الفصل الثاني

في ملحوظات عمومية تتعلق بالديار المصرية أَبْدَاهَا بعضُ مَنْ أَرَّخَ مصر من أرباب السياحة وحرض فيها على ما يَلْزَم من تقديم التمدن بتحسين أحوال المنافع العمومية تجارة كانَتْ أو زراعة أو فلاحة، وهذا باعتبار ما كان كما لا يَخْفَى على ذوي العرفان.

***

ومضمون كلام هذا المؤرخ أن خصوبة أَرْض مصر، واعتدال قُطْرِها، وصَحْو زَمَنِهَا، كل ذلك يؤذن باستعدادها إلى الوصول لدرجة السعادة وأَوْجِ الثروة، ومع ذلك فقد تَوَالَى عليها منذ قرون عديدة عدة من الدول، ولم يتشبث أحد من ملوكهم إلى إبلاغها درجة كمال ولا مرتبة اعتدال؛ وذلك لأنها في عهد الخلفاء كان يتولى عليها من العمال والنواب مَنْ لا يَسْلُك أكثَرُهُم في حُسْن الإدارة والتدبير سَبِيلَ الصواب، وإنما كان النائب فاعلًا مختارًا يسيء معاملة الرعية بما عِنْدَه من المرخصية، وربما حَدَثَ في أيام نيابته اختلالٌ جسيم يَتَسَبَّبُ عنه الدمار وانحلال العمار، فقد رأى نِيلَ مصر بعينيه أن رمال الصحراء والبراري انهالت عليه وامْتَدَّتْ على جزء عظيم من الأرض التي كان يَرْوِيهَا، حتى أَعْقَمَتْ سواحله ببوار نواحيها، وأَفْسَدَتْ رسادقها وضواحيها.

وقد ازداد هذا الضرر وتَجَسَّمَ الخطب والخطر في أيام حكومة سلاطين الشراكسة، وبَقِيَتْ أيضًا في أيام الدولة العلية؛ للاختلاف الواقع بين ولاتهم والمماليك الوجاقلية، ففسدت مملكة مصر بين الفريقين، وضاعت كضياع السفينة ذات الرئيسين، ولم يَصِفْهَا أرباب السياحة من المتقدمين والمتأخرين حق وَصْفِها الصحيح، بل تَكَلَّمُوا عليها بكلام ناقص فيما يتعلق بالتعديل والتجريح، ولا وَفَوْا لها بما يَجِبُ من الطب والعلاج، ولا بَيَّنُوا طُرُقَ التقدم والرواج.

ولما حَلَّ بها جيش الفرنساوية أَمْعَنَ النظر فيها وعَرَفَ قيمة الطرق المعاشية، وأنَّ مِصْرَ لو حُكِمَتْ بحكومة مماثلة لدول أوروبا المنتظمة لأمكن تكثير أهلها وبلوغهم إلى ثمانية ملايين مُتَمَّمَة، وأنها قَابِلَة لنمو الزراعة والصناعة والتجارة، وأن أهلها فيهم القابلية لاجتناء ثمرات العقول وفوائد المهارة، وقُطْرها مُسْتَعِدٌّ لتحسين الصحة العمومية بطرد الأمراض الوبائية، وماء النيل إذا تَوَزَّع على الأراضي بالوجه اللائق يَرْوِي من الفدادين فوق أربعة ملايين، وتكون كثيرة المحصول، فإن فِلَاحَتَهَا المختلفة تَمْكُث ثمانية أشهر من السنة يَتَقَلَّب عليها الحرث والزرع المختلف باختلاف الفصول، فإن أراضي أقاليم البحرية متساوية الأطيان تقريبًا في طبيعة المزارع، مستوية الأجزاء، فجميع أراضيها صالحة للزراعة والفلاحة بالسهولة؛ لأن الرطوبة تَبْقَى بها مدة فصل الشتاء وبعده، فَيَسْهُل إنباتها بواسطة ما يَنْزِل فيها من الأمطار بدون الاستعانة بالسواقي، فتخرج منها الحنطة الجيدة، فما يوجد فيها من البُور بدون زَرْع فهو ناشئ مِنْ مُجَرَّد إهمال الأهالي وسوء إدارة الحُكَّام؛ مثلًا جميع الأراضي الواقعة على شطوط ترعة الإسكندرية هي أشبه بالصحراء والبرية؛ لخلوها عن الحرث والغرس، ولو زُرِعَتْ جميعها لَخَرَجَ من المحصول الجسيم مقادير وافرة، فالأراضي التي لا تُزْرَعُ بمديرية البحيرة نحو مائة وثمانين أَلْف فدان تقريبًا، منها أرض بحيرة مريوط، تَشْتَمِل على ستين ألف فدان، مع أنه يُمْكِن تجفيف جزء منها وزَرْعُه.

