من كتاب فضل هاشم على عبد شمس

قال أبو عثمان:

إن أشرف خصالِ قريشٍ في الجاهلية: اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة، وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى، دون بني عبد شمس. على أن معظم ذلك صار شرفه في الإسلام إلى بني هاشم؛ لأن النبي لما مَلَك مكة صار مفتاح الكعبة بيده فدفعه إلى عثمان بن طلحة، فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح لا إلى من دُفع إليه. وكذلك دفع رسول الله إلى مُصعب بن عمير (اللواء)، فالذي دَفَع اللواء إليه وأخذه مصعب من يدَيه أَحقُّ بشرفه وأَوْلى بمجده، وشَرفُه راجعُ إلى رهطه من بني هاشم. قال: وكان محمد بن عيسى المخزومي أميرًا على اليمن فهجاه أُبيُّ بن مُدْلجٍ، فقال:

قُلْ لِابْنِ عِيسَى المُسْتَغِيـ
ـثِ مِنَ السُّهُولَةِ بِالوُعورَةْ
النَّاطِقِ العَوْرَاءَ فِي
جُلِّ الأُمُورِ بِلَا بَصِيرَةْ
وُلْدُ المُغِيرةِ تِسْعَةٌ
كَانُوا صَنَادِيدَ العَشِيرَةْ
وأَبُوكَ عاشِرُهُمْ كَمَا
نَبَتَتْ مَعَ النَّخْلِ الشَّعِيرَةْ
إنَّ النُبُوَّةَ والخِلَا
فَةَ والسِّقَايَةَ والمَشُورَةْ
فِي غَيْرِكُمْ فاكْفُفْ إِلَيْـ
ـكَ يَدًا مُجَذَّمَةً قَصِيرَةْ

قال: فانبرى له (شاعرٌ) من ولد كُرَيْزِ بن حبيب بن عبدِ شمس، وكان مع محمد بن عيسى باليمن، يهجو عنه ابنَ مُدلجٍ في كلمة له طويلة، قال فيها:

لَا لِوَاءٌ يُعَدُّ بِابْنِ كُرَيْزٍ
لَا وَلَا رِفْدُ بَيْتِهِ ذِي السَّنَاءِ
لَا حِجَابٌ وَلَيْسَ فيكم سِوَى الـ
ـكِبْرِ وَبُغْضِ النَّبِيِّ والشُّهَدَاءِ
بَيْنَ حَاكٍ ومُخْلجٍ وطَرِيدٍ
وقَتِيلٍ يَلْعَنْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ
ولَهُمْ زَمْزَمٌ وجِبْرَائيـ
ـلُ ومَجْدُ السِّقَايَةِ الغَرَّاءِ

قال أبو عثمان: فالشهداء: عليٌّ وحمزة وجعفر. والحاكي والمُخلجُ: هو الحكم بن أبي العاص، كان يحكي مشية رسول الله فالتفت يومًا فرآه فدعا عليه، فلم يزل مُخلجَ المشية عقوبةً من الله تعالى. والطريد: اثنان: الحكم بن أبي العاص ومُعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وهما جَدَّا عبد الملك بن مروان من قِبَلِ أمه وأبيه، وكان النبي طرد مُعاوية بن المغيرة هذا من المدينة وأجَّله ثلاثًا، فحيَّره الله ولم يزل يَتردَّد في ضلاله حتى بعث في أثره عليًّا وعمَّارًا فقتلاه. فأما القتلى فكثير، نحو: شيبة وعتبة ابنَي ربيعة، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، وعقبة بن أبي مُعيط، والعاص بن سعيد بن أمية، ومعاوية بن المُغيرة، وغيرهم.

قال أبو عثمان: وكان اسم هاشم عَمْرًا، وهاشمٌ لَقَب. وكان أيضًا يقال له: القمر، وفي ذلك يقول مَطْرُودٌ الخُزَاعِيُّ:

إِلَى القَمَرِ السَّارِي المُنِيرِ دَعَوْتُهُ
وَمُطْعِمِهِم فِي الأَزْلِ مِنْ قِمَعِ الجَزْرِ

قال ذلك في شيءٍ كان بينه وبين بعض قريش، فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى هاشم. وقال ابنُ الزِّبعرى:

كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَلَّقَتْ
فالمُحُّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الرَّائِشُونَ ولَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ
وَالقَائِلُونَ هَلُمَّ لِلأضْيَافِ
عَمْرُو العُلَا هَشَمَ الثَّريدَ لِقَوْمِهِ
ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتونَ عِجَافُ

