فكرة الأصلح

من ١٨٦٠ إلى المستقبل

٣٦

لا يدرك معظم الناس حاليًّا أن الانتخاب الطبيعي، أعظم أفكار داروين وأكثرها إزعاجًا، ظل موضع استهجان البيولوجيين التطوريين خمسين أو ستين سنة. يتخيل معظم الناس أن الثورة الداروينية، كما تسمى، كانت حملة سريعة نسبيًّا دار القتال فيها وتم الفوز بها في أواخر القرن التاسع عشر. لم يكن الأمر هكذا. لقد ظلت المعركة دائرة عقودًا، يتعاقب فيها الانتصار والهزيمة.

جرى الصراع حول سؤالين رئيسيين، على نحو شبه مستقل، هما: (١) هل وقع التطور؟ و(٢) هل الانتخاب الطبيعي هو الآلية الأساسية المسببة له؟ على الرغم من صيحات الرعب العنيفة التي أطلقها الزعماء الدينيون والعلماء الأتقياء، إلا أن انحدار سلالة كل الأنواع (حتى البشر) من أسلاف مشتركة أصبح أمرًا مقبولًا على نطاق واسع، وبعد نشر «أصل الأنواع» بوقت قليل. لكن على الرغم من حجج داروين الدقيقة في النصف الأول من الكتاب، فإن الآلية المفترضة من جانب داروين لم تلقَ القبول ذاته. لماذا؟ لأن فكرة الانتخاب الطبيعي بدت إلى حد عميق مادية وكئيبة — بمعنى أنها توقع في النفس الكآبة وتثبط الهمة حرفيًّا ومجازيًّا — بينما بدت فكرة التطور مجرد إهانة (عندما تُطبق على النوع البشري) ومستغربة. التطور يناقض التاريخ الطبيعي اللاهوتي كما طرحه ويليام بالي في عام ١٨٠٢، نعم، لكن التاريخ الطبيعي اللاهوتي عند بالي كان رؤية ساذجة سابقة على العلم الحديث عاشت بما يتجاوز زمنها (فيما عدا في أمريكا، حيث عادت في أواخر القرن العشرين تحت مسمى «التصميم الذكي») وسرعان ما حل مكانها فكرة أن الأنواع بدلًا من أن يخلقها الرب على نحو فردي، تطورت بعضها من بعض بطريقة ما. وصلت ضربة الانتخاب الطبيعي إلى مدى أعمق؛ إذ قوضت فكرة الهدف الرباني من أساسها. من الممكن التوفيق بين التطور والاعتقاد بأن خالقًا إلهيًّا أرسى القوانين التي تحكم الكون، وأعطى قوة دافعة للحياة، وأتاح للأنواع أن تتغير عبر الزمان، ثم — في لحظة سحرية ما — نفث بُعدًا روحيًّا فريدًا في نوع من الرئيسيات عرف لاحقًا بالإنسان العاقل (حسب تسمية هذا النوع لنفسه). الانتخاب الطبيعي، على النقيض، بدا وكأنه يعوق هذا الاعتقاد. وهو يفعل هذا حقًّا إذا ما أُخذ مأخذًا صارمًا وجديًّا؛ بالطريقة التي أخذه بها تشارلز داروين.

النقطة الأساسية في هذا الأمر لم تكن الانتخاب الطبيعي نفسه، بل المتغايرات التي يعمل عليها. ما الذي يسبب هذه الاختلافات الصغيرة بين الوالدين والذرية، وبين أحد الأفراد المتنافسين والآخر، التي تعمل كمادة خام للتغير التكيفي؟ ما القوانين التي تحكم مجالها، ومعدل وقوعها، وخصائصها؟ هل هي محض عشوائية، أم أنها بطريقة ما مقيدة بحدود الإمكانية الطبيعية؟ أم لعلها موجهة تجاه أهداف معينة بواسطة قوة عليا؟ إذا كانت التغايرات عشوائية، فإن النزعة الغرضية (التي يسميها فلاسفة العلم بالغائية) تختفي من العالم الحي. وهكذا تختفي من الوجود، صفر، لا شيء.

لنتمهل لحظة. هذه خطوة كبيرة نحو المجهول. ألا يوجد هدف أسمى لمهرجان الحياة والموت؟ أما من هدف أسمى ﻟ «لغز الألغاز» كما يسميه هيرشل؛ الظهور الأول للأنواع الجديدة؟ أما من هدف أسمى وراء التكيف والتنوع؛ تلك العمليات التي تفسح فيها البساطة المجال للتعقيد بداية من أول مادة حية وصولًا للبشر؟ وجد جمهور داروين في القرن التاسع عشر أنه من الصعب تقبل هذه التبعات. ولا يزال يصعب تقبلها إلى الآن. إلا أن هذا الفقدان المعمم للغائية أمر تجريدي وليس شخصيًّا. ولا يعد مصدرًا للقلق بأكثر من الانتخاب الطبيعي. ثمة نتيجة طبيعية أخرى تترتب على النظرية، وهي تطرح إشكالية أكثر حدة: أن نفقد نحن البشر وضعنا الخاص كمختارين من قبل الرب.

هل هناك غاية مجيدة أنتج التطور البشر من أجلها؟ هل للبشر وضع متفرد بأي معنى من المعاني؟ هل توقعت السماء أننا آتون ومن ثم شاءت أن نوجد؟ أم أننا فقط أفضل الرئيسيات تكيفًا وتزودًا بالمخ، والأنجح من بين كل ما عاش منها؟ تحت هذه الأسئلة يكمن سؤال أعمق عن التغايرات التي شكل الانتخاب الطبيعي منها الإنسان العاقل: ما مصدرها؟

اقترح داروين في كتاب «أصل الأنواع» أن التغايرات تحدث استجابة ﻟ «ظروف الحياة»؛ بمعنى الضغوط الخارجية مثل قسوة المناخ أو نقص الطعام أو اضطراب بالموطن البيئي، مما يؤدي بطريقة ما إلى عدم استقرار نظام التكاثر. كان هذا تخمينًا حذرًا. أقر داروين في موضع آخر بالكتاب بأن «جهلنا بقوانين التغاير جهل عميق. فنحن لا نستطيع، ولا في حالة واحدة من كل مائة حالة، أن نزعم معرفة السبب وراء اختلاف هذا الجزء أو ذاك عن الجزء نفسه في الوالدين». لاحظ الباحثون هذه الثغرة: فنظرية داروين تعتمد على التغايرات، إلا أنه لا يوجد تفسير جيد لأصلها في كتاب «أصل الأنواع». إنه لا يعرف وحسب من أين أتت، ولا كيف أتت. لم يعرف أحد ذلك وقتذاك.

بسبب حيرة داروين بشأن مصدر هذه التغايرات، فإنه اقترح بقوة أن التغايرات، بوجه عام، بلا اتجاه. معنى ذلك أنها تنطلق هنا وهناك كيفما اتفق. إنها طلقات مشتتة وليست مسددة بإحكام. هذه نقطة حاسمة للغاية، ولغته في التعامل معها مراوغة للغاية، حتى إنها تستحق لحظة من الاهتمام الخاص. في عام ١٨٤٤، في ص١٨٩ من المسودة غير المنشورة لنظريته، نجد أن داروين كتب أن التغايرات تحدث «دون طريقة محددة». بل إنه وصفها في وقت سابق على ذلك في أحد التعليقات الموجزة في دفتر ملاحظاته بأنها «حوادث». كتب داروين في «أصل الأنواع» عن التغايرات التي تقع «بالصدفة»، ثم ذكر في موضع آخر من الكتاب أن القول إنها «ترجع إلى الصدفة» تعبير غير صحيح، وأنه طريقة ملائمة للكلام «تفيد الإقرار الصريح بجهلنا بسبب» كل تغاير منها. كان يقصد أن هذا تعبير غير صحيح، فالتغايرات لها بالفعل «أسباب» طبيعية، لكن ليس لها «أهداف» مقدرة سلفًا. مثال على ذلك، هو يعتقد أن الجفاف قد يسبب زيادة معدل التغاير في أحد الأنواع، دون أن يستثير بالضرورة أي تغايرات معينة تحسّن من تحمل الكائن الحي للجفاف. أو قد يؤدي الجفاف إلى أحد التغايرات لتحمل الجفاف مضافًا إليه خمسة تغايرات أخرى قد تكون مفيدة أو ضارة. إذا كان الأمر كذلك، فإن الانتخاب الطبيعي ينحو إلى الإبقاء على هذا التغاير والإكثار منه. الانتخاب موجه، لكن التغاير، الذي يقدم المادة الخام لعملية الانتخاب، ليس موجهًا.

