الفصل الثالث

في أن الأسفار والسياحات مما يُعِينُ على تَقَدُّم المنافع العمومية.

***

قد أسلفنا في الفصل الأول من الباب الثاني أن دوائر الزراعة والتجارة والصناعة تتسع باتساع الرخصة في الأقاليم، بالمعاونات والمساعدات من أرباب الحكومات، وأن دولة الإنكليز فَتَحَتْ بلاد الهند وغيرها؛ للتحيل على اتساع تجارتها، وكذلك تَحَيَّلَ غيرهم من الدول على ذلك؛ كما قيل:

ومن طَلَبَ النجوم أَطَالَ صَبْرًا
على بُعْد المسافة والمَنَالِ
وتُثْمِر حاجةُ المحتاج نَجْعًا
إذا ما كان فيها ذا احْتِيَالِ

فهِمَّةُ هؤلاء الأمم تميل إلى الجد والكد والكدح والانتصاب لسائر الأهوال في تحصيل المعالي والأموال، والترقي إلى منازل العز، وكَسْب المجد والإقبال، وتتوصل إلى ذلك بالحركة والنقلة، والسياحة والرحلة، والإقدام على ركوب الأخطار؛ لِنَيْل الأماني وبلوغ الأوطار، ومن الكلم النوابغ والحكم السوابغ: صعود الآكام وهبوط الغيطان خَيْر من القعود بين الحيطان، ولبعضهم:

أما تَرَيْنِي على بَغْيِ العَلَاء لِأَعـ
ـباء الأمور حَمُولًا دائم النَّصَبِ
فما اسْتَوَى شَرَفٌ إلا على كلفٍ
ولا صَفَا ذَهَبٌ إلا على لَهَبِ

فتَجَشُّم المشاق عند خَاطِب المعالي حُلْو المذاق.

فالطريقة الموسعة لدوائر المعيشة قديمة عمومية، قَضَتْ بسلوك طريقها في الأزل الحكمةُ الإلهية، فقد سَخَّرَ الله سبحانه وتعالى لقريش بالحجاز من وسائط الكم والكيف ما يَحْمِلُهُم على إيلاف رحلة الشتاء والصيف، فقال تعالى في كتابه العزيز: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ وتفسير هذه الآية والله أعلم بمراده: أن قوله تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ اعْجَبُوا لإيلاف قريش؛ لأنهم يَتَمَادَوْن في غَيِّهِمْ وجَهْلِهِمْ، والله يُؤَلِّفُ شَمْلَهُمْ، ويدفع الآفات عنهم، ويُنَظِّم أسباب معايشهم؛ أي: اعْجَبُوا من حِلْم الله وَكَرَمِهِ عليهم، ونظيره في اللغة قولهم: لزيد وما صنعنا به؛ أي: اعْجَبْ لزيد وما صنعنا به من الإكرام، والإيلاف: الإلزام؛ يعني: اعْجَبُوا لإلزام قريش، ومعموله عَامٌّ؛ يعني: إيلاف قريش كل مؤانَسة وموافَقة بينهم من مَقَامِهِم وسَيْرِهم وجميع أحوالهم، ولَفْظ قريش مأخوذ من القرش، وهو الكسب؛ لأنهم كانوا كاسبين بتجارتهم وضَرْبِهِم في البلاد، ومن التقرش وهو التجمع؛ لجمعهم المال بالتجارة، أو للاجتماع بعد التفرق في البلاد، ثم بَعْدَ أن عَمَّمَ تعالى الإيلاف الأول الذي هو نعمة عامة، خَصَّ إيلاف الرحلتين بالذِّكْر بسبب أنه قِوَام معاشهم.