وأما روضة البحرين فإنها خصبة جدًّا إلا أنها لم يُعْطِهَا الفلاحون في الفلاحة ما يَجِبُ لها، فهي في الجملة تُعْطِي محصولات جيدة، ولو أُعْطِيَ لها حَقُّهَا من الفلاحة لَكَثُرَ مَحْصُولُها كثرة بالغة، ففي أقسامها تخرج الحنطة والذرة والفول والشعير والكتان والنيلة والدخان، إلا أنه لا بد من تَقَدُّم الزراعة بها تقدمًا أَجْسَم من ذلك؛ لازدياد المحصول وكَثْرَتِهِ، فإن روضة البحرين التي هي عبارة عن الغربية والمنوفية فيها نحو مائة وعشرين ألف فدان من البور، منها بالغربية نحو ثمانين ألف فدان، والباقي وهو مقدار النصف من ذلك بالمنوفية.

ومن تحسين الزراعة بمصر أن يُخَصَّصَ جزء من أراضي الشرقية والدقهلية لزراعة القطن والكتان والنيلة، وما يتبقى بعد هذا التخصيص يكون لزراعة الحنطة والذرة والفول والشعير والعدس ونحو ذلك، ويُخَصَّصُ في مديرية الشرقية جملة أفدنة لِزَرْعِهَا على هيئة المروج الصناعية والمراعي المدبرة، ويَصِحُّ في هذه المديرية زِرَاعة الكرم والتوت، كما صَحَّتْ زراعة التوت في بعض الجهات الأخرى من الأقاليم الجنوبية الإفرنجية الشبيهة بالأراضي المصرية، فإن تربية دود القز بمصر تعطي مع السهولة محصولًا عظيمًا لمساعدة الحكومة له، واستثنائه من دفع العوائد؛ تمييزًا له في المحال المُقْتَضَى لها ذلك، فإن في مملكة فرنسا أشياء تُسْتَثْنَى من دفع العوائد والضرائب؛ لِقَصْد ترغيب الزراعة، وتكون مُعَافَاةً من ذلك وَقْتِيًّا؛ يعني: لا تدفع العوائد إلا بعد مدة، فمن ذلك التزام رَدْم قدر مخصوص من البرك والمستنقعات لمن يريد غَرْسَها، فإنه يجوز في فرنسا الترخيص له في ذلك القَدْر، ومعافاته مِنْ دَفْع المال مدة لا تَزِيدُ عن خمس وعشرين سنة، تمضي بعد التنشيف وصيرورته صالحًا لغيره، هذا في الأراضي البور، وأما الأراضي المعمورة فيجوز بموجب اللوائح الصادرة في ذلك معافاتها من المال لمنفعة الأراضي نفسها إذا زُرِعَتْ بزراعات مخصوصة أَنْفَع مِنْ غَيْرِها للمملكة كزراعة الكرم، أو الأشجار، أو التوت كتنمية دود القز، أو الأثمار فتكون لها امتيازات خصوصية في فرنسا، وقد سَلَكَ هذا المَسْلَك المرحوم محمد علي في مبدأ الأمر برفع الأموال عن أراضي الضواحي التي يُزْرَع فيها قَدْر مَخْصُوص من شجر الزيتون، وكما صَدَرَ في هذا العهد الأخير من قرارات مجلس النواب فيما يخص الأراضي المستبحرة والموات من تمييزها برفع الأموال عنها مُدَّة محدودة للمنفعة العمومية، ولا بأس أن يُعْمَل في مصر مِثْلُ ما يُعْمَل في فرنسا في ربط الأموال على العقارات المُجَدَّدَة من بيوت الأبحار والورش والمعامل، وهو أن لا يُرْبَط عليها عوائد إلا في آخر السنة الثالثة التي تَمْضِي من تمام عمارتها؛ ترغيبًا للمجددين حيث إنهم في أثناء هذه السنين الثلاثة يَجْنُون جميع ثَمَرَة مبانيهم، ويُوفُونَ غالبًا ما عليهم من الديون للصناع وأرباب مُهِمَّات البناء، فبمثل هذه الترغيبات يَكْثُر التجديد للأمور النافعة النادرة، فالتشويق لغرس شجر التوت لتنمية دود القز يَكُون مِن هذا القبيل.

