المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر

لقد حدثت في القرن الثامن عشر أزمة شديدة مهمة للمسألة الشرقية هي الحرب بين الدولة العلية والروسيا التي طالت من أواخر عام ١٧٦٨ إلى أوائل عام ١٧٧٥، وهذه الأزمة كانت شديدة غزيرة النتائج، وأصلًا لتداخل أوروبا في أمور الدولة العثمانية باسم الدين.

وقد كانت الروسيا حليفة للبروسيا في ذلك العهد محالفة أمضى عليها فريدريك الكبير ملك بروسيا وكاترينا إمبراطورة الروسيا يوم ١١ أبريل سنة ١٧٦٤، وكان أجلها ثماني سنوات، وسبب تداخل البروسيا في المسائل الشرقية هو تحالفها مع الروسيا نحو قرن، وداعية هذا التحالف هي العداوة الشديدة التي كانت بين النمسا والبروسيا في ألمانيا، وبين النمسا والروسيا في مسائل الشرق، وقد كان يُعقَد أحيانًا اتفاق بين تلك الدول الثلاث، ولكن العداوة بقيت طويلًا — بالرغم عن هذه — شديدة بينها وبين بعضها.

ومن أسباب تحالف الروسيا والبروسيا غير ما ذكرناه: اشتراكهما في المصلحة ضد بولونيا التي كانت جمهورية وقتئذ، وفي حالة من الفوضى عظيمة، وقد كان يروق للروسيا والبروسيا بقاء نفوذهما قويًّا في بولونيا، والعمل على زيادة الفوضى فيها؛ لتتمكنا من تقسيمها، والاستيلاء عليها.

وكان قد عُقِد بين فرنسا والنمسا عام ١٧٥٦ تحالف يضمن للنمسا مساعدة فرنسا الحربية والسياسية في كل أوروبا، ويضمن لفرنسا عدم تداخل النمسا ضدها في حالة قيام الحرب بينها وبين إنكلترا، وقد حصل وقتئذ أن «أوجست الثالث» ملك جمهورية بولونيا توفي، وأرادت الروسيا بالاتفاق مع البروسيا أن تعيِّن بدلًا عنه «ستانيسلاس أوجست بونياتووسكي» الذي كان محبوبًا عند كاترينا إمبراطورة الروسيا وعاشقًا من أكبر عشاقها، وكانت ترمي الروسيا بهذا التعيين إلى إلقاء بذور الشقاق والشحناء بين البولونيين، وإحداث الاضطرابات في بلادهم بواسطة هذا الملك الجديد.

فعمل عندئذ الوطنيون البولونيون لدى الباب العالي مستغيثين به لإحباط مساعي الروسيا في تعيين «ستانيسلاس» ولكن سفيرا الروسيا والبروسيا بالآستانة بذلا ضد هؤلاء الوطنيين كل جهدهم.

وكان من صالح النمسا وفرنسا عدم نجاح الروسيا والبروسيا في مسعاهما لتعيين «ستانيسلاس» فحرضتا الدولة العلية ضد الروسيا والبروسيا، وأظهرتا لها فائدة تداخلها في صالح البولونيين، ولكن المرحوم السلطان «مصطفى الثالث» كان يعجب بفريدريك ملك البروسيا إعجابًا زائدًا، فلم يرضَ لذلك العمل ضده، سيما وأن تعيين «ستانيسلاس» كان لا يضر بمصالح الدولة مطلقًا، فتم تعيين هذا الرجل ملكًا لبولونيا يوم ٧ سبتمبر سنة ١٧٦٤.

وما استقر هذا الرجل على كرسي ملك بولونيا حتى خلق فيها المشاكل والاضطرابات طبقًا لرغائب كاترينا، وسهل لها التداخل في شئونها الداخلية، فطلب عندئذ بتاريخ ٢٥ نوفمبر من السنة نفسها سفيرا الروسيا والبروسيا من حكومة بولونيا جملة طلبات تخالف المصلحة البولونية، فرفضها مجلس نواب بولونيا، وكان رفضه هذا سببًا لتداخل الروسيا، فدخلت بولونيا بجيوشها الجرارة، وأسالت الدماء، وأنحت على الكثيرين من الأبرياء، واستمرت الثورات في بولونيا تباعًا، والعالم كله ناظر إليها بلا حراك، حتى بلغت الروسيا مرامها من هذه الديار التعسة، وصارت بولونيا مستقلة في الظاهر محكومة في الباطن بأهواء الروسيا وأغراضها.

وفي هذه الأثناء تعين المسيو «شوازيل» وزيرًا لخارجية فرنسا، وكان ألد أعداء الروسيا، وعلى الخصوص كان عدوًا شخصيًّا لكاترينا، فكتب إلى المسيو «دي فرجين» سفير فرنسا من الآستانة يأمره بعمل كل ما في سعته لخلق المشكلات بين الدولة العلية والروسيا، وأرسل إليه ثلاثة ملايين من الفرنكات؛ ليشتري بها ذمم بعض رجال الدولة، وكان الوطنيون البولونيون حين ذاك يستغيثون بالدولة ليلًا ونهارًا.

وحصل أن بعض قسوس الروسيا جاءوا بلاد الدولة، وأخذوا يهيجون أهالي اليونان وكريد والجبل الأسود باسم الدين، حاملين بأيديهم وعلى صدورهم الصليب، وقام وقتئذ قسيس اسمه «ستيفانو بيكولو» في شهر أكتوبر عام ١٧٦٧ يدعو أهالي الجبل الأسود للقيام ضد المسلمين، فهاجت الأهالي هياجًا شديدًا.

فلما رأت الدولة ذلك، ووقفت على الفظائع العديدة التي جرت في بولونيا أنذرت الدولة الروسية بالخروج من بولونيا، فرفضت وكان ذلك سبب الحرب.

وقد كانت الأمة العثمانية ميالة إلى البولونيين حتى إن المسيو «زيجلين» سفير بروسيا بالآستانة كتب إلى حكومته بتاريخ ٢٦ يوليو سنة ١٧٦٨ يقول: «إنه وإن كانت الحكومة العثمانية مطلقة النفوذ والسلطة في بلادها، ولكن للرأي العام صوتًا إذا ارتفع لا تقدر الحكومة على مخالفته.»

وعندما علمت الروسيا باستعداد الدولة العلية للحرب أرسلت عساكرها واحتلت «كاركوفيا»، وقد أعلنت الحرب يوم ٦ أكتوبر سنة ١٧٦٨، وكان ذلك بإلقاء الدولة العلية سفير الروسيا في القصر المعروف «بقصر السبعة أبراج»، وبهذه الصورة كانت تُعلَن الحرب في القرن الماضي.

