الفصل الأول

في تَقَدُّم مصر وغناها في عدة أزمان سابقة وأدوار متناسقة وحيازتها للمنافع العمومية بوجه إجمالي.

***

المتبادر لآراء أرباب العقول الذكية أن أعظم البلاد الساحلية قابلية للتقدم في المنافع العمومية هو الديار المصرية، وأنه لم يَتَقَدَّم على سواحل البحر الأبيض مثل بلاد مصر فيما يَخُص الزراعة والصناعة، وأنها كانت أشغالها وعملياتها مُتَقَدِّمة تَقَدُّمًا عظيمًا، وأن حركة المنافع العمومية فيها كانت على غاية ما يمكن من النشاط والإتقان، فإن صعيدها الأعلى الذي هو الوجه القبلي مع اتساع أراضيه لا يَبْعُد من النيل إلا مسافة أميال أقاليمها بالوجه البحري، يقسمها النيل إلى عدة فروع؛ ففي كلا الوجهين يمكن بمساعدة اليد الصناعية والعملية توصيل متاعها ومحصولها من بعض المدن الكبيرة إلى بعض، كما يمكن نَقْلُها إلى القرى والكفور من قرية إلى أخرى، ومن ضيعة إلى أخرى، أو إلى مدينة وهكذا، وهذا بأقل المصارف، ويسير الكُلْفة برًّا وبحرًا.

ومن المعلوم أن نِيلَ مصر واسع جدًّا، يَسْهل فيه سَيْر السفن في داخل البلاد بعضها مع بعض، فالظاهر أنه أَقْوَى سبب في كون الديار المصرية اكْتَسَبَتْ قبل غيرها من الممالك في الأزمان الخالية صفة الثروة والغنى، وتَقَدَّمَتْ في المنافع العمومية، وتَمَكَّنَتْ في منقبة التمدنية كما دَلَّتْ عليه التواريخ، فكان تَمَدُّنها تمدنًا رفيعًا مُتَّسِع الدوائر فيما يَخُص الصنائع، مستوفيًا للغنى، مُسْتَوْعِبًا للمتانة وعُلُوِّ المكانة، كما يَشْهَد لذلك ما يُوجَد في صعيد مصر من المباني التي لم تَزَلْ قائمة على ساقها إلى الآن، فَلَيْسَ أَعْدَل من شهادة مدينة طيوة ذات المائة باب، فَإِنَّ في رسومها القديمة وآثارها الجسيمة ما يَعْجَبُ منه أولو الألباب، وقد تَوَصَّل السواحون إلى الوقوف على ما فيها تَحْتَ الأرض من المدافن والقبور، وقرءوا تاريخ بنائها الأزلي، فوجدوها قد مَرَّ عليها خمسة وعشرون قَرْنًا قَبْل الميلاد ولم تُغَيِّرْها العصور والدهور، وقد اسْتُخْرِج في هذه الأيام بالنبش في مَعْبَد قديم بمملكة نابولي — إحدى ممالك إيطاليا — سِتَّةُ أعمدة من المصنوعات المصرية المنحوتة من الصوان الأحمر، منها أربعة كبار، طُول العمود أربعة أمتار وثُلُث مِتْر، وقُطْر محيطه اثنا عشر سنتيمترًا، ويُعْلَم من ارتفاعها وتَنَاسُب سَمْكِها وبَرِيق لَوْنِها أن صُنْعَها بهذه المثابة كان في عَصْر موجود به فَنُّ نَحْت الأحجار بمصر، وأن مصر إذ ذاك كان لها التقدم في هذه الصناعة من أحقاب خالية، وأما العمودان الآخران فصغيران، ولكل منهما قاعدة من نَوْع الطبخ المُذَهَّب وإكليل غريب الشكل، وَقَدْ بِيعَتْ هذه الأعمدة في باريس بأربعين ألف فرنك في المزاد، ولا شَكَّ أن استخراج هذه الأعمدة كان من مَحَاجِر مِصْر، ونَقْلُها إلى بلاد الرومان، وَوَضْعُها في معابدها القديمة، ثم استخراجها الآن بعد مرور نحو الألف سنة وهي على حالة حسنة، ومَبيعها بهذا المبلغ؛ يَدُلُّ على كمال صناعتها وقوة مادتها، فمثل هذه الأعمدة الغريبة، والمباني العجيبة الحسنة النقش، المختلفة الألوان البهجة، المكتوبة بالأقلام القديمة المصرية تَنْطِقُ بلسان حالها بِتَقَدُّم مملكة مصر في درجة التمدن، ولكن لا يُفْصِح لسان مقالها عن حقيقة الحوادث الداخلية التي أَوْجَبَتْ هذه الرموز التصويرية، ونهاية الحال أن ما هو منقوش عليها من التاريخ لبنائها يفيد قوة مَلِك مصر، الذي حَصَلَتْ هذه المباني في أيام سَلْطَنَتِهِ، وأن في أيامه كانت المعارف بالآلات والأدوات عجيبة، وهذا كله يَدُلُّ على شوكة هذه الدولة، وتَقَدُّمها في الصناعة والمهارة، ويستفاد أيضًا من هذه الكتابات القديمة أن هذا المَلْك العظيم سَارَ بِجَيْش جَرَّار عِدَّة مرات إلى أقاصي الممالك، وانتصر فيها النصرات العظيمة، وفَتَحَ الفتوحات الجسيمة، وبَلَغَ مُنَاه وشفى غليله مِنْ عِدَاه، وزاد فَخارًا على فَخَارِه، واتسعت دائرة عُلُوِّ قَدْره واعتباره.

