الفصل الرابع

في سفر جنتمكان محمد علي الجليل الشان إلى جبال فازغلو ببلاد السودان لاستكشاف المعادن الذهبية والكشف عنها بحضوره وإعمال الطرق التجريبية.

***

لما مَهَّدَ محمد علي في مصر الزراعة والتجارة والصناعة التي هي المنافع العمومية، وكَثُرَتْ ثروة مصر بالأخذ والعطاء، وحَظِيَ أهلها بطيب العيش والرفاهية، وذاقوا ثَمَرَة العدل والإحسان والفضل والامتنان، وكان أَوَاخِرُ عصر المرحوم محمد علي بالنسبة إليهم ما كان يُسَمَّى عصر الذهب عند أمة اليونان في أوائل تلك الأزمان، حيث عَوَّضَ الله سبحانه وتعالى أهْلَ مصر في مُقَابَلة ما ذاقواه من الشدائد في أول الأمر ذَوْقَهُم طَعْم الهناء والراحة التامة في آخرِهِ، وذلك مصداق قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.

وكان المرحوم لا يزال يَصْرِف وقْتَه في تكميل المنافع العمومية للديار المصرية، وكانت الأقطار السودانية التي تَحْتَ حكومته تَتَّجِر قديمًا وحديثًا — لا سيما في الذهب — وشهيرة بما فيها من المعادن المشبعة، صَرَفَ هِمَّتَه العلية إلى توسيع استخراج المعادن بتلك الجهة، لما أنَّ معدن الذهب من أشرف نِعَم الله على عباده؛ إذ به قوام الدنيا ونظام أحوال الخلق، فإن حاجات الناس إليه كثيرة، وكلها تُقْضَى بالنقدين ويُبَاع بهما ويُشْرَى كل شيء، بخلاف غيرهما من المعادن، فإنه يَرْغَب فيه كُلُّ أحد رَغْبَتَه في النقدين، حيث هُمَا كالقاضيين المصالح لكل من لَقِيَهُما؛ ولذلك قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لأن المقصود منهما تداولهما بين الناس لقضاء الحوائج، فمن كَنَزَها فقد أَبْطَل الحكمة التي خُلِقَا لها، وكان كَمَنْ حَبَسَ قاضيَ البلد ومَنَعَه أن يَقْضِيَ بين الناس، فالذهب والفضة كما يَجْلِبان المنافع يَجْلِبان المضارَّ.

وأمهات معادن الذهب المستخرجة في هذا العهد هي معادن بلاد الأمريكة، تخرج من جوف الأرض أو من تنظيف الرمال الذهبية، وفي بلاد أفريقيا التبر فَرْع عظيم في تجارة السودان، وليس في بلاد أوروبا إلا معادن سبيرن ببلاد الموسقو، ومعادن بلاد المجر في مملكة النيمسا، وفي آسيا معادن الذهب ورماله، وأما معادن الفضة الشهيرة في بلاد أمريكة بإقليم بِرُو وغيره، وهي التي تعطي كمية عظيمة من الفضة المتعامل بها في أيدي التجار، ففي بلاد مقسيقا أَزْيَد من ثلاثة آلاف معدن مستخرج، وكذلك معادن بلاد بِرُو بأمريكة فإنها مُثْرِية جدًّا، ومعادن كاليفورنيا المشهورة بالذهب المشبع التي اسْكُتْشِفَت سنة خمسة وستين ومائتين وألف وهي في جمهورية مقسيقا، فبلاد أفريقيا لها شَبَهٌ بأمريكة؛ فلهذا أَرْسَل المرحوم محمد علي باشا عدة مرات مَنْ يَلْزَم من المعدنجية لتجريب معادنها، فلم يَقِفْ منهم على حقائق تامة في شأن ذلك فَشَكَّ في مهارتهم وفي اجتهادهم.

وقد كان حكمدار بلاد السودان أرسل إليه عِدَّة فلزات من الذهب على سبيل العينة، فكاد يطير بها فرحًا، فأرسل في نحو سنة مائتين وألف كلا من موسيو روسيجير وموسيو برياني الكيماوي، فالأول كان قد ذَهَبَ إلى المعادن قبل الثاني بكثير، فشرع في التجربة، ورجع إلى الخرطوم فوجد موسيو برياني قد أقام بها ينتظر الفصل المناسب، فكتب موسيو روسيجير من الخرطوم إلى المرحوم محمد علي ما مضمونه أن النفر الذي يشتغل في المعدن باليومية يستخرج ذهبًا بعشرة فرنكات كل يوم؛ يعني: بأربعين قرشًا ميريا، وكان ذلك في مدة ولاية خورشيد باشا لحكمدارية السودان، وأخبر المعدنجي الحكمدار بذلك فَلَمْ يُصَدِّق ذلك الحكمدار المذكور، وأما المعية السنية فأخَذَتْ كلام المعدنجي المذكور قضية مُسَلَّمَة، واعتقد ذلك أيضًا المرحوم محمد علي، وتباشر بأنه إذا صار استخراج المعادن على هذه الكيفية يصير أغنى الملوك، وانتقلت الرغبة في الزراعة التي بها غذاء أهل مصر، والتي هي كاللبن لرضاعهم إلى الرغبة في المعادن، فصار مطمح النظر من النيل أنه وسيلة المسير فيه؛ لاستخراج الذهب وجلبه، وكأنما هذا الغرض هو المقصد منه بالأصالة.

ثم لما اعْتَدَلَ الوقت للياقة السفر إلى المعادن خرج موسيو روسيجير وموسيو بورياني من الخرطوم ومعهما من الخفر ألف من عساكر الجهادية تحت رياسة مير اللوى مصطفى بك، وصاروا جميعًا حتى وَصَلُوا إلى فازغلو وشرعوا في استخراج المعدن والبحث عنه، فوجد حفائر حفَرَتْها العبيد قبل ذلك وبجوانبها قصاع من الخشب، فكل واحد من المعدنجية أَخَذَ قصعة وعمل صنعة التنظيف للرمل الخارج من الحفرة، فلم يَظْهَر لأحد منهم رِبْح، بل ما تَبَقَّى من بعد التصفية إنما هو فلزات مشوبة بالحديد والتراب.

ثم كَرَّرُوا التجربة فلم تُنْتِج أَزْيد من ذلك، فإن موسيو بورياني أَخَذَ قنطارين من الرمل وصفاهما، فَلَمْ يَخْرُج منهما سوى حبة ونصف من الذهب وكذلك موسيو روسيجير، ثم توجهوا إلى جهة سنجة، وهي أَبْعَد محلٍّ فَتَحَه المرحوم إسماعيل باشا ومشهورة بكثرة الذهب، فمكثوا فيه ليلةً بوادٍ يُسَمَّى: خور البابا، كان العبيد قد حَفَرُوا فيه حفائر لاستخراج الذهب، ثم ذهبوا إلى مَحِلٍ، يقال له زنبو، حوله غابات عظيمة ووديان وسفوح منخفضة، ووصلوا إلى وادٍ يُسَمَّى: وادي توماتو جاري المياه، فوجدوا فيه حفائر وقِصاعًا مُعَدَّة لتنظيف الذهب وتنقيته، فكانت نتيجة التجربة كالسابقة، فاقتضى الحال أن يَمُرُّوا بغابات غير مسلوكة، فوصلوا إلى جبل أبو غولجي ونزلوا بهذه الجهة المشهورة بمعادنها الذهبية، فأرسلوا بطلب شيخ السودان هناك ليَسْتَعْلِمُوا منه عن ذلك، فأبى الحضور فرجعوا من طريقهم بوادي أبو غوجلي نَفْسه، فكان يبسًا لا ماء فيه بكثرة، وإنما كانوا يجدون في طريقهم في الحفر بعض مياه وبعض حفائر حَفَرَها العبيد.

وعلى حكايتهم أن هذه المعادن التي بهذا الوادي كثيرة الذهب، ثم بعد ذلك بمسير مسافة ساعة صوْب العرب وَجَدُوا واديًا آخر عالي الحوافي الصخرية فلم يَقِفُوا عنده، وبينما هم سائرون في أباطحه قَبَضَ موسيو بورياني قبضة من الرمل فوجد بها أربع فلزات من الذهب كُلُّ فلز منها وَزْن حبة، فساروا من وادي إلى آخر حتى وصلوا تجاه جبلي سنجة وغويزة وبسفحهما بنو شنغول وسنجة، ولهم مساكن لطيفة مَقْبُوَّة، يقال لها: توكول، وَعِدَّتُهَا تُنَيِّف عن ألفي بيت، وعَرْض جبل سنجة في الدرجة العاشرة والعشرين دقيقة شماليًّا، ولا يزرع سودانها إلا قليلًا من الذرة والدخان حَوْل مساكنهم، فلما رأوا العسكر قَرُبُوا من مساكنهم وَلَّوْا هاربين، فدَخَلَ العسكر مساكنهم فوجدوا بها الآلات والأدوات المستعملة لتنظيف الرمل واستخراجه منه، فبَعَثَ رؤساء العسكر لطَلَبِهم، فلم يحضروا ولا حَضَر المندوبون في طَلَبِهم، ولا ظَهَرَ عنهم خَبَر، ولا بَانَ لهم أَثَر، فاحترس العرضيُّ كل الاحتراس، وضُرِبَت الخيام في محالَّ عالية من الوادي خوفًا من الهجوم، فظَهَر على حين غفلة فوق الجبل وعلى البعد عِدَّة من العبيد حتى دَنَوا من العرضيِّ، وصاروا يَرْمُون العساكر بسهامهم وحِرَابهم.

وكان العسكر قد سَكَنُوا بمساكنهم، فهَجَم عليهم العسكر فهَرَبُوا ثم عادوا وصاروا يُحَارِبون إلى الليل.

ولما اعْتَكَر الليل أحاطوا بالعسكر من كل جانب، ولم يَتَشَتَّت شملهم إلا بضرب النيران، فلما أصبح الصباح صَعِدوا على ذُروة الجبل، وفَوَّقوا نبالهم وسهامهم على العسكر كالأمطار، ومع هذه الحروب الخطرة فكان مع المعدنجية مائة نَفَر يَخْفِرُونَهُم، فاشتغلوا في وقت الحرب بتجربة النهر الخارج في هذا الجبل، فتحصل موسيو بورياني على فلزات ذهبية خَرَجَتْ بالتنظيف عدة مرات، ووضعها في زجاجة ليمتحنها فيما بعد، ولا زال العبيد ينغصون على العسكر حتى تركوا جبل سنجة بدون تتميم التجربة، فاقتفى السودان أَثَرَهُم إلى جهة وادي بولغيدية، فأخذوا قنطارين من دقيق رمل هذا الوادي وغسلوهما وحسبوا زمن شغلهما، فكُلُّ ما خرج منهما وُضِعَ في الزجاجة، ووجدوا أن الذخائر كادَت تَنْفَد منهم فرجعوا من طريق سنار وقد جربوا تجاريب كثيرة في طُرُقِهم، وكل ما تَحَصَّلُوا عليه من الفلزات وضعوه في الزجاج وسَدُّوا عليه، وكانوا يجدون في عودتهم كثيرًا من المعادن الحفرية التي حَفَرَها العبيد، ولم يَجِد العسكر في طريقهم بيوتًا ولا مساكن مسكونة بأحد؛ لأن العبيد لخوفهم من العساكر كانوا يهرعون منها؛ فلذلك لم يَقِف المعدنجية على حقيقة الحال، ولم يُمْكِنْهم أن يذهبوا إلى المحلات المشهورة لمحصول الذهب كجبل دوك لفقد الذخيرة، وقد وجدوا على شطوط نهر هادي عدة آبار مستديرة عميقة، يبلغ عددها نحو ستمائة بئر، عمق البئر الواحدة أربعة وعشرون قدمًا، وقُطْرها نحو أربعة أقدام، وفي قاع كل بئر مماشي يُتَوَصَّل إليها بواسطة سلالم صغيرة.