وقد أرسلت الدولة عندئذ منشورًا للدول الأوروبية بتاريخ ٣٠ أكتوبر سنة ١٧٦٨ أبانت فيه أسباب إعلانها الحرب للدولة الروسية قائلة: «لقد تجاسرت الروسيا، وقضت على حرية بولونيا، وأجبرتها على قبول ملك ليس من عائلة ملوكية، ولم تنتخبه الأمة ملكًا عليها طبقًا لقوانينها وشرائعها، وأسالت الروسيا الدماء، وذبحت كل من خالف سياستها وأغراضها، وخربت الأراضي والأملاك.»

وقد أدهش إعلان الحرب بهذه الصورة كل رجال السياسة الأوروبية، وجعل كل همه الانتفاع منها. أما المسيو «دي فرجين» سفير فرنسا، فقد أعاد إلى حكومته الثلاثة ملايين، وكتب إليها: «إن رجال تركيا لا تُشترَى ذممهم؛ لأنهم يعملون بمقتضى مصلحة بلادهم، وشرف دولتهم.»

ومضت أشهر طويلة اشتغل فيها كل خصم بالتجهيز والتحضير، ولم تقم الحرب الحقيقية إلَّا في شهر يوليو عام ١٧٦٩ على شواطئ نهر «الدينستر»، وقد اقتتل الجيشان طويلًا حول «خوتين»، واختلف المؤرخون في إثبات وجود فرق بروسية بين الجيش الروسي، فقال بعضهم بوجودها بمقتضى المعاهدة التي بين الروسيا والبروسيا، وأنكر البعض الآخر وجودها، ولكن الرأي الأول أقرب إلى العقل والحقيقة.

وفي يوم ١٦ سبتمبر هجم الجيش العثماني على الجيش الروسي، ووقعت بينهما معركة هائلة انتهت بانتصار الروسيين واستيلائهم على مقاطعة «البغدان»، وأخذوا بعد هذه الواقعة قلاع خوتين وأزوف وتاجا نروج، ثم احتلت العساكر الروسية يوم ١٦ نوفمبر سنة ١٧٩٦ مدينة «بوخارست» التي هي عاصمة رومانيا الحالية. أما مقاطعة البغدان، فهي تكوِّن مع مقاطعة الأفلاق مملكة رومانيا نفسها.

وقد اغترت الروسيا بهذا الانتصار، وأرادت فصل اليونان من أملاك تركيا — وكانت أرسلت من قبل بطلًا اسمه «أورلوف» ليهيج اليونانيين ضد الدولة العلية — فأرسلت في البحر الأبيض المتوسط في آخر سنة ١٧٧٠ أسطولين؛ الأول: تحت قيادة «سبيروتوف» الروسي، والثاني: تحت قيادة «ألفنستون» الإنكليزي، وقد تجمعت عندئذ جماعات اليونان، وتظاهرت بالقيام في وجه الدولة، ولكنها تفرقت شذر مذر عند تقدم الأتراك والألبانيين، فرجعت الروسيا بخفي حنين، ويئست من تخليص اليونان من ذلك الحين.

ثم أرادت الروسيا أن تنتقم من الدولة العلية؛ لفشل مساعيها في اليونان، فعاكست مراكبها وأسطولها، ولم تأخذ بعد حرب وقتال عنيفين إلَّا بعض السفن العثمانية في «تشمسه».

•••

ولقد كانت سياسة كل دولة من الدول الأوروبية في هذه الحرب مختلفة عن الأخرى، فكانت فرنسا مصادقة للدولة العلية ومعادية للروسيا، وكانت الدولة الوحيدة المنتصرة لبولونيا، ولكن صداقتها للدولة العلية وانتصارها لبولونيا لم ينتجا أقل نتيجة؛ لأن الدول الثلاث الروسيا والبروسيا والنمسا اتفقت في آخر الأمر — كما سيراه القارئ — على تجزئة بولونيا، فكان من المستحيل على فرنسا مساعدة تركيا مساعدة فعلية؛ خوفًا من اشتعال نار الحرب بينها وبين الدول الأوروبية، ولكن ما كانت تخافه لنفسها تشجع الدولة العلية على الإتيان به فهي كانت تخشى الحرب، ولكنها كانت أول محرضة للدولة العلية عليها، وهكذا الدول كلها والأمم جميعها متى رأت في عمل من الأعمال احتمال الخير والشر تفضل أن يقوم به غيرها، فإن أنتج خيرًا استفادت منه، وإن أنتج شرًّا اجتنبت أضراره. وكان «شوازيل» وزير فرنسا الأكبر ذا سياسة خرقاء، حيث كانت النمسا ساخرة من تحالفها مع فرنسا لا تقبل منها نصيحة ولا تتبع لها رأيًّا، وكانت سياسة «شوازيل» ترمي إلى إضعاف الروسيا وتركيا في آن واحد، كما يتضح ذلك جليًّا من مذكرة رسمية أرسلها في شهر ديسمبر عام ١٧٦٩ إلى البرنس «كونيتز» وزير النمسا، وجاء فيها: «وترى فرنسا أن أحسن شيء يعود على تحالفنا — أي تحالف فرنسا والنمسا — بالفائدة هو أن تستمر الحرب بين الروسيا وتركيا مع انتصارات متبادلة من الجانبين حتى يضعف الخصمان بدرجة واحدة، وإذا ساعدتنا الأيام تكون لنا الفرص كلها والفوائد أجمعها.»

أما النمسا فكانت قد عقدت مع الروسيا في عام ١٧٥٣ معاهدة ضد الدولة العلية، ولكنها بطلت عام ١٧٦٢ بسبب تحالف الروسيا مع البروسيا، ولما أُعلِنت الحرب بين الدولة العلية والروسيا عام ١٧٦٨ اتبعت النمسا في بادئ الأمر سياسة الحياد مع مسالمة الدولة العلية.

وفي ختام عام ١٧٦٩ كلفت النمسا سفيرها في الدولة العلية المسيو «توجوت» أن يعرض على وزراء جلالة السلطان رغبة النمسا للتداخل في عقد الصلح بين المتحاربين، ولم تكن رغبة النمسا الحقيقية من هذا التداخل عقد الصلح، بل كان غرضها الوصول إلى امتلاك مقاطعة من أملاك تركيا وتوسيع نطاق المملكة النمساوية.