فقد امْتَنَّ سبحانه وتعالى عليهم بنعمتين؛ وهما الإيلاف العامُّ، والإيلاف الخاصُّ الذي هو تعويدهم على رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، قال المفسرون: «كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن؛ لأن اليمن أدفأ، وبالصيف إلى الشام»، وذَكَرَ عطاء، عن ابن عباس: أن السبب في ذلك هو أن قريشًا كانوا إذا أصاب واحدًا منهم مَخْمَصَةٌ خَرَجَ هو وعياله إلى مَوْضِع، وضربوا على أنفسهم خباء حتى يَمُوتوا، إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف وكان سَيِّدَ قومه، وكان له ابنٌ يُقَالُ له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم يُحِبُّه ويلعب معه، فشكى إليه الضر والمجاعة فَدَخَل أسَدٌ على أمه يبكي، فأَرْسَلَتْ إلى أولئك العيال بدقيق وشحم، فعاشوا فيه أيامًا ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكى إليه من الجوع، فقام هاشم خطيبًا في قريش فقال: إنكم أَجْدَبْتُم جَدْبًا تَقِلُّون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم، والناس لكم تَبَع، قالوا: نحن تَبَع لك فليس عليك مِنَّا خلاف، فجمع كل بَنِي أبٍ على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما رَبِحَ الغَنِيُّ قَسَّمَهُ بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك فلم يَكُن في العرب بنو أب أكثر مالًا ولا أَعَزَّ من قريش، قال الشاعر فيهم:

الخالطين فقِيرَهم بِغَنِيِّهِمْ
حتى يكون فَقِيرُهُمْ كالكافِي

فنعمة الله عليهم بإيلافهم وتأنيسهم بجمعهم قبيلة واحدة في مكان واحد أَمْكَن في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى، ونَبَّهَ تعالى بقوله: «إيلاف» على أن من شَرْطِ السفر المؤانسة والألفة؛ لأن السفر أَحْوَج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة.

ثم لما كان هذا الإيلاف إنعامًا من الله تعالى عليهم، وأنه يَسْتَحِقُّ أن يُقَابَلَ بالشكر والعبودية؛ أَتْبَعَه سبحانه وتعالى بطلب العبودية، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ومعنى فَلْيَعْبُدُوا أي: فلْيَتَذَلَّلُوا ويخضعوا للمعبود على غاية ما يكون؛ ليشمل التوحيد والعبادات المتعلقة بالجوارح، والمعنى: لِيَتْرُكُوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، ويَعْبُدوا رَبَّ هذا البيت؛ أي: الحرم، وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله: الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ أي: رَزَقَهُم بالطعام في السفر والمُقام، وقوله: وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ أي: حَمَاهم؛ حيث جَعَلَهُم أهل حرم آمن، فكانوا يسافرون آمنين، لا يَتَعَرَّض لهم أحد، ولا يُغِير عليهم أحد لا في سَفَرِهم ولا في حَضَرِهم؛ كما يشير إليه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وقد أَطْعَمَ الله تعالى قريشًا وآمنهم؛ إنعامًا منه تعالى، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام في قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، فكانت رحلة الشتاء والصيف بها مِيرَتُهم ومعيشتُهم وثَرْوَتُهم، هذا ما يَتَعَلَّق بقريش.

وأما العرب على الإطلاق فكانوا من الأزمان القديمة يسيحون في الأرض سوقة وملوكًا، حتى بلغوا أقصى المغرب، وبلغوا من حدود المشرق سمرقند، وبلغوا باب الأبواب ودخلوا بلاد الهند، ولكن كانوا يُغِيرُون على غير بلادهم ولم يَسْتَقِرُّوا فيها حتى يَصِيرُوا مُلُوكَها، بل في الغالب كان يقتصر على مُلْكِ أَبِيهِ، وإذا غَلَبَهُ عليه غَيْرُه رحل إلى البلاد البعيدة؛ ليَسْتَنْجِد على خَصْمِه بمَلِك أجنبي ذي قوة وبأس؛ كما وَقَعَ لامرئ القيس الكِنْدِي حيث ذَهَبَ إلى قيصر الروم لِيَسْتَنْجِدَ به وَمَرَّ في مسيره إليه على حماة وشيزر، كما يشير إلى ذلك في قصيدة مطلعها:

سَمَا لَكَ شَوْقٌ بَعْدَ ما كان أَقْصَرَا

يقول فيها:

تَقَطَّعَ أسباب اللبانة والهوى
عَشِيَّةَ جَاوَزْنَا حُمَاةَ وشَيْزَرَا
بكى صاحبي لما رَأَى الدرب دُونَهُ
وأيْقَنَ أَنَّا لَاحِقَانِ بِقَيْصَرَا
فقُلْتُ له لا تَبْكِ عيناك إنما
نحاول مُلْكًا أو نَمُوتُ فنُعْذَرَا

فكان كلامه فألًا على نفسه حيث مات بقُرْب أنقرة، ودُفِنَ في سَفْح جَبَل، يقال له عسيب، وقد أَنْشَدَ فيه حال مَرَضِهِ يُخَاطِب حمامة، فقال:

أَجَارَتَنَا إن الهموم تَنُوبُ
وإني مُقِيمٌ ما أقام عَسِيبُ
أَجَارَتَنَا إنا مُقِيمَانِ هَا هُنَا
وكُلُّ غَرِيبٍ للغَرِيبِ نَسِيبُ

وقَدْ ثَبَتَ بالعقل والنقل تواترًا أن العرب أكثر الأمم شجاعة ومروءة وشهامة، ولسانهم أَتَمُّ الألسنة بيانًا وتمييزًا للمعاني جَمْعًا وفَرْقًا، يَجْمَع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع، والتمييز بين كل لفظتين مشتبهتين بلفظ آخر مُخْتَصَر، إلى غير ذلك، وهذا من خصائص اللسان العربي، فالعقل قاضٍ بفضل العرب، ولو أنهم كانوا قَبْلَ الإسلام لا يَشْتَغِلُون ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب والمنطق ونحو ذلك، وإنما كان عِلْمُهُم ما سَمَحَتْ به قرائحهم من الشعر والخطب، وما حَفِظُوه من أنسابهم وأيامهم من التواريخ، أو ما احتاجوا إليه في دنياهم ومعاشهم من الأنواء أو النجوم أو الحروب، فلما جاء الإسلام ونَقَلَهُم من حالة الجاهلية التي أحاطت بهم؛ زالت الريون عن قلوبهم، واستنار باطنهم بفطرة جديدة وفطنة نيرة سعيدة، فاجتمع لهم الكمال التامُّ والخير العامُّ بالقوة المتجددة فيهم، ودرجة الفضل العظيم؛ فلذلك كان بقاؤهم نورًا في الإسلام، وفناؤهم فَسادًا فيه.

«وقد رُوِيَ» عن النبي أنه قال: «إذا زَلَّت العرب زَلَّ الإسلام» فكيف وهم الذين فَتَحُوا بلاد الدنيا وأَعَزُّوها بالإسلام، ومَدَّنُوها بالعلوم وإن اتَّسَع فيها غيرهم؟ فلا بأس من كَوْنِهم بواسطة النظامات الملوكية العامة يَقْتَبِسون معارف الأعصر الجديدة ويزيدون عليها، فصيت تنعمات العرب قديمًا قد بَقِيَتْ مُخَلَّدَة الذِّكْر في جميع تواريخ أهل الدنيا، لا سيما أهل اليمن.

وقد أَطْنَبَ المؤرخون في عظم مدينة سبأ التي تُسَمَّى: مَأْرِبَ، وبينها وبَيْن صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فهي بين مملكة اليمن ومملكة المسكت، وبسطوا الكلام على ما كانت عليه من الثروة والغنى وكثرة الخيرات المعدنية والنباتية، وأَنَّ مُلْكَهَا آلَ إلى بِلْقِيس التي قال الله تعالى في حقها: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ، قال تعالى في حَقِّ أَهْل سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ‌قال المفسرون: المراد بالجنتين: جماعتان من الجنان، ولاتصال بعضها ببعض جَعَلَهَا جَنَّة، وقوله تعالى: كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ إشارة إلى تكميل النعم عليهم، وقولُهُ: وَاشْكُرُوا لَهُ بيان أيضًا لِكَمَال النعمة، فإن الشكر لا يُطْلَب إلا على النعمة المُعْتَبَرَة.

ثم لما بَيَّنَ تعالى حَالَهُم في مساكنهم وبساتينهم وأكلهم؛ أَتَمَّ بيان النعمة حيث بين أنه لا غائلة عليهم، ولا تَبِعَةَ في الدنيا فقال: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي: طاهرة عن المؤذيات، ثم قال: وَرَبٌّ غَفُورٌ يعني: أن نِعْمَتَهُمْ كاملة حيث كانت لذة حالية خالية عن العقوبات الأخروية، فلا يَتَرَتَّبُ على تعاطيها عقاب من جانبه تعالى.

وأما ما كان من جانبهم فقد بَيَّنَه تعالى بقوله: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ الآية، فبَيَّنَ سبحانه وتعالى أنه انْتَقَمَ منهم بظلمهم بالإعراض؛ تصديقًا لقوله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ فَأَرْسَلَ عليهم للانتقام منهم سَيْلًا غَرَّقَ أموالهم، وخَرَّبَ دُورَهُم، فهذا كله ظاهر الدلالة على غِنَى اليمن وثروة أهاليها ورفاهيتهم، وتَنَعُّمِهِم في زَمَن سيدنا سليمان عليه السلام، وتَقَدُّمِهم في الزراعة والتجارة والعمارة.