وهذا النهر كثير الذهب جدًّا، فقد عَثَرَ موسيو بورياني على الذهب في ثلاث صوانات أخذها من هذا النهر، وكذلك موسيو روسيجير وَجَدَ به قطعًا من الأحجار مشتملة على الذهب.

فباستكشاف معادن هذا النهر اطمأنت قلوب أَهْل العرضيِّ، وفرحوا به فرحًا شديدًا حتى نهض العساكر على الانقضاض بهذا النهر؛ اعتمادًا على حكاية أهل الجهة، وجمعوا ما عثروا عليه من الحجر، ثم عادوا إلى مدينة الخرطوم التي خرجوا منها من نحو ستة أشهر، فلم يجدوا الحكمدار فيها حيث كان قد تَوَجَّه لقتال الحبشة المغيرين على الأطراف، فأخذوا في تحليل ما تحصلوا عليه، فوجدوا العينات مختلفة الربح، وذلك أن موسيو بورياني عَمِل التجربة التنظيفية بطريقة التحليل بالزئبق، فكانت النتيجة في إحدى التجريبات بالنسبة إلى إقليم كماميل لم يَحْتَوِ قنطار الرمل إلا على ثلاث حبات من الذهب، فالرجل الذي معه اثنان مساعدان لنقل الماء والتراب إذا كان ينظف كل يوم عشرة قناطير من الرمل إلى اثني عشر، فلا يجمع إلا سبعة قروش ميري من الذهب بالنسبة إلى رمال إقليم فاشنغار، ولا يُتَحَصَّل إلا على ثلاثة قروش ونصف من الذهب في اليوم الواحد، فكَتَبَ بهذه التجربة خِطَابًا وأرسله مع العينة إلى الحكمدار خورشد باشا، فأرسل الحكمدار المذكور ذلك بصحبة موسيو بورياني إلى المعية السنية، وكان ذلك في سنة أربع وخمسين ومائتين وألف.

وأما تجربة موسيو روسيجير فكانت نتيجتها بخلاف ذلك، فإن الأحجار المعدنية الذهبية يُتَحَصَّلُ منها اثنان في المائة؛ يعني: أن صافي المائة درهم مثلًا درهمان، وأما الذهب الصفائحي الذي يوجد في المعادن كالعروق فإنه يُتَحَصَّل في كل ألف قنطار من مائة وستين إلى مائة وثمانين صفيحة من الذهب؛ يعني: من ثمانمائة وخمسة وثلاثين درهمًا إلى ألف ومائة وستة وثلاثين درهمًا من الذهب، وقيمة الدرهم ثمانية وثلاثون قرشًا، وتَحَقَّقَ عند هذا المعدنجي أن الشخص الواحد يُنَظِّف كل يوم ثلاثمائة وخمسين أقة من الرمل، فيُتَحَصَّل منها ذَهَبٌ قيمته من ثمانين قرشًا إلى مائة قرش، فكان هذا المُعَدَّل يزيد عن مُعَدَّل موسيو بورياني عشرين مرة، فلما اطَّلَع المرحوم محمد علي على المُعَدَّلَين وَوَجَدَ الفرق بينهما جسيمًا لم يَتَمَالَكْ نفسه من الغضب على موسيو بورياني؛ لأنه كان يميل بالطبع لما فيه الأرجحية في الربح، فبهذا مال إلى تقرير موسيو روسيجير؛ ولأجل الوقوف على الحقيقة صَمَّمَ على السفر إلى بلاد السودان؛ لتصير التجربة أمامه، مع تَقَدُّمِه في السن وشيخوخته، وطبيعة إقليم الأقطار السودانية؛ وَتَعَب الأسفار الشاقة بها؛ إلا أنه كان ملحوظًا بالعناية الربانية، ومحفوظًا بالتوفيقيات الصمدانية، كما قيل:

إنْ حَلَّ فالشرف التَّلِيد أَنِيسُهُ
أو سار فالظَّفَر الطريف قَرِينُهُ
فالدهر خَاذِلُ مَنْ أَرَادَ عِنَادَهُ
أبدًا ورَزَّاقُ العِبَاد مُعِينُهُ

وأمر موسيو بورياني بالذهاب قَبْله بعدة أيام، فأراد أن يَتَخَلَّص من ذلك، وقال: إن طريقة التحليل بالزئبق التي ملكها موسيو روسيجير ربما يُمْكِن أن ينال بها أكثر من طريقة القصعة التي عليها العمل عند السودان، فكأنه سَلَّمَ أن طريقة صاحبه مُرْبِحة، وكان قَوْله ذلك لِمَحْض الاعتذار والخروج من الورطة، ثم قال أيضًا: إن الرمل لا مانع مِنْ أن يُعْطِي كل يوم للشغال نحو أربعين قرشًا، ومع أنه قال ذلك لمجرد المسايرة إلا أن المرحوم محمد علي أَخَذَهُ بالقبول وفَرِحَ به.

وكان المرحوم محمد علي جَلَبَ من فرنسا معدنجيًّا شهيرًا بعلم المعادن، وهو موسيو ليفبره، كان سبق استخدامه في مدرسة المعادن المصرية، وكان موسيو بورياني قد سافر إلى السودان امتثالًا للأمر العالي، وبعده بثلاثة أيام رَكِبَ المرحوم محمد علي البحرَ وصُحْبَتُه خير الدين بك قبودان السفر وعدة أشخاص، منهم موسيو ليفبره المعدنجي، ودارنود بك المهندس، ولمبير بك المهندس، وأحمد أفندي يوسف الجشنجي، فسافر بالسلامة بالنيل حتى دَخَلَ السودان:

اركب النيل ما اسْتَطَعْتَ ففيه
راحة للفتى وغايَة بُغْيَهْ
كم تَفَرَّجْتَ حين سَافَرْتَ فِيهِ
في بلادٍ وكَمْ ظَفِرْتَ بمُنْيَهْ

فلما دخل مدينة الخرطوم كان يومًا مشهودًا، فحضر جميع من هناك للتشريف، فلطفهم جميعًا ودَعَوْا له بخير، وفرحوا به غاية الفرح، وأثنوا عليه بجميل الثناء ومكارم أخلاقه؛ كما قيل:

كل الأمور تبيدُ عنك وتَنْقَضِي
إلا الثناءُ فإنه لَكَ باقِ
لو أنني خُيِّرْتُ كُلَّ فضيلةٍ
ما اخترْتُ غيرَ مكارم الأخلاقِ

ثم أَمَرَ موسيو ليفبره المعدنجيَّ أن يَتَوَجَّه إلى جبال مويه وسكادي، وهي على ثمانِ فراسخ في الجنوب الغربي من سنار؛ ليجرب معادن الفضة ومعادن النحاس التي هي على ميمنة النيل بإقليم روسيري، وأَرْسَلَ خلفهم كلًّا من موسيو بورياني ودرنود بك، وأما حضرته العلية فقد بقي في الخرطوم ليستقبل رؤساء بلاد السودان الوافدين عليه من جميع الجهات على اختلافها، وكُلُّهم وعَدُوه بالمساعدة على مشروعه، وأن يعينوه بستين أَلْف نَفْس للشغل إذا اقتضى الحال هذا القَدْر، ثم سافر إلى جهة سنار، ونزل بإقليم روسيري وحضر إليه ملوك سنار وفازغلو، وصار يَسْتَعْلِم منهم عن المعادن ومحل وجودها، وعن أحوال زراعة البلاد وما يناسبها، وأرشد رؤساء السودان إلى طُرُق جديدة في الزراعة وفي الصنائع والفنون التي لا يَعْرِفُونَها، وأَمَرَهُمْ بالحصول عليها واستعمالها؛ لِتَصِل نَوْبَة التقدم للنوبة باكتساب وسائل المنافع المحبوبة المجلوبة، وينوب الخيط الأبيض من فجر الفنون عن الخيط الأسود من فجر الفنون، وليكونوا من أهل التبصرة، وتكون عندهم آية النهار مُبْصِرة، ثم حَضَر المعدنجي ليفبره من جبل مويه، وأَخْبَرَه أنه لَمْ يَجِد أَثَرَ المعدن الفضة ولا معدن النحاس في المحل الذي حكى عنه موسيو روسيجير، فنفر من الإقامة بهذه الجهة؛ لعدم الحصول على مَقْصِده، ولكن:

على المرء أن يسعى لما فيه نفْعه
وليس عليه أن يُسَاعِدَه الدَّهْرُ

فرفع مُعَسْكَره ونَهَض إلى إقليم فازغلو، وكان أحمد باشا قد تَوَلَّى حكمدارًا عوضًا عن خورشيد، وكان قد بَعَثَهُ محمد علي إلى محاربة جبال رجريج وكانوا عاصين، فنوى أن ينتظر عودة الحكمدار بعد وصوله، ففي ظرف ثلاثة أيام وصل المرحوم محمد علي إلى قرية فاموكو تجاه فازغلو، وهي على ميمنة البحر الأزرق، فضَرَبَ خيامه بها، وأعجبه حُسْنُها وظرافتها، فأمر ببناء قصر فيها على اسمه؛ لِيُذْكَرَ سَفَرُه بها، وعَيَّنَ حالًا درنود بك لهذه المأمورية، فهندسه البِك المذكور، وبُنِيَتْ حَوْلَه الدور، حتى صار بلدة شهيرة هناك، سُمِّيَتْ بمحمد علي، وهي من الأثر الجليل الجلي، إلا أنها صارت محل التغريب، يُنْشِد فيها المنفي الغريب:

يا عَيْنُ إنْ بَعُدَ الحبيبُ ودَارُهُ
ونَأَتْ مَرَابِعُهُ وشَطَّ مَزَارُهُ
فَلَقَدْ ظَفِرْتُ من الزمان بِطَائِلٍ
إن لَمْ تَرَيْهِ فهذه آثَارُهُ

ولما عاد أحمد باشا من غزوه كان فصل المطر قد دنا، والذخائر كادت تنفد، وكان المرحوم محمد علي تَوَجَّه إلى إقليم فاشنغارو، وكان قد بَعَثَ حين تَوَجُّهِهِ أحد مماليكه؛ ليأخذ الرمل من وادي قراده، فاستخرج المعدنجية من هذا الرمل نحو ثلاث فلزات من الذهب اليسير القيمة القليل الجودة.