وسيجد القارئ في خلال هذا الفصل الخطة التي جرت عليها النمسا مع الدولة العلية، وكيف أنها حالفتها ضد الروسيا، وعملت في الوقت نفسه على الاتفاق مع الروسيا ضد تركيا!

وأما البروسيا، فقد كان ملكها وقتئذ «فريدريك الكبير» المشهور بدهائه السياسي وقدرته الفائقة على الاستفادة من كل حادث أوروبي، وقد جعل سياسته في المسألة الشرقية الاستفادة من الحرب بين الدولة العلية والروسيا مع المحافظة على استقلال الدولة العلية، وكتب في مذكراته السياسية الشهيرة «إنه يوجد لنا طريقتان أمام تقدم الروسيا واتساع أملاكها: الأولى: إيقافها في تقدمها وفتوحاتها، والثانية — وهي أحكم طريقة: الاستفادة من تقدمها، واتساع أملاكها وفتوحاتها بمهارة.» وقد اتبع فريدريك الكبير الطريقة الثانية كما كتب في مذكراته فكان متحالفًا مع الروسيا، وعلى تمام الصفاء مع تركيا، وبذلك كان يستفيد أكثر من غيره.

ولما قامت الحرب بين الدولة العلية والروسيا كان اشتغال فريدريك الكبير منحصرًا في الوقوف على الخطة التي ستجري عليها النمسا، هل تبقى وفية لفرنسا حليفتها، أي مصافية لتركيا وبولونيا، أو تنخدع للروسيا فيفقد التحالف الروسي البروسي أهميته الأولى؟ وقد وجد عندئذ فريدريك بدهائه الغريب وذكائه العالي طريقة مثلى لفصل النمسا من فرنسا، ولمنعها من معاداة الروسيا في الشرق وفي بولونيا، ولبقاء التحالف الروسي البروسي بأهميته الأولى، فوضع لذلك مشروع تحالف ثلاثي بين الروسيا وبروسيا والنمسا يكون غرضه حل المسألة الشرقية، لا في تركيا نفسها، بل في بولونيا بأن تُقسَّم هذه المملكة بين هاته الدول الثلاث.

وهذه الأمنية كانت أكبر أماني فريدريك الكبير أيام حكمه؛ لأنه كان يرى في تقسيم بولونيا ربحًا كبيرًا للبروسيا، واتساعًا لنطاقها بضم بولونيا البروسية لها.

وأول مرة فاتح المسيو «سولمس» سفير بروسيا في سان بطرسبورغ المسيو «بابين» وزير الروسيا الأكبر في مسألة تقسيم بولونيا، كان جواب الوزير الروسي: إن تحالف الدول الثلاث يجب أن يرمي أيضًا إلى تقسيم الدولة العلية. فلما سمع فريدريك هذا الجواب تخوَّف منه، وأهمل أمر التحالف الثلاثي في الظاهر.

وقد قلنا إن فريدريك الكبير كان يرى في بقاء الدولة العلية فائدة عظمة لبروسيا، وكان يستطلع بحدة ذهنه وقوة بصيرته من خلال الأيام الآتية أن مودة الروسيا للبروسيا لا تدوم أبد الدهر، وأن بقاء الدولة العلية قوية يكون كحاجز حصين أمام الروسيا، وكصخرة عالية واقفة أمامها، وبالجملة تكون للبروسيا قوة عظيمة يمكن الاعتماد عليها حسب مقتضى الحوادث.

وقد برهنت الأيام على أن فريدريك الكبير — وهو أول عامل على توسيع نطاق بروسيا، وأول واضع لمشروع الوحدة الألمانية الذي تم على يدي غليوم الأول وبسمارك — نظر نظرة بصير، فجاء من سلالته جلالة الإمبراطور غليوم الثاني مدركًا أهمية التودد للدولة العلية وتوثيق الروابط بينه وبينها، فاستفاد العالم من هذه المودة المزدوجة، واستفادت ألمانيا منها كثيرًا.

ولما علم فريدريك الكبير بجواب وزير الروسيا تخوف منه كما قدمنا، ولكنه لم يرجع عن عزمه الأول وهو العمل على تقسيم بولونيا، فرأى لنوال هذه البغية أن يتحبب إلى النمسا، ويتحد معها اتحادًا سريًّا يوقع الروسيا في الارتباك والبلبال، فتضطر إلى قبول آرائه، وتدرك فائدة التحالف معه والعمل بنصائحه، وبالفعل تقابل في مدينة «نيس» مع «جوزيف الثاني» إمبراطور النمسا وابن «ماري تيريزيا» الشهيرة، وتوصل إلى عقد اتفاقية ودِّية معه في شهر أغسطس عام ١٧٦٩.

فكانت نتيجة هذه الاتفاقية أن الروسيا صارت في بلبال زائد كما أراد فريدريك؛ فإنها كانت تجهل مضمونها، وكانت تظن أنها اتفاقية عُقِدت للعمل ضدها في المسألة الشرقية، فاضطرت إلى تجديد محالفتها مع البروسيا يوم ١٢ أكتوبر سنة ١٧٦٩، واشترط جعل أجلها ممتدًا إلى غاية عام ١٧٨٠، فنالت بذلك البروسيا ما كانت تتمناه، وهو أن الروسيا عرفت مقدار تحالفها معها، وصار لآرائها عندها تقدير القبول والرضى، وباتفاقها مع النمسا اتفاقية ودية صارت حليفة الروسيا وصديقة النمسا، ووضعت بذلك الأساس لمشروعها العظيم؛ أي مشروع تقسيم بولونيا بين الدول الثلاث.

وقد بعث فريدريك الكبير بأخيه البرنس هنري إلى سان بطرسبورغ لزيارة القيصر، فوصل عاصمة الروسيا يوم ١٢ أكتوبر سنة ١٧٧٠، وقد تحادث كثيرًا مدة وجوده في بطرسبورغ مع القيصرة ورجال السياسة الروسية في مشروع عقد تحالف ثلاثي بين الروسيا والبروسيا والنمسا، بقصد تقسيم بولونيا، فوجد لهذا المشروع قبولًا عند الروسيين لم يكن عندهم من قبل.

وقد بذلت البروسيا في ذلك الحين جهدها في إقناع الدولة العلية بضرورة إيقاف الحرب والتوسط في الصلح حتى رضيت الدولة العلية، وطالبت بمذكرة تاريخها ١٢ أغسطس سنة ١٧٧٠ من بروسيا والنمسا التوسط بينها وبين الروسيا في أمر عقد الصلح.