وهذه الحروب كانت كما يُفْهَم من النقوش والرسوم مع سلطان عظيم، صاحب شوكة قوية، وارتفاع شأن معلوم، وهو سلطان بابل العراق، الذي لا يوازيه في القوة والشوكة من ملوك ذلك العصر إلا ملك مصر، الذي كان بينه وبين ذلك المَلِك الشقاق والوفاق، فإن في ذلك الزمن المعهود كان أشهر مدن الدنيا مدينتين متسابقتين في ميدان الفَخار، ومتنافستين في كَسْب الاعتبار، وهما مصر وبابل.

وقد دَلَّ أَقْدَم التواريخ على أنهما كانتا دون غيرهما سلطنتين عظيمتين، ودولتين بالحدود متجاورتين، تميزهما الحدود الطبيعية؛ كالبحر المالح والنيل، وأن غيرهما من الممالك ليس من هذا القبيل، فكان لمصر مَمْلَكة الغرب مُخَلَّدة، ولبابل مَمْلَكة الشرق مُؤَبَّدة، وبين مملكتي الشرق والغرب تارة الصلح وتارة الحرب، وجميع من كان من الأمراء والملوك له عنوان الملوكية والحكومة، فإنما كان بالنيابة والفرعية عن هذه الجرثومة، وكانتا من أَجَلِّ الممالك المعتبَرة بما اشتهرتا به من عجائب السحر وغرائب السحرة، وناهيك بمن تَعَلَّم السحر من هاروت وماروت، وحسبك ما جَمَعَهُ فرعون لموسى من المدائن من كل سحار عليم؛ لِنُصْرة الطاغوت، وبهذا كان لهم الولاء التام على مَنْ جَاوَرَهُمَا من الملوك والحُكَّام، وكان بين المملكتين كمال الالتئام ووثوق العَهْد الذي لا يَعْتَرِيه نقض ولا إبرام، وبَقِيَ هذا الوصف الجليل إلى أيام حَرْب تروادة كما ذَكَرَهُ أميروس الشاعر، فقد نَصَّ على أنه كان في أيامه بينهما الصلح الكامل، ثم استبان مما ذَكَرَهُ المؤرخون أنه عَرَضَ لهما في آخر القرن الثامن قَبْل الميلاد ما يَطْرَأُ على الممالك من التمزيق، فَضَعُفَتْ مَمْلَكَة مصر وتَمَزَّقَتْ مَمْلَكة العراق، فسبحان مُقَسِّم الأرزاق ومالك الآفاق!