فبحسن إدارة تربيته يكون عُدَّة وعُمْدَة لإمداد الفبريقات الأروباوية، كما سيأتي توضيح ذلك فيما بعد الفصل الثالث من هذا الباب.

وفي إقليم الشرقية نحو أربعين ألف فَدَّان من البور، إذا صار تَعَهُّدها بالزراعة يَتَبَدَّلُ البوار بالعمار، وقِلَّة المحصول بالاستكثار، وكذلك بالدقهلية نَحْو ستين ألف فدان بدون زراعة، إذا انْصَلَحَتْ رَاجَتْ، وكانت كنزًا للبراعة، وإذا تَقَدَّمَتْ زراعة الْأُرْز بجوار رشيد ودمياط عما هو جارٍ الآن، وتَحَسَّن تبييض الأرز بتكثير الطواحين التي تدور بالآلات المائية؛ فإن أرباب الزراعة بتلك الجهات يكتسبون الأموال الجمة من هذا الفرع، الذي هو أجود من أرز إيطاليا وأمريكة والأقطار الهندية، لا سيما وأن بتلك النواحي يوجد من الأراضي البور الصالحة لزراعة الأرز نحو أربعين ألف فدان.

وأما مديرية الجيزة ومديرية القليوبية فإنهما تعطيان محصولات مماثلة لمحصولات المنوفية والغربية إذا صار تَعَهُّدُهُما بالحرث والغرس كما ينبغي، بل يزيدان على ذلك بصلاحيتهما لزراعة القرطم، وإذا صار إصلاح ما فيهما من البور الذي يُنَاهِز ثمانين ألف فدان يَكْثُر محصولهما كَثْرَة بالغة، وكذلك إقليم الفيوم إذا اسْتَمَرَّ على زراعة الزيتون والورد وأَخَذَ في الكثرة؛ فإن محصول هذين الفرعين يزيد في قيمته زيادة ذريعة، فإنه إقليم ظريف، مُخَصَّب بكثرة الاجتهاد، وتقديم فَنِّ الزراعة فيه، وإنما يَتَخَصَّصُ منه جزء عظيم من الأراضي لزراعة الغلال بقدر الحاجة، والباقي تَصِحُّ فيه زراعة النيلة والكتان والبرسيم بترتيب زراعة كل صِنْفٍ بما يلائمه من فصول السنة؛ لصلاحية أرضه للزراعات الراتبة، وما فيه من الأخراس يُقَارِب ستين ألف فدان قابلة للإصلاح، فحالة أراضيه التي فَسَدَتْ بالحروب وإغارة العرب قابلة للاستحسان، وأن يَعُودَ خِصْبُها كما كان.

وأما مديرية بني سويف فهي مُنْبِتَة للحنطة والذرة والفول والكتان والنيلة والدخان، ومع ذلك ففيها من الأخراس نحو أربعين ألف فدان، إذا انْصَلَحَتْ تصير جسيمة المحصول.

وفي إقليم الأطفيحية يَصِحُّ القمح والفول والذرة والدخان، وفيه من الأراضي غير المفلحة نحو ثلاثين ألف فدان إصلاحها من الواجبات، وأما أراضي المنية فأكثرها صالح لزراعة قَصَب السكر، لا سيما نواحي مَلَّوِي، قال الحكيم جالينوس: لولا قصب السكر بمصر ما بَرِئَتْ أهاليها من العلل سريعًا، وقيل: يُعْمَل من قَصَب السكر نَحْو ألف نَوْع من الحلواء، قال بَعْضُهم وأَحْسَنَ في الجناس:

سبحان من أَنْبَتَ في أَرْضِنَا
ما بَيْنَ شوك وحَلَا فِيهَا
أُنْبُوبَةً في حَشْوِهَا سُكَّرٌ
قد كان ماءً وحَلَا فيها

وأَلْطَفُ منه بكثير قوْلُ بعضهم فيه مُلْغِزًا:

جُعِلْتُ فِدَاكَ هَلْ لَكَ مِنْ حَبِيبٍ
مُجِيبٍ في الوصال بِلَا مِحَالِ
نَقِيِّ الثَّغْرِ مَعْسُولِ الثنايا
لَهُ رِيقٌ أَلَذُّ مِن الزُّلَالِ
له قَدُّ القَضِيبِ إذا تَثَنَّى
وَهَزَّتْ عِطْفَهُ رِيحُ الشَّمَالِ
يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ القَطْعِ ظُلْمًا
ولم يَسْرِقْ ولَمْ يُتْهَمْ بِمَالِ
وَيُعْصَرُ كَعْبُهُ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ
فَيُبْدِي الشُّكْرَ مِنْ كَرَمِ الخِلَالِ

وهو كثير في الديار المصرية لا يكاد يَنْقَطِعُ عنها إلا في خمسة أشهر في السنة.

«وقد نُقِلَ» عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لولا قصب السكر بمصر ما سَكَنْتُهَا، وكان يُكْثِرُ مِنْ مَصِّهِ لِلَذَّتِهِ التي لا يَمَلُّهَا أَحَدٌ، وقد تَجَدَّدَ صِنْفٌ آخَر من قَصَب السكر مُشْبِع في المائية والحلاوة، لكنه لا يُسَاوي في اللذة القصب البلدي، وقد كَثُرَ هذا الصنف بأقاليم مصر، ولكن اسْتَفْحَلَتْ أعواده في مديرية المنية لشدة صلاحيتها لزرعه، وفيها ثلاثون ألف فدان من البور، فإذا زُرِعَتْ يَتَحَصَّلُ منها محصولات عظيمة.

وأما مديرية أسيوط وجرجا فإنها مشتملة أيضًا على نحو ستين ألف فدان بدون فلاحة لكنها صالحة؛ لذلك يُنْتَج في أرضها الحنطة والفول والذرة والعدس والنيلة والدخان والسلجم والقرطم والخشخاش وقصب السكر وغير ذلك، ومن أسيوط إلى إسنا سائر الأراضي صالحة للقطن والكتان والقرطم والسلجم وقصب السكر والقمح والفول والذرة والعدس واللوبيات وغير ذلك، وجميع أراضيها صالحة لزراعة شجرة البن، وإنما تَسْتَدْعِي بها أعمالًا خصوصية؛ يعني: إذا خُدِمَت الأرض خدمة مخصوصة وزُرِعَتْ فيها شجرة البن؛ فإنها تُثْمِر إثمارًا عظيمًا، فبهذا تَسْتَغْنِي مصر عن بن بلاد اليمن، فالأرض الصالحة لهذه الشجرة بتلك الجهات الصعيدية تَبْلُغ تقريبًا نحو نصف مليون فدان من الأطيان التي تَخَرَّسَت بالحَلْفاء وبغيرها من الحشائش الطُّفَيْلية كالشوك والسعدان، ويَصِحُّ في هذه الأراضي الصعيدية شَجَر التوت الذي يَتَغَذَّى به دود القز؛ لأن الصعيد يُنْبِت الجميز في كل ناحية من نواحيه، فيُفْلِح فيه التوت ولا يُخْشَى على دود القَزِّ فيه من التلف؛ لقلة الأمطار والعواصف المُتْلِفَة لدود القز في بلاد أمريكة، ويمكن في مِصْرَ وقايتها والتَّحَفُّظ عليها من هبوب الرياح الجنوبية المريسية بغرس الأشجار المُلَطِّفَة لتلك الرياح.

وفي أودية الفيوم تُنْتَج أغنام المارينوس ذوات الصوف الموصوف وتَحْسُن للغاية لجودة مرعاها، فبذلك يَتَحَصَّل في مصر الأصواف الجيدة، وتُتَّخَذُ منها المنسوجات الظريفة والمشغولات اللطيفة، ولا مانع من تخصيص إصطبلات عظيمة في جزء من إقليم الفيوم وفي جانب من مديرية الشرقية؛ لتحسين جنس الخيول، فإن توليد الكحائل العربية، وحياد الخيول الدنقلاوية للتجنيس على الخيول المصرية يَنْشَأ عنها أصناف جيدة متجنسة، تُعْتَبَرُ من الأصائل.

