من رسالته في بني أمية

قال أبو عثمان:

أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك وكرامته لك. اعلم — أرشد الله أمرك — أن هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها والخروج من جاهليتها إلى طبقات متفاوتة، ومنازل مختلفة:

فالطبقة الأولى: عصر النبي ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وست سنين من خلافة عثمان رضي الله عنه. كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المحض، مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسنة، وليس هناك عملٌ قبيح، ولا بدعةٌ فاشية، ولا نزعُ يدٍ من طاعة، ولا حسدٌ ولا غلٌّ ولا تأوُّل. حتى كان الذي كان من قَتْل عثمان رضي الله عنه وما انتُهك منه ومن خبطهم إياه بالسلاح وبَعْج بطنه بالحراب وفَرْي أوداجه بالمشاقص وشَدْخ هامته بالعُمد، مع كفِّه البسط ونهيِه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك من كم وجهٍ يجوز قتل من شهِد الشهادة وصلَّى للقبلة وأَكَل الذبيحة، ومع ضربِ نسائه بحضرتِه وإقحام الرجال على حُرمته، مع اتقاء نائلة بنت الفرافصة عنه بيدها حتى أطنُّوا إِصبَعَين من أصابعها، وقد كَشَفَت عن قناعها ورفعت عن ذَيلِها ليكون ذلك رادعًا لهم وكاسرًا من غَربهم، مع وَطْئِهم في أضلاعه بعد موتِه وإلقائهم على المزبلة جسدَه مُجرَّدًا بعد سَحبِه. وهي الجزيرة التي جعلها رسول الله كُفأً لبناته وأَيَامَاه وعقائِله، بعد السبِّ والتعطيش والحَصرِ الشديد والمَنعِ من القُوت، مع احتجاجه عليهم وإفحامه لهم. ومع اجتماعهم على أن دم الفاسق حرامٌ كدمِ المُؤمن إلا من ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتَلَ مؤمنًا على عَمْد، أو رجل عدا على الناس بسيفِه فكان في امتناعهم منه عَطبُه. ومع اجتماعهم على ألَّا يُقتل من هذه الأمة ولا يُجهز منها على جريح. ثم مع ذلك كله ذمروا عليه وعلى أزواجه وحَرمِه وهو جالسٌ في مِحرابِه ومُصحفُه يلوح في حجرِه لا يرى أن موحِّدًا يُقدِم على قتل من كان في مثل صِفتِه وحالِه.

لا جَرَمَ لقد احتلبوا به دمًا لا تطير رَغْوته ولا تَسكُن فَوْرته ولا يموت ثائره ولا يكلُّ طالبه، وكيف يُضيِّع الله دَمَ وَليِّه والمُنتقِم له؟ وما سمعنا بدمٍ بعدَ دمِ يحيى بن زكريا عليهما السلام غلا غليانه وقتل سافِحَه وأَدرَك بطائلتِه وبلغ كل محبتِه كدمه رحمة الله عليه.

ولقد كان لهم في أخذه وفي إقامته للناس والاقتصاص منه وفي بَيْع ما ظهر من رِباعِه وحدائقه وسائرِ أموالِه وفي حَبْسه بما بَقِي عليه وفي طَمرِه حتى لا يُحسَّ بِذكرِه ما يُغنيهم عن قَتْله إن كان قد رَكِب كل ما قذفوه به وادَّعَوه عليه، وهذا كله بحضرة جلَّة المهاجرِين والسلف المُقدَّمِين والأنصار والتابعِين.