ومن المعلوم أن الذي أَسَّسَ بابل هو النمروذ الذي هو ابن حفيد سيدنا نوح عليه السلام كما هو نَصُّ التوراة، وأما مؤرخو اليونان والرومان فقد نَسَبُوا تأسيس مدينة بابل إلى سميراميس زوجة مِينُون أحد عساكر مَلِك بابل المسماة هذه الملكة سمير في التواريخ المشرقية، وبيان ذلك أن مملكة بابل كان يجاورها في قديم الزمان مملكة أثور؛ يعني: بلاد الكردستان، مدينة نينوى؛ يعني: مدينة سيدنا يونس عليه السلام، بناها المَلِك أثور ثم حَسَّنَها الملك نينوس، فكانت مدينة عظيمة في طول ثمانية فراسخ ونصف، لا يطوف السائر حولها بمحيطها إلا في نحو ثلاثين ساعة، وكان ارتفاع سُورِها الخارج عنها مائة قدم، واتساع جدار الأسوار عريض بحيث يسير فَوْقَه ثلاث عجلات بعضها في جانب بعض ولو مع غاية السرعة، وكانت مدينةً حصينةً وفي داخلها خمسة عشر بُرْجًا، ارتفاع البُرْج مائتا قدم، ولما تَزَوَّجَتْ سميراميس نينوس ملك مدينة نينوى التي كانت إذ ذاك تَحْت كل من مملكة العراق ومملكة الكردستان اللتين صارتا كالمملكة الواحدة؛ أَلْبَسَهَا التاج وسَلَّمَهَا البلاد، حيث كانت وهي في عصمة زوجها الأول قد اشْتَهَرَتْ بأفعال الشجعان في واقعة من الوقعات العظيمة، وكانت قُوَّتُها العسكرية نحو مليون من النفوس، فصاروا في تَصَرُّفِها، فلما مات نينوس أَعْقَب منها ولدًا قاصرًا، يقال له ننياس، فَتَقَلَّدَ المَمْلكة وكانت أمه سميراميس وَصِيَّة عليه فصار بِيَدِهَا زمام المُلْك، وأرادت إحراز الشهرة والصيت وكَسْب الفخار المُخَلَّد فَبَنَتْ مدينة بابل، وزَيَّنَتْهَا بأنواع الزينة على مثال مدينة نينوى وبِقَدْرِ اتِّسَاعِهَا، وبَنَتْ أسوارها بالآجر والقراميد، وجَعَلَتْ مؤنة البناء بمادة قارية صلبة قفرية، وجَعَلَتْهَا عريضة الأسوار بحيث يَمُرُّ بها ست عجلات متلاصقة تسير متوازية مع بعضها على حزاء واحد مع غاية السرعة، ويقال: إنها حَفَرَتْ حَوْلَها خنادق عميقة، وجَعَلَتْ فَوْقَ الخنادق مائة قنطرة من النحاس، كل قنطرة تُوصِل إلى بابل، وعَمِلَت فوق بيوت المدينة بساتين معلقة جميلة الشكل، تجري بها المياه في الغدران والجداول، وتَصِل إليها من برابخ عجيبة بتدبير عجيب، وجَعَلَتْ في المدينة الميادين الوسيعة والرحبات الفسيحة المغروسة بالأشجار من جميع الأقطار والجهات، بحيث يُمْكِن المسير في المدينة من باب إلى آخر من أبواب القناطر بدون أن يكون للشمس سَلْطَنَة على أحد، ولا عظيم سَلَاطَة للمطر لالتفاف الأشجار بعضها ببعض وتعريشها، وكانت بابل على نَهْر الفرات على قَوْل أغلب المؤرخين ونينوى على نهر الدجلة.

فيفهم من هذا أن باني بابل هي الملكة سميراميس، وهو مخالف لكلام التوراة من أن الباني لها هو النمروذ مع ما بين زمانَيْهما من القرون العديدة والدهور المديدة، ولعل هذه الملكة بَنَتْ مدينة على أطلال بابل، وكانت قد خَرِبَتْ بِمَرِّ الدهور وَكَرِّ العصور، أو بَنَتْ أخرى في غير مَحِلِّها وسَمَّتْهَا بهذا الاسم محاكاة للنمروذ، وكانت تَحْت يد هذه الملكة في مَمْلَكة العراق من سواحل الشام وفلسطين إلى نهر السند ببلاد الهند، حتى إن عساكرها طَرَدَتْ عساكر مصر من تلك الجهات المشرقية التي كانت مُتَغَلِّبَة عليها إذ ذاك، وكانت كلما انْتَصَرَتْ بقوة شجاعتها زادت مطامعها في الفتوحات، ولشجاعتها وخِفَّة حَرَكَتِهَا سُمِّيَت سميراميس؛ يعني: الحمامة؛ لأنها تتردد لفتوح البلاد، بل صار اسمها كأسماء الأجناس على كل ملكة اشْتَهَرَتْ بالشجاعة واقتحام الأخطار في البلاد البعيدة لقصد الفتوح؛ ولذلك يقال لكاترينة الثانية ملكة الموسقو: سميراميس الشمال؛ يعني: الجهات الشمالية، ويقال أيضًا لمرجريطة ملكة الدانيمرقة: سميراميس الشمال أيضًا؛ لأنها جَمَعَت الممالك الثلاثة، وهي مملكة أسوج وممكلة نروج ومملكة دنيمرقة، وقد قُلْنَا فيما سَبَقَ: إن تلك الملكة كانت تَحْكُم العراق والكردستان وما يتبعهما من الممالك الواسعة، بالوصاية على وَلَدِها ننياس لكونه قاصرًا.