ولما نَزَلَ المرحوم محمد علي في فاشنغارو ضرب مُخَيَّمه تحت شجرة تين والمعسكر حوله، ولم يَبْقَ معه من المأكولات إلا البقسماط واليسير من الأرز، فسَئِمَتْ نفوس الجميع من قِلَّة الزاد والحط والترحال بهذه الحالة، ولام كل الناس موسيو بورياني على تأميل الباشا المذكور وتجسيمه له في ربح المعادن الذهبية، فجمع الباشا المذكور المعدنجية والمهندسين ليأخذ رَأْيَهُم، فقرروا جميعًا على عَمَل تجربة جديدة بطريقة أخرى مفيدة، وهي أن يُجْمَع الرمل من جميع المحلات بمقادير متناسبة، ويُعْلَم كمية ما يخرج منها، فخرجت النتيجة بهذه التجربة مثل السابق في قلة الربح، ولكن قد استكشف موسيو بورياني في بئر من آبار وادي قرادة في عُمْق اثنين وعشرين قدمًا طبقة معدنية، يَتَرَاءى أنها كثيرة الذهب؛ ليمتحنها مع التأني، وقَبْلَ أن يرحل موسيو ليفبره المعدنجي من الخرطوم كان عَثَرَ أيضًا على رطلين من الزئبق في مخازن الحكمدارية، فأحب موسيو بورياني أن يَعْمَل امتحانه لِمَا أخذه بطريقة التحليل، فسكت عن ذلك وصار منهمكًا على اتباع هذه الطريقة في التجربة، فلم يَشْعُر إذ وَجَدَ في قرارة القزازة جرمًا معدنيًّا ذهبيًّا مخلوطًا بغيره، ولم يَعْرِف سبب هذا الغش، فأَخْبَرَ غيطاني بك وموسيو لمبير بك بذلك، وهم أخبروا المرحوم محمد علي، فموسيو بورياني اتَّهَمَ بعض أخصامه أنهم أرادوا أن يُفْسِدُوا عليه تجربته، وأراد بإخبار من ذَكَرَ البحث عن صاحب الفعلة، فادعى أحمد أفندي الجشنجي أن موسيو بورياني المذكور هو الذي خَلَطَ الذهب بالزئبق عمدًا؛ لعدم نتاج تجربته، وأخبر بذلك أمام الباشا وصَدَّقَ عليه الحاضرون، ففي اليوم الثاني استعمل موسيو بورياني طريقة الغسل بالقصاع، فغسل مائة قنطار من الرمل، مأخوذًا من فرش الوادي بجبال قرادة، فاستخرج منها تِسْعًا وأربعين حَبَّة من الذهب.

فهذه التجربة الكبيرة ظَهَرَ منها إشباع معدن وادي فاشنغار، والذي جَرَّبَ عينته موسيو روسيجير سابقًا، فوُجِدَ بين طريقة موسيو بورياني وموسيو روسيجير فرق جسيم، فبهذا الاختلاف الفاحش ضاق صَدْر الباشا المرحوم، وفَتَرَتْ هِمَّتُه، حتى كاد أن يَصْرِف النظر عن قضية استخراج المعادن، ولكن عاد إلى تَجَلُّدِه وصَبْره، وأمر بعقد جمعية تستخرج مقدار قيم مجاميع الأشغال التي حصلت كلها، فبادرت الجمعية باستخراج ذلك، فنتج أنه لا يتحصل من عملية الصانع الواحد من الذهب إلا بقيمة ثلاثة قروش كل يوم.

فمن هذا الوقت سَقَطَتْ قيمة المعادن الذهبية من أعين الجميع، وقَلَّ اعتبارها، فتَغَيَّرَ خاطر المرحوم محمد علي من ذلك، وداخَلَهُ اليأس من رواج معادن السودان، ولو كان موسيو روسيجير حاضرًا معه لسلاه وعَلَّلَه بالأماني الكاذبة.

وأما موسيو بورياني فقد كان حاضرًا، وأخبر بالصدق ولم يُدَلِّسْ، ولكن لكَوْنه كان يهاب سَيِّده كثيرًا فلم يَسْتَطِع أن يَذُبَّ عن نفسه، فضرب عنه المرحوم محمد علي صفحًا، وأنعم على جميع المهندسين والمعدنجية عند ارتحاله من السودان بركوبة ورخت مذهب، وما استثناه من هذا الإنعام، ولا غَضَّ عنه البصر، ويَئِس من وجود الذهب المشبع من بلاد السودان، ولكن لم يَظْهَر له الحقد، ولا صَرَفَ عنه النظر، بل أَمَرَ الجمعية أن تَمْكُثَ وتَبْحَث مع غاية الدقة عن الطريقة اللازمة لاستخراج هذه المعادن، فكان العسكر المحافظون على أهل هذه الغزوة العلمية يعتقدون أن سيدهم أبقى هؤلاء المهندسين رسمًا فقط، وأن أشغال هؤلاء المهندسين ليست إلا صورية، فكانوا لا يساعدونهم على أشغالهم، ولا يَصْرِفون هِمَّتَهُمْ في إعطاء ما يَلْزَم لتتميم التجربة، وكان قد تعين لإدارة المعدن خير الدين باشا، فكان يسيء السلوك؛ لأنه كان مُكْرَهًا على الإقامة بتلك الديار وتَرْك وَطَنِه، فبهذا كان يعتقد أن الإفرنج المعدنجية هم السبب في طول غربته، فكان يتجاهر بتقريعهم وتوبيخهم.

ثم إن موسيو ليفبره أصابته حُمَّى شديدة وكان قد وَعَدَه المرحوم محمد علي أن يعطيه بعد تمام الأشغال رتبة ميرالاي، فكان على غاية من الاجتهاد فمات بالحُمَّى، وقبل مَوْتِه صَرَّح بأن تقرير الجمعية بعدم تربيح المعادن في السودان ليس بقَطْعِيٍّ، ولا يَنْبَنِي عليه حُكْم، وأنه لا ينبغي أن يُقْطَع الرجاء بالكلية من ربح هذه المعادن، لا سيما وأن موسيو بورياني قَرَّرَ تقريرًا شفاهيًّا يؤيد رأي ليفبره السابق، وعبارته ليس من أرباب الجمعية بتمامها من هو مُعْتَمَد في قوله فيما يخص قيمة ما يُتَحَصَّل من الرمال من الذهب، حيث جميعنا لا معرفة له تامة باستخراج المعادن، فلَسْنَا متبحرين في هذا الفن، بل الظاهر أنه لو صارت الإدارة على صورة حسنة مستقيمة، وصَدَقَ الممتحِنون في تجاريبهم، وصار الاجتهاد في الاستخراج على وَجْه مَرْضِيٍّ؛ فلا بد أن تَظْهَر نتائج عظيمة خصوصًا إذا كان المأمور بذلك من المعدنجية المتبحرين في هذا العلم، وله سابقة عمليات صحيحة، وأما سَفَرُنا هذا فَلَمْ يكن إلا محض مناظرة واطلاع على نفس المحال المعدنية بالبلاد السودانية، مجردًا عن راحة الفكر والبدن، وقوله في محله؛ لأن العرضيَّ كان دائمًا عرضة لإغارة السودان الهمل، وكان بدون أهبة ولا ذخيرة، وكانت عساكر الأتراك المحافظين على المعدنجية أَشَدَّ عليهم عداوة من السودان.

فبهذا لم يمكن الوقوف على حقيقة الحال من الأهالي، وكانت التجارب تُعْمَل بالخوف والعجلة، وكانت الأمراض أيضًا من جملة الموانع، ومع ذلك فقد صَحَّ بتجربة موسيو بورياني التي استمرت نحو ثلاث سنوات أن بعملية استخراج المعادن بالعبيد يُعْطِي قنطار الرمل نحو خمس حبات من الذهب، مع قبول الزيادة عن ذلك لو وُجِدَت المعرفة والصداقة، ومع هذا كله فنقول: إنَّ ذَهَبَ السودان لا يُنْكَر، وإن الأقطار السودانية التابعة للحكومة المصرية، وإن كانت دون أقاليم أمريكة بكثير؛ فهي كمصر إن لم تُسْعِفْها المعادن المتطرفة، فمعادن الزراعة فيها مُحَقَّقة، ولولا التغافل والتكاسل من بعض الحكام واتصاف بعض آخر بالجهل التام؛ لكانت إيراداتها ومحصولاتها على أَكْمل نظام، فإن خصوبة أَرْضها عجيبة، وحيواناتها نجيبة، وأخشابها جيدة، ومعادنها متعددة، فالمواليد الثلاثة فيها على غاية من الكمال، ولا نَظَرَ إلى ما يَعْتَقِد عامة الناس من أن أَكْثَرها رمال، فقد يوجد من الأهالي من يَتَرَافَع مع أخصامه في مِلْكِيَّة ألوف من الفدادين لِنَفْسه، ويريد نزعها من يد أبناء جنسه، وفي أيام حكمدارية حضرة لطيف باشا أَعْطَى أَلْف فدان لأحد السناجق وهو دموزاغا من البور، فلم تَبْرح مدة يسيرة أن صارت من المعمور، وصَحَّ فيها جميع البقول والغلال، لا سيما زَرْع الحنطة الذي في تلك البلاد له بالٌ، وهناك أراض بمديرية دنقلة لا يعلوها النيل، إلا في زمن الفيضان الغزير، وليست داخلة في دفتر مكلفات الإقليم، وقد الْتَمَس زراعتها في سَنَة من السنين بعضُ الأهالي بدفع العشور، فزَرَعَها من صنف الذرة، فأدت محصولًا فوق الأربعين أَلْف إردب، فدُفِعَ إلى شونة الميري عُشْرُها، فصار صنف الذرة رخيصًا في هذه السنة، فشكا الأهالي المزارعون كساد محصولاتهم، فأبى مدير تلك الجهة المُتَوَلِّي في ذلك الوقت أن يعطيها بعد ذلك لأحد، وأَحَبَّ أحد البكباشات المستخدم بتلك الجهة أن يتعاهدها في كل سنة بقيمة مكافئة لعشرها السنوي، فلم يُسَاعَدْ على ذلك، وأمثال هذه الأراضي كثيرة جدًّا والأراضي مُنْبِتَة للنباتات الناتجة بنفسها بدون عمل مع قبول أهلها للتمدن الحقيقي لدقة أذهانهم، فإن أكثرهم قبائل عربية لا سيما الجعليِّين والشاقية وغيرهم، فإن اشتغالهم بما أَلِفُوه من العلوم الشرعية شُغل رغبة واجتهاد، ولهم مآثر عظيمة في حسن التعلم والتعليم، حتى إن البلدة إذا كان بها عالِم شهير يَرْحَل إليه من البلاد الأجنبية للمجاورة مِنْ طَلَبَة العِلْم العَدَدُ الكثير والجمُّ الغفير؛ فيُعِينُه أهل بَلْدَته على ذلك بتوزيع المجاورين على البيوت بحسب الاستطاعة، فكل إنسان من الأهالي يَخُصُّ الواحدَ أو الاثنين، فيقيمون بشئونهم مُدَّة التعلم والتعليم.