ولكنَّ الناس كانوا على طبقاتٍ مختلفة ومراتبَ متباينةٍ: فمن قاتلٍ، ومن شاد على عضُده، ومن خاذلٍ عن نُصرته، والعاجز ناصرٌ بإرادته ومُضيعٌ بحُسنِ نيَّته، وإنما الشك منا فيه وفي خاذلِيه ومن أراد عزلَه والاستبدالَ به. فأمَّا قاتلُه والمُعين على دمِه والمُريد لذلك منه، فضُلَّالٌ لا شك فيهم، ومُرَّاقٌ لا امتراءَ في حُكمِهم. على أن هذا لم يَعدُ منهم الفجور: إما على سوء تأويل، وإما على تعمُّدٍ للشقاء. ثم ما زالت الفتن مُتصلةً والحروبُ مترادفةً، كحرب الجمل وكوقائع صفين وكيوم النهروان، وقبل ذلك يوم الزابوقة، وفيه أُسِر ابن حنيف وقُتل حكيم بن جبلة، إلى أن قَتل أشقاها١ عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، فأسعده الله بالشهادة وأوجب لقاتله النار واللعنة. إلى أن كان من اعتزالِ الحَسنِ رضي الله عنه الحربَ وتَخليتِه الأمور عند انتثارِ أصحابِه وما رأى من الخَلَلِ في عسكره وما عَرفَ من اختلافِهم على أبيه وكثرةِ تَلوُّنِهم عليه. فعندها استوى معاوية على المُلك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المُسلمِين من الأنصار والمُهاجرِين في العام الذي سمَّوه «عام الجماعة»، وما كان عامَ جماعةٍ بل كان عامَ فُرقةٍ وقهرٍ وجَبريةٍ وغَلَبة، والعام الذي تحوَّلَت فيه الإمامة مُلكًا كِسرَويًّا والخلافة مَنصبًا قَيصَريًّا، ولم يَعدُ ذلك أجمع الضَّلال والفِسق. ثم ما زالت معاصيه من جِنسِ ما حكينا وعلى منازلِ ما رَتَّبنا حتى رَدَّ قَضِيةَ رسول الله ردًّا مكشوفًا وجَحَد حُكمه جَحدًا ظاهرًا في وَلَد الفراش وما يَجِب للعاهر، مع إجماع الأُمَّة على أن سُمية لم تكن لأبي سفيان فراشًا، وأنه إنما كان بها عاهِرًا، فخرج بذلك من حكم الفُجَّار إلى حُكم الكُفَّار.

وليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفيء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جِنس جَحْد الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة. وسواءٌ في بابِ ما يستحق من الكفار جحدُ الكِتاب ورَدُّ السنة إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره، إلا أن أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أَشَد.

فهذه أول كَفْرةٍ كانت من الأُمَّة، ثم لم تكن إلا فيمن يدَّعي إمامتها والخلافة عليها. على أن كثيرًا من أهل ذلك العصر قد كفروا بِتركِ إِكفارِه. وقد أَربَت عليهم نابتةُ عَصرِنا ومُبتدعةُ دَهرِنا فقالت: لا تَسبُّوه فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة، ومن يُبغِضه فقد خالف السُّنة. فزعَمَت أن من السنة تَرْكَ البراءة ممن جَحَد السُّنة!

ثم الذي كان من يزيدَ ابنِه ومن عُمَّاله وأهلِ نُصرتِه، ثم غزو مكة ورمي الكعبة واستباحة المدينة، وقَتْل الحُسين رضي الله عنه في أكثرِ أهلِ بيته مصابيحِ الظلامِ وأوتادِ الإسلام، بعد الذي أعطى من نفسه ومن تفريق أتباعه والرجوع إلى داره وحَرَمِه أو الذهاب في الأرض حتى لا يُحس به أو المقام حيث أُمر به، فأبَوا إلا قَتلَه والنزولَ على حُكمهم. وسواءٌ قتل نفسه بيده أو أسلمها إلى عدوه وخيَّر فيها من لا يَبرُد غليله إلا بشُربِ دمه. فاحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحُرمة ليس بجحد، كيف تقولون في رمي الكعبة وهدم البيت الحرام وقبلة المسلمين؟ فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المُتحرِّز به والمُتحصِّن بحيطانه! أفما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن يُعطِي بيده! وأيُّ شيءٍ بقي من رجلٍ قد أُخِذَت عليه الأرض إلا مَوضِع قدَمه! واحسبوا ما رَوَوا عليه من الأشعار التي قولُها شِركٌ والتمثُّلُ بها كفرٌ شيئًا مصنوعًا، كيف نصنع بنقر القَضيب بين ثنيتَي الحُسين رضي الله عنه! وحَمْل بنات رسول الله حواسِرَ على الأقتاب العارية والإبِلِ الصعاب، والكَشفِ عن عورة عليِّ بن الحسين عند الشك في بلوغه على أنهم إن وجدوه وقد أنبت قتلوه وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المُسلمِين بذراري المشركين؟! وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته: دعوني أقتله فإنه بقية هذا النسل فأَحسِم به هذا القَرن وأُمِيت به هذا الداء وأقطع به هذه المادة …؟!