لكن إذا كانت التغايرات غير موجهة، وإذا كان الانتخاب الطبيعي يقيس فقط صلاحية كل كائن حي للبقاء والتكاثر، فهل يمكن إذن الإيمان بأن الرب خلق البشر على صورته وعلى مثاله، بحيث يضفي علينا بعدًا روحيًّا لا يشاركنا فيه أفضل الأوركيد أو البرنقيل تكيفًا؟ الجواب هو لا على الأرجح. ثمة تناقض حقيقي هنا لا يمكن التخلص منه بسهولة. لكن لنكن واضحين: فالقضية ليست قضية التطور مقابل الرب. فليس «وجود» الرب — أي رب؛ مجسد أو مجرد، باطن أو بعيد — هو ما تتحداه نظرية داروين التطورية. بل ما تتحداه النظرية هو الصفة الإلهية المفترض وجودها في الإنسان؛ الإيمان بأننا «نحن» خلافًا لكل أشكال الحياة الأخرى نسمو روحانيًّا ونحظى بمحاباة ربانية ونحوز جوهرًا غير مادي مخلد، وهو ما يمكننا من أن يكون لنا توقعات خاصة بالأبدية، ووضع خاص في توقعات الرب، وحقوق ومسئوليات خاصة فوق كوكب الأرض. هذه هي نقطة صدام داروين مع المسيحية واليهودية والإسلام، وربما مع معظم الديانات الأخرى فوق كوكبنا.

أدرك العلماء الفيكتوريون هذا التحدي بوضوح وكرهوا بسببه كتاب «أصل الأنواع»، ومنهم آدم سيدجويك؛ أستاذ كامبردج العجوز الفظ الذي علم داروين الجيولوجيا الميدانية قبل رحلة السفينة «بيجل». وصف سيدجويك الكتاب بأنه «طَبَقٌ من المادية الفاسدة طُبخ ببراعة وقدِّم للأكل». سخر ريتشارد أوين، الذي درس تشريح الغوريلا في معمله، من داروين لاقتراحه أن «الإنسان قد يكون قردًا أعلى متحولًا». أما سانت جورج جاكسون ميفارت، المتحول إلى الكاثوليكية والطالب السابق عند هكسلي، فقد أصبح تطوريًّا متحمسًا، لكنه رفض الانتخاب الطبيعي وجادل بعنف ضده، وافترض بدلًا منه وجود «قوة داخلية متأصلة» كالسبب الدافع للتطور. ويضيف ميفارت أنه أيًّا كان سبب التحولات البدنية من أحد الأنواع للآخر، فإن هذا لا يمكن أن يُفسر أبدًا عقل وروح الإنسان الموجودين في عالم لا يمكن أن تمسه النظرية التطورية. لم يكن هؤلاء النقاد مخدوعين أو مصابين بجنون الشك حيال ما يعرض عليهم. ربما فشلوا في تشرب تفاصيل نظرية داروين وسخروا منها في شكلها المطبوع، لكنهم لم يخطئوا فهم تبعاتها. أدى إنكار وضع الإنسانية الخاص، الذي تتضمنه فكرة الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على تغايرات غير موجهة، إلى انزعاج حاد لكثيرين من معاصري داروين؛ ليس فقط الزعماء الدينيين، والأتباع الحَرْفيين للكتب المقدسة، بل أيضًا بعض زملائه العلمانيين؛ كعالم النبات أسا جراي في هارفارد، وعالم الحشرات توماس ولاستون، وصديق داروين القديم ومستشاره تشارلز ليل. كان لانزعاجهم أساس قوي. وهذه أيضًا هي النقطة التي عانت بشأنها إيما داروين في هدوء طيلة خمس وأربعين سنة من الخلاف الفلسفي مع زوجها الذي تهيم به ويهيم بها.

لم يحدث قط أن تعارضت البصيرة العلمية والعقيدة الدينية على هذا النحو المباشر. كانت القضية أكبر من التساؤل عما إذا كان البشر والقرود يشتركون في سلف مشترك. إنها قضية ما إذا كان البشر والقرود، وجراد البحر والهندباء البرية وكل الكائنات الحية الأخرى، تتشارك في غياب التحديد الإلهي الخاص لوظيفتها. بلغة أوضح: هل توجد روح أم لا توجد؟ هل توجد حياة آخرة أم لا توجد؟ هل البشر مخلدون روحيًّا بطريقة لا يكون الدجاج والبقر عليها، أم أنهم شكل آخر من اللحم الحي الزائل فحسب؟

إننا ننحو اليوم إلى التغاضي عن هذا التحدي الرهيب الذي تتضمنه فكرة داروين. فالتطور الإيماني يُفترض أنه جعل النظرية مأمونة للمنتمين لكل أنواع الإيمان. إلا أنه ليس من الممكن التغاضي عن المادية العميقة لرؤية داروين عند النظر للأمر في الوقت الذي كان الانتخاب الطبيعي فيه بدعة صادمة. كان الأمر مثيرًا للحساسيات ومعيقًا للفهم. ومعظم الناس حاليًّا لا يدركون أنه في وقت موت داروين في عام ١٨٨٢، ولمدة جيلين بعدها، كانت آليته المفسرة تُقابل بالشك الشديد والمقاومة، ثم الرفض إجمالًا، بينما كان التطوريون يتلمسون الطريق لبدائل أقل تنفيرًا.

٣٧

أتى أحد أوائل الانتقادات الجادة لنظرية داروين من ويليام طومسون؛ الرياضي والفيزيائي الاسكتلندي الذي عرف لاحقًا باللورد كلفين. نشر طومسون في عام ١٨٦٦ ورقة بحثية قصيرة مبنية على حساباته للزمن المنقضي منذ تشكل كوكب الأرض ووصوله للحالة الصلبة. كان عنوان الورقة هو «تفنيد موجز ﻟ «مبدأ الاتساق» في الجيولوجيا»، وكانت الورقة فقرة واحدة من الاستهجان، بما يتوافق وكلمة «موجز»، يؤكد فيها طومسون على أن تاريخ كوكب الأرض كله أقصر مما يفترضه بعض الأشخاص. كان هدف طومسون الرئيسي هو تشارلز ليل، ورأيه بأن الاتساق في العمليات الجيولوجية يستلزم وجود فعل ثابت عبر فترات هائلة من الزمان، أما مفهوم داروين عن التطور البطيء المطرد بواسطة الانتخاب الطبيعي فكان هو الهدف الثاني. افترض طومسون أن كوكبنا كان أصلًا كتلة من مادة مصهورة جاءت من الشمس، وبردت بمعدل يمكن تحديده بينما تشع بالحرارة في البرد القارس للفضاء. وضعًا في الاعتبار أن القلب الساخن من الصهارة ما زال باقيًا، فإن طومسون حسب أن عمر الأرض لا يحتمل أن يزيد عن مائة مليون سنة. يحاج طومسون بأن هذا لا يترك زمنًا كافيًا لأن تنجز التدريجية المتلكئة عند ليل الكثير من التغيير الجيولوجي. ولما كان تفكير داروين مؤسسًا على جيولوجيا ليل، فإنه أحس بقوة هذا الهجوم هو الآخر. ففترة المائة مليون سنة أقل كثيرًا من قدر الزمن «الضخم ضخامة غير معقولة» الذي افترضه ليشكل الانتخاب الطبيعي الحياة كلها كما نعرفها.

زاد الهجوم حدة بعد ذلك بسنوات عديدة، عندما أعاد طومسون حساب أعداده ووضع في الاعتبار عوامل أخرى، وبدأ يراجع تقديره لعمر الأرض ويقلل منه. وقال سنجعله ثلاثين مليون سنة، أو ربما ١٠ ملايين لا غير. هل كان من الممكن التصديق بأن قشرة الأرض الصلبة صغيرة السن مثلما يطرح طومسون؟ لا يصلح ذلك إذا كنت تأمل في أن تفسر مهرجان الحياة بأسره — بداية من حقبة الركود في عصر ما قبل الكمبري، ومرورًا بالانفجار الكمبري للأشكال الجديدة، ثم وصولًا إلى ثلاثيات الفصوص السيلورية والأمونيات الديفونية، ونشأة وانقراض الديناصورات، وعصر الثدييات، ثم المسار اللاحق المثير للاهتمام لسلالة معينة من القردة العليا؛ مسار نتج عن تغايرات صغيرة غير موجهة شَكّلها الانتخاب الطبيعي. والعكس بالعكس؛ فإذا وافقت على هذا التوقيت الزمني لطومسون، فسيكون عليك أن ترفض سيناريو داروين. في عام ١٨٦٨، بينما كان طومسون يشدد على نقده لداروين، أخبر جمهور إحدى المحاضرات أن تقييد الوقت، وإن كان لا يفند التحول في حد ذاته، لكنه يبدو «كافيًا لدحض الاعتقاد بأن التحول قد حدث عن طريق «انحدار السلالة مع تعديلات بواسطة الانتخاب الطبيعي».»

أبدى داروين تذمره لألفريد والاس بشأن «شبح طومسون الكريه»، وفي مراجعته للطبعة الخامسة لكتاب «أصل الأنواع» اختصر عبارة الزمن «الضخم ضخامة غير معقولة» لتصبح «الضخم» فقط، في حركة مترددة للوصول إلى حل وسط. أدخل داروين أيضًا جملًا عديدة تقر بصعوبة قياس عمر الأرض، وسلم قائلًا: «نحن لا نمتلك الوسائل لتحديد طول الفترة الزمنية التي يستغرقها تعديل أحد الأنواع.» هكذا وُضعت ثقة داروين على المحك، لكنها لم تنكسر. فما زال قادرًا على التعديل من وضعه.