وفي مدة وصايتها بَنَتْ أيضًا في بابل هَيْكَل الشمس، الذي دَاخِلُهُ متخذ من الذهب، وبَنَتْ أيضًا عِدَّة مدائن أُخَرَ، وأرادت أن تتوغل في بلاد الهند، فسارت بجيش كبير فانتصر عليها مَلِكُ الهند وَفَرَّتْ مُدْبرة إلى بلادها، وكان وَلَدُهَا قد بَلَغَ رُشْدَهُ وتَأَهَّلَ لأن يَحْكُمَ مَمَالِكَهُ بِنَفْسه، فتَقَلَّد زمام المملكة واسْتَبَدَّ برأيه، فأحَبَّتْ أن تَجْذِبَه إليها وتَدْنُو منه باستمالته إليها لجمالها وتشويقه إلى وِصَالِهَا، فرَاوَدَتْه عن نَفْسه حتى يَصِيرَ الحكم في يدها إذا اسْتَوْلَتْ على قَلْبه، فاستعاذ من الفجور وأبى إلا النفور، لا سيما وأنه اسْتَشْعَرَ بأنها قَتَلَتْ والده بالسم، فَسَلَكَ سبيل الانتقام وأذاق حَمَامَتَهُ كَأْسَ الحِمَام، وكان ذلك قَبْل ميلاد عيسى بثلاثة عَشَر وألف ومائتين.

وكان الملك ننياس قَلِيلَ الطمع في الفتوح، فقنع بما تحت يده عن الطريف بالتلاد، وانزوى في قصره مُتَنَعِّمًا بأهل بيته بعيدًا عن العباد، وَلَمْ تُعْلَمْ وقائع غريبة حَصَلَتْ في مملكة العراق وكردستان في خلال ثمانمائة سنة حتى تَسَلْطَنَ عليها الملك سردينال سنة سبعمائة وسبعة وستين قبل الميلاد، فانْهَمَكَ هذا الملك على اللذات والشهوات وأغار عليه أهل أذربيجان وحاصروه أشد المحاصرة، فمن شدة المضايقة أَحْرَقَ نَفْسَه ونساءه، فاسْتَبَدَّ أهل أذربيجان بالحكم وخَلَعُوا طاعة بابل، ثم دَخَلَ أهل أذربيجان وبابل تَحْت مَمْلَكة العجم، وكان حكماء البابليين يُتْقِنُون رَصْد الكواكب لِكَثْرَة الصحو وقلة الغيوم بهذه البلاد، فصار لهم كمال الوقوف على العلوم الفَلَكِيَّة، وهم الذين اخْتَرَعُوا المزاول، وتَشَبَّثُوا بعلم التنجيم، وزعموا معرفة حوادث الأزمنة المستقبلة من أنواء النجوم، وتَوَلَّعَ الناس بتقليدهم وتصديق أوهامهم الفاسدة التي يُبْطِلُهَا الشرع، ويُكَذِّبُها العقل، فهل هذه الأشياء تُعَدُّ من كبوات الأجياد، وهفوات الأمجاد، أو مِنْ بِدَع الجاهلية الأولى الظاهرة الفساد، وضلالات أهل الكساد؟ والظاهر أن هذه الأمة أَضَلَّتْهَا الكواكب ضلالًا مبينًا حتى عَبَدُوا الشمس، وكانوا يَعْرِفُون الإله الحَقَّ يقينًا، فالتنجيم فَنٌّ مذموم، ولكن لا بأس بعلم النجوم، فقد كانت العرب أَشَدَّ عناية بمعرفة النجوم، وقد قيل لأعرابي: ما عِلْمُك بالنجوم؟ قال: مَنْ ذا الذي لا يعلم أخداع بيته، وقيل لأعرابية: أتعرفين النجوم؟ فقالت: سبحان الله! أما نَعْرِف أشباحًا وقوفًا علينا كُلَّ ليلة.