يرى القارئ مما تقدم سياسة كل من دول فرنسا والنمسا والبروسيا في المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر. أما إنكلترا فقد جرت في هذا القرن الماضي على سياسة مزدوجة، فكانت تساعد الروسيا في الحرب كل المساعدة، وتظهر للدولة العلية بمظهر الصديقة؛ لتقف على أسرارها حيث تطلع الروسيا عليها، ولما قامت الحرب بين الدولتين العلية والروسية كانت إنكلترا مشتغلة بأمور الهند التي كانت استولت عليها منذ بضع سنين من قبل.

ولما كانت الروسيا مصافية لإنكلترا وغير ميالة وقتئذ للاستيلاء على الهند، وسلبها من أيدي الإنكليز، وكانت فرنسا هي العدوة اللدودة لإنكلترا والدولة الوحيدة التي كانت تخاف منها إنكلترا على الهند — وقد كانت الهند من قبل ملكًا لفرنسا ومستعمرة من مستعمراتها — اتبع الإنكليز سياسة التقرب من الروسيا والتودد إليها ومعاداة فرنسا والدولة العلية.

وفضلًا عن الأسباب السياسية الداعية لذلك، فهنالك أسباب تجارية دفعت الإنكليز لمحاباة الروسيا، فقد كانت إنكلترا تتاجر وحدها في الشمال، وكانت واردات الروسيا كلها من إنكلترا، وكان الكثيرون من البحارة الإنكليز موظفين في المراكب الروسية، وقد أراد «شوازيل» وزير فرنسا الأكبر أن يضرب المراكب الروسية بالعمارة الفرنساوية، وقدم بذلك مذكرة لمجلس نظار فرنسا ولكنها رُفِضت، وقبل رفضها أعلنت وزارة لندره أن كل عمل يُعمَل ضد الروسيا يُعَد إهانة لإنكلترا واعتداء عليها، وهو قول يبيِّن مقدار ميل الإنكليز للدولة الروسية في ذلك الحين، أو بعبارة أصرح يبيِّن مقدار المكاسب العظيمة التي كانت تكسبها إنكلترا من الروسيا.

ومن أكبر الأسباب التي جعلت إنكلترا ضعيفة الصوت في مسائل الشرق في ذلك الحين هو اضطراباتها الداخلية، وقيام الأمريكيين بالثورة ضدها مطالبين بالاستقلال الذي نالوه بدماء أبطالهم، أي بأعز الأثمان.

ومن غريب أمر السياسة الإنكليزية أنها مع محاباتها للروسيا كل المحاباة أرادت أن تظهر لتركيا بمظهر الصداقة كما قدمنا؛ فعرضت عليها في صيف عام ١٧٧٠ أن تتداخل بينها وبين الروسيا لعقد الصلح، فأجابت الدولة العلية سفير إنكلترا بالآستانة «السير موري» بمذكرة حكيمة جاء فيها: «إنه لمن الأمور المدهشة الخارقة للعادة أن إنكلترا تعرض على الباب العالي توسطها في الحرب مع أن لها سفنًا في الأسطول الروسي حاربت ضدنا؛ ولذلك نحن نعتقد أن طلبها التوسط في الحرب ليس إلَّا ستارًا لأغراض أخرى ينويها العدو «أي الروسيا»، فلتعلن إنكلترا خطتها وسلوكها بدون مراوغة حتى يعلم الباب العالي مع أي المتحاربين هي أمعه أو ضده؟!» وقد أحدثت هذه المذكرة الحازمة تأثيرًا شديدًا لدى الإنكليز، وأفهمتهم أن الأتراك خبيرون بسياستهم وبما فيها من الغش والنفاق، فاضطروا لسحب ضباطهم وعساكرهم من الأساطيل والجيوش الروسية، ولكن ذلك جاء بعد أن قضت الحرب معظمها.

ولما طلبت الدولة العلية من بروسيا والنمسا التوسط في أمر الصلح، أبلغت إنكلترا الروسيا هذا الطلب لتأخذ حذرها، فكانت وظيفة إنكلترا في هذه المسألة أشبه بوظيفة جاسوس على الدولة العلية للروسيا.

•••

ولما علمت الروسيا بواسطة الإنكليز بأمر طلب الصلح، أرادت أن تعرقل مساعي البروسيا والنمسا، فأمرت الجنرال رومانتسوف بتاريخ ٢٦ سبتمبر سنة ١٧٧٠ أن يكتب إلى الصدر الأعظم بأن الروسيا مستعدة للمناقشة مع الباب العالي مباشرة في أمر الصلح متى أطلق سراح «أوبرسكوف» سفير الروسيا في الآستانة، وبذلك منعت الروسيا البروسيا والنمسا من التداخل في أمر الصلح مدعية بأن تداخل هاتين الدولتين يدعو لتداخل فرنسا، وهو الأمر الذي ترفضه القيصرة رفضًا باتًّا.

وفي هذه الأثناء استولى الجيش الروسي على مدينة بندر وأكرامان وبرايلا، ولما طال أمر المراسلات بشأن الصلح بين فريدريك وكاترينا كتبت قيصرة الروس إلى ملك بروسيا بتاريخ ٢٠ سبتمبر من السنة نفسها توضح له الشروط التي تشترطها لعقد الصلح، وهي الاستيلاء على أزوف وكاباردا مع استقلال البغدان والأفلاق، أو بقاء هاتين المقاطعتين تحت حكم الروسيا مدة ربع قرن كغرامة حربية، واستقلال ترتار البسرابي والقرم وحرية الملاحة في البحر الأسود والتنازل عن جزيرة للروسيا في الأرخبيل، وعفو عام عن كل اليونانيين الذين ثاروا ضد الدولة العلية أثناء الحرب.

فلما اطلع فريدريك على هذه الشروط اندهش غاية الاندهاش من مطالب الروسيا وأطماعها، وقد حصل وقتئذ أن رئيس أفندي — وهي وظيفة كانت في الدولة العلية بمثابة وظيفة ناظر الخارجية — أخبر سفيري النمسا وبروسيا أن الدولة العلية لا تقبل المخابرة مع الروسيا مباشرة بشأن الصلح، ولكنها تقبل توسط النمسا والبروسيا، وأبلغهما أنه أعلن ذلك للجنرال رومانتسوف.