أتى تعليق سلبي آخر من فليمنج جنكن، وهو أستاذ للهندسة أصبح لاحقًا شريك عمل لطومسون. كتب جنكن عرضًا طويلًا لكتاب «أصل الأنواع» أوردته في عام ١٨٦٧ مجلة «ذا نورث بريتيش ريفيو» وانتقد داروين لما افترضه من أخطاء عديدة لديه في المنطق وإصدار الأحكام، وأكثرها لفتًا للنظر ما يتعلق بالوراثة. كان افتراض جنكن، الشائع في زمنه، هو أن امتزاج خطوط الدم في التكاثر الجنسي ينتج مزيجًا متناسبًا من الصفات. فإذا عاشر رجل أبيض امرأة سوداء، فسيكون الأطفال خلاسيين بلون أسمر فاتح. وإذا تناسل ذكر إوز طويل العنق مع إوزة قصيرة العنق، فإن أفراخ الإوز ستكون لها رقبة متوسطة الطول. وإذا هُجن نبات بزهر أبيض مع مغاير بزهر أحمر، فستزهر السلالة بلون وردي. هل هذا حقيقي؟ ليس بالضرورة. حاليًّا يعرف هذا بأنه «التوارث بالمزج»، وهو تبسيط زائف لما يحدث فعلًا. إلا أن التوارث بالمزج كان المقدمة المنطقية التي تبدو معقولة والتي حاج بها جنكن، ولم يكن لدى داروين نظرية أفضل عن الوراثة ليجيب بها عليه.

حاول جنكن أن يبين أن هذا المزج يقتل نظرية داروين. من المسلم به أن التغايرات الصغيرة المفيدة ربما تزيد من النجاح التكاثري لبعض الأفراد. إلا أن جنكن يعتقد أنه في عملية التكاثر البيني لن تمرر هذه التغايرات وهي سليمة؛ إذ ستُخفف إلى النصف مع كل جيل جديد (بافتراض أن واحدًا فقط من الوالدين يحمل الصفة الأصلية)، ومن ثم فإنها في النهاية ستذوي بسبب الامتزاج إلى لا شيء. أسرَّ داروين لهوكر، قرابة الوقت الذي أنهى فيه عمله على الطبعة الخامسة قائلًا: «لقد سبب لي جنكن إزعاجًا كبيرًا.» كان داروين نفسه قد توقع مشكلة التوارث بالمزج في عام ١٨٣٨، في دفتر ملاحظاته «ج» عن التحول، عندما أخذ يتفكر على نحو مبهم في «نزعة الارتداد إلى الأشكال الوالدية». تعامل داروين مع اعتراض جنكن بأحسن ما يستطيع، وذلك بأن أكّد على التمييز بين التغايرات المفردة التي نادرًا ما تظهر في إحدى العشائر أو المجموعات، والتغايرات التي تظهر في أفراد عديدين في الوقت نفسه. النوع الأخير يتيح إمكانية معقولة لأن يتناسل فردان متغايران أحدهما مع الآخر، وبهذا لا يكون من السهل أن تذوي الصفة بالامتزاج.

كان هذا حلًّا وقائيًّا، ولم يكن مقنعًا جدًّا. كانت هناك إجابة أفضل كثيرًا لنقد جنكن، لكنها لم تكن متاحة إلا لاحقًا، مع إعادة اكتشاف أبحاث جريجور مندل.

أقسى انتقاد للانتخاب الطبيعي كان ما طرحه ألفريد والاس، من بين كل الناس، بعد مرور أكثر من عقد على النشر المشترك لهما. وقتذاك كان والاس قد مر عليه سبع سنوات في الوطن بعد عودته من الشرق، وألف كتابًا رائعًا عن رحلة سفره وعن التاريخ الطبيعي عنوانه «أرخبيل الملايو» (نُشر في عام ١٨٦٩). كان أيضًا قد جمد صداقته مع داروين. لم يصبح والاس أبدًا أحد أصدقاء داروين الحميمين، مثل هوكر أو فوكس، بل كان زميلًا من نوع خاص جدًّا: فهو المشارك في اكتشاف النظرية المشهورة والدفاع عنها. وفيما عدا داروين نفسه، لم يكن هناك من يفهم الانتخاب الطبيعي بأفضل من والاس ولا من يطبقه بقوة أكثر منه. بل في الحقيقة كان حماسه المفرط يفوق أحيانًا حماس داروين نفسه. رأى والاس الانتخاب الطبيعي وهو يُحدِث مفعوله في حالات معينة — كما في الريش المبهرج لذكور الطواويس — في حين كان داروين يفضل آلية مسببة مختلفة. (البديل عند داروين هو «الانتخاب الجنسي»، الفكرة القائلة إن التفضيلات الجامحة للجنس الآخر — لا ضرورات البقاء — هي التي تحفز مثل هذه التعديلات المعقدة الممنوحة بلا مقابل.) على الرغم من التزام والاس القوي فكريًّا بالنظرية، فمن الواضح أنه لم يشعر بأي استعجال بشأن تأكيد دعواه بالكتابة عن هذا الموضوع. فلم يذكر والاس في كتابه «أرخبيل الملايو»، شيئًا عن الانتخاب الطبيعي تقريبًا، ثم ذكره بعدها في تواضع يقارب الاستحياء بوصفه فكرة «صاغها السيد داروين بإحكام في كتابه الشهير أصل الأنواع». بعدها بسنة، أعاد والاس طبع ورقته البحثية التي ألقيت في الجمعية اللينانية، وكذلك أيضًا ورقة «القانون» التي وضعها عام ١٨٥٥، وأوراق عديدة غيرها، وذلك في كتاب أسماه «إسهامات في نظرية الانتخاب الطبيعي»، وهو عنوان يبدو أنه يعكس الطريقة التي ينظر بها إلى نفسه: كمساهم في الكشف النظري الناجح لداروين. انتظر والاس حتى عام ١٨٨٩ لينتج كتابًا كاملًا عن الموضوع؛ ذلك الكتاب الذي عنونه على نحو فيه إنكار للذات «الداروينية: عرض لنظرية الانتخاب الطبيعي مع بعض تطبيقاتها». كان والاس صاحب روح مستقلة، وباستثناء مواقف قليلة ظل تابعًا مخلصًا لداروين ولفكرة داروين. أكبر استثناء ملحوظ جاء في عام ١٨٦٩، عندما خالف والاس داروين على نحو غير متوقع حول نقطة حاسمة، مؤكدًا على أن الانتخاب الطبيعي لا يمكن أن يفسر المخ البشري.

ربما عكست هذه الردة لوالاس تغيرات أخرى في حياته واهتماماته منذ عودته إلى إنجلترا. والاس دائمًا انتقائي، ومندفع في حماساته، وقد صار مهتمًّا بمذهب الأرواح وبدأ يشهد جلسات لاستحضار الأرواح كمؤمن شديد بها. أثناء إحدى الجلسات المرعبة التي أجريت عبر وسيط، سمع شقيقه الميت هربرت يحييه بالطَّرقات من العالم الآخر. وقتها كان مذهب الأرواح رائجًا، بفضل قدرته على الجمع بين الغيبيات المبتذلة والحنين للأعزاء الراحلين وحفلات الترفيه في قاعات الاستقبال في عصر ما قبل التلفاز. رأى بعض العلماء أنه بدعة غير ضارة، أو أنه محض هراء لإرضاء جمهور، لكن في نظر ألفريد والاس كان هذا أفقًا جديدًا في الأنثروبولوجيا. وعلى الرغم من أن والاس لم يكن متدينًا بأي معنى تقليدي، فإنه استنتج أن عالمنا فيه ما هو أكثر من الأسباب والنتائج المادية. لم يصطدم إيمانه الجديد على نحو صريح بآرائه الأقدم حتى أبريل من عام ١٨٦٩، عندما حملت مجلة «ذا كوارترلي ريفيو» مقالًا له، يركز معظمه ثانية على جيولوجيا ليل، وفيه استطرد والاس في موضوع الانتخاب الطبيعي، فكتب أنه لا يمكن لهذه الآلية أن تنتج المخ البشري، ناهيك عن «الطبيعة الأخلاقية والثقافية الأرقى للإنسان». أشار والاس إلى أن العالم الحي محكوم بالطبع بالقوانين، لكنه هو نفسه يميل إلى الاعتقاد بأن «ذكاءً متحكمًا راقب عمل هذه القوانين، ومن ثم وجه التغايرات، ولذا هو الذي يحدد تراكمها» بحيث تثمر أعلى قدرات الإنسان وأكثرها روعة.

كان داروين يعرف أن المقال آتٍ، وقد شجع والاس قبلها بشهر في عصبية قائلًا: «إنني أتطلع بفضول شديد لقراءة المجلة. أرجو ألا تكون قد وأدتَ طفلك وطفلي.» في النهاية كان المقال سيئًا بمثل ما كان يخشاه: قتلٌ للفكرة في مهدها. فالانتخاب الطبيعي كما تصوره داروين في الأصل (ووالاس أيضًا؟) سيصير بلا معنى إذا كان هناك «ذكاء متحكم» يحكم عشوائية التغايرات، موجهًا إياها نحو أهداف مقدرة مسبقًا. كتب داروين على هامش نسخته من المجلة: «كلا!»