وفي سنة ستين ومائتين وألف من الهجرة اسْتَكْشَفَ مَنْ أُرْسِلَ من طرف الحكومة المصرية مَحِلَّ مدينة سبأ المسماة مَأْرِب، وَوَجَدَ رسومها وأطلالها بالحفر، فوجد ما يَدُلُّ على عِظَمِهَا، ثم قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً إلى أَنْ قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ المراد بالقرى المبارك فيها: قرى الشام، فإنها هي البقعة المباركة، ومعنى فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ أي: فَعَلْنَا بهم ما جَعَلْنَاهُم به مثلًا يقال: تَفَرَّقُوا أَيْدِي سبا، وعلى ذِكْرِ قُرَى الشام نَاسَبَ أن نَذْكُر هنا أَهْلَ سورية وهم أهل الشام في قديم الزمان، حيث سبقوا كثيرًا من الأمم في المنافع العمومية وفي الأسفار البحرية، والأمة التي اشتهرت منهم بذلك هي أهل صور وصِيدَا وبيروت، فكانوا يُسَمَّوْن بالفنيكيين، وسيأتي بيانهم في الفصل الرابع، ومِمَّن اشتهر أيضًا بالأسفار البحرية الهنود.

وأما العرب فإنما كانوا يشتغلون بالتجارة في البر بالأخذ والعطاء مع أهل الشام، أو مع أهل اليمن فيما كَانَتْ تأتي به أهل سواحل الشام أو الهنود من بلادهم، فكانوا يَنْقِلُونه من البَرِّ إلى جميع مواطنهم، أو ينقلون بضائع مواطنهم إلى تلك البلاد للمعاوضات، إلى أن ظَهَرَ الإسلام واستولى على البحور والبرور، فَتَغَيَّرَتْ أحوال الترقيات في العلوم والمعارف.

وقد سَافَر النبي إلى الشام في تجارته لخديجة رضي الله عنها بتجارة إلى مدينة بُصْرى بإقليم حوران، وسَبَب ذلك أن النبي لما بَلَغَ خمسًا وعشرين سنة؛ قال له عَمُّه أبو طالب — ليُرْشِدْه إلى التجارة والكسب: أنا رجل كثير العيال، قليل المال، اشْتَدَّ الزمان، وهذه عِيرُ قَوْمِك تخرج إلى الشام للتجارة وقد حَضَرَ، وإنها وخديجة بنت خويلد تَبْعَثُ رجالًا من قَوْمِك في تجارتها، فلو ذَهَبْتَ إليها وقُلْتَ لها في ذلك لَعَلَّهَا تَقْبَل، فبَلَغَ خديجةَ ذلك فأَرْسَلَتْ إليه في هذا الشأن وقالت له: أُعْطِيكَ ضِعْف ما أُعْطِي رَجُلًا من قَوْمِك؛ لأنك الحبيب القريب، فقال له أبو طالب: هذا رِزْق سَاقَه الله إليك، فخَرَجَ رسول الله بتجارة خديجة رضي الله تعالى عنها، وأَرْفَقَتْ معه غلامها مَيْسَرَة لِيُعِينَه، فساروا حتى دَخَلُوا الشام فنزلوا ببُصْرَة عند صَوْمَعَة بَحِيرا الراهب التي بجانب المدينة.

وكان النبي قد نَزَلَ تحت شجرة رَعْرَعَتْ بنزوله تحتها، فخرج من الصومعة نَسْطُورَا الراهب وبِيَدِه صحيفة يَنْظُر فيها مَرَّة، وينظر في وجه النبي مرة أخرى، فاجتمع عليه القوم فقال لهم: يا قوم، فوالذي رَفَعَ السماء بغير عَمَد ما نَزَل بي رَكْب هو أحب إليَّ مِنْكُم، وإني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة هو رسول الله رب العالمين وخاتم النبيين، من أَطَاعَه نَجَا، ومن عَصَاه غَوى، ثم أَقْبَلَ على النبي وقال: إني لأرى فيك شيئًا ما رأيتُهُ في أحد من الناس، إني لأَحْسَبُكَ النبي الذي يَخْرُج من تهامة، ثم باع النبي تجارته ورَبِحَ ضِعْفَ ما كانوا يربحون.