فعَمَّ — كما ترى — أهل مكة بالأزل والعجف وجعله الذي هَشَم لهم الخبز ثريدًا، فغَلَب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يُعرف إلا به. وليس لعبدِ شمسٍ لقبٌ كريم ولا اشتُق له من صالح أعماله اسمٌ شريف، ولم يكن لعبدِ شمسٍ ابنٌ يأخذ بضَبْعه ويرفع من قَدْره ويزيد في ذكره. ولهاشمٍ عبدُ المطلب سيد الوادي غير مُدافَع، أجمل الناس جمالًا وأظهرهم جودًا وأكملهم كمالًا، وهو صاحب الفيل والطير الأبابيل، صاحب زمزم وساقي الحجيج. وولد عبد شمسٍ أمية بن عبد شمس، وأمية في نفسه ليس هناك وإنما ذُكر بأولاده ولا لقب له. ولعبد المطلب لقبٌ شهيرٌ واسمٌ شريف: شيبة الحمد. قال مطرود الخزاعي في مدحه:

يَا شَيْبَةَ الحَمْدِ الذِي تُثْنَى لَهُ
أيَّامهُ مِنْ خَيْرِ ذُخْرِ الذَّاخِرِ
المَجْدُ مَا حَجَّتْ قُرَيْشٌ بَيْتَهُ
وَدَعَا هَدِيلٌ فَوْقَ غُصْنٍ ناخِرِ
واللهِ لا أنسَاكُمُ وفِعَالَكمْ
حَتَّى أُغَيَّبَ فِي سَفَاةِ القَابِرِ

وقال حذافة بن غانم العدَويُّ وهو يمدح أبا لهب ويوصي ابنه خارجة بن حُذَافة بالانتماء إلى بني هاشم:

أَخَارِجُ إِمَّا أهْلِكنَّ فَلَا تَزَلْ
لهم شَاكِرًا حَتَّى تُغَيَّبَ فِي القَبْرِ
بَني شَيْبَةَ الحمدِ الكريمِ فِعالُهُ
يُضيءُ ظَلَامَ اللَّيْلِ كالقَمَرِ البَدْرِ
لِسَاقِي الحَجِيجِ ثُمَّ للشَّيْخِ هَاشِمٍ
وعَبْدِ مَنافٍ ذَلِكَ السَّيدِ الغَمْرِ
أبو عُتْبَة المُلْقِي إليَّ جِوارَهُ
أَغَرُّ هِجَانُ اللَّوْنِ مِنْ نَفَرٍ غُرِّ
أبوهم قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجمِّعًا
بِهِ جَمَعَ اللهُ القَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ

فأبو عتبة هو أبو لهب بن عبد العزَّى بن عبد المطلب بن هاشم، وابناه عُتبة وعتيبة. وقال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك:

لَا تَرَى فِي النَّاسِ حَيًّا مِثْلنا
مَا خَلَا أَوْلَاد عَبْدِ المُطَّلِبْ

وإنما شَرُف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي، وبني ابنه أمية بن عبد شمس. وهاشم شَرُف بنفسه وبأبيه عبدِ منافٍ وبابنه عبد المطلب. والأمر في هذا بَيِّنٌ، وهو كما أوضحه الشاعر في قوله:

إنما عَبْدُ مَنافٍ جَوْهَرٌ
زَيَّنَ الجَوْهَرَ عَبْدُ المُطَّلِبْ

قال أبو عثمان: ولسنا نقول إن عبد شمس لم يكن شريفًا في نفسه، ولكن الشرف يتفاضل، وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه وأجرى على يدَيه وأظهر من كرامته ما لا يُعرف مثله إلا لِنبيٍّ مُرسَل، وإن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل وتوعُّده إياه برب الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصْرة وعيده بحبس الفيل وقَتْل أصحابه بالطير الأبابيل وحجارة السِّجِّيل حتى تُركوا كالعَصْف المأكول، لأعجب البرهانات وأسنى الكرامات، وإنما كان ذلك إرهاصًا لنبوة النبي ، وتأسيسًا لما يريد الله به من الكرامة، وليجعل ذلك البهاء متقدِّمًا له ومردودًا عليه، وليكون أَشهَر في الآفاق وأَجلَّ في صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة، وأَجدَر أن يَقهَر المُعانِد ويَكشف غباوة الجاهل.