وبالجملة: فكانت الفنون والعلوم والصنائع ببلاد العراق في غاية التقدم، وكان فيهم سُوقُ التمدن نافقًا، فكانوا يَتَنَافَسُونَ ويَتَفَاخَرُون في المطاعم والمشارب والزينة والزخرفة، واشتد انهماكهم على اللذات والشهوات، خصوصًا لما تَوَلَّى عليهم كيروش مَلِك العجم، فَفَسَدَتْ أخلاقهم، وانْحَلَّ نظامهم، وأما مصر المقارنة لبابل فقد تَنَزَّهَتْ ملوكها عن مثل هذه الرذائل.

فقد أَجْمَعَ المؤرخون على أن مصر دُونَ غيرها من الممالك عَظُمَ تَمَدُّنها، وبَلَغَ أَهْلُهَا درجة عُلْيَا في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وأن آثار التمدن وأماراته وعلاماته مَكَثَتْ بمصر نحو ثلاثة وأربعين قَرْنًا، يُشَاهِدُهَا الوارد والمتردد، ويَعْجَبُ مِنْ حُسْنِهَا الوافد والمتفرج مع تَنَوُّعِهَا كل التنوع، فجميع المباني التي تَدُلُّ على عِظَمِ ملوكها وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة الملوكية وبراهينها، فانظر إلى آثار مَنْف وأَبْنِيَتِها وعجائبها وأصنامها ودفائنها مما يَحْكِيه المؤرخون عنها، وأنها كانت ثلاثين ميلًا بيوتًا متصلة، وفيها بَيْت فرعون وهو قطعة واحدة من الحجر وسَقْفُه وفَرْشه وحيطانه من الحجر الأخضر، وكان لها سبعون بابًا، وهي مدينة المملكة المصرية، وكانت مَنْزِل الملوك من القبط الأولى والعماليق ومَسْكَن الفراعنة، وما زال المُلْك بها إلى أنْ مَلَكَ الرُّومُ اليونانُ دِيارَ مصر، فانتقل كُرْسِيُّ المَمْلَكَة منها إلى الإسكندرية، ومع ذلك لَمْ تَزَلْ عامرة إلى أن جاء الإسلام ثُمَّ خَرِبَتْ، وفيها كانت الأنهار تجري مِنْ تَحْت سرير الملك، وكانت أربعة أنهار.

ويقال: إن ملوك الدنيا لو اجتمعوا واتفقوا على أن يصنعوا مِثْلَهَا لَمَا أَمْكَنَهُم ذلك، وكان فرعون إذا أراد الركوب من مَنْف إلى عَيْن شَمْس صَنَعَ صاحب المركب علامة، فإذا رأى صاحب عَيْن شمس تلك الإشارة تَأَهَّبَ لاستقباله، وكذا يَصْنَع إذا أراد الركوب من عَيْن شمس إلى مَنْف؛ لأن كُلًّا من المدينتين كان تَخْت المَمْلَكة، ويقال: إنه كان بِمَنْف قُبَّة فيها صُوَر مُلُوك الدنيا.

ولما دَخَلَ المأمون مِصْرَ في سنة سبع عشرة ومائتين وقد رأى مدينة مَنْف أنشد الأبيات الآتية:

سَأَلْتُ أطلال مِصْرَ
عن عَيْنِ شَمْسٍ ومَنْفِ
فما أَحَارَتْ جوابًا
ولا أَجَابَتْ بِحَرْفِ
وفي السكوتِ جَوَابٌ
لِذِي الفطانة يَكْفِي