وقد كتب فريدريك لما اطلع على شروط الصلح المبعوثة إليه من القيصرة إلى أخيه البرنس هنري — الذي كان لا يزال بسان بطرسبورغ — بتاريخ ٣ يناير سنة ١٧٧١: «لقد اندهشت اندهاشًا عظيمًا لما اطلعت على الشروط التي تقدمها الروسيا للصلح، وأنه يستحيل عليَّ أن أقدمها للأتراك أو للنمساويين؛ لأنها شروط لا يمكن قبولها.» وأبان فريدريك في كتابه لأخيه أن هذه الشروط لا يمكن لدول أوروبا قبولها، وأنها تعتبر إعلان حرب للنمسا، وقد كتب بنفسه للقيصرة بتاريخ ٥ يناير سنة ١٧٧١ أنها إذا كانت تريد اجتناب الحرب مع النمسا، يجب عليها أن تكتفي بأخذ أزوف والكاباردا وبحُريَّة الملاحة في البحر الأسود.

وفي أثناء ذلك كانت القيصرة كاترينا تتحدث مع البرنس هنري بسان بطرسبورغ في أمر تقسيم بولونيا، فلما كتب البرنس هنري إلى أخيه بذلك سُرَّ ملك بروسيا حيث جاء هذا الأمر موافقًا لرغائبه، واجتهد في جعل حل المسألة الشرقية في بولونيا فقط لعلمه بما لبقاء الدولة العلية من اللزوم والأهمية، فأراد تقسيم بولونيا على شرط أن الروسيا لا تأخذ البغدان والأفلاق.

وقد جرى عندئذ أن النمسا طمحت لمحالفة تركيا ضد الروسيا، والعمل للاستفادة من هذه المحالفة ولو ضد تركيا نفسها، فبعث «كونيتز» رئيس الوزارة النمساوية إلى المسيو «توجوت» سفير النمسا في الآستانة يأمره بمخابرة رجال الدولة العلية في أمر عقد محالفة بين النمسا وتركيا يشترط فيها أن تركيا تدفع سنويًّا للنمسا ٣٤ مليونًا من الفلورينو، أي فوق الثلاثة ملايين من الجنيهات، وأن تتنازل لها عن «الأفلاق» ومدينة بلغراد، وأن تجعل للنمساويين في ممالك الدولة العلية أهم الامتيازات التجارية، وفضلًا عن كل هذه الشروط تقدم للنمسا في حالة الحرب من خمسين إلى ستين ألف مقاتل، وتشترط النمسا على نفسها مقابل ذلك أن تحارب الروسيا مع تركيا إذا لم ترضَ القيصرة بطريق المخابرات إعادة البلاد التي استولت عليها إلى الدولة العلية.

وقد سعى «كونيتز» عندئذ لدى فريدريك ملك بروسيا أن يبقى على الحياد إذا قامت الحرب بين النمسا والروسيا، ولكن فريدريك اتبع طريق المراوغة فلم يجب بجواب صريح.

أما فرنسا حليفة النمسا، فكانت تعمل في هذا الحين على مساعدة تركيا بأسطولها مقابل عوض مالي، ولكن «توجوت» سفير النمسا — الذي كان كاتب سرًّا الحكومة الفرنساوية كجاسوس لها مقابل أجرة شهرية، وكان في الحقيقة يغشها، ولا يخدم إلَّا مصلحة النمسا وطنه — بذل أقصى جهده من حين علم بهذا المشروع على إحباط مسعى فرنسا، فأبان لرجال الدولة العلية أن مساعدة الأسطول لا تفيد شيئًا ما؛ لأن الحرب برية محضة لا بحرية، وأن قصد فرنسا ليس مساعدة الدولة العلية، بل معاداة الروسيا ومد أمد الحرب إلى ما شاء الله. فأفلح «توجوت» واقتنع رجال الدولة بصدق أقواله وصحة أفكاره، ورفضوا مشروع فرنسا.

وقد كان رجال الدولة العلية يؤملون أن اتفاق فرنسا مع الدولة يحمل النمسا — حليفة فرنسا — على مساعدة تركيا، ولكن النمسا كانت تخشى هذا الأمر لما فيه من التقيد لها، ولعلمها بأنها لا تستطيع أن تخدع تركيا إذا كانت فرنسا متحدة معها، بخلاف ما إذا كانت هي المتحدة مع الدولة العلية دون غيرها؛ ولذلك كان فشل مشروع فرنسا مضرًّا بالدولة العلية مفيدًا للنمسا حليفة فرنسا!

ولما فشل مسعى فرنسا عمل «توجوت» على عقد التحالف بين النمسا وتركيا، ومن حسن حظ النمسا وقتئذ أن خضعت تاتار بلاد القرم للروسيا، وصارت كتاتار البسرابي، فاضطرت الدولة بهذا السبب لتعجيل الاتفاق مع النمسا وقبول معاهدة التحالف؛ فأمضت المعاهدة مساء يوم ٦ يوليو سنة ١٧٧١، وشروط هذه المعاهدة: أن النمسا تتعهد بمساعدة تركيا ضد الروسيا، وعدم سلخ أي جزء من الأملاك العثمانية، والمحافظة على استقلال بولونيا مراعاة لشرف الدولة العلية، وأن تتعهد تركيا بدفع مبلغ ١١٣٥٠٠٠٠ فلورينو للنمسا — لا ٣٤ مليونًا كما طلبت النمسا أولًا — أي نحو المليون جنيهًا، وبالتنازل للنمسا عن أراضي «الأفلاق»، وبمساعدة الرعايا النمساويين في بلاد الدولة العلية على ترويج تجارتهم وصنائعهم، واشترط بين الدولتين المتعاهدتين أن هذه المعاهدة يُكتَم أمرها خصوصًا على فرنسا حليفة النمسا إذ ذاك.

وقد رفع «توجوت» صورة هذه المعاهدة إلى حكومة دولته، وطلب التوقيع عليها.

فلما وصلت صورة المعاهدة إلى «كونيتز» اطمأن من جهة الدولة العلية، وأخذ يهدد الروسيا مؤملًا بهذا التهديد حملها على مخابرته في شأن تقسيم الدولة العلية، وقد كان ذلك، وأرسلت الروسيا الكونت «ماسين» حاملًا لجملة مشروعات تختص بالدولة العثمانية، ومكلفًا من قبل القيصرة بعرضها على «كونيتز»، ومن ضمن المشروعات مشروعان يشتملان على عقد اتحاد بين النمسا والروسيا يكون غرضه الوحيد إخراج الأتراك من أوروبا، وتقسيم الدولة العلية. فالمشروع الأول: يبين صورة تقسيمها بين الدولتين بأن تأخذ النمسا صربيا والبوسنة والهرسك وألبانيا ومقدونيا، ويترك للروسية بقية أملاك الدولة العلية بما فيها الآستانة. وفي المشروع الثاني: تأخذ النمسا الأفلاق وصربيا وبلغاريا والهرسك، وتأخذ الروسيا مقدونيا وألبانيا ورومانيا وقسمًا عظيمًا من الأرخبيل وآسيا الصغرى والآستانة، وتأخذ كذلك الروسيا الأراضي الواقعة على شمال الدانوب، وشواطئ البحر الأسود. أما بلاد القرم والمورة فتبقى مستقلة.