٣٨

هكذا دفع عدم الارتياح للانتخاب الطبيعي، المتعارض مع التقبل العام للتطور، البيولوجيين في أواخر القرن التاسع عشر تجاه آليات بديلة للتفسير. عاد بعض هؤلاء البيولوجيين إلى الماضي، في فرنسا، وأعادوا إحياء اللاماركية. اعتنق البعض نظريات تطورية أخرى، تتباين في تفاصيلها، لكن فيها من العناصر المشتركة ما يكفي لجمعها تحت عنوانين «التطور الموجه» و«الوثوبية». النظريات الثلاث كلها — التطور الموجه، والوثوبية، واللاماركية المعاد إحياؤها — كسبت أرضية كبيرة في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، وهي فترة هبوط لشهرة داروين. رسم بيتر جيه بولر، مؤرخ التطور، خريطة لهذه التيارات في العديد من كتبه، بما فيها كتاب عنوانه «كسوف الداروينية». يصحح بحث بولر الفكرة المغلوطة القائلة إن تشارلز داروين بعد نشر «أصل الأنواع» ارتقى سلم المجد وسط احتفاء الجميع. كلا، لقد جلس منتظرًا فترة من الوقت.

اللاماركيون الجدد لم يرفضوا كليًّا فكرة داروين الكبيرة، لكنهم اعتبروها صغيرة. لا بأس، إنهم يوافقون على أن الانتخاب الطبيعي يلعب دورًا هامشيًّا في التكيفات الدقيقة، لكنه لا يستطيع أن يفسر أصل التغايرات أو النزعات والأنماط الجذرية للتغير التطوري. إنهم انتقائيون في تعريفهم للاماركية؛ إذ تجاهلوا إلى حد بعيد أفكار لامارك نفسه المشوشة عن «السوائل الفَطنة» و«الوجدان الداخلي»، وفضلوا مصطلحين آخرين من المحتويات الوافرة لنظريته: التقدم المتوازي لخطوط السلالة المستقلة من البساطة إلى التعقيد (أي نموذج أعشاب البراري في مقابل نموذج الشجرة المتفرعة لوصف التنوع البيولوجي) وتوارث الخصائص المكتسبة. وهم يؤكدون على دور الظروف البيئية في إظهار التغايرات التي تحتاج إلى توجيه (وليس غير الموجهة كما عند داروين) والقابلة — كما يعتقدون — للتوارث. هم أيضًا يميلون إلى الرأي القائل إن الاتجاهات التطورية التي تعمل على المدى الطويل تكون خطّية، تسببها ظروف بيئية ويسوقها التعود، ثم يتم توارث ما ينتجه التعود. فقرون الحيوانات تزداد حجمًا، من نوع لآخر، عبر ملايين السنين؛ لأن الحيوانات تستخدمها عندما تتناطح بالرءوس. يعطي سجل الحفريات أمثلة أخرى لهذه النزعة الخطية، التي يفترض أنها تسمو عن احتياجات التكيف المباشرة لكل كائن مفرد وتعبر عن نزعات متأصلة خلال تاريخ السلالة كله. قد تفسر التأثيرات المباشرة من البيئة ما يحدث من تغيرات وتكيفات محدودة المدى، في حين أن التعود المستمر أو قوة مبهمة أخرى تدفع النزعات التي تعمل على المدى الطويل.

إلا أنه لم يحدث أي توافق كامل في الرأي بين اللاماركيين الجدد. ينحو علماء الحفريات إلى رؤية النزعات الخطية الطويلة، بينما رأى علماء التاريخ الطبيعي الميدانيون ومتخصصو التجريب المعملي، أو تصوروا أنهم يرون، توارث الخصائص المكتسبة. كانت هذه المدرسة الفكرية قوية بوجه خاص في أمريكا، حيث سماها عالم تاريخ طبيعي، اسمه ألفيوس إس باكارد الابن، باللاماركية الجديدة.

كان باكارد، كغيره من اللاماركيين الجدد المؤثرين في جيله، قد درس على يد لويس أجاسيز، عالم التاريخ الطبيعي السويسري المولد الذي كان يشغل بجلال منصب الأستاذ في متحف هارفارد لعلم الحيوان المقارن. أجاسيز رجل متألق الذكاء، لكنه فظ عنيد، وهو يؤمن بمذهب الجوهرية ويمقت التطورية بشدة — الداروينية تحديدًا — ويتشبث برؤية طبيعة جيدة التنظيم جمعتها عمليات خلق خاصة. علم الحيوان عند أجاسيز علم متناغم مع التاريخ الطبيعي اللاهوتي عند ويليام بالي. كان أنشط الطلبة عند أجاسيز، مثل باكارد، قد عبروا بالفعل الحد الفاصل وتقبلوا التطور من حيث المبدأ، لكن حتى طلبته هؤلاء كانوا غالبًا يحتفظون بما يكنه ذلك الرجل العجوز من كره لآلية داروين الجامدة الباردة. كان باكارد قد بدأ في رؤية ما اعتقد أنه ظواهر لاماركية أثناء دراسته لحيوان سرطان حدوة الحصان. وتحول بعدها إلى الحشرات العمياء وغيرها من الحيوانات التي تقطن في أماكن مظلمة في كهف ماموث، في كنتاكي، استنتج أن فقدانها للرؤية بالعين (وفي بعض الأحيان فقدانها للعين كليًّا) نتج عن عدم الاستخدام، وما تبعه من انكماش بأعضاء الرؤية، متبوعًا بتوارث للأشكال المنكمشة. على الرغم من أن داروين نفسه قد أقر بوجود دور ثانوي للاستخدام وعدم الاستخدام، فإن الأدلة من كهف ماموث استرعت انتباه باكارد باعتبارها «لاماركية في شكل حديث». بدا لباكارد أن هذا التفسير «أقرب إلى الحقيقة من الداروينية الأصلية أو الانتخاب الطبيعي».

هناك عالم حفريات أمريكي آخر اسمه ألفيوس أيضًا (لا يمكنك التمييز بينهما دون بطاقة التسجيل)، وتعلم أيضًا في هارفارد على يد لويس أجاسيز، واسمه الكامل ألفيوس هيات. استنتج هيات من دراسته للأمونيات وغيرها من اللافقريات المتحجرة، أن التطور عملية تنامٍ تراكمية؛ عملية تبدأ بإضافة خصائص بالغة جديدة إلى سلسلة تتابعات أقدم من التنامي. يعتقد هيات أن إضافة هذه الخصائص تضغط بطريقة ما السمات الأكثر بدائية إلى أطوار جنينية أكثر تبكيرًا. أصبحت هذه الفكرة تعرف باسم «قانون التسارع»، يقترح هذا القانون أن النمو الأسرع أثناء الأطوار المبكرة يسمح بقدر إضافي من التعقيد في مرحلة البلوغ. ما مصدر هذه الصفات المميزة الأحدث والأعقد؟ وافق هيات، بعد بعض التردد، على الرأي اللاماركي بأنها تلاؤمات تكيفية مع الضغوط البيئية، تُكتسب بحكم التعود ثم تورث.

توصل إدوارد درينكر كوب، وهو عالم حفريات أمريكي كان يجري أبحاثًا على الحفريات الفقارية، إلى قانون التسارع على نحو مستقل. ومثل هيات، رأى النزعات الخطية على المدى الطويل في سلاسل الحفريات — تعديلات جديدة تضاف لأشكال أقدم بطريقة ثابتة توجيهية — وأصبح — مثل هيات ثانية — مقتنعًا بأن توارث الخصائص المميزة التي تُكتسب كاستجابة للظروف البيئية هو أفضل تفسير لذلك. نشر كوب في عام ١٨٧٧ كتابًا بعنوان «أصل الأصلح»، يجمع فيه بين عنوان كتاب داروين نفسه وعبارة هربرت سبنسر المفعمة بالحيوية («البقاء للأصلح») وذلك حتى ينسب إلى داروين خطأ عدم التعمق في الموضوع بالقدر الكافي. كان كوب، مثل ألفيوس الأول — ألفيوس باكارد — يسلم بأن الانتخاب الطبيعي ربما يلعب دورًا ما في غربلة الأفراد الأدنى شأنًا، لكنه تصور أن له أهمية ثانوية وحسب؛ لأنه لا يفسر مصدر التغاير. واعتقد كوب أن اللاماركية تفسر ذلك.