وكذلك إذا بَلَغَتْ ترعة السويس المرام بوصلة النيل المبارك بالبحر الأحمر فإن مزاياه لا تُحْصَى ولا تُحْصَر، وإذا سَهُلَتْ المواصلة بين قنا والقصير للأخذ والإعطاء، بتجديد منازل خانات للمأكل، وببناء صهاريج تَمْتَلِئُ من الأمطار الشتائية بِقَدْرِ لوازم المسافرين واحتياجاتهم؛ فإن فوائد هذه التجديدات مما لا مزيد عليه لرواج المخالطات والمعاملات.

وكذلك إذا صار العريش الذي بين مصر والشام مركزًا للتجارات والبضائع، وتَأَكَّدَتْ المعاوضات والمبادلات، والأخذ والعطاء بين الأقاليم المصرية والشامية؛ فإن القوافل تَنْقل محصولات القُطْرَين من أحدهما إلى الآخر مدة الفصل الذي يُخْشَى فيه على السفن في السير في البحر، ولا يُؤْمَن عليها فيه أن يرْسِيَ بلا خطر في مينا دمياط، فيكون سفر التجارة في البر آمن؛ ولهذا يَلْزَم إنشاء ترعة ما بين مِينَتَي الإسكندرية لمن لا يريد التجارة في البر، فبإنشائها يَسْهُل عبور السفن وخروجها من الأقطار الشامية.

وإذا غُرِسَت الأشجار في صعيد مصر فإنها تَحْفَظ القطر المصري من رِيح السَّمُوم وتقيه من وخامة الهواء المَسْمُوم؛ لأن الأشجار العالية الجافَّة متى غُرِسَتْ في الجهات المجاروة للبراري والصحاري؛ وَقَت المزارع من التلف، وحَفِظَت الأهالي من الأمراض الناشئة في الغالب عن هبوب هذه الرياح المسمومة المُضِرَّة، فإذا حَصَلَ ذلك كُلُّه تَوَفَّر في قُطْرِ مصر الخير والبركة في محصولاتها، وتواجد فيها من المؤنة والمعونة قُوتُ أهلها، فيفيض فيها ما يكفي لقوت أهالي جنوب أوروبا.

ويمكنها أيضًا أن يَغْتَذِي بها من مراعيها ما ينيف عن خمسمائة ألف من الإبل ومائتي ألف من الخيل وأربعمائة ألف من الحمير والبغال وأربعة ملايين من الأبقار والجواميس وعشرة ملايين من الضأن والمعز، وإذا اتُّخِذَ فيها نحو ثمانمائة مَعْمَل لترقيد البيض وإخراج الدجاج نَتَجَ من ذلك خمسة وعشرون مليونًا من الدجاج، وهذا كله يُنْتِجُ الغنى والثروة، مع ما يَتَجَدَّد بها من العلاقات التجارية والتواصل بالمعاملات الاستمرارية بينها وبين جميع المدن التي على البحر المالح من بلاد الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب وبلاد الحبشة.

ويكثر تردد السفن منها بطريق السويس والقصير على المينات العربية والحبشية، كما تصير موردًا لذلك، وكذلك إذا زالت موانع الأوبئة والمضارِّ من الجهات الجنوبية؛ فإن قوافل داخل بلاد أفريقيا تَتَرَدَّدُ إلى ديار مصر بمتاجرهم ليستعيضوها بمحصولات فبريقات أوروبا الواردة إلى مصر، وبواسطة ما في مصر من الأمنية والمساعدة للأجانب والأغراب تُرْسِل جميع البلاد إليها الرسائل التجارية؛ لاطمئنانهم على نجاح مقاصدهم، وفلاح مواصدهم، فإذا اتَّصَفَتْ مصر بهذه الصفات وصَفَتْ أَحْوَالُها هَرَع إليها كل فريق، وحج إليها الناس من كل فج عميق، فبهذا يَعْمُر المكان وتَكْثُر السكان، وبتجدد البركة يَكْثُر العمل وتنبسط الحركة، فيستدعي حال المدن الأصلية تكثير المدارس العمومية والكتبخانات الأهلية المشتملة على جميع العلوم والفنون؛ لتنوير عقول ذوي المعارف، ويَكْثُر العلماء والمتفننون، وتَنْتَشِر على آفاق مصر أَنْوَار المعارف الخارجية وأَسْرَار اللطائف الإنسانية، لا سيما وأن أبناء مصر أرباب قرائح ذكية، وحافظتهم قوية متى قصدوا شيئًا تَعَلَّمُوه في أَقْرَب وقت وزمان، وكَمْ قام على قابليتهم واستعدادهم لعظائم الأمور أَعْظَم برهان.