خَبِّرونا: علام تدل هذه القسوة وهذه الغلظة بعد أن شَفَوا أنفسهم بقتلهم ونالوا ما أحبوا فيهم؟ أتدلُّ على نَصَبٍ وسوءِ رأيٍ وحِقدٍ وبغضاء ونفاق، وعلى يقينٍ مدخول وإيمانٍ مخروج! أم تدلُّ على الإخلاص وعلى حب النبي والحفظ له وعلى براءة الساحة وصحَّة السريرة! فإن كان على ما وصفنا لا يَعدُو الفِسق والضَّلال، وذلك أدنى مَنازِله. فالفاسِقُ ملعونٌ ومن نَهَى عن شَتمِ الملعون فَملعُون.

وزعَمَت نابتةُ عصرِنا ومُبتدعةُ دهرِنا أن سبَّ وُلاة السوء فتنة، ولَعنَ الجَوَرَةِ بِدعة، وإن كانوا يأخذون السَّمِيَّ بالسمي والوَلِيَّ بالولي والقَرِيبَ بالقريب، وأخافوا الأولياء، وأَمَّنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار القُدرة والتهاوُن بالأُمَّة، والقَمْعِ للرعيَّة، والتُّهَم في غَيرِ مُداراةٍ ولا تَقيَّة، وإن عدا ذلك إلى الكفر وجاوز الضلال إلى الجحد، فذاك أضلُّ ممن كَفَّ عن شتمهم والبراءة منهم. على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل كمن استحقه بردِّ السنة وهدمِ الكعبة، وليس من استحق اسم الكفر بذلك كمن شبَّه الله بخلقه، وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير. والنابتةُ في هذا الوجه أَكفرُ من يزيد وأبيه وابن زياد وأبيه. ولو ثبت أيضًا على يزيد أن تمثل بقول ابن الزبعرى:

لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا
جَزَعَ الخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ
لَاسْتَطَارُوا واسْتَهَلُّوا فَرَحًا
ثُمَّ قَالُوا يَا يَزِيدُ لَا تَسَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الغُرَّ مِنْ سَادَاتِهِمْ
وعَدَلْنَاهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلْ

كان تجوير النابتي لربِّه وتشبيهُه بِخلقِه أَعظمَ من ذلك وأَفظَع. على أنهم مُجمِعون على أنه مَلعونٌ من قتل مؤمنًا، متعمِّدًا أو متأوِّلًا. فإذا كان القاتل سلطانًا جائرًا أو أميرًا عاصيًا لم يَستحِلوا سبه ولا خلعه ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء وقتل الفقهاء وأجاع الفقير وظلم الضعيف وعطَّل الحدود والثغور وشرب الخمور وأظهر الفجور …!

ثم ما زال الناس يَتسكَّعون مرةً ويُداهنونهم مرةً ويُقاربونهم مرةً ويُشاركونهم مرةً، إلا بقيَّة ممن عصمه الله تعالى ذِكرُه، حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعامِلُهما الحجاج بن يوسف ومولاه يزيد بن أبي مسلم، فأعادوا على البيت بالهدم وعلى حَرَم المدينة بالغزو، فهدموا الكَعبة، واستباحوا الحُرمة، وحوَّلوا قبلة واسط، وأَخَّروا صلاة الجمعة إلى مُغيرِبان الشمس. فإن قال رجلٌ لأحدهم: اتَّقِ الله فقد أخَّرتَ الصلاة عن وقتها! قتله على هذا القول جِهارًا غيرَ خَتلٍ، وعلانيةً غيرَ سِرٍّ. ولا يُعلَم القتل على ذلك إلا أَقبحَ من إنكاره، فكيف يكفَّر العبد بشيءٍ ولا يُكفَّر بأَعظَم منه!