وبعد، فمن يناهض أو يناضل رجالًا ولدوا محمدًا ؟ ولو عزلنا ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشريٌّ ولا عدله شيء. ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله عبد المطلب من تفجُّر العيون وينابيع الماء من تحت كَلكَل بعيره وأخفافه بالأرض القسي، وبما أعطى يوم المساهمة وعند المقارعة من الأمور العجيبة والخصال البائنة، لقلنا، ولكنا أحببنا ألَّا نحتج عليكم إلا بالموجود في القرآن الحكيم والمشهور في الشعر القديم الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة ورُواة الأخبار وحُمَّال الآثار. قال: ومما هو مذكور في القرآن — عدا حديث الفيل — قوله تعالى: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، ولقد أَجمَعَت الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشمُ بنُ عبدِ مناف. فلما مات قام أخوه المطلب مقامه، فلما مات قام عبدُ شمس مقامه، فلما مات قام نوفلٌ مقامه — وكان أصغرهم. والإيلاف هو أن هاشمًا كان رجلًا كثير السفر والتجارة، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وشَرِك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن نحو العباهلة باليمن واليكسوم من بلاد الحبشة ونحو ملوك الروم بالشام، فجعل لهم معه ربحًا فيما يَربَح وساق لهم إبلًا مع إبله فكفاهم مؤنة الأسفار على أن يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومُنصرَفه، فكان في ذلك صلاحٌ عامٌّ للفريقَين، وكان المقيم رابحًا والمسافر محفوظًا. فأَخصَبَت قريش بذلك وحَملَت معه أموالها وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية، وحَسُنَت حالها وطاب عيشها. قال: وقد ذكر حديث الإيلاف الحارث بن الحنش السلمي، وهو خالُ هاشمٍ والمطلب وعبدِ شمس، فقال:

إِنَّ أَخِي هَاشِمًا لَيْسَ أخَا وَاحِدِ
الآخِذِ الإيلَاف والقَائِمِ لِلقَاعِدِ

قال أبو عثمان: وقيل إن تفسير قول تعالى: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ هو خوفُ مَن كان هؤلاء الإخوة يَمُرُّون به من القبائل والأعداء وهم مُغترِبون ومعهم الأموال، وهذا هو ما فَسَّرْنا به الإيلاف آنفًا. وقد فَسَّره قومٌ بغير ذلك، قالوا: إن هاشمًا جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدُّونها إليه ليَحمِي بها أهل مكة؛ فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الغارات وطُلَّاب الطوائل كانوا لا يُؤمَنون على الحَرم، لا سيما وناسٌ من العرب كانوا لا يرون للحَرم حُرمةً ولا للشهر الحرام قدرًا، مثل طَيء وخَثْعمٍ وقُضَاعَة وبعض بلحَرْثِ بن كَعْبٍ. وكيفما كان الإيلاف فإن هاشمًا كان القائم به دون غيره من إخوته.

قال أبو عثمان: ثم حِلْفُ الفضول وجلالته وعظمته، وهو أشرفُ حلفٍ كان في العرب كلها وأكرم عَقدٍ عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام. لم يكن لبني عبدِ شمسٍ فيه نصيب. قال النبي وهو يذكر حلف الفضول: «لقد شَهِدتُ في دار عبد الله بن جُدْعان حِلفًا لو دُعيتُ إلى مثله في الإسلام لأَجَبتُ.» ويكفي في جلالته وشرفه أن رسول الله شَهِده وهو غلام. وكان عُتْبَةُ بن رَبيعة يقول: لو أن رجلًا خرج مما عليه قومه لدَخَلتُ في حلف الفضول لما أرى من كماله وشرفه ولما أعلم من قدْره وفضيلته. قال: ولِفَضل ذلك الحِلف وفضيلة أهله سُمِّيَ «حِلفُ الفُضُول»، وسُمِّيَت تلك القبائل «الفضول». فكان هذا الحِلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم بن مرة، تعاقدوا في دار ابن جُدعان في شهرٍ حرامٍ قيامًا يتماسحون بأكُفِّهم صُعدًا: لَيكونُن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بَلَّ بحرٌ صُوفة، وفي التآسِي في المعاش، والتَّساهُم بالمال. وكانت النباهة في هذا الحلف للزُّبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جُدعان. أما ابن جُدعان فلأن الحلف عُقد في داره، وأمَّا الزُبير فلأنه هو الذي نهض فيه ودعا إليه وحث عليه، وهو الذي سمَّاه «حلف الفضول»؛ وذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم ثَمنَ سلعته قد أَوفَى على أبي قُبيس قبل طلوع الشمس رافعًا عَقيرته، وقريش في أنديتها، قائلًا:

يَا لَلرِّجَالِ لِمَظْلُومٍ بَضَاعَتَهُ
بِبَطْنِ مَكَّةَ نَاِئي الحَيِّ والنَّفَرِ
إنَّ الحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ حَرَامَتُهُ
ولَا حَرَامَ لِثَوْبَى لابِس الغَدَرِ

حَمِي وحَلَف ليَعقِدن حلفًا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظُلم الضعيف، والقاطن من عُنف الغريب. ثُمَّ قال:

حَلَفْتُ لنَعْقِدَنْ حِلْفًا عَليْهم
وإنَ كُنَّا جَميعًا أَهْلَ دَار
نُسَمِّيه الفُضُولَ إذَا عَقَدْنا
يَعَزُّ به الغريبُ لدَى الجِوَار
ويعلمُ مَنْ يَطوفُ البَيْتَ أنَّا
أُبَاةُ الضَّيْم نهْجُرُ كلَّ عار