في إنجلترا اعتنق هربرت سبنسر نفسه إحدى نظريات التطور (سماها «فرضية التنامي») وذلك في وقت مبكر، عام ١٨٥٢، أي قبل ظهور كتاب داروين بسبع سنوات. لم يكن سبنسر متخصصًا في البيولوجيا؛ كان يعمل صحفيًّا، وحقق الشهرة بوصفه فيلسوفًا ذا كتابات رائجة شعبيًّا، وقد التقط أفكاره التطورية من قراءة شرح ليل الرافض للاماركية (الذي دفع سبنسر في الاتجاه العكسي؛ أي نحو اللاماركية) والتقط الأفكار التطورية من كتاب «الآثار الباقية» الغامض، أعلى الكتب مبيعًا وقتها. كتابات سبنسر الخاصة عن التطور فيها تكلف وضبابية، وتخلو من التفاصيل التجريبية التي يطرحها داروين بوفرة. إلا أن الموضوع أضفى على أعمال سبنسر عن الفلسفة السياسية وعلم الاجتماع صبغة حماسية، خاصة عندما ربط بين اعتناقه لمبدأ عدم التدخل الفردي وبين أفكار التقدم التطوري، وهكذا بيعت أعماله جيدًا. بعض الباحثين ينسبون الفضل (أو اللوم) لسبنسر لإطلاقه الحركة الفكرية المعروفة على نحو مضلل باسم «الداروينية الاجتماعية»، ولنقله هذه الحركة إلى أمريكا من خلال كتاباته المنشورة، وعلى نحو شخصي أكثر أثناء زيارة له في عام ١٨٨٢. قرأ إدوارد كارنيجي قطب صناعة الصلب لكل من سبنسر وداروين، واستمد بعض الطمأنينة المتنورة عندما وجد في كتاباتهم ما معناه أن المنافسة القاسية هي قانون بنّاء من قوانين الطبيعة. وقتذاك كان سبنسر نفسه قد برز كأحد اللاماركيين الاجتماعيين الجدد. وجد كارنيجي أنه عند الاختيار بين تغايرات الانتخاب الطبيعي غير الموجهة من ناحية، وبين المزايا القابلة للتوارث التي يتم اكتسابها عن طريق السعي الحثيث من ناحية أخرى، فإن الخيار الثاني يتوافق على نحو أفضل مع أفكاره عن التقدم الذاتي. فليواصل الطموحون وذريتهم التقدم أكثر وأكثر! بعد موت داروين بإحدى عشرة سنة أعلن سبنسر عن فكرته في مقال بعنوان «عدم ملاءمة الانتخاب الطبيعي».

تضم قائمة اللاماركيين الجدد المشهورين في بريطانيا وأوروبا كلًّا من آرثر دندي (عالم الحفريات)، وصمويل بتلر (كاتب روائي ونصير جديد مولع بالجدل)، وجورج هنسلو (عالم تاريخ طبيعي ورجل دين، ألف كتابًا حول «التكيف الذاتي» للنباتات مع ظروف حياتها)، وجوزيف تي كننجهام (عالم بيولوجيا بحريّة، درس تغير اللون في السمك المفلطح)، وبيتر كروبوتكين (أرستقراطي روسي تحول إلى الاشتراكية، وكان يجادل بأن التعاون بين الحيوانات، كعادة قابلة للتوارث، قد يكون أكثر أهمية من الانتخاب الطبيعي)، وسي إي براون سيكارد (المعروف بتجاربه التي تحث على الصرع المتوارث في خنازير غينيا)، وعالم الحيوان تيودور إيمر. بحلول نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، وجد صمويل بتلر في حبور أن كل طبعة تقريبًا من مجلة «نيتشر» (التي أسسها حلفاء داروين في عام ١٨٦٩) احتوت شيئًا عن التوارث اللاماركي.

عمل تيودور إيمر أستاذًا لعلم الحيوان في توبنجن بألمانيا، وله أهميته كشخصية انتقالية بين اللاماركية الجديدة ومدرسة لاداروينية أخرى في الفكر، روج إيمر نفسه عنوانًا شعبيًّا لها هو «التطور الموجه». درس إيمر في مرحلة مبكرة من عمله المهني سحالي متسلقة للجدران اسمها لاسيرتا في جزيرة كابري. أجرى لاحقًا أبحاثًا على أنماط الألوان في أجنحة الفراش. ألَّف إيمر كتابين رئيسيين عن التطور، نُشر أولهما بالألمانية في عام ١٨٨٨ بعنوان «أصل الأنواع» (سرعان ما تبعته طبعة إنجليزية مترجمة بعنوان «التطور العضوي»)، يجمع فيه بين الرأي اللاماركي القائل باكتساب الخصائص مع الدعوى بوجود «قوانين نمو» داخلية تملي أن تكون الخصائص مكتسبة، وتملي، على المدى البعيد، الاتجاه الذي يذهب إليه التطور. قد يكون الاتجاه بالنسبة لسمات معينة محايدًا فيما يتعلق بالتكيف، أو حتى غير ملائم. كلمة «التطور الموجه» تعني النمو في خط مستقيم. وهي تتضمن نزعة متأصلة من نوع ما، يُعَبّر عنها بتزايد دائم في فرد بعد فرد من الذرية، وعلى نحو مستقل عن الحاجات المباشرة للمخلوقات الحية. راج هذا الرأي بين علماء الحفريات (بمن فيهم كوب وهيات في أمريكا) كتفسير لنزعات خطية معينة في سجل الحفريات، يظهر بعضها ليس كنزعة غير تكيفية وحسب بل كنزعة مدمرة. ظبي الإلك الأيرلندي هو مثال مشهور لما يفترض أنه يمكن أن ينتج عن التطور الموجه؛ فقرونه تنمو نموًّا مفرطًا بحيث يبدو وكأنها حكمت على النوع بالانقراض الحتمي. رأى إيمر ظواهر مماثلة بين الفراشات. يقول بيتر بولر إن دراساته لحرشفيات الأجنحة أقنعته بأن «المسار الفعلي للتطور الموجه يتحدد مسبقًا بالكامل بواسطة نزعة داخلية للتغاير في اتجاه بعينه».

ما الذي يفسر «النزعة الداخلية»؟ لم يقدم إيمر ولا هيات ولا كوب، ولا أي شخص آخر أي آلية تفسر كيف تعمل هذه العملية المذهلة. على أنه يبدو أنهم نالوا بعضًا من الرضا من أن داروين أيضًا لم يقدم ذلك. صدر الكتاب الثاني الكبير لإيمر في عام ١٨٩٧، قبل وفاته مباشرة، تحت عنوان ألماني صعب النطق، وترجمته هي «التطور الموجه للفراشات: برهان على التنامي الموجه توجيهًا أكيدًا وعلى ضعف الانتخاب الطبيعي في أصل الأنواع».

قد يسأل أحد الأشخاص بحق، إذا كان هذا التنامي موجهًا توجيهًا أكيدًا، إذن «ما الذي» يوجهه؟ يرى تيودور إيمر وغيره من أتباع التطور الموجه أن الرب ليس من يوجهه، وليس ضرورات التكيف.

جسدت الوثوبية الرأي القائل إن التطور يجري في وثبات. رفض داروين بوضوح هذه الفكرة في كتاب «أصل الأنواع» مستشهدًا بما اعتبره حكمة قديمة موثوقة: «الطبيعة لا تصنع وثبات.» كتب داروين أنه من الحقيقي أن الطبيعة لا تصنع وثبات؛ لأن الانتخاب الطبيعي «يجب أن يتقدم بأقصر الخطوات وأبطئها». لم يتفق هكسلي معه؛ إذ آمن بأن الطبيعة تتحرك حقًّا بقفزات صغيرة نوعًا، وأقلقه أن يكون داروين قد أثقل نظريته بصعوبة لا ضرورة لها. في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر شارك ويليام باتسون، عالم الحيوان البريطاني، هكسلي في عدم رضاه عن تدريجية داروين، خاصة بعد أن تخلى عن نهجه المعملي لمصلحة البحث الميداني في منطقة الإستبس في آسيا الوسطى. حاج باتسون بأنه بما أن الأنواع تنقطع، بعضها عن بعض، فإن التغايرات التي تنتج عنها الأنواع قد تكون متقطعة هي الأخرى. وذهب باتسون إلى مدى أبعد ليقول: التغاير غير المستمر «هو» التطور. الانتخاب الطبيعي ليس ضروريًّا كما يعتقد باتسون، ما دام التغاير يحدث في قفزات كبيرة مفاجئة تؤدي أحيانًا إلى أنواع جديدة. وصل عالم النبات الهولندي هوجو دي فريس إلى الاستنتاج نفسه في حدود الوقت نفسه، على أساس دراسته للتغايرات المتقطعة في زهرة الربيع المسائية. استخدم دي فريس كلمة قديمة استخدامًا جديدًا لوصف هذه التغيرات الرئيسية المفاجئة؛ إذ سماها «طفرات».

بنهاية تسعينيات القرن التاسع عشر كان كثير من البيولوجيين التطوريين يعتبرون أن الانتخاب الطبيعي كما عرّفه داروين كان تخمينًا خاطئًا؛ التعريف الذي يقول إن الانتخاب الطبيعي هو نجاح تكاثري متمايز ينتج عن تغايرات صغيرة غير موجهة تعمل كآلية رئيسية للتكيف والتباعد. كانوا يسلمون بأنه مثير للاهتمام في سياقه التاريخي، بوصفه الفكرة الأثيرة للرجل الذي فتح أعين العالم على التطور. ومن المحتمل أنه يلعب بالفعل دورًا صغيرًا ثانويًّا. أو من الممكن ألا يكون له أي دور. هناك حجج قوية بالغة الكثرة ضده، مثل حجة جنكن عن التوارث بالمزج وحجة طومسون عن عمر كوكبنا. هناك أيضًا أفكار أحدث كثيرة؛ مثل الوثوبية، وأفكار أقدم مثل اللاماركية، وكلها تروق للحدس على نحو أفضل.