ولقد رَأَيْت في طريقي ببلاد الشاقية بمديرية دنقلة حرم سنجق يدعى الملك الأزيرق، تُسَمَّى السيدة أمونة، تقرأ القرآن الشريف ومؤسسة مكتبين: أحدهما للغلمان، والثاني للبنات، كلٌّ منهما لقراءة القرآن وحِفْظ المتون، تُنْفق على المكتبين مِن كَسْبها بزراعة القطن وحلْجِه وغَزْله وتشغيله، ولا تَرْضى أن يَشُوبَه شيء من مال زوجها، وبجانب المكتبين خلوات لِمَن يختلي مِن العُبَّاد والزُّهَّاد الحاضرين من أقصى البلاد؛ لأداء فريضة الحج الشريف، ومنزلها كالتكية للفقراء وأبناء السبيل والقاصدين بيت الله الحرام، وأمثال ذلك كثير هناك في ظل الحكومة المصرية.

ومما يَدُلُّ على حُسْن مقاصد المرحوم محمد علي أنه في عودته من البلاد السودانية اسْتَصْحَبَ معه عدة غلمان من أبناء وجوه السودان إلى مصر، وأَدْخَلَهُمْ في المدارس المصرية؛ ليَتَعَلَّمُوا مبادئ العلوم، ثم نَقَلَهُم إلى مَكْتب الزراعة، ثم إلى مدرسة الألسن، وكان القصدُ من ذلك أن يَذُوقوا طَعْم المعارف التمدنية؛ ليَنْشُروها في بلادهم، وقد شَاهَدْتُ بَعْضَهم مُسْتَخْدَمًا بمديرية الخرطوم بوظيفة كاتب، ويَغْلُب على الظن أنه بواسطة تنظيمات سعادة شاهين باشا الأخيرة المؤسَّسة على حُبِّ تقديم الجمعية المدنية، وهِمَّة سعادة جعفر باشا صاحب الأنظار التمدنية؛ تَمَكَّنَ إيصالُ التقدمات العصرية بعناية الحكومة المصرية في أطراف وأكناف تلك البلاد التي هي الآن لم تَخْلُ قُرَاها عن نوع التقدم في الحضارة، مع مساعدة الوارد والمتردد إليها في هذه الأيام؛ لِقَصْد الزيارة أو التجارة، فإنها أقرب للتمدن من أقاليم أمريكة بكثير، وجميع أَهْلها — ما عدا بعض الجبال — لسانهم عربي فصيح، حيث إنَّ جُلَّهم من نَسْل العرب المنتجعة القبائل قديمًا، يَحْفَظون أحسابهم وأنسابهم، وفيهم كمال الاستعداد، وذكاء الفطنة، وإنما يحتاجون في حصول المطلوب إلى اطمئنان النفوس، وتأليف القلوب من حكام أرباب صداقة وعفاف وعدل وإنصاف، لا تَحْمِلهم المطامع الدنيوية على مَحْض الالتفات إلى الأمور الدنية، بل توجد القابلية أيضًا في الأهالي المتأصلين.

ويَدُلُّ على هذا ما حُكِيّ للخليفة أبي جعفر المنصور عَمَّا جرى بين عبد الله بن مروان بن محمد وبين ملك النوبة مما ذَكَرَه المؤرخون في حَقِّ المَلِك المذكور، مع أنه كان من ملوك السودان المتأصلين والجِنْس القَطِين؛ إذ لم تكن القبائل العربية انتجعت إلى السودان، ولا تَسَلَّطَ على هذا الإقليم مَلِك من أهل الإسلام ولا من العربان، وهو: أن أبا جعفر المنصور حَضَرَه ليلة عبد الله بن علي وصالح بن علي في نَفَر معهما، فقال عبد الله بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان بن محمد لَمَّا هَرَبَ إلى بلاد النوبة جرى بَيْنه وبَيْن مَلِكِها كلام فيه أعجوبة، سَقَطَ عَنِّي حِفْظُه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يُرْسِل إليه بحضرتنا، ويسأله عما ذَهَبَ عنا — وكان في الحبس — فأرسل إليه أبو جعفر، فلما دَخَلَ قال له: يا عبد الله، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: أَخْبِرْني بحديثك وحديث ملك النوبة، قال: يا أمير المؤمنين، هربت ممن تبعني بأثاث سُلِّمَ لي إلى بلاد النوبة، فلما دَخَلْت بلادهم فَرَشْت ذلك الأثاث، فجاء أهل النوبة ينظرون إليَّ متعجبين مني إلى أن بلغ ملك النوبة حضوري، فجاء ومعه ثلاثة نفر، فإذا رجل طويل آدم أغبر مسنون الوجه؛ أي مملسه، فلما قَرُب مني قَعَدَ على الأرض وتَرَكَ البساط، قُلْتُ: ما يمنعك أن تجلس على أثاثنا هذا؟ قال: إني مَلِك وحَقَّ لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذا رَفَعَه الله، قال: ثم نَظَرَ إليَّ، فقال: لِمَ تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ فقلتُ: عبيدنا وأتباعنا يفعلون ذلك بالجهل منهم، قال: فلِمَ تَلْبَسون الديباج والحرير وتُحَلَّوْن بالذهب وهو مُحَرَّم عليكم؟ فقلت: زال عنا المُلْك، وانقطعت المادة، واستَنْصَرْنا بقوم من الأعاجم كان هذا زِيَّهُم، فكرهنا الخلاف عليهم، فأطرق يقلب يده، ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا، يكرر الكلام على نفسه، ثم نَظَرَ إليَّ فقال: ليس ذاك كما تقول، ولكنكم قوم مَلَكْتُم فظَلَمْتُم، وتركتم ما به أُمِرْتُم، ورَكَنْتُم إلى ما عَنْه نُهِيتُم، فسَلَبَكُم الله العز، وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نعمة لم تَبْلُغ غايتها بعد، وأنا أخاف أن تَنْزِل بكم النقمة وأنتم ببلدي فتصيبني معك، فارتحلوا عن جواري، انتهى، فقام أبو جعفر وَقِيذًا من كلامه فدَخَل حُجْرَتَه، قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا قال المفسرون: في الآية حَذْف، دَلَّ عليه باقيها؛ أي: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي: مُنَعَّمِيها بالطاعة، فخالفوا ففسقوا فدمرناها تدميرًا، انتهى.

فيا لها موعظة بيضاء من ملك أسود، ولعل ملوكهم في الأزمان القديمة كانوا كصُلَحائهم الآن على قَدَم عظيم في الاستقامة وطريقة قويمة، وأما مَوْضع مَعْرض الذم في حق أهل السودان فهو مُتَوَجِّه على جمهور أهل البلاد وهم العبيد، والمولدون، ومن يَحْذو حَذْوهم من رعاع أهالي تلك البلاد أرباب الدنائة والخسة.

وفي سنة سبع وستين ومائتين وألف كُنْت سافرت إلى السودان بسَعْي بعض الأمراء بضمير مستتر بوسيلة نظارة مدرسة بالخرطوم، فلبِثْتُ نحو الأربع سنين بلا طائل، وتُوُفِّيَ نِصْف من بمعيتي من الخُوجات المصريين، فنظمْتُ هذه القصيدة برسم المرحوم حسن باشا كتخدا مصر؛ رَجَاء نَشْلي مِنْ أَوْحَال تلك الأحوال، فلم يَتَيَسَّر إرسالها، ثم أَسْعَد الحال بتبديل مُرِّ الماضي بالحال الذي هو حال، وذلك عقب تخميسي لقصيدة نبوية بُرَعِيَّة مُتَوَسِّلًا فيه بشفاعة خير البرية، وها هي القصيدة الأولى:

أَلَا فَادْعُ الذي تَرْجو ونَادِي
يُجِبْك وإن تَكُن في أي نَادِي
فَمَنْ غَرَسَ الرَّجا في قَلْب حُرٍّ
أَصَابَ جَنَى النَّجا غِبِّ الحَصَادِ
ومِنْ حُسْن الخلائق سَلْهُ صُنْعًا
جميلًا فَهْو أَوْفَى بالودادِ
وحَدِّثْ عن وَفَا خِلٍّ وَفِيٍّ
بِمُرْسِل حُبِّه في القلب بَادِي
ورُبَّ أَخٍ تَلَاهَى عَنْكَ يَوْمًا
فَرُبَّ وِدَادُه أبدًا وِدَادِي
بَنُو الآداب إِخْوانٌ جميعًا
وأَخْدَانٌ بِمُخْتَلِفِ البلادِ
خلائفُ عُنْصُرٍ كُلٌّ تَغَذَّى
بأثداء العُلَا دُونَ اقْتِصَادِ
وآداب الفتى تُعْلِيه يَوْمًا
إلى الأنجاد مِنْ بَعْد الوِهَادِ
وآدابي تُسَامِي بي الدَّرَارِي
على شَعَثِي وتُبْلِغُنِي مُرَادِي
وما لِيَ لا أَتِيهُ بِهَا دلالًا
وقَدْ دَلَّتْ على نَهْجِ الرَّشَادِ
إلى سُبُل الفَخَار تَقُودُ حَزْمِي
وفي ميدانه عَزْمُ انقيادِي
عِصَامِيٌّ طَرِيفُ المَجْد سَعْيًا
عِظَامِيٌّ شريفٌ بالتِّلَادِ
سِوَى نَسَبِ العلوم لِيَ انتسابٌ
إلى خير الحواضر والبوادِي
حُسَيْنِيُّ السُّلَالةِ قَاسِمِيٌّ
بِطَهْطَا مَعْشَرِي وبها مِهَادِي
لِسَانُ العُرْب يَنْسِبُ لي نِجَارًا
ويُدْنِينِي إلى قُسِّ الأيادي
وحَسْبِي أنني أَبْرَزْتُ كُتْبًا
تُبِيدُ كتائبًا يوم الطَّرَادِي
فمنها مَنْبَع العِرْفَان يَجْرِي
وكم طِرْسٍ تَحَبَّرَ بالمِدَادِي
على عَدَدِ التَّوَاتُرِ مُعْرَبَاتِي
تَفِي بِفُنُونِ سِلْمٍ أو جِهَادِ
ومَلْطَبْرُونَ يَشْهَدُ وهْو عَدْلٌ
ومُنْتَسِكُو يُقِرُّ بلا تَمَادِي
ومُغْتَرِفُو قَرَاحِ فُرَات دَرْسِي
قد اقْتَرَحُوا سقاية كُلِّ صَادِي
ولاحَ لِسَانُ باريس كَشَمْسٍ
بقاهرة المُعِزِّ على عِمَادِي
ومُحْيِي مِصْرَ أَحْيَا كان قَدْرِي
وكافأني على قَدْرِ اجْتِهَادِي
سأَشْكُر فَضْلَه ما دُمْتُ حيًّا
وما شُكْرِي لَدَى تِلْكَ الأيَادِي؟
رَعَى الحَنَّان عَهْدَ زَماَنِ مِصْرَ
وأَمْطَرَ رَبْعَهَا صَوْبَ العِهَادِ
رَحَلْتُ بِصَفْقَةِ المغبون عَنْهَا
وفَضْلِي في سواها في المَزَادِ
وما السودان قَطُّ مَقَام مِثْلِي
ولا سلمَايَ فيه ولا سعادِي
بها رِيحُ السَّمُومِ يُشَمُّ منه
زَفِيرُ لَظًى فلا يُطْفِيه وَادِي
عواصفها صباحًا أو مساء
دوامًا في اضطراب واطِّرَادِ
ونِصْفُ القوم أَكْثَره وُحُوشٌ
وبَعْض القوم أَشْبَه بالجَمَادِ
فلا تَعْجَبْ إذا طَبَخُوا خليطًا
بمُخِّ العظم مع صافِي الرَّمَادِ
ولطْخ الدُّهْنِ في بَدَنٍ وشَعْرٍ
كدهْنِ الإبْلِ من جَرَبِ القَرَادِ
ويُضْرَبُ بالسياط الزَّوْجُ حتى
يقال أخو بَنَاتٍ في الجلاد
ويرتقُ ما بزوجته زمانًا
ويَصْعُبُ فَتْقُ هذا الانسدادِ
وإكراهُ الفتاةِ على بناءٍ
مع النهيِ ارْتَضَوْهُ باتِّحَادِ
نَتِيجَتُه المُوَلَّدُ وهو غَالٍ
به الرَّغَبَات دَوْمًا باحْتِشَادِ
لَهُمْ شَغَفٌ بتعليم الجواري
على شَبَقٍ مُجَاذَبَةَ السِّفَادِ
وشَرْحُ الحال منه يَضِيقُ صَدْرِي
ولا يُحْصِيه طِرْسي أو مِدَادِي
وضَبْطُ القولِ فالأخيار نَزْرٌ
وشرُّ الناسِ مُنْتَشِرُ الجَرَادِ
ولولا الْبِيضُ مِنْ عُرْبٍ لكانوا
سوادًا في سوادٍ في سوادِ
وحَسْبِي فَتْكُها بِنَصِيفِ صَحْبِي
كأَنَّ وَظِيفَتِي لُبْسُ الحِدَادِ
وقد فَارَقْتُ أطفالًا صِغارًا
بِطَهْطَا دُونَ عَوْدِي واعْتِيَادِي
أُفَكِّرُ فِيهِمُ سِرًّا وجَهْرًا
ولا سَمَرِي يَطِيبُ ولا رُقَادِي
وعَادَتْ بَهْجَتِي بالنأي عنهم
بِلَوْعَة مُهْجَةٍ ذاتِ اتِّقَادِ
أريدُ وِصَالَهُمْ والدَّهْر يأبى
مُوَاصَلَتِي ويَطْمَعُ في عِنَادِي
وطَالَتْ مُدَّةُ التَّغْرِيب عَنْهُمْ
ولا غُنْمٌ لدَيَّ سِوَى الكَسَادِ
وما خِلْتُ العَزِيزَ يُرِيدُ ذُلِّي
ولا يُصْغِي لِأَخْصَامٍ لِدَادِ
لَدَيْهِ سَعَوْا بألسنةٍ حِدَادٍ
فكيف صَغَى لألسنةٍ حِدَادِ؟
مَهَازِيل الفضائلِ خَادَعُونِي
وهل في حَرْبِهِمْ يَكْبُو جَوَادِي؟
وزُخْرُف قَوْلِهِمْ إذْ مَوَّهُوهُ
على تَزْيِيفِه نادَى المُنَادِي
فَهَلْ من صَيْرفي المعني بَصِيرٍ
صحيح الإِنْتِقَاءِ والِانْتِقَادِ؟
قياسُ مدارسي قالوا عقيمٌ
بمصر فما النتيجةُ في بِعَادِي؟
وكان البحرُ مَنْهَجُ سُفْنِ عَزْمِي
فَكِدْتُ الآن أَغْرَقُ في الثِّمَادِ
ثلاث سِنِينَ بالخُرْطُوم مَرَّتْ
بِدُون مَدَارِس طِبْق المُرَادِ
وكيف مَدَارِسُ الخُرْطُوم تُرْجَى
هناك ودُونَها خَرْطُ القَتَادِ
نَعَمْ تُرْجَى المصانع وَهْيَ أَحْرَى
لتأييد المقاصد بالمبادِي
عُلُومُ الشرع قائمة لَدَيْهِمْ
لِمَرْغُوبِ المَعَاشِ أو المَعَادِ
خَدَمْتُ بِمَوْطِنِي زَمَنًا طَوِيلًا
ولِي وَصْفُ الوفاء والاعتمادِ
فَكُنْتُ بمِنْحَة الإكرامِ أَوْلَى
بِقَدْرٍ للتَّعَيُّشِ مُسْتَفَادِ
وغَايَة مَطْلبِي عَوْدِي لأهلي
ولو مِنْ دُونِ رَاحِلَةٍ وَزَادِ
وصبْرِي ضَاعَ مُنْذُ اشْتَدَّ خَطْبِي
وهَوْنُ الخَطْبِ عِنْد الإِشْتِدَادِ
وَكَمْ حسنًا دَعَوْتُ لِحُسْنِ حَالِي
وكَمْ نادَى فُؤَادِي يا فُؤَادِي
وأرجو صَدْرَ مصر لِشَرْح صَدْري
وجُهْدُ الطَّوْلِ في طُولِ النِّجَادِ
وكم بُشِّرْتُ أن عَزِيزَ مِصْرَ
تَفَوَّهَ بالفكاك ولم يُفَادِ
وحاشا أنْ أَقُولَ مَقَالَ غَيْرِي
وذلك ضِدُّ سِرِّي واعْتِقَادِي
لقد أَسْمَعْتَ لو نَادَيْتَ حيًّا
ولكنْ لا حياةَ لِمَنْ تُنَادِي
وفي دارِ العَزَازَة لي عِيَاذٌ
يقيني نَشْبَ أَظْفَار العَوَادِي
أَمِير كِبَار أَرْبَاب المَعَالي
فَتًى في شِرْعَة العِرْفَان هَادِي
عَرُوفٌ أَلْمَعِي لا يُبَارَى
بِمِضْمَار العلا طَلْقَ الجِيَادِ
بِوَافِرِ فَضْلِه الرُّكْبَانُ سَارَتْ
وغَنَّى بِاسْمِه حَادٍ وشَادِ
وقالوا: في مَعَارِفِهِ فَرِيدٌ
فقُلْتُ: وفي الرياسَةِ ذُو انْفِرَادِ
وفي الأحكام قالوا: لا يُضَاهَى
فقُلْتُ: وذو تَحَرٍّ واجْتِهَادِ
وقالوا: في الذكاء ذَكَا فَقُلْنَا
وثَاقِبُ ذِهْنِه وَارِي الزِّنَادِ
وقالوا: وَافَقَ الحَسَنَ المُثَنَّى
فَقُلْتُ: وَكَمْ حَدَا بالوَصْفِ حَادِ
وَبَحْر حِجَاهُ يَبْدُو منه دُرٌّ
لِغَوَّاصِ العلوم بلا نَفَادِ
فيا حَسَنَ الفِعَال أَغِثْ أسيرًا
بسِجْنِ الزِّنْجِ يَحْكِي ذا القِيَادِ
عليه دوائرُ الأسواء دَارَتْ
وَطَالَتْ وَفْقَ أهواءِ الأعادي
وقد فَوَّضْتُ للمولى أُمُورِي
وذا عَيْنُ الإصابة والسدادِ
عسى المولى يَقُولُ امْضُوا بعبدي
فيقضي لي بتقريب ابْتِعَادِي
وما نَظْمُ القريض برأْسِ مَالِي
ولا سَنَدِي أَرَاهُ ولا سِنَادِي
وَوَافِرُ بَحْرِه إِنْ جَادَ يَوْمًا
فمَمْدُوحِي له وَصْفُ الجَوَادِ
وليس لبكْرِ فِكْرِي مِنْ صداقٍ
سوى تلطيف عَوْدِي في بِلَادِي
فما أَسْمَى ذَرَاهَا من بيوت
رَزَانٍ في حَمَاسَتِهَا شِدَادِ
ومِسْكُ ختامها صَلَوَاتُ رَبِّي
على طَهَ المُشَفَّعِ في المَعَادِ
وآلٍ والصحابةِ كُلَّ وَقْتٍ
مُوَاصَلَةً إلى يَوْمِ التَّنَادِ

وأما تخميس القصيدة البُرَعِيَّة التي عَبَقَ مِسْكَ خِتَامِه أَرَجُ الفرج فهو هذا:

تُبْدِي الغَرَامَ وأَهْلُ العِشْقِ تَكْتُمُهُ
وتَدَّعِيه جِدَالًا مَنْ يُسَلِّمُهُ
ما هكذا الحب يا مَنْ لَيْسَ يَفْهَمُهُ
خَلِّ الغرام لِصَبٍّ دَمْعُهُ دَمُهُ
حَيْرَانُ تُوجِدُهُ الذِّكْرَى وتُعْدِمُهُ
دَعْ قَلْبَهُ في اشتغال مِنْ تَقَلُّبِهِ
ولُبَّهُ في اشتعالٍ مِنْ تَلَهُّبِهِ
واصْنَعْ جَمِيلَ فِعَالٍ في تَجَنُّبِهِ
واقْنَعْ له بِعَلَاقَاتٍ عَلَقْنَ بِهِ
لَو اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ كُنْتَ تَرْحَمُهُ
فؤاده في الحِمَى مَسْعَى جَآذِرِهِ
وفي نُجُوم السَّما مَرْعَى نَوَاظِرِهِ
فيا عَذُولًا سَعَى في لَوْم عَاذِرِهِ
عَذَلْتَهُ حين لَمْ تَنْظُرْ بِنَاظِرِهِ
ولا عَلِمْتَ الذي في الحُبِّ يَعْلَمُهُ
أَمَا تَرَى نَفْسَه مَرْعَى الْهَوَى انْتَجَعَتْ
وسَاقَهَا الحُبُّ فَانْسَاقَتْ ولا رَجَعَتْ
فاعْذُرْ أوِ اعْذِلْهُ ما وُرْقُ الحِمَى سَجَعَتْ
لو ذُقْتَ كأسَ الهوى العُذْرِيَّ ما هَجَعَتْ
عيناك في جُنْحِ لَيْلٍ جَنَّ مَظْلَمُهُ
ولا صَبَوْتَ لِسُلْوَانٍ ولا مَلَلِ
ولا جَنَحْتَ إلى لَوْمٍ ولا عَذَلِ
ولا انْثَنَيْتَ لِخَطْبٍ في الهوى جَلَلِ
ولا ثَنَيْتَ عَنَانَ الشَّوْقِ عَنْ طَلَلِ
بالٍ عَفَتْ بِيَدِ الأنواءِ أَرْسُمُهُ
فكيف نَاقَشْتَهُ في أَصْلِ مَذْهَبِهِ
وما تَحَرَّيْتَ تحقيقًا لِمَطْلَبِهِ
فوالذي صَانَهُ عن وَصْمَةِ الشَّبَهِ
ما الحب إلا لقوم يَعْرِفُونَ بِهِ
قد مارسوا الحب حتى هَانَ مُعْظَمُهُ
تُجِيبُهُ إن دعا للوجد أُمَّتُهُ
وعَزْمُهُ بينهم سَامٍ وهِمَّتُهُ
قومٌ لديهم بَيَانُ الحب عُجْمَتُهُ
عَذَابُهُ عِنْدَهُمْ عَذْبٌ وظُلْمَتُهُ
نُورٌ ومَغْرَمُهُ بالراء مَغْنَمُهُ
يا مَنْ دعاه هَوَاهُ أن يُعَاشِرَهُمْ
اسْلُكْ مَشَاعِرَهُمْ والْزَمْ شَعَائِرَهُمْ
وإن تَكَلَّفْتَ أَنْ تَدْرِي أَشَايِرَهُمْ
كَلَّفْتَ نَفْسَكَ أَنْ تَقْفُو مآثِرَهُمْ
والشيء صَعْبٌ على مَنْ لَيْسَ يَحْكُمُهُ
في حُبِّ ليلى خَلِيُّ البال يَعْذِلُنِي
إن لم أُغَالِطْ فما يَنْفَكُّ يَخْذُلُنِي
فوالذي مَنْزِلَ العُشَّاقِ يُنْزِلُنِي
إني أُوَرِّي عَذُولِي حين يَسْأَلُنِي
بِزَيْنَبٍ عن هَوَى ليلى فَأُوهِمُهُ
كم في الهوى والنوى قَاسَيْتُ مِنْ أَلَمِ
وكم مَلَأْتُ طُرُوسَ العشق مِنْ كَلِمِ
وكم سَهِرْتُ سَمِيرَ النَّجْمِ في الظُّلَمِ
وطالما سَجَعَتْ وَهْنًا بِذِي سَلَمِ
ورقاءُ تُعْجِمُ شَكْوَاهَا فَأَفْهَمُهُ
ما السُّحْبُ إلا دُمُوعُ العَيْنِ بَاكِيَةً
ولا لَظَى غَيْرُ أحشائي مُحَاكِيَةً
لا شَكَّ أني أُنَاغِي الوُرْقَ شَاكِيَةً
وتَنْثَنِي عَذَبَاتُ الْبَانِ حَاكِيَةً
عَلِمَ الفَرِيقُ فأدري ما تُتَرْجِمُهُ
إِمَامَ عِشْقٍ تَوَلَّى نَصْرَ مِلَّتِهِ
على الوشاة وفَادَاهَا بِمُهْجَتِهِ
نادى وقَدْ ذاب وَجْدًا معْ ثَنِيَّتِهِ
يا مَنْ أَذَابَ فؤادي في مَحَبَّتِهِ
لو شِئْتَ دَاوَيْتَ قَلْبًا أنْتَ مُسْقِمُهُ
متى بِرَبْعِ صِحَابِي أَبْلُغُ الأَمَلَا
فكم سَقَى مَاءُ دَمْعِي السَّهْلَ والجَبَلَا
وما شفى مَعْهَدًا مِنْ ساكِنِيهِ خَلَا
سَقْيُ الجِبَالِ فَرَعْنَ الطَّوْدَ منه إلَى
شِعْبِ المُرِيحَاتِ هَامِي المُزْنِ مَرْهَمُهُ
ملث غَيْثٍ يَسِحُّ الوابل الهَطَلَا
وصَيِّبٍ طَيِّبٍ يَسْتَخْصِبُ الطَّلَلَا
أَضْحَى بِمُنْهَمِر الأنواء مُنْهَمِلَا
وبات يَرْفَضُّ من وادي الخزامِ عَلَى
وادي أَرَامٍ وما والى يُلَمْلِمُهُ
حبا مَنَازِلَهَا فَيْضُ الحَيَا وَمَلَا
أَرْجَاءَهَا مِنْ بُرُوقٍ يَبْتَسِمْنَ جَلَا
ولا عَدَا عَنْ رُبَاهَا الجُودُ إذْ نَزَلَا
يَسُوقُهُ الرعد مِنْ خَيْرِ البِطَاحِ إلى
أُمِّ القُرَى ورِيَاحُ البِشْرِ تَقْدُمُهُ
وسْمِىُّ جُودٍ سريعاتٍ نَجَائِبُهُ
وليُّ عَهْدٍ مُرِيعَاتٌ رَغَائِبُهُ
وواكِفٌ بالنَّدَى تَكْفِي سَوَاكِبُهُ
وكُلَّمَا كَفَّ أَوْ كَلَّتْ رَكَائِبُهُ
بَادَاهُ بِالرَّحْبِ مَسْعَاهُ وَزَمْزَمُهُ
ما دَرَّ مِنْ قَبْلِهِ غَيْثٌ يُعَارِضُهُ
ولا أَضَرَّتْ بِمَسْرَاهُ عَوَارِضُهُ
تَخَالُهُ وَهْوَ لا رِيحٌ يُنَاقِضُهُ
لَمَّا أَلَثَّ على البَطْحَاءِ عَارِضُهُ
عَلَا المدينةَ بَرْقٌ رَاقَ مَبْسَمُهُ
بَرْقٌ بَوَاسِمُهُ في الجَوِّ قَدْ سَطَعَتْ
فَقَهْقَهَ الرَّعْدُ بِالْغَبْرَا وَقَدْ خَشَعَتْ
والرَّجْعُ سَحَّ مِن الخَضْرَا ومَا جَمَعَتْ
سَقَى الرِّيَاضَ التي مِنْ رَوْضِهَا طَلَعَتْ
طَلَائِعُ الدِّينِ حتى قَامَ قَيِّمُهُ
مَغَارِبُ الأرض طُرًّا أو مَشَارِقُهَا
تَسْعَى إلى طِيبَةٍ مِنْهَا خَلَائِقُهَا
مدينة العِلْمِ هَلْ تَخْفَى حَقَائِقُهَا
حَيْثُ النُّبُوَّةُ مضروبٌ سُرَادِقُهَا
والنُّورُ لَا يَسْتَطِيعُ اللَّيْلُ يَكْتُمُهُ
يَلُوحُ في رَوْضَةٍ مَأْثُورَةِ الشَّرَفِ
دُرِّيُّ كَوْكَبِهَا يَجْلُو دُجَى السُّدَفِ
والبدر يَطْلُعُ في أُفْقٍ بلا كَلَفِ
والشمس تَسْطَعُ في خُلْفِ الحِجَابِ وَفِي
ذاك الحِجَابِ أَعَزُّ الكَوْنِ أَكْرَمُهُ
يا زائرًا قَبْرَ خَيْرِ الْبَدْوِ والحَضَرِ
الْثِمْ ثَرَى تُرْبِهِ المُعْشَوْشِبِ النَّضِرِ
يَلْقَاكَ حيًّا بأهنى عِيشَةِ الخَضِرِ
مُحَمَّدٌ سَيِّدُ السَّادَاتِ مِنْ مُضَرِ
خَيْرُ النَّبِيِّين مُحْيِي الدِّينِ مُكْرِمُهُ
عَرِّجْ بِسَاحَتِهِ يَمْنَحْكَ تَكْرِمَةً
فلا تَخَفْ بَعْدَهَا بَغيًا ومَظْلَمَةً
هذا المُشَفَّعُ يومَ العَرْض مَرْحَمَةً
فَرْدُ الجلالة فَرْدُ الجُودِ مَكْرُمَةً
فَرْدُ الوُجُودِ أَبَرُّ الكَوْنِ أَرْحَمُهُ
مَنْ في صَبَاحَتِهِ يَحْكِيه مُبْتَسِمَا
مَنْ في مَلَاحَتِهِ حَازَ الْبَهَا وَسَمَا
كم أَقْسَمَ الْحَقُّ بِاسْمِ المُصْطَفَى قَسَمَا
نُورُ الهُدَى جَوْهَرُ التوحيد بَدْرُ سَمَا
المَجْدُ وَاصِفُه بالبدر يَظْلِمُهُ
بِطِيبِ عُنْصُرِهِ طَابَتْ سَرِيرَتُهُ
شمائل المَجْدِ دُونَ الحَدِّ سِيرَتُهُ
وسُورَةُ الفَتْحِ مِثْلُ الحَمْدِ سُورَتُهُ
مِنْ نُورِ ذي العرش مَنْشَاهُ وصُورَتُهُ
ومَنْشَأُ النُّورِ مِنْ نُورٍ يُجَسِّمُهُ
مَنْ لَاذَ مِنْ فَزَعٍ بِالهَاشِمِيِّ أَمِنْ
أو حَادَ عَنْهُ فَعَنْ سُبْل الرَّشَادِ عَمٍ
بالفضل قَدْ خَصَّهُ مَوْلَاهُ وَهْوَ قَمِنْ
ومُودِع السِّرِّ في ذات النبوة مِنْ
عِلْمٍ وحِلْمٍ وإحسانٍ يُقَسِّمُهُ
ما حِكْمَةُ الله أَلَّا تَعْجَز الحُكَمَا
قَدْ أَبْرَزَتْ للْوَرَى أَسْمَى الْوَرَى عِظَمَا
لُبُّ اللُّبَابِ تَسَامَى أَصْلُهُ وَنَمَا
فَذَاكَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْكَوْنِ أَطْيَبُ ما
جَادَ الوُجُود بِأَعْلَاهُ وأَعْلَمُهُ
سُيُوفُهُ بالردى نَحْو الْعِدَا لَمَعَتْ
وَكَفُّهُ بالندى قَبْلَ النَّدَا هَمَعَتْ
صُفُوفُه في المَدَا رَوْمَ الهُدَى اجْتَمَعَتْ
فما رَأَتْ مِثْلَهُ عَيْنٌ ولَا سَمِعَتْ
أُذْنٌ كَأَحْمَدَ أَيْنَ الْأَيْنُ نَعْلَمُهُ
لا تَعْزُ رُومَا وتُرْكًا أو جَرَاكِسَةً
لِحُسْنِهِ إن في هذا مُوَاكَسَةً
تَقُولُ آمِنَةٌ فيه مُنَافِسَةً
أَضْحَتْ لِمَوْلِدِهِ الأصْنَامُ نَاكِسَةً
على الرءُوسِ وذَاَق الخِزْيَ مُجْرِمُهُ
فلا تَرَى الفُرْسَ للنِّيرَانِ جَانِحَةً
بَعْدَ الخُمُودِ ولا الأَنْوَارَ لَائِحَةً
والمانويةُ لا تَنْفَكُّ نَائِحَةً
وأَصْبَحَتْ سُبُلُ التَّوْحِيدِ وَاضِحَةً
والكُفْرُ يَنْدِبُهُ بالوَيْلِ مَأْتمُهُ
كم ظُلْمَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الزَّيْغِ كَامِنَةٍ
قَدِ انْجَلَتْ بِيَدٍ لِلنَّفْعِ ضَامِنَةٍ
وعُصْبَةٍ مِنْ هُجُومِ الرَّوْعِ آمِنَةٍ
والأرضُ تَبْهَجُ مِنْ نُورِ ابْنِ آمِنَةٍ
والعَدْلُ تَرْمِي ثُغُورَ الجَوْرِ أَسْهُمُهُ
فلا تَرَى كاهنًا لِلْغَيْبِ يَسْتَرِقُ
كَلَّا ولا مَارِدًا إلَّا ويَخْتَرِقُ
والجِنُّ خَابُوا الرَّجَا بَلْ مَسَّهُمْ فَرَقُ
وإنْ يَقُمْ لاستراقِ السَّمْعِ مُسْتَرِقُ
رَصَدْنَهُ أَنْجُمُ الْأَرْجَاءِ تَرْجُمُهُ
فكم تَحَدَّى وأَبْدَى في دَلَالَتِهِ
مِنْ مُعْجِزَاتٍ تَوَالَتْ في رِسَالَتِهِ
فَقُلْ لِطَاغٍ تَمَادَى في ضَلَالَتِهِ
إنَّ ابْنَ عَبْدِ مَنَافٍ مِن جَلَالَتِهِ
شَمْسٌ لِأُفْقِ الهُدَى والرُّسْلُ أَنْجُمُهُ
ما جَاءَ مِنْ سَلَب الْأَعْدَا غَنِيمَتُهُ
به قتادة قَدْ رُدَّتْ كَرِيمَتُهُ
في كُلِّ آوِنَةٍ تَزْدَادُ قِيمَتُهُ
الْعَدْلُ سِيرَتُهُ والفَضْلُ شِيمَتُهُ
والرُّعْبُ يَقْدُمُهُ والنَّصْرُ يَخْدُمُهُ
في حَوْمَةِ الدِّينِ أَصْمَى الغَيَّ والْجَدَلَا
وجَنْدَلَ الكُفْرَ حتى صَارَ مُبْتَذَلَا
يَمِّمْ طَوِيلَ نِجَادٍ حُكْمُهُ عَدَلَا
أَقَامَ بالسيف نَهْجَ الحَقِّ مُعْتَدِلَا
سَهْل المَقَاصِدِ يَهْدِي مَنْ يُيَمِّمُهُ
يا صَاحِ كُنْ بِرَسُولِ الله مُقْتَدِيَا
في فِعْلِهِ وبِنُورِ الحَقِّ مُهْتَدِيَا
فَكَمْ أَبَادَ مِن الباغين مُعْتَدِيَا
وكُلَّمَا طَالَ رُكْنُ الشِّرْك مُنْتَهِيَا
في الزيغ قَامَ رَسُولُ الله يَهْدِمُهُ
بِسَعْدِ طَالِعِهِ تَسْمُو كَوَاكِبُهُ
وطَالَمَا ابْتَهَجَتْ زَهْوًا مَوَاكِبُهُ
سَلِ البُرَاقَ بماذا فَازَ رَاكِبُهُ
سارَتْ إلى المسجد الأقصى رَكَائِبُهُ
يَزُفُّهُ مُسْرِجُ الإسرا ومُلْجِمُهُ
سَرَى بِهِ وهْوَ في أَقْصَى تَعَجُّبِهِ
وفَازَ طَهَ بأعلى المَجْدِ أَعْجَبِهِ
له انْجَلَا ما تَوَارَى في تَحَجُّبِهِ
والشوق يَهْتِفُ يا جبريلُ زُجَّ بِهِ
في النورِ والنُّورُ مَرْقَاهُ وسُلَّمُهُ
في رُؤْيَةِ الرُّسْلِ ليلًا كم قَضَى أَرَبَا
وكم دَنَا وتَدَلَّى ثَمَّ واقْتَرَبَا
لَقَدْ رَأَى الآية الكبرى ومَا اضْطَرَبَا
والعرش يَهْتَزُّ مِنْ تَعْظِيمِه طَرَبَا
إِذْ شَرَّفَ العَرْشَ والكُرْسِيَّ مِقْدِمُهُ
اعْتَزَّ بالله حبًّا في مَعَزَّتِهِ
وحَلَّ في الملأ الأعلى بِحَوْزَتِهِ
فكيف فَازَ نَبِيٌّ شَطْرَ فَوْزَتِهِ
والْحَقُّ سُبْحَانَهُ في عِزِّ عِزَّتِهِ
مِنْ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى يُكَلِّمُهُ
في السَّبْعِ فَازَ بِخَمْسٍ فَوْزَ مُنْصَرِفِ
بِأَجْرِ خَمْسِينَ يُسْدِي شُكْرَ مُعْتَرِفِ
وَنَالَ ما نال مِنْ مَجْدٍ ومِنْ تَرَفِ
فكَمْ هنالك مِنْ عِزٍّ ومِنْ شَرَفِ
لَمِنْ شَدِيدِ القُوَى وَحْيًا يُعَلِّمُهُ
كُفَّارُ مكة ما كانت مُجَوِّزَةً
لا زال يُمْنَحُ آياتٍ مُعَزَّزَةً
حتى إذا جاء بالتنزيل مُعْجِزَةً
بل أَصْبَحَتْ بالأَحَاجِي فيه مُلْغِزَةً
يمحو الشرائعَ والأحكامَ مُحْكَمُهُ
أَجَابَ كُلُّ مُصِيحٍ بالسجود كَمَا
آياتُهُ أَخْرَسَتْهُمْ مَنْطِقًا وَفَمَا
وحيث كُلٌّ لَدَيْهَا أَلْقَوُا السَّلَمَا
هَانَتْ صِفَاتُ عظيم القَرْيَتَيْنِ وَمَا
يأتيه جَهْلًا أبو جَهْلٍ ويَزْعُمُهُ
فطالما بَالَغُوا في السَّبِّ أو ثَلَمُوا
عَرْضًا وأَنْفُسَهُمْ والله قَدْ ظَلَمُوا
لو مَيَّزُوا قَدْرَهُمْ مِنْ قَدْرِهِ سَلِمُوا
حَال السُّهَى غَيْر حَالِ الشمس لَوْ عَلِمُوا
بل أَهْلُ مكة في طُغْيَانِهِمْ عَمِهُوا
عُمْيُ البصائر عَنْ قَدْرٍ وعَنْ قَدَرِ
صُمُّ المَسَامِعِ عَنْ تقدير مُقْتَدِرِ
فمَنْ تَخَلَّفَ في وِرْدٍ وفي صَدَرِ
فاصْدَعْ بِأَمْرِكَ يا ابْنَ الشُّمِّ مِنْ مُضَرِ
فَقَدْ بُعِثْتَ لِأَنْفِ الشِّرْكِ تُرْغِمُهُ
مَنْ يَبْغِ شَأْوَكَ في قَابِ الكَمَالِ يَمِنْ
بِحَظِّ مُنْهَزِمٍ يَكْبُو وعَجْزِ زَمِنْ
لك الشفاعةُ مولاك الكريم ضَمِنْ
لك الجميل من الذِّكْر الجميل وَمِنْ
كُلِّ اسْمِ جُودٍ عَظِيمِ الْجُودِ أَعْظَمُهُ
ففي البداية كُنْتَ السَّيِّدَ الحَكَمَا
وفي النهاية حُزْتَ الْحُكْمَ والحِكَمَا
فَرَجِّهِ ودَعِ الكُهَّانَ والحُكَمَا
يا أَيُّهَا الآمِلُ الرَّاجِي لِيَهْنِكَ مَا
ترجوه ذا كَعْبَة الراجي ومَوْسِمُهُ
يَمِّمْ ضَرِيحًا إذا ما قَامَ يَحْصُرُهُ
عادٍ ملائكةُ الرحمنِ تَنْصُرُهُ
رَوْضًا تَبَاهَتْ به في الدهر أَعْصُرُهُ
قبرًا أُشَاهِدُ نورًا حِينَ تُبْصِرُهُ
عَيْنِي وأَنْشُقُ مِسْكًا حِينَ أَلْثُمُهُ
خِضَمُّ جُودٍ تَنَاهَى في عَزَازَتِهِ
فيه الأميرُ بَرِيءٌ من إمارَتِهِ
مَنْ لِي وَلَوْ بِنَصِيبٍ مِنْ خَفَارَتِهِ
كَم اسْتَنَبْتُ رِفَاقِي في زِيَارَتِهِ
عَنِّي ومَا كُلُّ صَبِّ القَلْبِ مُغْرَمُهُ
قَلْبِي طَلِيقُ اللِّقَا جِسْمِي مُقَيَّدُهُ
فَلَيْتَ شِعْرِي متى يُفْدِيهِ سَيِّدُهُ
كم أَمَّهُ زائِرٌ مِثْلِي يُؤَيِّدُهُ
وكم تُصَافِحُهُ من لا يدي يَدُهُ
ولا فَمِي عند تقبيل الثَّرَى فَمُهُ
أراه كالبدر في العَلْيَاءِ أَرْصُدُهُ
قَرِينَ بُعْدٍ وبالآمال أَقْصِدُهُ
مَنْ للمُرِيدِ وقَدْ أَقْصَاهُ مُرْشِدُهُ
مِنِّي أُنَادِيهِ مِنْ قُرْبٍ وأُنْشِدُهُ
قصيدةً فيه أَمْلَاهَا خُوَيْدِمُهُ
حَدِيثَةُ السِّنِّ ما نِيطَتْ تَمَائِمُهَا
نَضِيرة الغُصْنِ قد غَنَّتْ حَمَائِمُهَا
رَاجَتْ حَوَاسِدُهَا جَارَتْ لَوَائِمُهَا
مُهَاجِرِيَّةٌ افْتَرَّتْ كَمَائِمُهَا
عن ثَغْرِ دُرِّ لِسَانِ الحال يَنْظِمُهُ
عذراء مَنْذُورَةٌ في خِدْمَةِ الحَرَمِ
عسى يكون بها صَفْحٌ لِمُجْتَرِمِ
ويَبْلُغُ القَصْدَ قَبْلَ الفَوْتِ بالهَرَمِ
كم يَأْمُلُ الرَّوْضَةَ الغَرَّاءَ ذُو كَرَمِ
يرجو الزيارة والأقدارُ تَحْرِمُهُ
لَمَّا تَجَنَّى زَمَانِي الذَّنْبَ وافْتَعَلَا
وابْيَضَّ مُسْوَدُّ شَعْرِ الرأس واشْتَعَلَا
قَصَدْتُ مَنْ جَلَّ في سُلْطَانِهِ وعَلَا
مُسْتَعْدِيًا بحبيب الزائرين عَلَى
دَهْرٍ تَنَكَّرَ بالإهمال مُعْجَمُهُ
هَلْ سَامَ فَخْرَكَ إنسانٌ ولا مَلَكُ
أو رام قَدْرَكَ سُلْطَانٌ ولا مَلِكُ
فإِنْ أَلَمَّ زَمَانٌ خَطْبُهُ حَلَكُ
فقُمْ بِعَبْدِكَ يا شَمْسَ الوُجُودِ وَكُ
حِمَاهُ مِنْ كُلِّ خَطْبٍ مَرَّ مَطْعَمُهُ
فَكَمْ سَقَاهُ الرَّدَى أَقْذَى مَشَارِبِهِ
مِنْ حَيْثُ سَاقَ لَهُ أَدْهَى نَوَائِبِهِ
فاجْعَلْ زيارته أَبْهَى مَنَاقِبِهِ
وادعُ الإلَهَ إذا ضَاقَ الخِنَاقُ بِهِ
ما خاب مَنْ أَنْتَ في الدَّارَيْنِ مُكْرِمُهُ
أَرْجُوكَ نُصْرَةَ إِعْزَازٍ مُؤَزَّرَةً
على هَوَى النفس إذْ كانَتْ مُعَذَّرَةً
وَقَدْ تَوَالَتْ جُيُوشُ الْهَمِّ مُنْذِرَةً
يا سَيِّدَ العَرَبِ العَرْبَاءِ مَعْذِرَةً
لِنَادِمِ القَلْبِ لا يُغْنِي تَنَدُّمُهُ
إلى حِمَاكَ ضَعِيفٌ أَمْرُهُ وَكَلَا
وكَمْ مَلِيكٍ حَمَى بالْجَاهِ رَعْيَ كَلَا
أَصْبَحْتُ كَلًّا على نَعْمَاكَ بل ثَكِلَا
أَثْقَلْتُ ظَهْرِي بأوزاري وَجِئْتُكَ لَا
قَلْبٌ سَلِيمٌ ولا شَيءٌ أُقَدِّمُهُ
سَلَكْتُ في هذه الدنيا سُلُوكَ غَبِي
وما غَدَوْتُ مِن الأخْرَى على رَهَبِ
لَكِنْ تَعَلَّقْتُ في أذيال خَيْرِ نَبِي
يا صَاحِبَ الوَحْيِ والتنزيل لُطْفَكَ بِي
لا زِلْتَ تَعْفُو عن الجاني وتُكْرِمُهُ
رِفَاعَةٌ يَشْتَكِي مِنْ عُصْبَةٍ سَخِرَتْ
لَمَّا رَأَتْ أَبْحُرَ العرفان قَدْ زَخَرَتْ
فَارْفَعْ ظُلَامَةَ نَفْسٍ عَدْلَكَ ادَّخَرَتْ
وهَاكَ جَوْهَرُ أَبْيَاتٍ بِكَ افْتَخَرَتْ
جاءت إليك بِخَطِّ الذنْبِ تَرْقُمُهُ
قبول تَخْمِيسِهَا فَضْلٌ عَلَيْهِ وَمَنْ
لأَنَّهُ زَمِنٌ قَاسَى صُرُوفَ زَمَنْ
تَلَا مُؤَلِّفُهَا يَرْجُو الخَلَاصَ ثَمَنْ
فانْهَضْ بِقَائِلِهَا عَبْدِ الرَّحِيمِ وَمَنْ
يَلِيهِ إِنْ هَمَّ صَرْفُ الدَّهْرِ يَهْزِمُهُ
فاكْشِفْ بِحَقِّكَ عِنْدَ اليَوْمِ مَظْلَمَةً
من الهموم غَدَتْ كالليل مُظْلِمَةً
وانْظُرْ إليه بِعَيْنِ الفضل مَكْرُمَةً
واجْعَلْهُ مِنْكَ بمَرْأَى العَيْنِ مَرْحَمَةً
إذا أَلَمَّ بِهِ مَنْ لَيْسَ يَرْحَمُهُ
ارحم غريبًا بَعِيدَ الدار غائِبَهُ
حَبْل النوى حَمَّلَ الأثقال غَارِبَهُ
فَصِلْ رَغَائِبَهُ وافْصِلْ غَرَائِبَهُ
وإن دعا فَأَجِبْهُ واحْمِ جَانِبَهُ
يا خَيْرَ من دُفِنَتْ في الترب أَعْظُمُهُ
أَسِيرُ بين قليل الصَّبْرِ قَاصِرُهُ
وعَصْرُهُ بفراق الأهل عَاصِرُهُ
وأنت ذو كَرَمٍ لا شيء حَاصِرُهُ
فكل مَنْ أنت في الدارين نَاصِرُهُ
لم تَسْتَطِع مِحَنُ الدارين تَهْضِمُهُ
وهذه حَاجَةُ الملهوف مُجْمَلُهَا
وأَنْتَ أَعْلَم والمولى يُجَمِّلُهَا
وتَنْتَهِي وقريب العفو يَشْمَلُهَا
عليك مني صَلَاة الله أَكْمَلُهَا
يا ماجدًا عَمَّت الدارَيْن أَنْعُمُهُ
يسقي البرايا جميعًا ري عَارِضِهَا
إِنْسًا وجِنًّا ووحْشًا في مَرَابِضِهَا
تشفي الخلائق طُرًّا مِن تَمَارُضِهَا
يُبْدِي عبيرًا ومِسْكًا مِسْكُ عَارضِهَا
ويَبْدَأُ الذِّكْرُ ذِكْرَاهَا ويَخْتِمُهُ
وها تحية رَبِّي أَكْرَمُ الكرما
تنحو ضريحك يا خَيْرَ الورى كَرَمَا
سواطع النور منها تَمْلَأُ الحَرَمَا
ما رَنَّحَ الريح أَغْصَانَ الأراك وما
حامت على أَبْرُق الحَنَّانِ حُوَّمُهُ
تحية بِصِلَاتِ البِرِّ عَائِدَةً
بالخير مُوصَلَةً للرُّشْدِ قَائِدَةً
تُثْنِي عليك ولَيْسَتْ عنك حَائِدَةً
وتَنْثَنِي فتَعُمُّ الآلَ جَائِدَةً
بكل عارض فَضْل جَادَ مَسْجَمُهُ
رِفَاعَةٌ خَمَّسَ المنظوم مُرْتَجِلَا
قَرِيضَهُ وَهْوَ بالخُرْطُومِ قَدْ وَجِلَا
قَالَتْ هَوَاتِفُهُ: بالله كُنْ رَجُلَا
فَإِنَّ جَدَّكَ طَهَ للخطوب جَلَا
فَأَمْرُ خَطْبِكَ هذا الجدُّ يَحْسِمُهُ
ماذا العناء وأَهْلُ البيت قَدْ كَفَلُوا
عَوْدًا جميلًا وما عَنْ وَعْدِهِمْ غَفَلُوا
لا تعْن بالغير جَدُّوا السير أو قَفَلُوا
هم أجمعوا أَمْرَهُمْ للكَيْد واحْتَفَلُوا
والأمر لله ما يَرْضَاهُ يَحْكُمُهُ