فبنو هاشم هم الذين سَمَّوا ذلك الحلف «حلف الفضول»، وهم كانوا سببه والقائمِين به دون جميع القبائل العاقدة له والشاهدة لأمره، فما ظنك بمن شهده ولم يقُم بأمره؟

قال أبو عثمان: وكان الزبير بن عبد المُطَّلب شجاعًا أبيًّا وجميلًا بهيًّا، وكان خطيبًا شاعرًا وسيدًا جوادًا، وهو الذي يقول:

وَلَوْلَا الحُمْسُ لَمْ يَلْبَسْ رِجَالٌ
ثِيابَ أعِزَّةٍ حَتَّى يَمُوتُوا
ثِيابهُمُ شِمالٌ أوْ عَبَاءٌ
بِهَا دَنَسٌ كَمَا دَنِسَ الحَمِيتُ
ولكِنَّا خُلِقْنا إذْ خُلِقْنا
لَنا الحَبرَاتُ والمِسْكُ الفَتِيتُ
وكأسٌ لوْ تُبِينُ لهُم كَلَامًا
لقَالَتْ إنَّما لهمُ سُبيْتُ
تُبِينُ لنَا القَذَى إنْ كانَ فِيها
رَصِينُ الحِلْم يَشْرَبُها هَبِيتُ
ويَقْطَعُ نَخْوَةَ المُخْتَالِ عَنَّا
رِقاقُ الحَدِّ ضرْبَتُهُ صَمُوتُ
بِكفِّ مُجَرِّبٍ لا عَيْبَ فِيهِ
إذا لَقِيَ الكَرِيهَةَ يَسْتَمِيتُ

قال: والزُبَيْرُ هو الذي يقول:

وَأَسْحَمُ مِنْ رَاحِ العِرَاقِ مُمَلَّأ
مُحِيطٌ عليْهِ الخيْشُ جَلْدٌ مَرَائِرُهْ
صَبَحْتُ بهِ طَلْقًا يُرَاحُ إلى النَّدَى
إذا مَا انْتَشَى لمْ يَخْتَصِرْهُ مُعَاقِرُهْ
ضَعِيفٌ بجَنْبِ الكأسِ قبْضُ بَنَانِه
كَلِيلٌ عَلَى جلْدِ النَّدِيمِ أَظافِرُهْ

قال: وبنو هاشم هم الذين رَدُّوا على الزُّبيدي ثَمَن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل. وأخذوا للبارقي ثَمَن سِلعته من أُبي بن خلف الجُمحي، وفي ذلك يقول البارقي:

وَيَأْبَى لَكمْ حِلْفُ الفُضُولِ ظُلَامَتِي
بَني جُمَحٍ والحَقُّ يُؤْخَذُ بالغَصْبِ

وهم الذين انتزعوا من نُبَيْه بن الحَجَّاج قَتولَ الحسناء بنت التاجر الخثعمي، وكان كابَرَه عليها حين رأى جمالها، وفي ذلك يقول نُبَيْه بن الحجاج:

وَخَشِيتُ الفُضُولَ حِينَ أَتَوْني
قَدْ أُرَاني ولَا أخَافُ الفُضُولَا
إنَّنِي والَّذِي يحجُّ له شُمْـ
ـطُ إيَادٍ وهَلَّلُوا تَهْلِيلًا
لبَرَاءٌ مِنِّي قُتَيْلَةُ يَا للنَّـ
اسِ هَلْ يَبْتَغُونَ إلَّا القَتُولَا

وفيها أيضًا يقول:

لَوْلَا الفُضُولُ وأنهُ
لَا أمْنَ مِنْ عَدْوَائِهَا
لدَنوْتُ مِنْ أبْيَاتِها
وَلَطُفْتُ حَوْلَ خِبَائِهَا

في كلمته التي يقول فيها:

حَيِّ البَخِيلَةَ إذْ نَأَتْ
مِنَّا عَلَى عُدَوَائِهَا
لَا بِالفِرَاقِ تُنِيلنَا
شَيْئًا ولَا بِلِقَائِها
حَلَّتْ بِمَكَّةَ حَلَّةً
فِي مَشْيِهَا وَوِطَائِهَا

في رجالٍ كثيرٍ انتزعوا منهم الظُّلامات، ولم يكن يَظلم بمكة إلا رجالٌ أقوياء ولهم العدد والعارضة، منهم من ذكرنا قصته.