إلا أن هناك شيئًا مفقودًا في كل هذه النظريات البديلة، كما هو مفقود في نظرية داروين؛ الفهم الواضح لطريقة عمل الوراثة. أحد أمثلة ذلك أنه أثناء السنوات الأخيرة من القرن، أخذ هوجو دي فريس يكتب مؤلَّفه عن التطور؛ «نظرية التطافر»، الذي يحمل أفكارًا جسورة عن الأصل المفاجئ للأنواع الجديدة، وإن كان مصحوبًا بتقدير قليل للحركة الروتينية للوراثة والتغير التراكمي. عندما شارف أول جزء من كتابه على الاكتمال، أرسل له زميل حزمة صغيرة مع خطاب قصير: «أعرف أنك تدرس المهجنات، لعلك تجد في النسخة المرفقة المعاد طبعها في عام ١٨٦٥ لمؤلف يدعى مندل، التي تصادف أني أملكها، ما يثير اهتمامك.» ثبت في النهاية أنها تهم الجميع.

٣٩

كان أحد أعظم مواطن قوة داروين كعالم، بصورة ما، وأحد عيوبه أيضًا؛ اتساع فضوله على نحو استثنائي. فمن حجرة مكتبه في دار داون كان ينطلق في بحث واسع شره عن البيانات، عبر مسافات (بالخطابات)، وعبر ميادين العلم. كان يقرأ على نحو انتقائي، ويحتفظ بدفاتر الملاحظات كجامع المهملات. جمع داروين عبر السنين قدرًا هائلًا من الحقائق المترابطة معًا. أخذ يبحث عن الأنماط بين هذه الحقائق، لكنه كان يتحير على نحو مساوٍ بوجود استثناءات لهذه الأنماط، وباستثناءات الاستثناءات. اختبر داروين أفكاره على مجموعة معقدة من الكائنات الحية لها قصص معقدة، كالبرنقيلات، وزهور الأوركيد، والحشرات الاجتماعية، وزهور الربيع، والقردة العليا. كان جريجور مندل ينتمي لنوع آخر من العلماء، له أسلوب تفكير مختلف. عاش مندل في أحد الأديرة ودرس البازلاء.

كان ديرًا أوغسطينيًّا في برنو؛ بلدة قديمة في جنوب شرق براغ فيما كان وقتها جزءًا من النمسا الكبرى. الكائنات الحية التي أجرى عليها مندل تجاربه كانت بازلاء الحديقة العادية، واسمها العلمي «بيسوم ساتيفوم»، وأقربائها الأقربين. لحسن حظ مندل، تصادف أن التركيب الوراثي للبازلاء أبسط وأكثر مباشرة عن زهرة الربيع والكثير غيرها من الكائنات الحية. واصل مندل تجارب للتهجين لثمانية أعوام، تابع فيها توارث سمات مميزة في لون الزهور وحجم الورق وطول الساق وشكل البذرة وغير ذلك من الجوانب سهلة الرؤية في البازلاء، وبعد هذه الأعوام الثمانية وصف عمله لزملائه في «جمعية برنو للتاريخ الطبيعي». كان هذا في أوائل عام ١٨٦٥. تضمنت نتائجه ملاحظات عديدة مهمة، منها: أن بعض السمات المميزة تكون «سائدة» في حين أن سمات أخرى تكون «متنحية» (وهي تسميات لمندل، أخذها من باحثين أقدم). وأن السمة السائدة إذا هُجنت مع صفة متنحية، فإنها تُمرر سليمة للجيل التالي، دون عرضة لخطر التخفيف أو الزوال. وأن السمة المتنحية تصبح كامنة عندما تهجن مع صفة سائدة، لكنها تظهر بكامل قوتها عندما تهجن مع سمة متنحية مماثلة. وأنه بعد عدد كبير من التهجينات بين أي سمتين واحدة سائدة والأخرى منتحية، فإن النسبة بين الذرية ستكون ٣ إلى ١ بالضبط تقريبًا. مثال على ذلك، فإنه بتهجين نباتات بزهرة حمراء مع نباتات بزهرة بيضاء، حصل مندل على ٧٠٥ من الذرية ذات الزهرة الحمراء و ٢٢٤ من الذرية ذات الزهرة البيضاء، بنسبة قدرها ٣٫١٥ إلى ١. وبتهجين زهور نبات بقرنة منتفخة مع نباتات بقرنة منكمشة، حصل على نسبة قدرها ٢٫٩٥ إلى ١. هُجنت نباتات ذات بذور مستديرة مع نباتات ببذور مجعدة فجاءت النسبة ٢٫٩٦ إلى ١. المتوسط من سبع تجارب هو نسبة عامة قدرها ٢٫٩٨ إلى ١، وهو ما يشير إلى اتساق غامض لا يمكن أن يأتي مصادفة.

لهذا تبعات هائلة. بيّن مندل بهذه التجارب أن الوراثة تعمل عن طريق جسيمات دقيقة الحجم غير مجزأة، وتحديدًا وحدتان فقط في كل حالة، وليس (كما كان يعتقد داروين وآخرون) عن طريق كتل متراكمة من عناصر ضئيلة تطفو في الدم. أثبت مندل عمليًّا أن كل والد من الوالدين يسهم بجسيم وراثي واحد فقط، وليس بعدد وافر منها، وذلك بالنسبة لأي سمة بعينها. تعكس نسبة ٣ إلى ١ التي توصل إليها الطرق الأربع المختلفة التي يمكن بها لجسيمين أبويين أن يتحدا في فرد من الجيل الثاني، مع الوضع في الاعتبار أن الوالد الواحد سيساهم إما بجسيم سائد (سنسميه أ) أو بجسيم متنحٍّ (سنسميه ب) بالنسبة للسمة المميزة التي نبحث أمرها، وبهذا تكون التوليفات الممكنة هي: أ أ، ب ب، أ ب، ب أ. سينتج عن ثلاثة من هذه الاحتمالات الأربعة (أ أ، أ ب، ب أ) ظهور السمة السائدة، في حين أن احتمال واحد فقط (ب ب) سينتج عنه السمة المتنحية. هكذا أرسى مندل الخطوط الرئيسية لقانون مركزي للوراثة وأشار إلى مفهوم الجين. اقترح مندل أيضًا التمييز الحديث بين المظهر الخارجي (ما يظهره الكائن الحي) والتركيب الوراثي (ما يحمله الكائن الحي). هكذا بدد مندل وهم الوراثة بالمزج.

لم تترك محاضرات مندل وقتذاك انطباعًا كبيرًا، تمامًا كما حدث عند تقديم ورقة داروين-والاس في الجمعية اللينانية. بعد ذلك بسنة نشر مندل تجاربه في مجلة «جمعية برنو للتاريخ الطبيعي» تحت عنوان متواضع هو «تجارب في تهجين النبات»، ومرة أخرى لم يترك ذلك انطباعًا كبيرًا. رتب مندل بنفسه لإرسال ما يقارب الأربعين نسخة إلى علماء النبات وغيرهم من العلماء الذين قد يهتمون بالأمر، لكن لم يبدُ أنه أثار أي اهتمام. لم يلحظ أحد ورقته البحثية، أو يستعين بها، لأربع وثلاثين سنة تقريبًا. لماذا؟ هل كان مندل سابقًا لعصره بدرجة كبيرة؟ نعم، بمعنى أنه قدم إجابات عن أسئلة لم تُطرح بعد بوضوح كافٍ. هل تجاهله المجتمع العلمي بسبب عزلته في الدير وغموض أمره؟ نعم، لم يفدْه هذا أيضًا؛ فبرنو لم تكن لندن، وجمعيتها للتاريخ الطبيعي كانت أبعد مكان يحتمل أن يُعلَن فيه عن كشف علمي بهذا الحجم. هل أضرت به حقيقة أنه نشر ورقة بحثية واحدة فذة فقط، وليس كيانًا من الأبحاث ذات العلاقات المتبادلة؟ نعم، إلى حدٍّ ما. لا يوجد سبب وحيد للأمر، وإنما مجموعة من العوامل المساهمة تفسر هذا الإهمال. يمكننا القول إن جريجور مندل كان متواضعًا إلى حد أكثر مما يلزم بحيث لا يسترعي الانتباه لنفسه. وأنه كان سيئ الحظ. بل كان علم البيولوجيا نفسه سيئ الحظ. وأنه ارتكب خطأ قاتلًا في دراساته التالية بأن تحول من البازلاء إلى مجموعة من نباتات أكثر تعقيدًا؛ أعشاب الصقر. أيضًا تشتت انتباهه عن إجراء المزيد من تجارب النبات حين انتخب رئيسًا للدير. على أي حال، في ضوء الاستجابة التي أثارها مقال مندل، لم يكن ليضيره كثيرًا لو أنه دفن النسخ الأربعين في الحديقة. ثم حدث في عام ١٨٩٩ أن أرسلت نسخة من ورقته البحثية بالبريد إلى هوجو دي فريس. ربما تكون واحدة من النسخ الأربعين الأصلية التي أرسلها مندل بنفسه والأمل يملؤه.