ثم إن تَغَيُّر حالة مصر إلى حالة مُسْتَحْسَنة لا يَسْتَدْعِي من الزمن عشرين سنة؛ لأن تُرْبَتَها طيبة، ومزارعها مُخْصِبة، وواديها سعيد، وبها ينمو الحيوان والنبات في أَقْرَب وَقْت ويزيد، تَنْبُت الأطفال فيها نباتًا حسنًا، ويترعرعون في أقرب وقت، وتنمو أبدانهم نماء مُسْتَحْسَنًا، والنوع الإنساني في مصر يَتَعَوَّدُ على لطافة الأخلاق، وانتظام المعيشة، والاقتصاد فيها، وعَدَم التكليف بما لا يُطَاقُ.

والغالب على أهلها أن تَبْقَى قُوَاهُم العقلية إلى آخر أعمارهم بدون أن يَحْصُل فيها خسافة، وإذا بلغ الإنسان منهم سِنَّ الهَرَم فلا يتكلم بكلام خرافة.

قال صاحب هذه الملحوظات: لا شك أن ما ذَكَرْتُهُ من التحسينات في شأن المملكة المصرية يَقَعُ مُعْظَمُهُ مَوْقِع التحقيق لو دامت هذه المملكة في قبضة الفرنساوية، انتهى.

ونحن نقول من القواعد الأساسية أن عِلَّة الضم الجنسية:

نعم بَيْنَنَا جنسية الود والصفا
ولكنَّنِي لَمْ أُلْفِهَا عِلَّةَ الضَّمِ

فكَلَامُه مبني على شبهة واهية، وهي أن مصر يَسُوغ أن تُصْلِحَهَا فرنسا، وأي مملكة تكون لها مضاهية، فاعتقاد ذلك من الإيغال المُدْهِي، أو من باب التشبيهات الفاسدة، وإنما يَقْتُل النفوسَ التشهي، تشطير البيت الشهير:

جاء شقيق عارضًا رُمْحَهُ
صَوْبَ بني عَمٍّ يَرُومُ الكفاحْ
قيل أَمَا تَخْشَى انْكِسَارَ القَنَا
إن بَنِي عَمِّك فيهم رِمَاحْ

وفي الحقيقة فأغلب ما ذَكَرَهُ صاحب الملحوظات، وعليه عَوَّلَ، فقد قام بأغلبية جنتمكان الذي كان هو المُجَدِّد الأول، وقام بالتتميم والتكميل خَلْفَهُ النبيل:

فلم تك تَصْلُحُ إلا لَهُ
ولم يَكُ يَصْلُحُ إلا لَهَا
ولو سَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ
لَزُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا

ونقول هنا أيضًا: إن علة الضم الجنسية، فإن بني إسماعيل مُسْتَعْربة، ولا يَتَعَجَّبُ من هذا ولا يَجْهَلُه غير غَبِيٍّ. اللهُ أَكْبَر كل الحسن في العرب. وسنذكر في الفصل الثالث ما يُفيد أن هذه الملحوظات لم يَعْزُب منها مثقال ذرة على المرحوم محمد علي.

فإنْ تَكُ أَفْنَتْهُ الليالي فَأَوْشَكَتْ
فإن له ذِكْرًا سَيُفْنِي الليالِيَا

بل ولا على خلفائه من بعده لا سيما الحفيد المفيد، الذي لا زال القُطْرُ المصري يَكْتَسِبُ في أيامه من معالي الأمور ويستفيد، فالمجددان الأمجدان أَخْرَجَا المنافع العمومية في مصر من حَيِّزِ العَدَمِ إلى حَيِّز الوجدان:

وللمكارم أَعْلَامٌ تُعَلِّمُنَا
مدح الجزيلين مِنْ بأس ومِنْ كَرَمِ
وللعلا أَلْسُنٌ تُثْنِي مَحَامِدُهَا
على الحميدين مِنْ فِعْلٍ ومِنْ شِيَمِ
وراية الشَّرَف البزاخ تَرْفَعُهَا
يد الرفيعين مِنْ مَجْدٍ ومِنْ هِمَمِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