ثم رَجَعَ إلى مكة وخَبَّرَ خديجة بِرِبْحِ التجارة فَسُرَّتْ بذلك، وكان قد ظَهَرَتْ منه خوارق عَادَاتٍ إرهاصًا للنبوة؛ كتظليل الغمامة، فَأَخْبَرَهَا مَيْسَرَة بهذه العجائب وبما قال نَسْطُورَا الراهب، فأَضْعَفَتْ له ضِعْفَ ما سَمَّتْ له، وكانت رضي الله عنها امرأة عاقلة شريفة في قَوْمِها مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وكانت كثيرة المال فكان رجال قَوْمِها يحرصون على زواجها، ولكن شَرَّفَهَا الله تعالى بزواج أشرف العالمين عَقِبَ التجارة الرابحة.

فما أحسن الأسفار التي أفادت المال، وعادَتْ على العامل وصاحب رأس المال بتحسين الأحوال، ونَتَجَ عنها نتائج جليلة أَعْقَبَتْ أهل البيت الطاهرين أبناء فاطمة الزهراء بنت خديجة الكبرى سيدة نساء العالمين، وهي أول من آمن به على الإطلاق، ويقال: إنه سَافَرَ لخديجة قبل هذه السفرة سفرتين إلى اليمن، وثَبَتَ أيضًا أنه أَجَّرَ نَفْسَه قَبْل النبوة لِرَعْي الغنم، وكذا ثَبَتَ في حَقِّ غَيْره من الأنبياء كموسى، قيل: إن حِكْمَة ذلك أن رَاعِيَ الغنم التي هي أضعف البهائم يَسْكُن في قَلْبِه الرقة واللطف، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قَدْ هُذِّبَ قبل ذلك، وأما رَعْي موسى عليه السلام لشعيب فإنه حَصَلَ أيضًا عَقِبَ السفر من مدينة عين شمس بمصر إلى مَدْيَن حين قَتَلَ القِبْطِيَّ ونَصَرَ الإسرائيلي وهَمَّ أهل مصر بِقَتْلِهِ، فقال له مؤمن آل فرعون: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فخرج يَطْلُب بلاد مَدْيَن بدون زاد ولا راحلة، وبينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، ولم يكن له في طريقه طَعَام إلا وَرَق الشجر حتى ورد ماء مدين، فكان ما قال الله تعالى في كتابه: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ أي: تَحْبِسَان أغنامهما؛ لأن على الماء من كان أَقْوَى منهما، فلا تَتَمَكَّنَان من السقي مع كراهة المزاحمة على الماء وخَوْف اختلاط أغنامهما بأغنام غيرهما، ومع التحفظ أيضًا بالاختلاط بالرجال، فقال: مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ أي: نَنْتَظِر ما يَبْقَى من القوم من الماء بعد صُدُورهم عنه وانصرافهم، وقوله: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ كناية عن الضعف، ودلالة على أنه لو كان قويًّا لَحَضَرَ، ولو حَضَرَ لم يَتَأَخَّر السقي، فعند ذلك سَقَى لهما موسى قَبْل صُدُور الرعاء، وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المُعْتَاد، وكان قد سَأَلَ عليه السلام القوم أن يَسْمَحُوا فسمحوا.

وقيل: إن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تَعَمَّدُوا إلقاء حجر عظيم لا يقله ولا يَرْفَعُه إلا جماعة كثيرون على رأس البئر، فَرَفَعَه بالقوة على ضَعْفِه من الجوع وَسَقَى غنمهما، قال الله تعالى: فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ لأنه سقى لهما في الشمس والحر، وفيه دلالة على كمال قوة موسى عليه السلام، وعلى أن أحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر؛ يعني: أن ما يُعَدُّ عَيْبًا في الحضر قد لا يُعَدُّ عَيْبًا في البادية؛ فلهذا ساغ لنبي الله شعيب أن يَرْضَى لابنتيه بسقي الماشية بدون أن يَقْدَح ذلك في حَقِّه بشيء حيث لا مَفْسَدَة في ذلك؛ لأن الدين لا يأباه في البدو ولا في الحضر ومروءة أهل البدو لا تأباه، لا سيما إذا كانت الحالة حالة ضرورة؛ لأن الظاهر أنه لم يكن لشعيب عليه السلام مُعِين سواهما.