في ذلك الوقت طور عالم حيوان ألماني، يدعى أوجست وايزمان، نظريته الخاصة عن الوراثة، تتضمن أفكارًا قوية عديدة. إحدى هذه الأفكار هي أن الصفات الوراثية تمر من جيل لآخر بواسطة مادة جزيئية محتواة داخل أنوية الخلايا. الفكرة الثانية، خلافًا لمعتقد اللاماركية واللاماركية الجديدة (بما في ذلك سوء فهم داروين نفسه للاماركية)، هي أن الخصائص المكتسبة لا تورث، إطلاقًا. ولا في أي حالة. هذا غير ممكن وفقًا لوايزمان. يحاج وايزمان بأن «جبلة التكاثر» (الخلايا التي تنتج في النهاية الأمشاج، أو خلايا التكاثر كالبويضات والمني) تكون معزولة عن «الخلايا الجسمانية» (خلايا بقية الجسم)، وأنها لا يمكن أن تتغير داخل الفرد من خلال مط الرقبة أو رفع الأثقال أو أعمال الحدادة أو سكنى الكهوف أو الجفاف أو البرد القارس أو أي من الأنشطة الأخرى أو الظروف البيئية التي تؤثر في الجسم. فخلايا الجسد هي ما يتغير بفعل العادة أو الضغط، كما يحاج وايزمان، أما الجبلة فتظل دون مساس، والتغيرات التي قد تحدث في خلايا الجسد لا تورث. رأى وايزمان على نحو أوضح من مندل (ولم يكن قد قرأ عن بازلاء مندل) الفارق بين التركيب الوراثي والمظهر. وعلى أساس الأفكار الحديثة في بيولوجيا الخلية، أدرك وايزمان أيضًا ظاهرة مهمة أخرى: أن التقاطع العشوائي بين أفرع الكروموسومات، أثناء انقسام الخلايا لتكوين الأمشاج، ينتج عنه إعادة توليف للكروموسومات. بمعنى أن هناك تشابكًا وتكسرًا وإعادة توصيل. أثناء التكاثر الجنسي يولد هذا التقاطع المتبادل وفرة غنية من التوليفات الممكنة طوال الوقت، ومن ثم يولد وفرة من التغايرات بين أفراد الذرية، حتى بين أفراد ذرية الوالدين أنفسهما. يدرك البيولوجيون حاليًّا أن هذا التوليف بين الجينات الموجودة — إلى جانب ما يحدث من أخطاء مباشرة في عملية تضاعف الجينات — يؤدي إلى خلق أشكال جديدة بالكامل من الجينات (الذي يعرف الآن بالمسمى الذي استخدمه دي فريس؛ الطفرات)، يشكلان معًا الإجابة الرئيسية عن السؤال الذي ظل يخيم على أبحاث داروين ومن خلفوه لعقود: «ما مصدر التغايرات؟ التطافر وإعادة التوليف مسئولان عن أغلبها.

يُنتج التطافر متغايرات جديدة للجينات الموجودة بالفعل. أما إعادة التوليف فتولد التغاير من خلال جدل توليفات جينية جديدة مأخوذة من كروموسوم وآخر. أثناء عملية الانقسام المنصف (انقسام الخلية المزدوج لإنتاج الأمشاج)، تتوزع الجينات الطبيعية والطافرة، المأخوذة من كروموسوماتها الطبيعية أو المعاد توليفها، على خلايا التكاثر. تحصل هذه البويضة على A مضافًا إليها BCdEF. وتحصل بويضة أخرى على a مضافًا إليها BCDEf. وتحصل بويضة أخرى على نسخة a طافرة، مضافًا إليها bcdeF. هكذا يعاد ترتيب أوراق اللعب، وتتوزع المجموعة، ويضاف بعض أوراق الجوكر، ويعاد الترتيب ثانية. وما دام التطافر وإعادة التوليف عمليات عارضة، يظل التغاير غير موجه بحاجة أو هدف. ويعمل الانتخاب الطبيعي عليه. إن علم الوراثة المندلي يمنع النتائج من أن تذوي بالمزج.

٤٠

لا أقصد، وقد أوشكت على الانتهاء من هذا الكتاب الصغير، أن أحاول تعجل السير بالقارئ خلال كل الحقب الرئيسية في التاريخ المتأخر للبيولوجيا التطورية. فسوف يؤدي بي ذلك إلى الذهاب لمدى أبعد كثيرًا من المدى المخصص لي، وإلى سبر أغوار أعمق كثيرًا مما أستطيع.

لو كنت أقصد هذا لكان لزامًا عليّ أن أصف كيف تشبث الوثوبيون بأفكار مندل التي أعيد اكتشافها، ظانين أن التوارث عن طريق الجسيمات الدقيقة يدعم حججهم ضد الانتخاب الطبيعي، لكنهم كانوا على خطأ، وكيف أن مفهوم وايزمان عن الجبلة التكاثرية المنعزلة أدى إلى نظرة محدودة للانتخاب الطبيعي بوصفه الآلية التطورية الوحيدة — وهي النظرة الأكثر داروينية من نظرة داروين نفسه — أصبحت تعرف بالداروينية الجديدة. وأيضًا كيف أن أبحاث توماس هنت مورجان على الوراثة في ذبابة الفاكهة، وفكرة ريتشارد جولدشميدت عن الطافر المحظوظ (أو كما سماه هو «الوحش المأمول») دخلت بالتفكير الوثوبي إلى القرن العشرين. وكيف أن الوثوبية تداعت في النهاية وذابت في مواجهة الأبحاث الجديدة المتألقة في علم الوراثة الرياضية، التي أجرى أغلبها كل من آر إيه فيشر، وجيه بي إس هالدين، وسيوال رايت، التي أوضحت أن الوراثة المندلية بالجسيمات تدعم بالفعل نظرية داروين الانتخابية بدلًا من أن تفندها. وما دمت ذكرت سيوال رايت، أود أن أقدم على الأقل تفسيرًا عرضيًّا لفكرته عن «الجنوح الوراثي»، وهي عملية عشوائية لها أهمية كبيرة جدًّا في العشائر الصغيرة المنعزلة وقد تكون (كما يعتقد بعض البيولوجيين) مسئولة إلى حدٍّ بعيد عن انفصال الأنواع. أود أيضًا أن أذكر القارئ بأن اكتشاف النشاط الإشعاعي على يد هنرى بيكريل، في نهاية القرن التاسع عشر، وفر ردًّا حاسمًا على اعتراضات ويليام طومسون بشأن عمر كوكب الأرض (بعد أن صار مصدر حرارته الداخلي مفهومًا على نحو أفضل) وأعاد صياغة تقديرات الزمن المنقضي من عمر الأرض بما يتيح لداروين كل دهور الزمن اللازمة للتطور بالانتخاب الطبيعي. والأهم من كل شيء، أني كنت سأحتاج لتوضيح حدث فكري يعرف باسم «التركيب الحديث»، الذي وقع في ثلاثينيات وأوائل أربعينيات القرن العشرين، حين وحد علماء عديدون وراثيات مندل مع انتخاب داروين وأرسوا نظرية تركيبية للتطور تماثل تقريبًا ما هو مقبول الآن، وهؤلاء العلماء هم جورج جيلورد سمبسون (عالم الحفريات)، وتيودوسيوز دوبزانسكي (عالم الوراثة)، وجوليان هكسلي (المفكر البيولوجي متشعب المعرفة، وحفيد تي إتش هكسلي صديق داروين)، وإرنست ماير (عالم التاريخ الطبيعي وخبير التصنيف)، والعديد غيرهم من البيولوجيين ذوي النفوذ، الذين أسسوا نظريتهم بناءً على أعمال كل من فيشر وهالدين ورايت. قلت إنهم أرسوا نظرية تركيبية تماثل «تقريبًا» ما هو مقبول الآن، لأن حتى تركيبهم الحديث هذا، بطبيعة الحال، لم يعد حديثًا اليوم. ففي الستين سنة الماضية وُجه إليه النقد أيضًا، وعُدل فيه، وأضيف إليه، وحُسن تحسينات أخرى. سأكون ملزمًا أيضًا بالتعرض لبعض التطويرات والتعديلات اللاحقة، مثل فرض إرنست ماير حول الثورات الوراثية بين العشائر المعزولة، ومفهوم نايلز إلدردج وستيفن جاي جولد عن التوازن المتقطع، ونظرية موتو كيمورا المحايدة عن التطور الجزيئي (إلى جانب استجابة ريتشارد ليونتن لهذه النظرية)، وفكر جورج سي ويليامز وريتشارد داوكنز عن الجينات الأنانية، ونظرة إدوارد أو ويلسون عن البيولوجيا الاجتماعية، تلك النظرة الشاملة المستفزة للتفكير، واقتراحات ستيوارت كوفمان الخلابة عن انبثاق التنظيم الذاتي من المنظومات الوراثية المعقدة، وغيرها الكثير. يا للعجب، كل هذا؟ لكن لا، لن أحاول أن أفعل كل ذلك. ليس هنا، وليس الآن.