قال أبو عثمان: ولهاشمٍ أُخرى لا يعُد أحدٌ مثلها ولا يأتي بما يتعلق بها. وذلك أن رؤساءَ قبائلِ قريش خرجوا إلى حرب بني عامرٍ مُتساندِين، فكان حرب بن أمية على بني عبدِ شمس، وكان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم، وكان عبد الله بن جُدعان على بني تيم، وكان هشام بن المغيرة على بني مخزوم. وكان على كل قبيلة رئيسٌ منها، فهم متكافئون في التسانُد ولم يُحقِّق واحدٌ منهم الرئاسة على الجميع. ثُمَّ آب هاشم بما لا تبلغه يدُ مُتناوِل ولا يطمع فيه طامع؛ وذلك أن النبي قال: «شَهِدتُ الفِجَار وأنا غلام فكنتُ أنبل فيه على عمومتي.» فنفى مقامه عليه الصلاة والسلام أن تكون قريش هي التي فَجَرت، فسُمِّيَت تلك الحرب «حرب الفجِار»، وثبت أن الفجور إنما كان ممن حاربهم. وصاروا بيُمنه وبركته ولما يريد الله من إعزاز أمره وإعظام الغالبِين العالِين. ولم يكن الله لِيُشهِده فَجْرةً ولا غَدْرةً! فصار مَشهَده نصرًا وموضعه فيها حُجَّةً ودليلًا.

قال أبو عثمان: وشَرفُ هاشمٍ مُتصِل، من حيث عَدَدتَ كان الشرف معه كابرًا عن كابر. وليس بنو عبدِ شمس كذلك، فإن الحَكَم بن أبي العاص كان عاريًا في الإسلام ولم يكن له سناء في الجاهلية. وأمَّا أُميَّة فلم يكن في نفسه هناك، وإنما رفعه أبوه، وكان مَضْعوفًا وكان صاحب عِهَار، يدل على ذلك قول نفيل بن عدي جَدِّ عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم، فنَفَّر عبد المطلب وتَعجَّب من إقدامِ حربٍ عليه وقال له:

أبُوكَ مُعَاهِرٌ وأبُوهُ عَفٌّ
وذَادَ الفِيلَ عَن بَلَدٍ حَرَامِ

وذلك أن أُميَّة كان تَعرَّض لامرأةٍ من بني زهرة فضربه رجلٌ منهم بالسيف، فأراد بنو أمية ومن تَبِعَهم إخراج بني زهرة من مكة، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي، وكانوا أخواله، وكان منيع الجانب شديد العارضة حَمِيَّ الأنف أبيَّ النفس، فقام دونهم وصاح: «أَصبِحْ لَيلُ.» فذَهبَت مثلًا. ونادى: «الآن الظاعن مُقيم.» وفي هذه القصة يقول وَهْبُ بن عبد مناف بن زُهْرَة:

مَهْلًا أُمَيُّ فَإنَّ البَغْيَ مَهْلَكَةٌ
لَا يُكْسِبَنَّكَ يَوْمٌ شَرُّهُ ذَكرُ
تَبْدُو كوَاكِبه والشَّمْسُ طَالِعَةٌ
يُصَبُّ فِي الكَأسِ مِنْهُ الصَّابُ والمَقِرُ١

قال أبو عثمان: وصنع أمية في الجاهلية شيئًا لم يَصنَعه أحدٌ من العرب، زوَّج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه، فأولدها أبا مُعيط بن أبي عمرو بن أمية. والمَقيتون في الإسلام هم الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم، فأمَّا أن يتزوجها في حياة الأب ويبني عليها وهو يراه فإنه شيءٌ لم يكن قط.

قال أبو عثمان: وقد أقرَّ مُعَاويةُ على نفسه ورهطه لبني هاشم حين قيل له: أيهما كان أَسوَد في الجاهلية، أنتم أم بنو هاشم؟ فقال: كانوا أَسوَد منا واحدًا، وكنا أكثر منهم سَيدًا. فأَقَر وادَّعى، فهو في إقراره بالنقص مخصوم، وفي ادِّعائه الفضل خصيم. وقال جحشُ بن رئاب الأسدي حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب: والله لأَتزوَّجن ابنة أكرم أهل هذا الوادي ولأُحالِفنَّ أَعزَّهم. فتزوج أميمة بنت عبد المطلب وحالف أبا سفيان بن حرب. وقد يمكن أن يكون أَعزُّهم ليس بأَكرَمِهم، ولا يمكن أن يكون أَكرمُهم ليس بأَعَزِّهم. وقد أَقَرَّ أبو جهل على نفسه ورهطه من بني مخزوم حين قال: تحاربنا نحن وهم حتى إذا صِرْنا كهاتَين جاءنا نبي. فأقر بالتقصير ثُم ادَّعى المساواة، ألا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم ثم ادَّعى أنه لحقهم؟ فهو مخصومٌ في إقراره، خصيمٌ في دعواه. وقد حكم لهاشمٍ دَغفَلُ بن حَنْظَلَةَ النَّسَّابة حين سأله معاوية عن بني هاشم فقال: هم أَطعمُ للطعام وأَضربُ للهام. وهاتان خَصلتان يجمعان أكثر الشرف.