ولما كان موسى عليه السلام قد مَكَثَ مدة الطريق لم يَذُقْ طعامًا إلا بَقْل الأرض فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أي: إني لأي شيء أَنْزَلْتَ إليَّ من خير قليل أو كثير غَثٍّ أو سمين فَقِيرٌ أي: سائل وطالب فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ أي: مُسْتَحْيِية قد اسْتَتَرَتْ بكم قميصها، ماشية على بُعْد، مائلة عن الرجال قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، وذلك أن البنتين لَمَّا رَجَعَتَا إلى أبيهما قَبْل الناس قال: ما أَعْجَلَكُمَا؟ قالا: وَجَدْنا رجلًا صالحًا رَحِمَنَا فسقى لنا، فقد فَهِمَتَا من حاله أنه سقى أغنامهما؛ تَقَرُّبًا إلى الله تعالى، فَوَصَفَتَاه بالصلاح، فقال شعيب لإحداهما: اذهبي فادعيه لي، فأرسلها شعيب إلى موسى مع أنها شابة وهو شاب؛ لأنه عليه السلام كان قد عَلِمَ بالوحي، أو مِنْ حُسْن التربية طهارتها وبراءتها، فكان يَعْتَمِد عليها فَذَهَبَتْ إلى موسى عليه السلام مع الاحتياط والتورع، وامْتَثَلَ دعوة أبيها للتبرك برؤية ذلك الشيخ، لا طَلَبًا للأجرة، ورُوِيَ أنها لما قالت: لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا كَرِهَ ذلك.

وَلَمَّا قُدِّمَ إليه الطعام امْتَنَعَ وقال: إنا أَهْل بَيْت لا نَبِيع ديننا بدنيانا، ولا نَأْخُذ على المعروف ثمنًا، حتى قال شعيب عليه السلام: هذه عادتنا مع كل مَنْ يَنْزِل بِنَا، فَجَلَسَ موسى عليه السلام فَأَكَلَ بَعْدَ أَنْ قَصَّ عليه قِصَّتَه، فَذَكَرَ نَسَبَه إلى يَعْقُوبَ، وحكى جَمِيعَ أَمْرِهِ مِنْ لَدُنْ ولادته وأَمْر القبائل والمراضع والقَذْف في اليم وقَتْل القبطي وأنهم يَطْلُبُونَه لِيَقْتُلُوه؛ فلذلك قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا سلطان لفرعون بِأَرْضِنَا، فَلَسْنَا في مَمْلَكَتِهِ، فَقَدْ أَسْكَنَ رَوْع موسى عليه السلام، وإن كان فرعون لِقُوَّتِه وبطشه وكثرة جنوده يُمْكِنُهُ أن يَتَسَلَّطَ على أَرْضِ مدين إذا قَصَدَ ذلك، إلا أن شعيبًا يَعْلَم أنه لا سبيل لفرعون على هذه الأرض، وأن الله سبحانه وتعالى عَمَاه عنها وحَمَاها منه، فقالت ابنته الصغيرة — وكانت آنَسَتْ منه القوة بِرَفْع الحجر عن رَأْس البئر، واستسقائه بالدلو العظيم، وعَهِدَتْ فيه الأمانة حَيْثُ أَخَّرَها إلى خَلْفِه في السير معها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ فَرَغِبَ فيه شعيب، فكانت ابنته من أَفْرَس الناس حين تَفَرَّسَت الأمانة في سيدنا موسى عليه السلام، قال شعيب: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ يعني: أن تكون لي أَجِيرًا تَرْعَى لي ثماني سنين فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ ۖ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ ۖ وَاللهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ.