وقد كان بعض الصالحين ربما وَعَظ الجبابرة وخوَّفهم العواقب وأراهم أن في الناس بقيةً يَنهَون عن الفساد في الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه، فصاروا لا يَتناهَون عن مُنكرٍ فعلوه. فاحسب تحويل القبلة كان غلطًا، وهدم البيت كان تأوُّلًا، واحسب ما رووا من كلِّ وجه أنهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم، باطلًا ومسموعًا مولدًا! واحسب وَسْمَ أيدي المُسلمِين ونقشَ أيدِي المسلمات ورَدَّهم بعد الهجرة إلى قُراهم، وقتلَ الفقهاء وسبَّ أئمةِ الهدى والنَّصَب لِعترةِ رسول الله ، لا يكون كفرًا! كيف تقول في جمعِ ثلاثِ صلواتٍ فيهن الجمعة، ولا يُصلُّون أُولاهن حتى تصير الشمس على أعالي الجُدران كالملاء المُعصفَر، فإن نطق مُسلمٌ خُبط بالسيف وأخذته العُمد وشُكَّ بالرماح؟! وإن قال قائلٌ: اتَّقِ الله! أخذَتْه العزة بالإثم، ثم لم يَرضَ إلا بنثرِ دماغِه على صدره وبِصلبِه حيث تراه عيالُه.

ومما يَدُل على أن القوم لم يكونوا إلا في طريق التمرُّد على الله عز وجل، والاستخفاف بالدين والتهاوُن بالمُسلمِين والابتذال لأهل الحق، أَكْلُ أمرائهم الطعام وشربهم الشراب على منابرهم أيام جُمعهم وجُموعهم. فعل ذلك حبيش بن دُلجة، وطارق مولى عثمان، والحجاج بن يوسف، وغيرهم. وذلك إن كان كُفرًا كُلُّه فلم يبلغ كُفرَ نابتةِ عَصرِنا ورَوافضِ دَهرِنا؛ لأن جِنسَ كُفرِ هؤلاء غيرُ كُفرِ أولئك.

كان اختلاف الناس في القَدَرِ على أن طائفةً تقول: كل شيءٍ بقضاءٍ وقدَر، وتقول طائفةٌ أخرى: كل شيءٍ بقضاء وقدَر إلا المعاصي. ولم يكن أحد يقول: إن الله يعذب الأبناء لِيغيظ الآباء، وإن الكفر والإيمان مخلوقان في الإنسان مثل العمى والبصر. وكانت طائفةٌ منهم تقول: إن الله يُرى. لا تزيد على ذلك. فإن خافت أن يُظنُّ بها التشبيه قالت: يُرى بلا كيف. تقزُّزًا من التجسيم والتصوير. حتى نبَتَت هذه النابتة وتكَلَّمَت هذه الرافضة فقالت جُسيمًا، وجعلت له صورةً وحدًّا، وأكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير. ثم زعم أكثرهم أن كلام الله حَسَنٌ وبَيِّنٌ وحجةٌ وبرهانٌ، وأن التوراة غير الزبور، والزبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمران، وأن الله تَولَّى تأليفه وجعلَه بُرهانَه على صِدْق رسوله، وأنه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن يَنقُص منه نقص، ولو شاء أن يُبدِّله بدله، ولو شاء أن ينسخه كله بغيره نَسَخه، وأنه أنزله تنزيلًا، وأنه فصَّله تفصيلًا، وأنه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أن الله مع ذلك كله لم يخلقه. فأَعطَوا جميعَ صِفاتِ الخَلقِ، ومنعوا اسم الخلق.

والعَجَب أن الخَلْقَ عند العرب إنما هو التقدير نفسه؛ فلذا قالوا: خلق كذا وكذا؛ ولذلك قال: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وقال: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، وقال: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، قالوا: صنعه وقدَّره وأنزله وفصَّله وأحدثه، ومنعوا: خلقه. وليس تأويل خَلَقه أكثر من قَدَّره. ولو قالوا بدل قولهم: قدَّره ولم يخلُقْه: خَلَقه ولم يُقدِّره، ما كانت المسألة عليهم إلا من وجهٍ واحد.

والعجب أن الذي منعه بزعمه أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنه ليس بمخلوق! وليس ذلك يَهُمُّ، ولكن لما كان الكلام من الله تعالى عندهم على مِثلِ خُروج الصوت من الجوف وعلى جِهةِ تَقطيعِ الحروفِ وإعمالِ اللسان والشفتَين، ولمَّا كان على غير هذه الصورة والصفة فليس بكلام، ولما كُنَّا عندهم على غيرِ هذه الصفة، وكُنَّا لكلامنا غيرَ خالقِين: وجب أن الله عز وجل لكلامه غيرُ خالق؛ إذ كُنَّا غيرَ خالقِين لكلامنا. فإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقًا، وإن لم ُيقرُّوا بذلك بألسنتهم فذلك معناهم وقصدهم.