وهل علامات التمدن ودلائل العِظَم إلا ثلاثة أشياء: وهي حُسْن الإدارة المَلَكِيَّة، والسياسة العسكرية، ومعرفة الألوهية، فهذه الثلاثة أساس تَمَدُّن الممالك العدلية على العموم، والمصريون من قديم الزمان كانوا مُنْقَادِين للْحُكْم الملوكي، فكانوا مطيعين لِمَلِكِهِمْ، وكان المَلِكُ مُنْقَادًا أيضًا لقوانين المَمْلَكة وأصولها، فكانت حركاته وسكناته على طبق القوانين، وكانت حكماء مصر تُذَكِّر الملوك دائمًا بالحقوق والواجبات، وتَحُثُّهُم على التمسك بالفضائل الملوكية، وتَلْعَن من يَصْرِفُهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالَعة الحِكَم والآداب والمواعظ والتواريخ، وكل ما يُرْشِد إلى العدل والاستقامة، وكانت مصر مُنْقَسِمَة إلى عمالات، على كل عِمَالَة حاكم، وأراضيها مملوكة لثلاث طوائف مُنْقَسِمة بينهم؛ قِسْم للملك، وقِسْم لأمناء الدِّين، وقِسْم للعساكر المحاربين، وأما بواقي الطوائف فكانت معايشهم من أعمالهم وصنائعهم، فهذا التقسيم قَوَّى شوكة أُمَنَاء الدين، وجَعَلَهُمْ مُخْتَصِّينَ بممارسة العلوم، وبِتَقْنِين القوانين المَلَكِية، وبنفوذ الكلمة في الحكومة.

وكانت مصر كثيرة الجنود والعساكر، ولهم أصول تَحْمِلُهُم على الشجاعة، فكان العسكري الذي يُظْهِر الجلادة في الحرب يُعْطَى علامة الشرف والافتخار، والذي يَجْبُن عن الحرب، أو يَفِرُّ من الزحف يُعَاقَبُ بِوَسْمِه بعلامة العيب والعار والافتضاح، بحيث تَكُون السمة ظاهرة على بَدَنِه تُلَوِّثُه وتُذِلُّه بَيْن أَهْلِ وَطَنِهِ، والظاهر أن إقطاع الأراضي للمحاربين كانت سببًا في كثرة أموالهم ورفاهيتهم، فَتَرَتَّبَ عليها فيما بَعْد فُتُورَ هَمَّتِهِمْ في الحروب، وتَرَتَّبَ على ذلك أيضًا بتداول الأزمان عَدَم القدرة على مقاومة كل مَنْ كان يَهْجم على مصر من الأمم، إلا أن هذا لا يَمْنَع من أن الإدارة العسكرية كانت متقدمة عندهم؛ بدليل أن الملك سيزوستريس جَيَّشَ جيشًا عظيمًا لِقَصْد سَلْب بلاد العراق والعجم والهند وفتوحها، فسار إليها من طريق الشام فاستولى على بلاد فلسطين، وفتح العراق والعجم والهند، وبنى ببلاد العجم مدينة شلمينار، التي سُمِّيَتْ فيما بعد مدينة اصطخر، وما ذاك إلا بقوة عساكره وضَبْطِهِمْ ورَبْطِهِمْ، وأما الديانة عند المصريين فكانت أيضًا مُرَتَّبَة؛ إذ كان أمناء دِينِهِمْ يَعْتَقِدون ألوهية الذات العلية، وكان لهم أسرارًا عجيبة، فكانوا لا يُظْهِرُونَها إلا لقليل من الناس، وكانت العامة يعبدون الأوثان، ومنشأ عبادتِها عندهم أنهم كانوا يُؤَلِّهُون كُلَّ مَن اخْتَرَعَ أمرًا غريبًا من قانون أو عِلْم أو فَنٍّ، فكانوا مُتَقَدِّمِين في الهندسة والمساحة والآلات الهندسية؛ كعِلْم الجغرافيا والنجوم، وكانت كِتَابَتُهُم بالقلم القديم البربائي الذي كان يَعْرِفُه حُكَمَاؤُهم وأمناء أديانهم، فكان كالرموز بينهم، فكانت عُلُومُهُم سِرِّيَّة مَخْفِيَّة عن العوام حَتَّى لَمَّا ظَهَرَتْ الحروف الهجائية، وانْتَشَرَتْ عندهم — كما انْتَشَرَتْ في الممالك — لَمْ تَزَلْ صُحُف العلوم المصرية تُرْسَم بالقلم القديم البربائي.

