رجال العسكرية. فلما أصر على عدم قبولهما في وزارته تركته ورجعت إلى أشغالي من غير أن يتم شيء في أمر الوزارة. وفي يوم ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨١ قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة، فأصر على الرفض، فقلت له: إنْ لم تؤلِّف الوزارة اليوم فسنطلب غيرك، ولا تظن أنه ليس بالبلاد سواك ففيها بحمد الله العلماء والحكماء، ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز الخطير. فاغْرَوْرَقت عيناه بالدموع ولم يُحِر جوابًا، ثم خرجنا من عنده، وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور (وكيل زراعته، الذي نال رتبة باشا في زمن الاحتلال حين كان شريف باشا رئيسًا للنُّظَّار أيضًا)، وقال إن الباشا قَبِل ما عرضته عليه وإنه يريد مقابلتي، فذهبت إليه مع محمود سامي باشا حيث أعلن تشكيل الوزارة.

هذه الروح الدكتاتورية هي التي أنبتت في الثورة ما أنبتت من مساوئ الثورات العسكرية، وهي روح عاصية حتى على الزعماء، فإنها تجتاحهم وتذهب بهم إلى حيث ينتظرهم الفشل المحتوم، فإن أخطر شيء على ثورة عسكرية روح تحكُّمية تذهب بها في جوٍّ من التنازع والخلاف بين زعمائها وبين زعماء السياسة والإدارة، تذهب إلى حيث تُخْضعهم ولا تبقى إلا نيرانها العسكرية المتسعِّرة تأكل بعضها حتى تَخْمُد حيث هي فلا تُبقي من نتائجها المنتظرة على عين ولا أثر.

بعد تعيين شريف باشا وإكراهه على تأليف وزارة يرضى عنها الحزب العسكري، نقع في ص٢٧١ من مذكرات عرابي على هذه الخَطْرَة الغريبة:

وفي أوائل شهر يناير سنة ١٨٨٢ خلوتُ بالمغفور له محمد سامي باشا ناظر الجهادية، فأَطْنَب في الثناء عليَّ لقيامي بنشر راية الحرية في مصر وملحقاتها من بعد مُضيِّ خمسة آلاف سنة على المصريين وهم يَرْسُفُون في قيود الاستبداد والاستعباد، وأَقْسَم أنه مستعد لأن يضحِّي بحياته ويجود بآخر نقطة من دمه في تنفيذ رغبتي ويُجَرِّد حسامه وينادي باسمي خديوًا لمصر إذا رغبت ذلك. فقلت له: مهْ يا محمود باشا، فإني لا أريد إلا تحرير بلادي، ولا أرى سبيلًا لنَوَالِنا ذلك إلا بالمحافظة على الخديو كما صرَّحْت بذلك مرارًا وتكرارًا، وليس بي طمع أصلًا في الاستئثار بالمنافع الشخصية، ولا أريد انتقال الأريكة الخديوية إلى عائلة أخرى لِما في ذلك من الضرر، مع علمي بأنك تنتسب إلى الملك الأشرف «برسباي». فقال: أنا لا أقول لك إلا حقًّا، وأنت أحق بهذا الحديث مني ومن غيري. فشكرته على ثقته بي، وتم الحديث.

وما من شك في أن هذه خَطْرَة غريبة يقف أمامها المؤرخ حائرًا، فإن عرابي يقول بأن محمود سامي قد ذكر أنه على استعداد في أن «ينفذ رغبتي»، وأنه رفض أن يكون «خديو» بمسعى سامي نفسه. وأزيد على هذا أن هذه العبارة لم تكتب إلا بعد موت محمود سامي بدليل أنه يقول المغفور له محمود سامي باشا. وفضلًا عن هذا فإن محمود سامي لم يطَّلع على هذا الحديث ليرى فيه رأيه: فهل كان ذلك الحديث حقيقةً على ما روى عرابي باشا؟ أم أن له حقيقة أخرى طواها عنا الزمان؟ أم كان الزعيمان يخدعان بعضهما البعض فيَعْرض كل منهما أريكة الملك على صاحبه ليفوز بثقته وتعضيده؟ على أن في أسلوب هذه القطعة ضعفًا يدل دلالة تكاد تكون واضحة على أن ناحية الترجيح في قيامها تغلب على ناحية الشك.

على أنه مهما يكن من أمر فإن عرابي باشا لم ينزل عن نزعات أمثاله من زعماء الثورات العسكرية في أنحاء الدنيا برمَّتها، فهو من طينتهم ومعدنهم. على أنه بالرغم من هذا بطل، ولكنه سيئ الحظ منكود الطالع.

برقين – ١٩٢٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