ومع أن مدة الإقامة بتلك الجهات كانت لمجرد الحرمان من النفع الوطني، فقد اقْتَضَت الحكمة الإلهية أن سفري لَمْ يَضِعْ هباء منثورًا، فقد اعْتَنَيْتُ في مُدَّتي هناك بترجمة وقائع تليماك، وهو بِكُلِّ مَنْ في حماك، وهو الذي صار طَبْعُه فيما بعد في مدينة بيروت، ولا شك أنه مِنْ أَنْفَع كتب الآداب والحكم، حيث اعْتُنِي بترجمته في سائر لغات الأمم، وكذلك قد تَعَلَّم فقهاء الخرطوم ممن معي من المشايخ القراءِ تجويدَ القرآن الشريف وعِلْم القراءات، حتى صاروا ماهرين في ذلك، وفي آخر الأمر تَنَظَّمَت المدرسة نحو تسعة شهور، وتَعَلَّمَ فيها التلاميذ من أبناء المصريين القاطنين هناك طرفًا من النحو والحساب والهندسة وحُسْن الخط، وظَهَرَتْ نتيجة ذلك في الامتحان العام، والآن حين جَدَّدَت الحكومة الإسماعيلية عدة مدارس بالأقاليم السودانية تَوَظَّفَ بها البعض من هؤلاء المتعلمين، ولا بد أنه يُرْجَى نجاح تلك المدارس بداعي أن تأسيسها مَبْنِيٌّ على الإخلاص في النية، وحسن الطوية الخديوية.