وقد كانت هذه الأمة لا تجاوز معاصيها الإثم والضلال، إلا ما حَكَيتُ لك عن بني أمية وبني مروان وعُمَّالهم، ومن لم يَدِن بإكفارهم، حتى نجَمَت (هذه) النوابتُ وتابعتها هذه العَوامُّ. فصار الغالب على هذا القرن الكُفر، وهو التشبيهُ والجَبر. فصار كُفرُهم أَعظَمَ من كُفرِ من مَضى في الأعمال التي هي الفِسق، (وكانوا) شُركاءَ من كَفَر منهم بِتولِّيهم وتَرْكِ إِكفارِهم. قال الله عز وجل من قائل: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ.

وأرجو أن يكون الله قد أغاث المُحقِّين ورَحِمَهم وقوَّى ضعفهم وكثَّر قلتهم حتى صار ولاةُ أمورِنا في هذا الدهر الصعب والزمن الفاسد أَشدَّ استبصارًا في التشبيه من عِلِّيَّتنا وأَعلَم بما يلزم فيه مِنَّا وأَكشَف للقناع من رؤسائنا، وصادفوا الناس وقد انتظموا مَعانِيَ الفسادِ أَجمَعَ وبلغوا غايات البدع، ثم قَرَنوا بذلك العصبية التي هلك بها عالمٌ بعد عالمٍ، والحميَّة التي لا تُبقي دينًا إلا أفسًدَته، ولا دُنيا إلا أهلَكَتها. وهو ما صارت إليه العجمُ من مَذهبِ الشعوبية، وما قد صار إليه الموالي من الفخر على العجم والعرب. وقد نَجَمَت من الموالي ناجمةٌ ونَبتَت منهم نابتةٌ تزعم أن المولى بولائه قد صار عربيًّا، لقول النبي : «مولى القوم منهم.» ولقوله: «الولاء لُحْمةٌ كلُحمةِ النسبِ لا يُباع ولا يُوهَب».

قال: فقد عَلِمنا أن العجم حين كان فيهم الملك والنبوة كانوا أشرف من العرب، ولما حُوِّل ذلك إلى العرب صارت العرب أَشرَف منهم.

قالوا: فنحن معاشرَ الموالي بقديمنا في العجم أَشرفُ من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العب أَشرفُ من العجم، وللعربِ القديمُ دون الحديث، ولنا خَصلتان وافرتان فينا جميعًا، وصاحب الخَصلتَين أَفضلُ من صاحب الخصلة. وقد جعل الله المولى بعد أن كان عجميًّا عربيًّا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيًّا بحلفه، وجعل إسماعيل بعد أن كان أعجميًّا عربيًّا. ولولا قول النبي : «إن إسماعيل كان عربيًّا.» ما كان عندنا إلا أعجميًّا؛ لأن الأعجمي لا يصير عربيًّا كما أن العربي لا يصير أعجميًّا. فإنما علمنا أن إسماعيل صيَّره الله عربيًّا بعد أن كان أعجميًّا بقول النبي ، فكذلك حكم قوله: مولى القوم منه، وقوله: الولاء لحمة.

قالوا: وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام أبًا لمن لم يلد، كما جعله أبًا لمن ولد. وجعل أزواج النبي أمهات المُؤمنِين، ولم يلدن منهم أحدًا. وجعل الجار والد من لم يلد. في قولٍ غيرِ هذا كثيرٍ قد أتينا عليه في موضعه.

وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشر من المُفاخَرة، وليس على ظهرها إلا فخورٌ — إلا قليل — وأي شيء أغيظُ من أن يكون عبدك يزعم أنه أَشرفُ منك! وهو مقرٌّ بأنه صار شريفًا بعتقك إياه؟

وقد كَتبتَ — مدَّ الله في عمرك — كُتُبًا في مفاخرة قحطان وفي تفضيل عدنان، وفي رد الموالي إلى مكانهم في الفضل والنقص، وإلى قدر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشرف، وأرجو أن يكون عدلًا بينهم وداعيةً إلى صلاحهم ومُنبهةً عليهم ولهم. وقد أَرَدتُ أن أُرسل بالجزء الأول إليك ثم رأيتُ ألَّا يكون إلَّا بعد استئذانك واستئمارك والانتهاء في ذلك إلى رغبتك، فرأيك فيه موفَّق إن شاء الله عز وجل وبه الثقة.

١  أشقاها: هو عبد الرحمن بن ملجم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