والمشروع الثالث: يتضمن بقاء الترك على الشاطئ الشمالي للدانوب، وإعطاء صربيا والبوسنة والهرسك للنمسا، وما على شواطئ البحر الأسود للروسيا، مع استقلال التاتار … وقدم الكونت «ماسين» غير ذلك مشروعات أخرى تتعلق بتقسيم بولونيا بين الروسيا والنمسا والبروسيا.

وقد اطلعت النمسا على هذه المشروعات كلها، وتباحثت فيها واحدًا بعد آخر في وقت كانت تعد فيه متحالفة مع تركيا تحالفًا يقتضي رد الروسيا عن أملاك الدولة العلية وبقاء تركيا سليمة كما كانت قبل الحرب والمحافظة على احتلال بولونيا …

وبينما كانت النمسا تتباحث في هذه المشروعات الغريبة، كان فريدريك الكبير ملك بروسيا يسعى لتقسيم بولونيا مع بقاء مقاطعات الدانوب تحت سلطة الدولة العلية، أي لحل المسألة الشرقية في بولونيا كما قدمنا.

أما الدولة العلية: فقد قامت بما تعهدت به نحو النمسا، وأرسلت إلى حكومة فيينا بتاريخ ٢٥ يوليو سنة ١٧٧١ جانبًا من مبلغ المليون جنيه الذي فرضته على نفسها، وقد طلبت الدولة العلية جملة مرات التوقيع على معاهدة التحالف، غير أن النمسا كانت تهمل طلب الدولة رغبة منها في الوصول إلى نوال مآربها وأغراضها بدون حرب وقتال، وقد كانت سياسة «كونيتز» ترمي إلى عقد اتفاق يفيد النمسا فائدة عظمى، إما مع الروسيا ضد تركيا، أو مع تركيا ضد الروسيا؛ فلذلك كان يؤجل كل مرة أمر التوقيع على معاهدة التحالف مع تركيا أملًا منه في الوصول إلى عقد اتفاق مع الروسيا يكون أكبر فائدة وأعظم نفعًا، وكان يخشى «كونيتز» أنه إذا أمضى على معاهدة الاتحاد مع تركيا تُقسَّم الروسيا والبروسيا بلاد بولونيا بين دولتيهما بدون أن تأخذ النمسا شيئًا منها.

ولما رأى كونيتز أن الدولة العلية تلح كثيرًا في أمر التوقيع على عهدة التحالف، كتب إلى الحكومة العثمانية بتاريخ ١٤ أكتوبر سنة ١٧٧١ كتاب صدق وإخلاص قال لها فيه: «إن دولته محافظة على عهودها وفية في تحالفها.» ولكنه لم يرسل مع ذلك بالعهدة موقَّعًا عليها.

وفي هذه الأثناء علم سفير إنكلترا بالآستانة اللورد «موري» بأمر المبلغ الذي أرسلته الدولة العلية للنمسا فأخبر سفير دولته في باريس، وهذا أخبر سفير البروسيا بها. فلما علم فريدريك الكبير بهذا الخبر بعث به في الحال إلى القيصر، وكتب إلى سفيره بالآستانة يأمره بأن يرشد وزراء الدولة العلية إلى حقيقة أغراض النمساويين، ويبين لهم أنها تعمل للإضرار بمصالح حكومة جلالة السلطان، وكتب كذلك فريدريك إلى سفيره بباريس يأمره أن يعرض على الوزارة الفرنساوية أن تطلب عقد مؤتمر بالآستانة لعقد الصلح بين الروسيا وتركيا. كل ذلك قصد به فريدريك الكبير أن يظهر النمسا لدول أوروبا بمظهر الدولة الخداعة في ودها الخائنة لعهودها مع تركيا وفرنسا في آن واحد.

وقد كانت الحرب مع تركيا أضعفت الجيوش الروسية كثيرًا، وقتالها في بولونيا جعلها في أشد حاجة للراحة والسكينة، فضلًا عن أن المال كان ينقص وقتئذ الدولة الروسية، فكتبت «كاترينا» إمبراطورة الروسيا بتاريخ ٦ ديسمبر سنة ١٧٧١ إلى فريدريك الكبير ملك بروسيا تخبره أنها تنازلت عن مطالبها بشأن «البغدان والأفلاق»، ولكنها تطلب من تركيا التنازل لها عن بعض مدائن منها «بندر» و«أوتشاكوف»، وتعلمه بأنها قبلت تقسيم بولونيا، وإعطاء البروسيا ما طلبته منها؛ أي بولونيا البروسية و«فارميا»، وتطلب القيصرة مقابل ذلك من ملك بروسيا أن يسيِّر عشرين ألف جندي على مقاطعتي «الأفلاق والبغدان» إذا قامت النمسا بمحاربة الروسيا.

وعند وصول هذا الكتاب إلى فريدريك الكبير ملك البروسيا كان همه موجهًا إلى تقسيم بولونيا وتوسيع دائرة أملاك بلاده، ففرح غاية الفرح بكتاب القيصرة، وانتهى الأمر باتفاق الروسيا والبروسيا على تقسيم بلاد بولونيا التعسة، وصارت النمسا بهذا الاتفاق بين أمرين: إما الوفاء بالعهد لتركيا وفرنسا ومعارضة مشروع تقسيم بولونيا، وإما الاتفاق مع الروسيا والبروسيا وعدم احترام عهودها نحو تركيا وفرنسا. فاختار كونيتز الأمر الثاني عاملًا بالمبدأ السياسي القائل: «بأن لا عهد ولا شرف في السياسة»، ووافق الإمبراطور جوزيف والإمبراطورة ماري تيريزيا والدته على خطة كونيتز، وكان ذلك في أوائل عام ١٧٧٢.

وفي يوم ٢٨ يناير سنة ١٧٧٢ كتب «كونيتز» إلى حكومة الروسيا يبلغها قبول النمسا لمشروع تقسيم بولونيا، ولمطالب القيصرة نحو الدولة العلية، مظهرًا أمله وأمل حكومته في أن النمسا تأخذ من أملاك الدولة العلية شيئًا كما أخذت من بلاد بولونيا، أي أن تُقسَّم الدولة العثمانية كما قُسِّمت بولونيا!