قال أبو عثمان: والعجب من مُنافَرة حرب بن أمية عبدَ المطلب بن هاشم وقد لطم حَربٌ جارًا لخلف بن أسعد جَدِّ طلحة الطلحات فجاء جاره فشكا ذلك إليه، فمشى خلف إلى حربٍ وهو جالس عند الحِجر فلَطَم وجهه عَنوةً من غير تحاكُم ولا تراضٍ، فما انتطح فيه عنزان. ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته فحالفه أبو الأُزيهِر الدوسي، وكان عظيم الشأن في الأزد، وكان بينه وبين بني الوليد بن المغيرة مُحاكمةٌ في مُصاهرةٍ كانت بين الوليد وبينه، فجاءه هشام بن الوليد وأبو الأُزيهر قاعدٌ في مقعد أبي سفيان بذي المَجاز، فضرب عنقه، فلم يدرك به أبو سفيان عَقلًا ولا قَودًا في بني المغيرة. وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:

غدَا أهْلُ حِصْنَي ذِي المجَازِ بسُحْرَةٍ
وجَارُ ابن حَرْبٍ لَا يَرُوحُ ولا يَغْدُ
كسَاكَ هِشامُ بنُ الوَلِيدِ ثِيَابَهُ
فأَبْل وأخْلِقْ مِثلهَا جُدُدًا بَعْدُ

قال أبو عثمان: فإن قالت أمية: لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أربعة خلفاء في نَسَق، قلنا لهم: ولبني هاشم: هارون الواثق بن محمدٍ المعتصم بن هارون الرشيد بن محمدٍ المهدي بن عبد الله المنصور بن محمدٍ الكامل بن عليٍّ السَّجَّاد — كان يصلي كل يومٍ وليلةٍ ألف ركعة فكان يقال له السَّجَّاد لعبادته وفضله، وكان أجمل قرشيٍّ على وجه الأرض وأوسمه، وُلد ليلة قتل علي بن أبي طالب فسُمِّيَ باسمه وكُني بكنيته، فقال عبد الملك: لا والله لا أحتمل لك الاسم والكنية فغيِّر أحدهما. فغيَّر الكنية فصيَّرها أبا محمد — ابن عبد الله وهو البُحر وهو حَبر قريش وهو المُفقَّه في الدين المُعلَّم التأويل، ابن العباس ذي الرأي وحليم قريش، ابن شيبة الحمد وهو عبد المطلب سيد الوادي، ابن عمرو وهو هاشم هشم الثريد وهو القمر سُمِّيَ بذلك لجماله ولأنهم كانوا يقتدون به ويهتدون برأيه، ابن المغيرة وهو عبد مناف بن زيد وهو قصي وهو مُجمِّع. فهؤلاء ثلاثة عشر سيدًا لم يخرم منهم واحد ولا قصر عن الغاية، وليس منهم واحدٌ إلا وهو مُلقَّب بلقب اشتُقَّ له من فعله الكريم، ومن خُلقه الجميل، وليس منهم إلا خليفة أو موضع للخلافة أو سيد في قديم الدهر مُتَّبَع أو ناسكٌ مُقدَّم أو فقيهٌ بارع أو حليمٌ ظاهرُ الركَانَة. وليس هذا لأحد سواهم. ومنهم خمسةُ خلفاء في نَسَق، وهم أكثر مما عَدَّتْه الأُموية. ولم يكن مروان كالمنصور؛ لأن المنصور مَلَك البلاد ودوَّخ الأقطار وضبط الأطراف اثنتَين وعشرين سنة، وكانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله وإنما بقي في الخلافة تسعة أشهر حتى قتلته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية حين قال لابنها خالد من بعلها الأول: يا ابن الرطبة. ولئن كان مروان مستوجبًا لاسم الخلافة مع قلة الأيام وكثرة الاختلاف واضطراب البلدان فضلًا عن الأطراف، فابن الزبير أَوْلى بذلك منه؛ فقد كان ملك الأرض إلا بعض الأردن. ولكن سلطان عبد الملك وأولاده لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند القوم ما انقطع منه وأُخفِي موضع الوهن عند من لا علم له. وسِنُو المهدي كانت سِنِي سلامة، وما زال مُلك عبد الملك في انتقاضٍ وانتِكات، ولم يكن ملك يزيد كملك هارون، ولا ملك الوليد كملك المعتصم.

