الفصل الرابع

في مَدْح السعي والعمل وذم البطالة والكسل

قد أَسْلَفْنا أن الأعمال هي أسباب السعادة والثروة ومَنْبَع الأموال والغنى، فالأرض الزراعية إنما هي مَوْرِد للأعمال مُسَاعِد، وأن الأرض المخصبة بدون العمل لا تُنْتِج شيئًا، والأرض المجدبة بكثرة العمل تُخْصِب وتُنْتِج النتائج الجمة؛ ولذلك قال : «أفضل العمل أدومه وإن قَلَّ» وفي التوراة: «حَرِّك يدك أَفْتَحْ لك باب الرزق»، وقد كان الأنبياء والسلف الصالح يعيشون مِن كَسْب أيديهم ويحترفون، فقد قال الله تعالى في حق داود عليه السلام: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ أي: عمل الدروع من الحديد، فقد عَلَّمَه الله تعالى صَنْعَة الحديد، فصار يُحْكِم منها الدروع، فاستعان بها على أمره، واشتغل قبل النبوة بالتجارة بالشام للسيدة خديجة رضي الله عنها، وبعد النبوة كانت حِرْفَتُه الجهاد، فقد قال : «جُعِلَ رِزْقي تَحْت ظِلِّ رُمْحي»، وقال: «إن الله يُحِبُّ العبد المحترف، ويبغض الصحيح الفارغ»، وقال : «من بات كالًّا في طَلَب الحلال أَصْبَح مغفورًا له»، والكالُّ في طلب الحلال: الذي يُتْعِب نَفْسه في العمل لِكَسْبِه، وقال عُمَرُ رضي الله عنه: «لا يَقْعُدَنَّ أحدكم عن طَلَب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، فَقَدْ عَلِمْتُم أن السماء لا تُمْطِر ذهبًا ولا فضة»، وقال رضي الله عنه: «إني لأرى الرجل فيُعْجِبُني فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سَقَطَ من عيني.»

وكان إبراهيم بن أدهم على وَرَعِه يسعى ويَرْعَى ويَعْمل بالكِرَاء، ويَحْفظ البساتين والمزارع، ويَحْصُد بالنهار، ويؤدي الفرائض بالنهار، ويصلي النوافل بالليل، وكان أغلب الملوك والسلاطين على قِدَم الأنبياء والأصفياء يَتَّخِذون لهم صنائع، يكتسبون بها وينفقون منها؛ تَوَخِّيًا للإنفاق من الحلال، وتَنَزُّهًا عن الأخذ من بيت المال، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: «لا خير فيمن لا يَجْمَع المال مِنْ حِلِّه، يُخْرِج منه حَقَّه، ويَصُون به عِرْضَه» قال الشاعر:

ولا تُجْمَع الأموالُ إلا لِبَذْلِها
كما لا يُسَاقُ الدر إلا إلى النَّحْرِ

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله عز وجل: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً أي: مالًا إلى مالكم، فلا مجد إلا بالمال، والآمال متعلقة بالأموال، قال الشاعر:

كل النداء إذا نَادَيْتُ يخذلني
إلا ندائي إذا نَادَيْتُ يا مالي

والمال أصل السؤدد والرياسة إذ به تُسْتَجْمَع أسبابُهُما، وقد انقاد الناس قديمًا وحديثًا للغَنِيِّ؛ لأن القلوب لا تُسْتَمَال إلا بالمال، قال ابن المعتز:

إذا كنت ذا ثروة مِنْ غِنًى
فأنت المُسَوَّدُ في العالَمِ
وحَسْبُك مِنْ نَسَبٍ صورة
تُخَبِّر أنك مِنْ آدَمِ

ولما وَصَلَ المعز بن تميم بن سعد بن منصور العبيدي إلى الديار المصرية بعد ما وَصَلَ غلامه القائد جوهر ومَلَكَ مصر واخْتَطَّ القاهرة، وكان العبيديون يَنْتَسِبون إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها؛ خرج الناس إلى لقائه واجتمع به الأشراف، فقال له مِنْ بينهم محمد بن عبد الله بن طباطبا العلوي: إلى من يَنْتَسِب مولانا؟ فقال لهم: سَنَعْقِد لكم مجلسًا ونَسْرُد لكم نَسَبَنَا، فلما اسْتَقَرَّ في قصره جَمَعَ الناس في مجلس عَامٍّ، ونَثَرَ عليهم الدنانير والدراهم حتى عَمَّهُمْ، وقال: هذا حَسَبِي، ثم سَلَّ نِصْفَ سَيْفِه، وقال: وهذا نَسَبِي، فقالوا جميعًا: سَمِعْنَا وأطعنا:

إذا كُنْتَ في حاجة مُرْسَلًا
وأنت بها هائم مُغْرَمُ
فأَرْسِلْ حكيمًا ولا تُوصِهِ
وذاك الحكيم هو الدِّرْهَمُ

وقال آخر:

ذَاكَرْتُه عَهْدَ الوِصَال فَقَالَ لي
كم ذا تُطِيل من الكلام المُؤْلِمِ؟
لما رأى الدينار أَنْشَدَ قائلًا
أين المَفَرُّ من القضاء المُبْرَمِ؟

وقيل: درهمك وسيفك؛ فازْرَعْ بهذا فيمَنْ شَكَرَكَ، واحْصُد بهذا فيمَنْ كَفَرَكَ، قال الشاعر:

لَمْ أَرَ شيئًا صادقًا نَفْعُهُ
للمرء كالدرهم والسَّيْفِ
يقضي له الدرهم حَاجَاتِهِ
والسيف يَحْمِيه من الحَيْفِ

وقال آخر:

ذَرِيني للغنى أَسْعَى فإني
رأيْتُ الناس شَرُّهُمُ الفقيرُ
وأهونهم وأَحْقَرُهُم عليهم
وإن أمسى له حَسَبٌ وخِيرُ
يُبَاعِدُه الخليل وتَزْدَرِيه
حَلِيلَتُهُ ويَنْهَرُهُ الصغيرُ
ومَنْ بَلَغَ الغنى وله جَلَالٌ
يكاد فُؤَاد صَاحِبِه يَطِيرُ
قَلِيل ذَنْبُه والذنْبُ جم
ولكن الغِنَى رَبٌّ غَفِيرُ

قيل لميمون بن مهران: إنَّ فينا أقوامًا يقولون: نَجْلِس في بيوتنا وتأتينا أرزاقنا، فقال: هؤلاء حمقى، إن كان لهم يقينٌ مثل يَقِينِ إبراهيم خليل الرحمن فليفعلوا.

لَقَد هَاجَ الفَرَاغ عَلَيْك شغلًا
وأسبابُ البلاء مِن الفَرَاغِ

وسُئل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما تقول في رجل قَعَدَ في بَيْتِه أو مَسْجِده، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يَأْتِيَنِي رِزْقِي؟ قال: هذا رَجُل جَهِلَ العلم، أما سَمِعْتَ قَوْلَه : «جُعِلَ رزقي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي» يعني: الغنائم.

نَرُوحُ ونَغْدُو لِحَاجَاتِنَا
وحَاجَة مَنْ عَاشَ لا تَنْقَضِي

وقيل: غُبَار العمل خَيْر مِنْ زَعْفَران البِطَالة، قال الشاعر:

قَصَّرَ الناس بي ولو كُنْتُ ذا مَا
لٍ جَلَبْتُ الجميع بالمال حَوْلِي
ولَقَالوا أَنْتَ الكريم علينا
وتَخَطَّوْا إلى هَوَايَ وَمَيْلِ
ولَكِلْتُ المَعْرُوف كيلًا مَلِيئًا
يُعْجِزُ الناس أن يَكِيلُوا كَكَيْلِي

وقال غيره:

خَاطِرْ بِنَفْسِكَ كَيْ تُصِيبَ غنيمة
إن الجلوس مع العيال قَبِيحُ
فالمال فيه مَجَلَّة ومَهَابَة
والفقر فيه مَذَلَّة وفُضُوحُ

«غَيْرُه»:

فَلَمْ أَرَ بَعْد الدِّين خيرًا مِن الغِنَى
وَلَمْ أَرَ بَعْدَ الكفر شرًّا مِن الفَقْرِ
ولَمْ أَرَ زَيْنَ المال إلا امْتِهَانَهُ
ومَنْفَدَه في أَوْجُهِ الحمد والأجرِ

وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه إذا خرج في تجارته أَخَذَ بضائع لضعفاء قريش، فَيَبِيعها لهم ويشتري ولا يُكَلِّفهم شيئًا:

ليس التَّقِيُّ بِمُتَّقٍ لِإِلَهِهِ
حتي يَطِيبَ شَرَابُهُ وطَعَامُهُ
ويَطِيب ما يَجْنِي ويُكْسِب أَهْلَه
ويَطِيب من لَغَطِ الحديث كَلَامُه

وحَسْب تَرْك العمل ذمًّا أن النبي استعاذ من الكسل، وقال عَلِيٌّ رضي الله عنه: «خُلِقَ التواني والكسل، فَزَوَّجُوهُمَا فَنَتَجَ من بينهما الفاقة»، وقال رضي الله عنه: «الحركة وَلُودٌ والسكون عَاقِر، ولا يَنْشَأ عن البطالة إلا المفسدة، فعلى المرء أن يشغل النفس التي هي عَيْن فارغة بما يُصْلِحه، وإلا شَغَلَتْه بما يُفْسِده؛ ولذلك قيل: الحركة بَرَكَة والتواني هَلَكَة، وكَلْب طائف خَيْر مِنْ أَسَد رابض، ومَنْ لَمْ يَحْتَرِف لَم يَعْتَلِف، ومَن شَمَّرَ طالبًا جاء إلى بيته جالبًا» قال الشاعر:

إذا هَبَّتْ رياحك فَاغْتَنِمْهَا
فإن لكل خافقة سُكُونُ
إذا دَرَّت نِيَاقُكَ فَاحْتَلِبْهَا
فما تَدْرِي الفصيل لِمَنْ يَكُونُ
إِذَا مَلَكَتْ يَدَاك فَلا تُقَصِّرْ
فإن الدَّهْرَ عَادَتُهُ يَخُونُ

وبالجملة: فالأمل مغناطيس العمل، وخير الأمل انتظار الحمد والشكر، وحُبُّ الفخار ودوام الذكر، ولولا ذلك لما كان اجتهاد ولا استنباط، ولا كَسْب ارتفاع وَلَا غَبِّ انحطاط، ولا اختراع مُخْتَرِع ولا ابتداع مُبْتَدِع، فهل يَحْسُن بالعاقل أن يُعْمِل فِكْرَه إلا فيما يُخَلِّدُ ذِكْرَه:

نَافِسْ على الخيرات أَهْلَ العُلَا
فإنما الدنيا أحاديث

فقد تَوَلَّعَ العقلاء على اختلافهم بإمعان الأنظار وإعمال الأفكار في أمور يَظْهَر للعامة أنها حقيرة، وهي عند أذكياء الخاصة خَطِيرة.