وبذلك يرى القارئ أن النمسا بعد أن تحالفت مع تركيا على أن ترد الروسيا عن أملاكها بواسطة المخابرات السياسية أو بواسطة الحرب وأن تدافع عن استقلال بولونيا، وبعد أن قامت إليها الدولة العلية ما طلبت من المال، عرضت بنفسها على الروسيا والبروسيا في يناير عام ١٧٧٢ تقسيم بولونيا وتجزئة الدولة العلية!

وهي نتيجة اعترفت «ماري تيريزيا» نفسها بأنها لا تشرِّف المملكة النمساوية، وقالت عنها في رسائلها السياسية: «إنها سياسة جرت عليها النمسا ضد الشرف، وضد مجد المملكة، وضد الذمة والعقيدة.»

وقد تم اتفاق الروسيا والبروسيا والنمسا على تقسيم بولونيا، وانتهى الأمر بتقسيم هذه المملكة بفضل دسائس الدخلاء، وانقسام أهلها على بعضهم، وذهبت هذه الأمة البولونية الشريفة المشهورة بالوطنية الفائقة والشهامة العظيمة ضحية مطامع الدول الثلاث، وفريسة الدسائس الأجنبية والشقاق الأهلي.

وقد امتنعت الدولة العلية عن إرسال المدد المالي للنمسا لما رأت تلاعبها معها وتلونها في سياستها، فجعل «كونيتز» عدم إرسال المدد المالي سببًا لحل التحالف بين دولته وتركيا!

ولما علمت الدولة العلية بأن الروسيا قابلة لعقد الصلح بدون استيلائها على مقاطعتي «البغدان والأفلاق» رضيت بالصلح، وعقدت مع حكومة الروسيا هدنة بتاريخ ١٠ يونيو سنة ١٧٧٢، واتفق رجال الدولتين على اجتماع مندوبين من قبليهما بمدينة «فوكتشاني» للمناقشة في شروط الصلح، فاجتمع المندوبون، ولبثوا مجتمعين عشرين يومًا اتفقوا فيها على سائر الشروط إلَّا على شرط استقلال الترتار. فقد طلب مندوبو تركيا بقاء الترتار تحت سلطة الدولة العلية؛ لأن جلالة السلطان بصفته خليفة المسلمين لا يمكنه التنازل عن السلطة عليهم. فرفض الروسيون هذا الطلب وبذلك انحل المؤتمر، وبعد انحلاله بزمن عرضت الروسيا على الدولة العلية عقد مؤتمر آخر فقبلت الدولة وعُقِد المؤتمر بمدينة «بوخارست» بعد أن عُقِدت هدنة ثانية جُعِل آخر أجلها ٢١ مارس سنة ١٧٧٣، وقد اتفق مندوبو الروسيا وتركيا في هذا المؤتمر على مسألة الترتار، فرضيت الروسيا ببقائهم تحت سلطة جلالة السلطان، ولكنها طلبت من تركيا التنازل لها عن «كرتش» و«يني قلعة»، فلم تقبل تركيا ذلك، وانحل هذا المؤتمر أيضًا — كما انحل المؤتمر الأول بغير نتيجة — في أوائل يناير ١٧٧٣.

وقد عادت المخابرات مرة أخرى بين الدولتين بتاريخ ١٥ فبراير سنة ١٧٧٣ ولكن الاتفاق كان مستحيلًا؛ لأن الروسيا كانت تطالب بعزم ثابت بكرتش ويني قلعه، وساسة الدولة العلية كانوا يرفضون طلب الروسيا أشد الرفض؛ لأنهم كانوا يرون — والحق معهم — أن أخذ هذين الموقعين يجعل الآستانة في خطر مستمر من جهة الروسيا؛ ولذلك أُقفِل باب المخابرات، وعادت الحرب بين الدولتين، فأمرت القيصرة «رومانتسوف» جنرال الجيش الروسي بأن يسير وراء الدانوب، ويحمل على العثمانيين، فسار بأمرها الجيش الروسي يوم ١٣ يونيو سنة ١٧٧٣، وحمل على «سيليستريا» — وهي مدينة ببلاد البلغار — ولكن الجيش العثماني انتصر عليه انتصارًا عظيمًا، وقطع عليه خط الرجعة حتى فقد الجيش الروسي معظم رجاله، فقام عندئذ الجنرال فيسمان الروسي بعمل جملة مناورات اضطرت الأتراك للرجوع إلى الوراء، وقد مات في هذه المناورات الجنرال فيسمان نفسه، ولكنه أعاد للجيش الروسي بعض قوته.

وقد رأت الروسيا عندئذ أن مصلحتها تقضي عليها بعقد الصلح مع الدولة العلية، خصوصًا وأن جيوشها انهزمت هزيمة شديدة بالقرب من «وارنا»، وأن أهل القرم أظهروا ميلهم للانضمام مع جلالة السلطان ضد الروسيا، فضلًا عن أن ثورة أهلية قامت في الروسيا تحت قيادة رجل اسمه «بوجاتشيف» كانت تهدد القيصرة وملكها؛ فلذلك طلبت الروسيا من النمسا التوسط بينها وبين الدولة العلية في أمر الصلح مقابل جزء تُعطاه من أملاك تركيا نفسها.

وفي ذلك الحين توفي المرحوم السلطان «مصطفى الثالث»، وتولى بعده السلطان «عبد الحميد الأول» فأمر باستمرار الحرب، ولكنها عادت بخسائر جمة على الدولة؛ لأن الجيش كان غير مستعد للقتال بعد الحروب الطويلة التي قام بها، فاضطر الصدر الأعظم إلى عرض الصلح على الجنرال «رومانتسوف»، وتم الاتفاق بينهما في ١٠ يوليو سنة ١٧٧٤، وأمضيا بعد ذلك في ٢١ يوليو سنة ١٧٧٤ على عهدة الصلح بمدينة «كوتشك قاينارجه»، وهي أشهر عهدة أمضت عليها الدولة العلية والحجر الأول للمسألة الشرقية، وعنوان النزاع بين المسيحية والإسلام، وأصل الحروب الطويلة التي وُجِّهت ضد الدولة في القرن التاسع عشر والأزمات الشداد التي وقعت فيها.