قال أبو عثمان: وتفخر عليهم بنو هاشم بأن سِنِي ملكهم أكثر ومُدَّته أطول، فإنه قد بَلغَت مدة مُلكهم إلى اليوم أربعًا وتسعين سنة. ويفخرون أيضًا عليهم بأنهم ملكوا بالميراث وبحق العُصبة والعُمومة، وأن مُلكهم في مَغرس نبوة، وأن أسبابهم غير أسباب بني مروان، بل ليس لبني مروان فيها سبب ولا بينهم وبينها نسب، إلا أن يقولوا إنَّا من قريش، فيُساووا في هذا الاسم قريش الظواهر؛ لأن رواية الراوي: «الأئمة من قريش.» واقعة على كل قريش. وأسباب الخلافة معروفة وما يَدَّعيه كل جيلٍ معلوم، وإلى كل ذلك قد ذهب الناس؛ فمنهم من ادَّعاه لعليٍّ لاجتماع القرابة والسابقة والوصية، فإن كان الأمر كذلك فليس لآل أبي سُفيان ولا لآل مروان فيها دعوى، وإن كانت إنما تُنال بالوراثة وتُسَتحَق بالعمومة وتُستوجَب بحق العُصبة فليس لهم أيضًا فيها دعوى، وإن كانت لا تنال إلا بالسوابق والأعمال والجهاد فليس لهم في ذلك قَدمٌ مذكور ولا يومٌ مشهور، بل كانوا إذ لم يكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ولم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع لكان أهون ولكان الأمر عليهم أيسر. قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي وفي محاربته له وإجلابه عليه وغزوه إياه، وعرفنا إسلامه كيف أسلم وإخلاصه كيف أخلص، ومعنى كلمته يوم الفتح حين رأى الجنود وكلامه يوم حُنين وقوله يوم صَعِد بلال على الكعبة فأَذَّن، على أنه إنما أسلم على يدَي العباس، والعباس هو الذي منع الناس من قتله وجاء به رديفًا إلى رسول الله وسأله فيه أن يُشرِّفه وأن يُكرِمه ويُنوِّه به. وتلك يدٌ بيضاء ونعمةٌ غرَّاء ومقامٌ مشهود، ويومُ حُنينٍ غير مجحود. فكان جَزاءَ بني هاشم من بنيه أن حاربوا عليًّا، وسمُّوا الحسن وقَتلوا الحسين، وحملوا النساء على الأقتاب حواسر، وكشفوا عن عورة عليِّ بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه كما يُصنع بذراري المُشركِين إذا دُخِلَت دُورهم عَنوة. وبعث معاوية بُسْرَ بن أرطاة إلى اليمن فقتل ابنَي عبيد الله بن العباس وهما غلامان لم يبلغا الحلم، وقتل عبيد الله بن زياد يوم الطَّفِّ تِسعةً من صُلبِ عليٍّ وسبعةً من صُلب عَقيل؛ ولذلك قال ناعيهم:

عيْنُ جُودِي بِعَبْرَةٍ وَعويْلِ
وانْدُبي إنْ نَدَبْتِ آل الرَّسُولِ
تِسْعَةٌ كُلُّهُمْ لِصُلْبِ عَليٍّ
قَدْ أُصيبُوا وسَبْعَةٌ لِعَقِيلِ

ثم إن بني أمية تزعم أن عقيلًا أعان معاوية على علي، فإن كانوا كاذبِين فما أَوْلاهم بالكذب، وإن كانوا صادقِين فما جازَوا عقيلًا بما صنع. وضُرِب عُنق مسلمِ بن عقيل صبرًا وغدرًا بعد الأمان، وقتلوا معه هانئٍ بن عروة لأنه آواه ونصره؛ ولذلك قال الشاعر:

فإنْ كُنْتِ لَا تَدْرِينَ مَا المَوْتُ فانْظُري
إلى هَانئٍ في السُّوق وَابْن عَقِيل
تَرَيْ بَطَلًا قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ
وآخرَ يَهوي مِنْ طِمَار قَتيل

وأكلت هندٌ كبد حمزة، فمنهم آكِلة الأكباد، ومنهم كَهف النفاق، ومنهم من نقر بين ثَنِيتَي الحسين بالقضيب، ومنهم القاتل يوم الحَرَّةِ عونَ بن عبد الله بن جعفر، ويوم الطفِّ أبا بكر بن عبد الله بن جعفر، وقَتل يوم الحرة أيضًا من بني هاشم: الفضل بن عباد بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب.