إذا لَمْ يَكُن إلا الأَسِنَّة مَرْكَبًا
فلا رَأْيَ للمُضْطَرِّ إلا رُكُوبُهَا

فمن اخترع حِكْمَة بذكائه وفِكْرِه كانت سببًا لِبَقَاءِ ذِكْرِه، ومن هذا القبيل أزدشير بن بابك وهو أول ملوك الفرس الأخيرة، فإنه أول من وضع النرْدَ وضَرَبَهَا مثلًا للقضاء والقدر، وأن الإنسان ليس له تَصَرُّف في نَفْسه، لا يملك لها ضرًّا ولا نَفْعًا، بل هو مُصَرَّف على حُكْم القضاء والقدر، مُعَرَّض للنفع والضرر، ووَضَعَهَا على مثال الدنيا وأهلها، ورَتَّبَ الرقعة اثني عشر بيتًا بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر، والدرج التي تكون لِكُلِّ بُرْج وَجَعَلَهَا مثلًا للحظ الذي يَنَالُه العاجز بما يجري له الفَلَك، والحرمان الذي يُبْتَلَى به الحازم بما جَرَى به عليه الفَلَك، وتَوَصَّل إلى إيصال تلك العقول بفصين أَنْزَلَهُمَا منزلة الليل والنهار، وجَعَلَ لكل فَصٍّ سِتَّة أوجه كجهات الإنسان فوق وأسفل ووراء وأمام ويمين وشمال، يشير إلى أن الإنسان لا يَعْلَمُ مِنْ أين يأتيه الخير ولا الشر، وأشار في تَقَلُّبِها إلى تَقَلُّب القَدَرِ بالإنسان، فيكون مشروفًا ثم يَصِير شريفًا، ويكون فقيرًا ثم يصير غنيًّا، وبالعكس إلى ما لا نهاية له من التقلبات:

الناس مِثْلُ زمانهم
حَذْو المثال على مِثَالِهْ
وَرِجَالُ دَهْرِكَ مِثْل دَهـ
ـرِكَ في تَقَلُّبِه وَحَالِهْ

وَلَمَّا افْتَخَرَ الفُرْس بوضع النرد وكان ملك الهند يومئذ بلهيث؛ وَضَعَ له الحكيم المسمى صصة الشطرنج، وَجَعَلَهَا مَثَلًا على أن لا قَدَرَ، وأن الإنسان قادر بسعيه واجتهاده أن يَبْلُغَ المراتب العلية، فإنْ هو أهملها أَصَارَهُ الخمول إلى الحضيض، ومما جعله دليلًا على ذلك أن البيدق يَنَال بِحَرَكَتِه وسعيه مَنْزِلَة الفرزان في الرياسة، وجعلها مصورة تماثيل على صورة الناطق والصامت، وجَعَلَها درجاتٍ ومَرَاتِبَ، ومثل الشَّاه بالمُدَبِّر الرئيس، وكذلك ما يَلِيها من القطع، وبيَّن لأهل فارس ما خَفِيَ عنهم من مكايد الحروب وكيفية ظفر الغالب وخِذْلان المغلوب، فظَهَرَ للملك مَكْنُون سِرِّهَا، فقال له: اقْتَرِح ما تشتهي، فقال: أشتهي أن تَضَع حَبَّة بُرٍّ في البيت الأول، واثنتين في البيت الثاني، ولا تَزَال تُضَعِّفُها إلى آخر البيوت، وما بَلَغ تعطيني إياه، فاستخف المَلِك عَقْلَه واسْتَقَلَّ طَلَبَه، وقال: كُنْتُ أظن رَجَاحَة عَقْلِكَ وأنَّكَ تَطْلُب شيئًا نفيسًا، فقال: أيها الملك، إِنَّكَ لَمَّا صَرَفْتَنِي إلى التمني لَمْ يَخْطُر ببالي غير ذلك، ولا سبيل إلى الرجوع عنه، فَأَنْعَمَ له المَلِكُ بما سأل، وَأَمَرَ الحُسَّاب أنْ يَحْسِبُوا ذلك فَلَمْ يَجِدُوا ما يَفِي للحكيم بمراده، وقد أُحْصِيَ ما طَلَبَهُ فوجدوه ألوفًا مكررًا تكريرًا جسيمًا، لا تَفِي به أشوان المَلِك، فاختراع الشطرنج حكمة جليلة تَخَلَّدَتْ في جميع البلدان، وقامت على شِدَّة ذكاء مُبْتَدِعها البرهان.