ومن اختراعاتهم العجيبة آلة الحراثة التي انْتَفَعَ بها جِنْس البشر عمومًا حيث تَقَدَّمَتْ الفلاحة، وبه تَوَلَّدَ التمدن بين جميع الناس، مع اختراع السواقي والنواعير، إلهامًا لهم من اللطيف الخبير، فإنها أساس لآلات السقي بأحسن تدبير، وكانت الدولة المصرية تَعْرِف قيمة العدل والإنصاف وأنه الأصل في سعادة الممالك، فانْتَخَبَتْ من مدنها الثلاثة التي هي عَيْن شمس ومَنْف وطيوة قضاة؛ لتدبير أحوال المَمْلَكة، وجَعَلَتْهُمْ أرباب المشورة القضائية، وكانوا ثلاثين قاضيًا، فكانت محكمتهم نافذة الحكم على غاية من الاحترام، وكانت مصارفها على طرف الحكومة الملوكية، وكان الملك يَأْخُذُ عليهم العَهْد أن لا يُطَاوِعُوه إذا أَمَرَهُمْ بشيء خارج عن الحد، وكانت مُذَاكَرَة المجلس في المصالح والقضايا والآراء تُكْتَب بالقلم والمناقشات والمحاورات والمرافعات كذلك؛ لئلا يَخْفَى الحَقُّ بالفصاحة واللسن؛ لما في البيان من السحر، وكان للحق صُورة مجسَّمة، فإذا ظَهَرَ الحق لأحد الخصمين رَفَعَ الرئيس الصورة بِيَدِهِ، وأَذِنَ للمُحِقِّ أن يَضَعَ يَدَهُ عليها؛ إشارة إلى أن القاضي في الحقيقة ونَفْس الأمر إنما هو الحق فهو الحاكم الحقيقي.

وكان في أحكام المصريين عقاب الزنا شديدًا جدًّا لكونه من الكبائر المُضِرَّة للأمة، فكانوا يَجْلِدون الرجل أَلْفَ جَلْدَة ويَجْدَعون أنْف المرأة، وأَنَّ مَنْ قَدَرَ على تخليص المقتول مِنْ القاتل بِدُون حَقٍّ ولَمْ يُخَلِّصْه فجزاؤه القتل، وأنه لا تَسَلُّط للدائن على ذات المدين، بل وفاء الدين محلُّه أَمْوَال المدين لا شَخْصُه، وكانت قوانينهم تَمِيل إلى الحث على العمل وقَطْع عِرْق البطالة والغش والتدليس، وغير ذلك من الموبقات، وذلك أنه يَجِبُ في آخر كل سَنَة التفحص عن أحوال الأهالي فردًا فردًا، فيُسْأَل كُلُّ إنسان عن مَوَادِّ تَعَيُّشِهِ، ومِنْ أين اكْتَسَبَهَا، وكُلُّ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ تَعَيَّشَ من وَجْهٍ حرام فجزاؤه القَتْل، وهذا القانون من وَضْع الملك أمسيس، فمِنْ هَذَا يُفْهَم تَقَدُّمهم في التمدن، وأن مَمْلَكَتَهم في الأزمان السالفة كانت عادلة محترسة، مستنيرة بالمعارف.

وقد دَلَّتْ التواريخ أن ديوان حكومتها كان في غاية اللطف والتهذيب، واستقامة الأخلاق والآداب، وحِفْظ ناموس العرض، والأدب والحياء، وكان على غاية من حِفْظ الرسوم الملوكية المعتبَرة، والعوائد السلطانية المقررة، وقد قامت البراهين والدلائل على استمرار أُبَّهَة التَّمَدن على تعاقب القرون الكثيرة في أيام الملوك الأوائل، ومما يُعَضِّدُ ما قاله المؤرخون، واسْتَكْشَفَهُ الحكماء الراسخون قِصَّةُ يوسف عليه السلام، فإن مَضْمُونَها لِفَصْل القول أَحَدُّ من الحسام، كما سَنُبَيِّنُه في الفصل الثاني من الباب الثالث من ذِكْرِ هذه القصة الصِّدِّيقِيَّة، التي يُسْتَنْتَج منها في هذا المعنى معارفُ تصورية وتصديقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