وبالجملة: فمتى زالت من السودان وسائل الوخامة والسقامة، ودخلت أهاليها بحسن الإدارة في دائرة الاستقامة؛ صارت هي وديار مصر في العمار كالتوءمين، وفي إيناع الأثمار صنوين، حتى ينشد لسان حالهما:

نحن غصنان ضَمَّنَا عاطف الوَجـ
ـد جميعًا في الحب ضَمَّ النِّطَاقِ
في جبين الزمان مِنْك ومِنِّي
غُرَّةٌ كَوْكَبيَّةُ الإنْفِلَاقِ

وَقَدْ لاح على قُرْبِ عَمَارِيَّتِهَا علامة ظاهرة، وهي فَتْح المدارس الخمسة من ابتداء الحكومة الإسماعيلية الباهرة، وكذلك إرسالية إسماعيل بك الفلكي ناظر المهندسخانة والرصدخانة إلى سواكن في رمضان سنة ألف ومائتين وثلاثة وثمانين مع بعض المهندسين والرسامين؛ لتعيين الطرق الحديدية المُجْمَع على إنشائها بالأقاليم السودانية، وإرسالية بعض أرباب المعارف الإنكليزية في سنة ١٢٨٦؛ لاستكشاف منابع النيل، وإعطاء ملحوظات خيرية، كل هذا وأمثاله دلائل قاطعة على أن السودان سيحظى عن قريب بالوسائل النافعة، فلا شك أن سياحة المرحوم جنتمكان في بلاد السودان وإن لم تَتَفَتَّح بها كنوز الذهب؛ فقد أَدَّى في حَقِّهَا من البحث عنها ما وَجَبَ، فإذا كانت الغايات لا تُدْرَكُ فالميسور منها لا يُتْرَكُ، فكأن لسان حاله يقول:

سأَضْرِبُ في بطون الأرض ضَرْبًا
وأَرْكَبُ في العلا غُرَرَ الليالي
فإما والثَّرَى وأُصِيبُ عُذْرًا
وإما والثُّرَيَّا والمعالي

وفي الحديث: «اعملوا، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له»، وفي رواية: «فكل مُهَيَّأٌ لما خُلِقَ له»، وبالجملة: فكان تَهَيُّؤُهُ للمعالي عجيب.

الحمد لله أَنَّنِي رجل
مُذْ كُنْتُ لا تنقضي أَعَاجِيبِي

وحسبه من الأفعال العجيبة وقاية مصر من الأوبئة بحُسْن النظافة، وبالاحتراسات الحكمية، وتجديد المطبعة لنشر المؤلفات العلمية، وإنشاء مسجد القلعة العامرة؛ لتعضيد المعالم الإسلامية، وقَطْع دابر المفسدين للحصول على التأمينات العمومية، ومع ذلك فكَمْ تَرَكَ الأول للآخر، وكم أَبْقَى لِمَن بَعْدَه من تكميل المفاخر؛ فلهذا وَجَبَ على الخَلَفِ تَتْمِيم ما لم يَتَيَسَّرْ فِعْلُه للسلف، وإعمال فِكْرِه في استنتاج نفائس المنافع، كما يُعْلَم ذلك من فصول الباب التابع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