وأَجَلُّ من هذا المُسْتَخْرِج للشطرنج مَن اسْتَخْرَج فَنَّ الطب ودَوَّنَه، وهو الحكيم إسقلبينوس بباء موحدة تحتية بعد اللام خلافًا لمن جعله بالنون، وهو مِنْ أهل اليونان، وبعضهم يقول: إن المُسْتَخْرِج للطب أَهْلُ مِصْر، وإن المُسْتَخْرِج له هرمس المُسْتَخْرِج لسائر الصنائع، وقيل: المُسْتَخْرِج له المصريون غير هرمس بإلهام من الله تعالى لجماعة، ثم ازداد الأمر في ذلك بكثرة التجاريب، وقَوِيَ وصار عِلْمًا واسعًا، واحْتَجَّ القائلون بذلك بأن امرأة كانت بمصر وكانت شديدة الحزن والهم مُبْتَلاة بالغيظ والنكد، ومع ذلك كانت ضعيفة المَعِدَة وصَدْرُها مملوء أخلاطًا رديئة، وكان حَيْضُها مُحْتَبِسًا، فَاتُّفِقَ أنها أَكَلَتْ عُشْبًا مرارًا كثيرة بشهوة منهالة، فَذَهَبَ عنها جميع ما كان بها، ورَجَعَتْ إلى صِحَّتِهَا، وجميع من كان به شيءٌ مثل ما كان بها واسْتَعْمَلَه بَرِئَ به، فاستعمل الناس التجربة على سائر الأشياء، فالذي جَمَعَ هذه التجربات ودَوَّنَهَا بمصر هو الواضع له سواء كان هرمس أو غيره، ولا مانع أن يكون هذا العلم مما تَعَدَّدَ وَاضِعُه ببلاد الدنيا، حيث إن التجربة قد تَعَدَّدَتْ فيه، وإن أقوى التجاريب وأكثرها تجاريب إسقلبينوس، وتَلَقَّاهَا عن الحكماء الذين جاءوا بعده في الزمن، فَعُدُّوا أيضًا من الواضعين له.

وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ صناعة الطب وأَلْهَمَهَا الناس، واحْتَجَّ أَهْلُ هذا القول بأنه لا يُمْكِن في مثل هذا العلم الجليل أن يُدْرِكَه عَقْل الإنسان، فالواضع الله الذي خَلَق الداء والدواء، وهذا القول أيضًا يَرْجِعُ إلى الوحي والإلهام، وينبغي أن يكون الطب النبوي من ذلك باتفاق؛ لمصداق آية وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ، وبالجملة: فوَضْع الطب عظيم، وتدوينه جسيم، وفَضْل التأليف فيه عميم، ولا يَسْتَكْشِفُ شيئًا من منافعه إلا ذُو لُبٍّ سليم.

ومن فروعه الفرع الذي حَفِظَ أطفال النوع البشري من الآفات والمهالك، وهو فن تلقيح الجدري بالمادة البقرية، حيث انتشر في المسالك والممالك، وفَضْل استكشافه لحكماء الإفرنجة المتأخرين، وإن كان مَعْلُومًا قبل ذلك لِبَعْض قُرَى مِصْر وقرى السودان وعند الهنديين، ولهم فيه طريقة يَعْمَلُونها بالخيط والإبرة بتلويث الخيط في بثرات أثداء البقرة، ويَفْرِزُونَها بين الجلد واللحم من كَتِفَي الطفل، ويَبْقى الخيط في الأكتاف، وهي من أعظم الألطاف.

فالوضع الأولى في سائر العلوم هو تَصَوُّر قواعد أولية ابتكارية، لا تَزَال تَأْخُذ في الزيادة والاستكمال، ويَتَفَرَّع منها فُرُوع تَتَّسِع على مدى الأيام والليال، فيكون لِلْعِلْم بهذا المعنى عدة من الواضعين، وجملة من الأفاضل الموسعين؛ كالإمام علي رضي الله تعالى عنه، فإنه قَيَّدَ الألسنة بِعِلْم النحو، حيث أَمْلَى على أبي الأسود الدؤلي أقسام الكلام، وقال له: «تَتَّبِعه وزِدْ فيه ما وَقَعَ لك مما يلائم المقام؛ لِتَمْحُوَ بذلك من اللحن ما خَالَطَ اللسان العربي مما كَادَ يُفْسِدُه من رطانة الإعجام»، فوَضَعَ أبو الأسود الدؤلي قواعد النحو التي فَهَّمَهَا له، ثم جاء بعد أبي الأسود سيبويه فوضع كتابه الذي كل من جاء بعده منه يَغْتَرِف، وبتقدمه عليه يَعْتَرِف، وإذا أطلق في عُرْفِ النحاة لَفْظ الكتاب فإليه يَنْصَرف، وَوَضَع الخليل بن أحمد عِلْم العروض، وجَعَل له ميزانًا للشعر، وصاغ له من التفاعيل أجزاء ثمانية صَيَّرَها لوزنه كالمثاقيل، وها هي أنوار تلك العلوم النافعة، على جميع آفاق الدنيا ساطعة، وهي ثمرات الأعمال الصادرة عن الأبدال.

ومِنَ الحِكَم: مَنْ طَلَبَ جَلَبَ، ومَنْ جَالَ نَالَ، ومَنْ جسر أَيْسَرَ، ومن هَابَ خَابَ، فَقَدْ فاز بالدر غائصه، وحَازَ للصيد قَانِصُهُ، والجراءة من أسباب الظفر وغلبة الأقران، والشجاع يُعْرَف بالإقدام ولو على الضرغام، وبِضِدِّه الجبان والمتواني الكسلان، لا سيما الشاب القليل الحيلة، والملازم للحليلة، والمُقْتَنع بالرذيلة، والراضي بالحشف وسوء الكيلة، فمن دام كَسَلُه خَابَ أَمَلُه، ويقال: الخيبة نتيجةُ مُقَدِّمَتَيْن الكسل والفشل، وثمرة شَجَرَتَيْن الضجر والملل، ويقال: إن الحرمان شِعَارُه الكسل، ودِثَاره التسويف والعلل، قال بَعْضُهم:

لا تَصْحَب الكسلان في حَالَاتِهِ
كَمْ صَالِحٍ بِفَسَاد آخَرَ يَفْسَدُ
عَدْوَى البليد إلى الجليد سَرِيعَة
والجَمْرُ يوضع في الرماد فَيَخْمَدُ