فَتَزَوَّج موسى صفرا وهي الصغرى منهما، وطَلَبَ عَصًا فقال له: ادْخُل بَيْتِي؛ أي الذي يأوي فيه فَخُذْ عصاك، وكان فيها عِصِيٌّ كثيرة، فدخل موسى البيت وأَخَذَ من العِصِيِّ عَصًا حمراء، فقال له شعيب: هذه عَصَا الأنبياء انتقلت من آدَمَ إلى شيثَ ومنه إلى إدريس وإلى نوح وهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب، وكُلُّهُم تَوَكَّأَ عليها فلا تُخْرِجْهَا من يَدِكَ، ثم أوصاه وحَذَّرَه من أهل مَدْيَن وقال: إنهم قوم حسدة، وإذا رأوك قد كَفَيْتَنِي أَمْرَ غنمي حسدوني عليك، فَدَلُّوكَ على وادي كذا وكذا وهو كثير المرعى وإنما فيه حية عظيمة تَبْتَلِعُ الغنم، فإن دلوك عليه فلا تَمُرَّ به، فإني أخاف عليك وعلى غنمي، فخَرَج موسى بالغنم — وكانت يومئذ أربعين رأسًا — وقال في نَفْسِه: إن من أعظم الجهاد قَتْل هذه الحية وتَوَجَّه بالغنم إلى ذلك الوادي، فَلَمَّا قَارَبَهُ أَقْبَلَت الحية إلى الغنم فَقَتَلَهَا موسى، ورَعَى غَنَمَه إلى آخر النهار، وعَادَ إلى شعيب وأَعْلَمَهُ الخَبَرَ فَفَرِحَ بِقَتْلِها وفَرِحَ أَهْلُ مَدْيَن، وعَظَّمُوا موسى وأَجَلُّوه، وقام موسى بِغَنَمِ شعيب يَرْعَاهَا ويَسْقِيهَا حتى انْقَضَت المُدَّة التي بينهما، وبَلَغَت الغنم أربعمائة رَأْس، وَعَزَم موسى على المسير.

وقد وَرَدَ أنه لما رعى الغنم لم يَضْرِب واحدة منهن بعصاه، إنما كان يَهُش بها فقط، وكان لا يُجِيعُها ولا يُؤْذِيها بعطش، وجاء مرة إلى نَهْر لِيَسْقِيَها فَوَجَدَ فيها شَاةً عرجاء لا تَقْدِر على الوصول إلى الماء، فَحَمَلَها وَنَزَلَ بها فسقاها، فَلَمَّا رأى الحقُّ منه قُوَّةَ شَفَقَتِه على غَنَمِهِ بَعَثَهُ نبيًّا وكليمًا راعيًا لبني إسرائيل، وناجاه بالتوراة وغيرها كما يأتي، فَمَنْ رَحِمَ رَعِيَّتَه وشَفِقَ عليهم اصطفاه مِنْ بَيْن الخَلْق، ومَنْ لَمْ يَكُنْ عنده شَفَقَة ورحمة على خَلْق الله لا يَرْقَى المراقي العلية المسعدة.

ولما أراد موسى الانصراف بَكَى شعيب وقال: يا موسى، إني قَدْ كَبُرْتُ وضَعُفْتُ فلا تُضَيِّعْنِي مع كِبَرِ سِنِّي وكثرة حسادي، أَتَتْرُك غنمي شاردة لا راعيَ لها؟ قال موسى: إنها لا تَحْتَاج إلى راعٍ وقد طَالَتْ غيبتي عن أهلي، فقال شعيب: إني أَكْرَه أن أَمْنَعَكَ، وأوصاه على ابْنَتِهِ، وأوصاها أن لا تُخَالِفَهُ، وسار موسى عليه السلام بِأَهْلِهِ يريد مصر حتى بَلَغَ جانب وادي طُوًى في عَشِيَّة شديدة البرد، فأنزل موسى أَهْلَه وضَرَبَ خَيْمَتَه على حافة الوادي وأَدْخَلَ أَهْلَه فيها، وَهَطَلَت السماء بالمطر وكانت امرأته حاملًا فجاءها الطلق، فَجَمَعَ حَطَبًا وقَدَحَ الزناد فَلَمْ يُورِ فَرَمَاهُ وخَرَجَ من الخيمة فرأى نارًا فقَال لأهله: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَمَرَهُ بِخَلْع نَعْلَيْه بقوله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ * إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي الآية، فاكْتَسَبَ موسى عليه السلام النبوة في العود إلى مصر كما اكْتَسَبَ الزوجة الصالحة في الورود منها إلى مَدْيَن، فمَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه في الأسفار بمراتب الأخيار والأبرار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فيا لها أسفارًا إلهامية أَسْفَرَتْ عن أسفار التوراة التي بَيَّنَتْ للناس جميع التواريخ من أيام الخليقة إلى زَمَن موسى، كما بَيَّنَتْ لِأُمَّتِهِ الأحكام والشرائع، وبَشَّرَتْ برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا شَكَّ أنه قد تَرَتَّبَ عليها ما لا يُحْصَى ولا يُحْصَر من المنافع مما كانت البلاد الشامية له من أعظم المنابع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