وشروط هذه المعاهدة: أن الدولة العلية تتنازل للروسيا عن الكاباردا، وتضع مقاطعات الدانوب تحت حمايتها، وتعلن استقلال بلاد القرم تحت ضمانتها، وتتنازل لها عن «أزوف» «وكرتش» و«يني قلعة» وتعطيها حق الملاحة في البحر الأسود، وشبه حماية معنوية على رعايا الدولة العلية المسيحيين عمومًا والأرثوذكسيين منهم خصوصًا.

وهذا الشرط الأخير كان ولا يزال آفة الدولة العلية في علاقاتها مع دول أوروبا، فكلها تتداخل في شئون الدولة باسم المسيحية، وإذا قامت الحرب بينها وبين إحدى الدول كانت العلة المسيحية وحقوقها، وأن سياسة الروسيا مع الدولة العلية في القرن الثامن عشر كانت كسياستها مع مملكة بولونيا التعسة، تخلق لنفسها حزبًا في قلب المملكة يخلق لها الاضطرابات والمشاكل عند الحاجة؛ لتتداخل في شئون المملكة الداخلية باسم هذا الحزب وبحجة نصرته، ولكن هذه السياسة التي أفلحت في بولونيا تمامًا بفضل النمسا والبروسيا لم تفلح في تركيا تمامًا كما كانت تؤمله الروسيا؛ لما عند العثمانيين من الشهامة الحقيقية، ولما لجيشهم من القوة الهائلة، ولما بين الدول الأوربية من الشقاق والاختلاف بشأن أمور تركيا ومسائل الشرق.

أما النمسا: فقد انتهزت فرصة اشتغال الروسيا وتركيا بأمر الصلح، ووضعت يدها على جزء مهم من البغدان، وعرضت على الروسيا مقابل ذلك مشروعًا يتضمن تحالفها معها ضد الدولة العلية!

ولم توقع الحكومة العثمانية نهائيًّا على معاهدة «قاينارجه» إلَّا يوم ٢٤ يناير سنة ١٧٧٥.

ولم يمضِ على هذه المعاهدة زمن يسير حتى أحدثت الروسيا في بلاد القرم الاضطرابات بفضل الدخلاء العاملين بأمرها، وأرسلت جيشًا جرارًا إلى داخل البلاد بدعوى تسكين الاضطرابات، ولكن غرضها الحقيقي كان الاستيلاء على بلاد القرم، وبالفعل استولت عليها، وظهر للعيان أن الروسيا إنما كانت تعمل لإخراج هذه البلاد من حوزة الدولة العلية، وأن بذل جهدها في سبيل إعلان استقلالها لم يكن إلَّا ليسهل لها الاستيلاء عليها، وقد احتجت الدولة العلية ضد هذا العمل المخالف لشروط معاهدة «قاينارجه» وأرادت إعلان الحرب ضد الروسيا، ولكنها رجعت عن عزمها بنصائح فرنسا التي كانت تعلم أن الروسيا والنمسا متفقتان على تقويض أركان السلطنة العثمانية.

ولكن الروسيا كانت تبذل أقصى جهد للوصول إلى إعلان الحرب بينها وبين تركيا، فأرسلت مبعوثين من عندها؛ لتهييج بلاد اليونان والأفلاق والبغدان ضد السلطنة السنية، ونشرت الجواسيس في أنحاء الدولة العلية؛ ليحدثوا فيها القلاقل، ويخلقوا الاضطرابات. فلما رأت الدولة العلية ذلك، وأن لا مناص لها من الحرب طلبت من سفير الروسيا بالآستانة أن يخابر دولته في تسليم حاكم الأفلاق الذي عصى أمر الدولة والتجأ إلى الروسيا، وفي عزل قناصل الروسيا المهيجين للأهالي في بلاد الدولة، وفي منح الدولة العلية حق تفتيش مراكب الروسيا التجارية التي تمر من بوغاز الآستانة.

فرفضت الروسيا هذه الطلبات، وكان ذلك الرفض إعلانًا للحرب بينها وبين الدولة العلية.

ولما كانت النمسا متفقة مع الروسيا على مساعدتها ضد تركيا، أرسل جوزيف الثاني إمبراطور النمسا جيشًا عظيمًا لمحاربة الأتراك والاستيلاء على مدينة «بلغراد» فانهزم جيشه أمام العثمانيين، واضطر للعودة إلى مدينة «تمسوار» ببلاد المجر حيث اقتفى أثره الجيش التركي وهزمه هزيمة عظيمة.

أما الجيش الروسي، فقد استولى في هذه الأثناء على مدينة «أوزي» وبينما الجيش العثماني يقاوم جيش الروسيا والنمسا إذ مات المرحوم السلطان «عبد الحميد الأول» في ٧ أبريل سنة ١٧٨٩، وتولى بعده السلطان الغازي «سليم خان الثالث» حيث أمور الدولة مرتبكة والحرب قائمة على قدم وساق، وقد انتهز الروسيون فرصة انتقال الملك في الدولة العلية، واتحدوا مع النمساويين في الحركات العسكرية، وتولى القيادة العامة قائد واحد، فانتصر الجيشان على جيش الدولة، واستولى الروسيون على مدينة «بندر» واحتلوا جزءًا عظيمًا من بلاد الأفلاق والبغدان وبسرابيا، ودخل النمساويون بلاد الصرب ومدينة بلغراد.

وقد مات حين ذاك جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، وعقبه على سرير المملكة النمساوية ليوبولد الثاني، فسعى في عقد الصلح مع الدولة العلية تخوُّفًا من قيام النمساويين بالثورة ضده تقليدًا للأمة الفرنسوية التي كانت ثائرة وقتئذ ثورتها الأولى الكبيرة ضد لويس السادس عشر. فعقدت عهدة بين النمسا والدولة العلية في أغسطس سنة ١٧٩١ بمدينة «زشتوي» وقد ردت النمسا إلى الدولة العلية بمقتضى هذه المعاهدة بلاد الصرب وبلغراد التي كانت في قبضتها، ولم تخسر الدولة العلية من هذه الحرب مع النمسا خسارة تُذكَر.

أما الروسيا: فقد استمرت بمفردها على محاربة الدولة العلية حتى توسطت بينهما البروسيا وإنكلترا وهولاندا، فأمضيت بينهما معاهدة بمدينة «ياش» أخذت الروسيا بمقتضاها بلاد القرم نهائيًّا وبساربيا والبلاد الواقعة بين نهري بوج دينستر ومدينة «أوتشاكوف».

وبذلك انتهت هذه الأزمة الشديدة التي جاءت في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت عنوانًا لأزمات شداد توالت بعد بعضها في القرن التاسع عشر. نأتي عليها الواحدة بعد الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