وقال بَعْضُهم — في الرد على مَنْ قال الكسل أَحْلَى من العسل:

ليس البطالة والكسلْ
بالجالبَيْنِ لَكَ العسلْ
فاعْمَلْ فإن الله قَدْ
حَثَّ المطيع على العَمَلْ

وفي كُتُب الإدارة آخر طبقات الرعية طَبَقة البطلة الغوغاء، وهم مما ينبغي أن لا يَرْحَمَهُم المَلِك؛ لأنهم يغلون الطعام، ويُضَيِّقُون الطرق لا سيما إن كانوا من الفسقة، فهم أظلم الناس يأكلون رِزْق الله ولا يعملون لله، فلا يَصْلُحون للدنيا ولا للآخرة، وكل أَحَدٍ سواهم يَعْمَل لنفسه، وهم لا يَنْظُرون لأنفسهم، ولا يَعْمَلون لدنياهم ولا عُقْبَاهم، فمثل هؤلاء يَسُوغ للملك أن يُخْرِجَهُم من البلد إن رأى المصلحة في ذلك، أو يَجْعَلهم مُسْتَعِدِّين لنائبة أو حادثة يعملون فيها بخلاف طبقة العمال المحترفين، فعلى الملك أن يُشَوِّقَهُم بالعطايا وشُمول النظر والمسامَحة حتى يتسابقوا إلى الحِرَف البلدية، كما أنه ينبغي للمَلِك أن يَتَلَطَّف بأصحاب العاهات كالعميان والمجذومين، فإن منادي الشرع يقول: إذا رأيتم أهل البلايا فاسألوا الله العافية، فيُجْرِي عليهم قَدْرَ كفايتهم، ويُعَيِّن لهم مَوْضعًا على طرف البلدة لمصلحة الجميع.

وقدماء المصريين من الأزمان الخالية والقرون البالية يعانون الأعمال العجيبة، ويجتهدون في إنجاز الأشغال الغريبة كالأهرام والمسلات العظيمة والتصاوير والتماثيل العجيبة، فبهذا كانوا يَنْفِرُون من الفتور والكسل كَمَالَ النفور، ويُشَخِّصُون الكسل ويجعلونه على صورة بشعة تُوضَعُ في الميادين العامة؛ لتكون عِبْرَة لأهل المرور والعبور، فيُصَوِّرُون الكسلان بهيئة شخص مُقْعٍ إقعاء الكلاب، عليه هيئة الحزن والاكتئاب، مُطَأْطِئًا الرأس إلى الأرض مُجْمَع اليدين بعضها مع بعض، وبجانبه قضبان مكسورة تفيد هَجْرَه للأشغال ونُفُورَه، وتارة يُصَوِّرُونَه على صورة امرأة مطلوقة الساعدين، شَعْثَاء غبراء، ذات أَطْمَار رَثَّة، مسطوحة على الأرض، مُتَوَسِّدَة أحد ذراعيها، وبِيَد الذراع الآخر منكاب مملوء من الرمل ومقلوب، تَسْتَدِلُّ به على ما مضى من النهار من الساعات والدقائق، ولها عند المصريين رسم آخر فيما غبر من الزمان، وهي رَسْم الكسل على هيئة امرأة عليها علامة البطء والتوان، كأنها تَرُوم أن تَتَبَخْتَرَ في سيرها الممقوت، وتَجُرُّ ثوبًا من نسج العنكبوت، مُتَّكِئَة على أريكة المجاعة والمخمصة، تُمْضِي جميع أوقاتها في الدعة والاستراحة المُقْتَنَصة، ففي عنفوان شبابها واخضرار وغَضِّ عُودِ إهابها لا تميل إلى حركة، ولا تَعْطِف على بركة، وفي زمن الكهولة والهرم تَرْقُد على فراش العدم والندم، يشيرون بذلك إلى أن الكسلان لِعَجْزه دائمًا حزين إذا لَمْ يفعل شيئًا لمعاشه، ويَزِيد حُزْنُه وأَسَفُه إذا احتاج إلى تحصيل شيء لَمْ يَقْدِر على تحصيله، ويقال: مزرعة الكسلان كثيرة الشوك، والسعدان تزدحم عليها الحشائش الطفيلية والأعشاب الفضولية، فلا يَتَحَصَّلُ له منها ما يفي بالقوت، فيسطو على جيرانه ليكون كَلًّا عليهم، أو يَتَّصِف بوصف لِصٍّ ممقوت، قال بعضهم:

يا نَفْسُ ذوقي لَذَّةَ العَمَلِ
وَوَاظِبِي العدل والإحسان في مَهَلِ
فَكُلُّ ذي عَمَلٍ بالخير مُغْتَبِطٌ
وفي بلاء وشُؤْم كُلُّ ذي كَسَلِ

وقال آخر:

دعي نَفْسِي التكاسلَ والتواني
وإلَّا فَالْبَسِي ثَوْبَ الهَوَانِ
فَلَمْ أَرَ للكسالى الحظ يَجْنِي
ثمارًا غَيْرَ حِرْمَان الأماني

وقيل:

وكَمْ حَيَاءٍ وكَمْ عَجْزٍ وكَمْ نَدَمٍ
جَمٍّ تَوَلَّدَ للإنسان مِنْ كَسَلِ

وما ألطف ما قيل في الإثارة لمن يؤثر الغَنَاء الممدود على الغنى المقصور:

قال لي اللاحي: أما حَانَ أَنْ
تَتْرُكَ لَوْمًا مُتْعِبًا؟ قُلْتُ: حَانْ
قال: فَهَلْ قَلْبُكَ حَانٍ على
مَنْ بِتَّ مشغوفًا به؟ قُلْتُ: حَانْ
قال: فمحبوبك في قَتْلِ مَنْ
يَهْوَاه حَانٍ قَوْسَه؟ قُلْتُ: حَانْ
قال: فَقُلْ لي ما الذي تَشْتَهِي
حَانَ غِنَاء أو غِنًى؟ قُلْتُ: حَانْ

مع ما فيه من مُحَسِّنَات الجناس التامِّ والمراجعة، فصفة الكسل مَثْلَبَة خبيثة، بل هي أُمُّ الخبائث، فهي تَحْمِل صاحبها على عَدَمِ إعمال الفِكْر والبدن، وبعض الفضلاء يزدري أرباب الرياسات الباطلة والمراتب العاطلة التي يَشْتَرِيها أَهْلُها ليصلوا بها إلى درجات العظمة والكبرياء، لِيَسْتُروا بها كَسَلَهُم حتى لا يَتَبَيَّنَ للناس أنهم أرباب بطالة، والأفاضل يَعُدُّون ذلك من النذالة والسفالة، فإن فَضْلَ الكسلان يُدْفُن معه بدون أن تَعُودَ منه على نَفْسِه أو غيره أدنى مَنْفَعَة.

وقد أشار إلى الشغل والبطالة الحكيم لفنتينه الفرنساوي في حكاية على لسان العجماوات، جعلها مكالمة بين الصرار والنملة، وترجمها بعض الأفندية فقال:

حكايةٌ مَوْضُوعُها صَرَّارُ
أَوْدَى به الجوع والاضطرارُ
وكان قَضَّى الصَّيْفَ في الغِنَاءِ
وما سَعَى في ذُخْرَة الشِّتَاءِ
وحين جاءَ زَمَنُ الثلوجِ
ومُنِعَ القَوْمُ من الخروجِ
شَاهَدَ بَيْتَه بلا مَئُونَهْ
فَرَاح يَوْمًا يَطْلُب المَعُونَهْ
وقال للنملة أَنْتِ جَارَتِي
ما لي سِوَاكِ في قَضَاءِ حَاجَتِي
هل تَصْنَعِينَ مَعِي الْمَعْرُوفَا
لا ذُقْتِ مِنْ دَهْرِ الرَّدَى صُرُوفَا
وتُقْرِضِينَنِي صُوَاعًا غَلَّهْ
وطَبَقًا ومثْرَدًا وَحَلَّهْ
فإن أتى الصيف فَقَبْلَ الصُّبْحِ
أَرُدُّهَا عَلَيْك غَيْرَ الرِّبْحِ
قَالَتْ له النملة وهْيَ تَجْرِي
عُذْرُك يا مسكينُ مِثْلُ عُذْرِي
ماذا فَعَلْتَ في حصيدٍ قَدْ مَضَى
قالَ لها كان زَمَانٌ وانقضى
قَالَتْ وما ادَّخَرْتَ فيه للشِّتَا؟
قال لها مُسْتَهْزِئًا مُنَكِّتَا
كُنْتُ أُغَنِّي للحمير القُمَّصِ
قالت له: يا صاحبي الآن ارْقُصِ
واعلم بِأَنَّ السَّعْيَ في الذخيرَهْ
يُسْعِدُ كُلَّ خلة وَحِيرَهْ
والدرهم الأبيض وهْو في يَدِي
يَنْفَعُنِي لدى النهار الأسود

ومع مَيْلِ طباع عامة الناس إلى التكاسل والفتور فَقَدْ تُجْبِرُ الأحوال والأوقات العصرية على حَرَكَة العمل حتى تَصِيرَ طبيعية، ويَنْتِج عنها تَقَدُّم الجمعيات، فمن هذا لا تيأس ملة من الملل، ولا دولة من الدول مِنْ أن تَأْخُذَ حَظَّها من براعة العمل، لا سيما إذا كان لها فيه سابقة نصيب وافر؛ كديار مصر التي سَبَقَتْ جميع الأمم بالمآثر الغريبة، وكباقي الدول الإسلامية التي جَدَّدَتْ فيما سَلَفَ أنواع المعارف البشرية والمنافع العمومية والتقدمات المدنية، ومن آثارها استنارت أرجاء جميع ممالك الدنيا، ثم تَنَقَّلَتْ مزاياها إلى غيرها، وتَكَامَلَت المزايا في ذلك الغير حتى أراد الله سبحانه وتعالى أنَّ أنوار المعارف الفرعية انْتَشَرَتْ في هذا العصر على آفاق أصولها، باجتهاد المجتهدين واهتداء المهتدين واقتداء المقتدين، والحصول على ما عَجَزَ عنه سائر السلف المتقدمين، كما يُفْصِح عن ذلك ما سَطَرَهُ بعض أهل الإنشا؛ حيث بَيَّنَ أسباب ذلك فيما طَرَّزَ وَوَشَّى، إذ قال:

إن عصرنا هذا نُشَاهِد فيه للناس بالتدريج آثارًا عجيبة، وهذا دليل على أن التأثيرات الطبيعية في قبضة التصرفات الإنسانية؛ لأن الطبيعة هي الحاكمة للإنسان بل المُذَلِّلَة إليه، ومن هذا يَظْهَر أن هذا العصر مَبْدَأ للتقدُّمات التي تَكُون في المستقبل، فاستعمال القوة البخارية برًّا وبَحْرًا سَهَّلَت الأسفار والسياحات، وفوائد سرعة المخابرات التلغرافية غَنِيَّة عن البيان، إذ بِتِلْك القوة كان الإنسان قادرًا على تَنْجِيز أشغاله الخاصة به، والاستحصال على اجتماع الأفكار ومبادلة المحصولات، وذلك كَرَأْس مَالٍ يَتَرَقَّى شيئًا فشيئًا ويَعُمُّ أطراف الدنيا حتى أنه في مدة يسيرة تَلْتَئِم الجمعيات البشرية، وتزول الاختلافات الكلية، ويَسْلُك بَعْض الناس مع بعض بكمال الوفاق على وفْق ما يقتضيه الأخوة الموافق للعقل، والحكمة المرضي لرب العزة، وتأخذ في العمران الأراضي الخالية، وتَصِير معادن للخَيْرات ومنابع للثروات.

وقد بَلَغَنَا أن السياح الإنكليزي «سيرسامويل بيكر» الشهير بالسياحة في القطعة الإفريقية عَيَّن مأمورًا للكشف على أقطارها المجهولة، والوقوف على حالها، وبِمَعِيَّتِه من يلزم ليتوجهوا من طريق النيل، ويرشدوا مَنْ فيها بالإرشادات اللازمة، ثم المقرب للمسافات في هذا الأوان ثلاث:
  • الأول: قنال السويس، المُشْرِف على التمام الفاصل بين قِطْعَتَيْ آسيا وأفريقيا، فإنهما بذلك تَتَّصِلَان وتَسْهُل تجارَتُهُما وتجارة أوروبا بعد ما كان يُتَجَشَّم في ذلك الطواف من رأس الشم، فبفتح القنال تَنْقُص مسافة البحر الأبيض نحو الثلثين، ولقرب قطعة آسيا منه عن غيرها من الممالك الأوروباوية تزيد حِصَّتُها في الفوائد عما سواها، لا رَيْب إذ إنها أَحْدَثَتْ طريقًا جديدًا إلى أوروبا كان بابًا عظيمًا للتجارة وثروة الخزينة، وَوَقَعَ ذلك عِنْد العالَمِ المَوْقِع، فيلزم المبادرة إلى إنشاء ذلك على الوجه المساعِد لنا، فإن مَنْفَعَةَ هذا تزيد عن العادة، ويَجْتَمِع منها رأس مال، وتَتَسارَعُ الناس في الاستحصال على الرخصة من الحكومة، فحينئذ لا ينبغي التأخُّر عن هذا، وإنما اللازم التأمينات الكافية لأجل منافع سُكَّان المملكة، والإسراع بمباشرة العمل.
  • الثاني: قنال «هوندوراس، وهو فتح برزَخْ بَنَامَا»، المتوسط بين قطعتي أمريكا الجنوبية والشمالية، الذي أصله شِقٌّ صغير، شُكِّلَتْ لِفَتْحِهِ قومبانية كبيرة، فإنه بواسطته تصير قِطْعَتَا أمريكا الجنوبية والشمالية جزيرتين عظيمتين، وتزول المشقة عن أصحاب السُّفُن من بَعْد ما كانوا يسافرون من البحر المحيط الغربي المُسَمَّى بالأطلسي إلى الصين وليابوينا والجزائر الإقيانوسية، مع مكابدة أخطار الرياح العاصفة وطُول المسافة، مارِّين من رأس هورن المشحون جميعه بالشعاب وذلك لاضطرارهم؛ فإذَنْ لا تَلْحَقُهُم الآن تلك المشاقُّ بواسطة ذَلك القنال، وتكون مسافَتُهُمْ على النصف في بَحْر مُعْتَدِل ساكن الهواء على خط الاستواء.
  • الثالث: سكة الحديد الجسيمة، التي حان منها التَّمَام بشمال قطعة أمريكا البالغة الآن مسافة امتدادها ثلاثة آلاف وستمائة وثلاثة وعشرين ميلًا، وهي في أرض سهلة تامة المنفعة، مبتدأة من نِيُورْق أَكْبَر مُدُن أَمْرِيكَا إلى مدينة «سان نسيسقو» بولاية قاليفورينة الشهيرة بمعادن الذهب، وكان قد رُخِّصَ لقومبانيتين في إنشائها «لنقولن» رئيس جمهورية أمريكا المتوفَّى حين محاربتها الداخلية سنة ١٨٦٢ ميلادية، وضرب لها ميعاد أربع عشرة سنة، فَجَدَّتَا كل الجد فيها حتى أَكْمَلَتَاهَا قَبْلَ تَمَام نِصْف المُدَّة، ومن بعد ذلك تَقْطَع مسافة صحاري جهة أمريكا الشمالية في ستة أيام، ولا يجهل محل فيها، ولا تعطل جهة من الزراعة وسائر الفوائد.