لفهم هذه التطورات على نحو واضح، إن كنت ترغب في ذلك، يمكنك التحول إلى مصادر على غرار التأريخ سهل القراءة (وغير الفاتر) الذي أورده إرنست ماير في كتابه «نمو الفكر البيولوجي»، أو كتب بيتر جيه بولر المتعددة، ومنها «الثورة اللاداروينية»، أو كتاب دوجلاس فوتويما الدراسي الممتاز «البيولوجيا التطورية»، أو كتاب مارك ريدلي «التطور»، أو المسح المكثف الذي قام به ديفيد جيه ديبيو وبروس إتش ويبر بعنوان «الداروينية تتطور: حركة المنظومات وعلم أنساب الانتخاب الطبيعي»، أو كتاب ستيفن جاي جولد الثقيل والغني بالمعلومات المنيرة (يجب أن يكون كذلك؛ بعدد صفحاته البالغ ١٤٣٣ صفحة) وعنوانه «بنية النظرية التطورية»، أو … هناك مجموعة كبيرة من الكتب الأخرى، بعضها جيد وبعضها مفيد وحسب. إن نظرية داروين، كما حذرت القارئ في البداية، جذبت قدرًا هائلًا من الأبحاث المتأنية والمتعجلة. إلا أن لهذه النظرية جوانب ساحرة وتبعات مهولة بالمثل. ثم إن القصة لم تنتهِ بعد. فلا تزال تفاصيلها تتكشف أمام ناظرينا.

الموضوعات الرئيسية لهذه القصة، كما يرويها ماير أو جولد أو معظم الآخرين، هي أن التطور أمر حقيقي ورائع، وأن فكرة الانتخاب الطبيعي ظلت باقية وناجحة لأنها تتلاءم مع ما نرصده من حقائق على نحو أفضل من أي فكرة بديلة، وتفعل بالضبط ما يجب أن تفعله النظرية العلمية؛ تفسير النتائج المادية عن طريق أسباب مادية. وكما سلم داروين نفسه — وهو ما أكده بعدها سيوال رايت، وموتو كيمورا، وبعض البيولوجيين الآخرين — فإن الانتخاب الطبيعي ليس الآلية الوحيدة للتغير التطوري. ولكنه الآلية الأساسية. إنه المخرطة والإزميل اللذان يشكلان التكيفات. إنه المفهوم المحوري للداروينية، بصرف النظر عما تتضمنه الداروينية خلافه. إنه نقطة البداية لفهم طريقة عمل التطور.

وفقًا لكتاب دوجلاس فوتويما الدراسي فإنه عندما نشرت حجة داروين الطويلة لأول مرة في كتاب «أصل الأنواع»، كانت «مبنية على المنطق وعلى تفسير أنواع كثيرة من الأدلة الظرفية، لكن لم تكن لديه أدلة مباشرة». الجغرافيا البيولوجية، وعلم الحفريات، وعلم الأجنة، والمورفولوجيا؛ كل هذه يمكن اعتبارها غير مباشرة، بمعنى أن أنماطها المبهمة كانت قابلة للتفسير من خلال نظرية داروين. استوجب الأمر مرور أكثر من سبعين سنة حتى يمكن لمزيج من فهم الوراثة المندلية والانتخاب الدارويني أن يؤدي حسب كلمات فوتويما، إلى «إثبات فرضه هذا بالكامل». لكن الإثبات تحقق. وفي عام ١٩٥٩ تم الاحتفال بالعيد المئوي لكتاب «أصل الأنواع» بروح من الثقة بأن داروين، ذلك العجوز الماكر، كان محقًّا فيما قاله. وأضافت الاكتشافات اللاحقة المزيد من اليقين. وكل عام يأتينا المزيد منها.

منذ زمن غير بعيد زرت فوتويما في مكتبه بجامعة متشيجان. كان هناك طاولة ضيقة طويلة، موضوعة وسط غرفة ضيقة طويلة، وقد نُثرت عليها أوراق المجلات العلمية. كانت أرففه تكتظ بالكتب. لا يوجد ذباب فاكهة في أقفاص، ولا حفريات لأمونويات، ولا برنقيلات حفظت كيماويًّا. إنه مكان للتفكير والثرثرة. فوتويما رجل مهذب لطيف وأنيق جدًّا ذو شعر رمادي قصير، ويرتدي نظارات بإطار من سلك معدني. كان يلبس في ذلك اليوم كنزة ضخمة. وقد جئت لأسأله عن البرهان على التطور.

بينما كان فوتويما يجيب عن أسئلتي، أخذ يتنقل سريعًا خلال بعض النقاط المألوفة — الآثار الباقية للأعضاء، سجل الحفريات، أنماط الجغرافيا البيولوجية — وتحدث معظم الوقت عن الوراثة الجزيئية. ذكرني فوتويما بأن المتخصصين في البيولوجيا الجزيئية لا يشغلون أنفسهم عمومًا بالأسئلة نفسها التي تشغل البيولوجيين التطوريين، ناهيك عن الإجابات نفسها. منذ خمسين سنة، عندما اكتشف واطسون وكريك بنية اﻟ «دي إن إيه» (الحمض النووي)، صار متخصصو البيولوجيا الجزيئية يهتمون بالجينات، والبروتينات، والطرق التي تؤدي بها وظيفتها داخل الخلية الحية، لكنهم لا يهتمون كثيرًا بالأنواع والطرق التي تتطور بها. نجد في جامعة متشيجان، وجامعات كثيرة غيرها، أن هذين الفرعين من المعرفة — البيولوجيا الجزيئية والبيولوجيا التطورية — لا يدرسان في القسم عينه. وبعد أن قال ذلك، جذب فوتويما نسخة مليئة بملاحظاته من مجلة «نيتشر» عدد ١٥ فبراير لعام ٢٠٠١. إنه عدد تاريخي، مفعم بالمقالات عن نتائج «مشروع الجينوم البشري». وضع بجانبها أيضًا نسخة لعدد أحدث من مجلة «نيتشر»، مهم وسميك هو الآخر، والمخصص لما حدد من تتابعات جينوم الفأر العادي. سلالة الفأر التي فحصت بدقة هذه كانت تُعرف بالاسم C57BL/6J، وهي سلالة معملية كثيرًا ما تُستخدم في الأبحاث. كان عنوان المقالة الرئيسية هو: «البيولوجيا البشرية بالإنابة».

كشفت جهود تحديد جينوم الفأر، حسب قول محرري «نيتشر»، عن «قرابة ٣٠ ألف جين، ٩٩٪ منها لها نظائر مباشرة عند البشر». ما يقصدونه بكلمة «النظائر المباشرة» ليس أنها جينات متطابقة (مثل الكثير من الجينات المتطابقة التي يتشارك فيها البشر والشمبانزي) وإنما جينات متشابهة جدًّا. ومع هذه الدرجة من التشابه الكبير ففيها إثارة بالغة. فالفئران والبشر يملكان تقريبًا العدد نفسه من الجينات، وجميعها تقريبًا نظائر مباشرة، وتقول «نيتشر» معلقة: «وكلا النوعين يحبان الجبن، لماذا إذن لا تكون الفئران أكثر شبهًا بنا؟ ربما تكمن الإجابة في طريقة تنظيم هذه الجينات.» تنتج جيناتٌ متشابهة البشرَ من جانب، والفئرانَ من الجانب الآخر، وهذا يرجع إلى الطريقة التي يتم بها تنشيطها وكبحها أثناء التطور والنمو الجنيني لكل كائن منها.

ساعدني فوتويما على فهم هذا في سياق أوسع؛ إذ قال لي إن التشابه بين الثلاثين ألفًا من الجينات البشرية والثلاثين ألفًا من جينات الفأر المشابهة لها يمثل صورة أخرى من صور التشاكل؛ كالتشابه بين اليد ذات الأصابع الخمسة وكف الحيوان ذي الأصابع الخمسة. والآن لنفكر في الأمر: هل من المعقول أن يُخلق نوعنا البشري خلقًا خاصًّا بحيث يكون مشابهًا للفئران بثلاثين ألف طريقة؟ هذا غير مرجح. في الحقيقة لا يمكن تخيل هذا منطقيًّا. فالتشاكل المعقد على هذا النحو لا يمكن تفسيره إلا بالانحدار من سلالة مشتركة. انتقل فوتويما إلى نهاية المقال الرئيسي وقرأ لي عبارة تقول: «ربما يكون التحليل المقارن للجينوم أقوى أداة لفهم الوظيفة البيولوجية.» ثم نظر لأعلى وقال: «هذا تصريح قوي من البيولوجيين الجزيئيين.» ثم عاود القراءة ثانية: «تكمن قوته في حقيقة أن بوتقة التطور هي جهاز أكثر حساسية بكثير من أي جهاز آخر متاح للعلم التجريبي الحديث.» بوتقة التطور؟ بكل وضوح يعني هذا: الانتخاب الطبيعي، الذي يحفظ الجينات أو ينبذها، ويفعل ذلك أحيانًا جينًا تلو الآخر.

المغزى من حديث فوتويما هو أنه بعد عقود من التوتر المتزايد بين فرعَي معرفة متنافسَيْن، حتى البيولوجيون الجزيئيون أخذوا يسلمون الآن بأن البيولوجيا «كلها» بيولوجيا تطورية. وقال: «هذا هو مستقبل علمَي البيولوجيا والطب البيولوجي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