وقد أَنْشَأَتْ هاتان القومبانيتان نحو ألفي عربية كالدور، مُشْتَمِلَة على بيوت وأَسِرَّة من الحديد ولوقندات وكُتُبْخَانات، وهي في حال مُرُورِها السريع يُتَدَارك فيها من الطريق ظروف أوراق الحوادث التلغرفية المُعَلَّقَة على الأعمدة الخشب، وتُطْبَع في المطابع اللاتي فيها، وتُنْشَر على الركاب، وبهذا يكونون كأنهم في مدن الممالك العظيمة في الدنيا القديمة، وبما ذُكِرَ هانت أمور الأسفار، وتَقَارَبَت المسافات بين جميع الجهات، وتوَاصَلَت الجمعيات، وزالت الوحشات، واطَّلَعَ الناس على ما لَمْ يَطَّلِعُوا عليه، وَوَصَلُوا إلى ما لم يَصِلُوا مِنْ قَبْل إليه، فكان لا مانع من تَوَاصُل أمم البرية، ومن تسمية هذا العصر عصر المدنية، انتهى ما قاله، فكل هذا أعان ويُعين على تَقَدُّم وسائل المنافع العمومية، الآتي تقسيمها في الباب الثاني مع غاية البيان، وعلى ذكر الوابورات قُلْتُ هذه الأبيات:

العَقْل في الوابور حَارْ
نَبْغِي الجَوَابَ فَلَا يَحِيرْ
فإذا أَرَدْتَ الإِخْتِبَارْ
عِلْمًا به فَاسْأَلْ خَبِيرْ
فُلْكٌ بِأَوْج اللُّج دَارْ
ومن الحضيض لَهُ مُدِيرْ
يجري على عَجَلٍ كِبَارْ
في رَسْمِ شَكْلٍ مُسْتَدِيرْ
هُوَ مِنْ عُطَارِدَ لا يَغَارْ
فكأنه الفَلَك الأسيرْ
قد أَوْرَثَ الشَّمْسَ اصْفِرَارْ
لَمَّا عَلَا مِنْه الصَّفِيرْ
قَمَر مَنَازِلُه البِحَارْ
نَجْم السِّمَاك له سَمِيرْ
في كَفِّه الجَوْزَا سِوَارْ
بَهَرَ الثُّرَيَّا إذْ تُشِيرْ
والْمُشْتَرِي حَازَ الْيَسَارْ
فَغَدَا بِزَهْرَتِهِ أَسِيرْ
مَلِكٌ له الوحي ائْتِمَارْ
أبدًا بأجنحة يَطِيرْ
وبُرَاقُ أَسْرَى في القِفَارْ
يَطْوِي الفيافي إِذْ يَسِيرْ
مَلِكٌ عَلَى الْأَنْهَار سَارْ
وَعَلى البِحَار له سَرِيرْ
بِالْعِزِّ أَكْسَبَهَا الصَّغَارْ
مع أنه جِرْم صَغِيرْ
قَدْ نَالَ مِنْ كِسْرَى اعْتِبَارْ
لِبُخَارِ عَنْبَرِهِ عَبِيرْ
خَاقَانُ هِنْدٍ خَوْفَ عَارْ
ما هَالَهُ لَهَبُ السَّعِيرْ
بُرْكَانُ نَارٍ حَيْثُ ثَارْ
فورًا وَصَارَ لَهُ هَدِيرْ
أو سَائِح يَهْوَى السِّفَار
لِمَصَالِحِ الدنيا سَفِيرْ
أو عَاشِقٌ سُلِبَ القَرَارْ
أو يَحْسُدُ الطَّرْفَ القَرِيرْ
في الحب قَدْ خَلَعَ العذارْ
ودُمُوعُ مُقْلَتِهِ غَدِيرْ
صَبٌّ وفي الأحشاء نَارْ
شَوْقًا إلى القمر المُنِيرْ
أو شَاطِر طَلَبَ الفِرَارْ
للأمن مِنْ أَمْرٍ خَطِيرْ
أو بَازُ صَيْدٍ قَدْ أَغَارْ
مُغْرًى على الظَّبْيِ الغَرِيرْ
أو ظَبْيُ قَاعٍ ذُو نِفَارْ
يَعْدُو إذا عَمَّ النَّفِير
البَرْقُ سُرْعَتَه اسْتَعَارْ
والوُرْقُ منه تَسْتَعِيرْ
ويرى الرياح بالاحتقارْ
فهُبُوبُهَا مَعَه حَقِيرْ
طَرْفٌ تُسَايِرُه الدِّرَارْ
لَيْلًا فَتَخْجَلُ في المَسِيرْ
لِلَّيْلِ يَطْوِي والنَّهارْ
وبه ازْدَهَى الزَّمَنُ الأخِيرْ
ما الفِعْلُ يُنْسَبُ لِلْبُخَارْ
بَلْ صُنْعُ خَلَّاقٍ قَدِيرْ
بِقَنَالِ مِصْرَ لَهُ مَنَارْ
يَسْمُو بِأَنْفَاسِ الْأَمِيرْ
وبِصِيتِ إِسْمَاعِيلَ طَارْ
في الكَوْنِ بِالْجُودِ المطِيرْ
وبِعَدْلِهِ لَمَّا أَنَارْ
في الأُفْقِ كَالْعَلَمِ الشَّهِيرْ
هَذَا عزيز ذُو وَقَارْ
ولِمَظْهَرِ العُلْيَا ظَهِيرْ
وطَوِيلُ بَاعٍ في العَمَارْ
يَمْتَازُ بالعمل الكثيرْ
للعَدْل قَدْ شَدَّ الإزارْ
تَوْفِيقُه نِعْم الوزيرْ
عِشْ يا عَزِيزُ أَخَا انْتِصَارْ
ولمصر دُمْ أَقْوَى نَصِيرْ
بالمجد كَمْ شُدْتَ الجِدَارْ
ولأنت بالعليا جَدِيرْ
كَاثِرْ فَكَأْسُ الأُنْسِ دَارْ
رب الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