قال أبو عثمان: وقالت هاشمٌ لأُمية: قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل والتشريد لا لذنب أتيناه إليكم، ضربتم عليَّ بن عبد الله بن عباس بالسياط مرتَين على أن تزوج بنت عمه الجعفرية التي كانت عند عبد الملك، وعلى أن نحلتموه قَتْل سُليط، وسمَّمْتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ونبشتم زيدًا وصلبتموه وألقيتم رأسه في عَرْصَة الدار تُوطأ بالأقدام ويَنقر دماغَه الدَّجاج حتى قال القائل:

اطْرُدُوا الدِّيكَ عَنْ ذُؤَابَةِ زَيْدٍ
طَالما كانَ لا تَطَأْهُ الدَّجَاجُ

وقال شاعركم أيضًا:

صَلَبْنَا لَكُم زَيْدًا عَلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ
ولَمْ نَرَ مَهْدِيًّا عَلَى الجِذْعِ يُصْلَبُ
وقِسْتُمْ بِعُثْمَانَ عَلِيًّا سَفَاهَةً
وعُثْمَانُ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وأَطْيَبُ

فرُوي أن بعض الصالحِين من أهل البيت قال: اللهم إن كان كاذبًا فسلِّط عليه كلبًا من كلابك! فخرج يومًا بسفر له فعَرضَ له الأسد فافترسه. وقتلتم الإمام جعفر الصادق، وقتلتم يحيى بن زيد وسمَّيْتم قاتله ثائر مروان وناصر الدين. هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب — عن أمركم وقولكم — بعبد الله أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، وما صنع مروان بإبراهيم الإمام أدخل رأسه في جِراب نَورةٍ حتى مات. فإن أنشدتم:

أفَاضَ المَدَامِعَ قتْلَى كُدَى
وقتْلَى بكَثْوَةَ لمْ تُرْمَسِ
وبالزَّابِيَيْنِ نفوسٌ ثوَتْ
وأُخْرَى بِنَهْرِ أبِي فُطْرُسِ

أنشدنا نحن:

واذْكُروا مَصْرَعَ الحُسَيْن وزَيْدًا
وقَتِيلًا بجانِبِ المِهْرَاسِ
والقَتِيلَ الَّذِي بِنَجْرَانَ أَمْسَى
ثَاويًا بَيْنَ غُرْبةٍ وتَنَاسِ

وقد علمتم حال مروان أبيكم وضعفه، وأنه كان رجلًا لا فِقه له ولم يُعرف بالزهد ولا بالصلاح ولا برواية الآثار ولا بصُحبة ولا بِبُعد هِمَّة، وإنما وَلِي رُستاقًا من رساتيق دار أبجرد لابن عامر ثُمَّ وَلِي البحرَين لمعاوية. وقد كان جميع أصحابه ومن تابعه يبايع لعبد الله بن الزبير حتى رَدَّه عبيد الله بن زياد. وقال يَومَ مَرْجِ رَاهِطٍ والرءوس تَندُر عن كواهلها في طاعته:

ومَا ضَرَّهُمْ عِنْدَ حَيْنِ النُفُوسِ
أيُّ غلَامَيْ قُرَيْشٍ غلَبُ

وهذا قول من لا يستحق أن يلي ربعًا من الأرباع ولا خمسًا من الأخماس، وهو أحد من قَتلَته النساء لكلمةٍ كان حتفه فيها. وأمَّا أبوه الحكم بن أبي العاص فهو طريد رسول الله ولعينه والمُتخلِّج في مشيته الحاكي لرسول الله والمُتسمِّع عليه ساعة خلوته، ثُمَّ صار طريدًا لأبي بكر وعمر، امتنعا عن إعادته إلى المدينة ولم يقبلا فيه شفاعة عثمان، فلما وُلِّي أدخله فكان أعظم الناس شؤمًا عليه ومن أكبر الحُجج في قتله وخلعه من الخلافة.

فعبد الملك أبو هؤلاء الملوك الذين تفتخر الأُموية بهم أعرق الناس في الكفر؛ لأن أحد أبوَيه هذا والآخر من قِبَل أمه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص كان النبي طرده من المدينة وأَجَّله ثلاثًا فحيَّره الله حين خرج وبقي متردِّدًا متلدِّدًا حولها لا يهتدي لسبيله حتى أرسل في أثره عليًّا وعمَّارًا فقتلاه. فأنتم أعرق الناس في الكفر، ونحن أعرق الناس في الإيمان، ولا يكون أمير المؤمنين إلا أَوْلاهم بالإيمان وأَقدَمهم فيه.

قال أبو عثمان: وتفخر هاشم بأن أحدًا لم يجد تسعين عامًا لا طَواعِين فيها إلا منذ ملكوا. قالوا: لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الأمراء لعُمَّال الخراج بالتعليق والرهق والتجريد والتسهير والمسال والنورة والجورتَين والعذراء والجامعة والتشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرًا كثيرًا. وفي الطاعون يقول العماني الراجز يذكر دولتنا:

قَدْ رَفَعَ اللهُ رماحَ الجنِّ
وأَذْهَب التَّعْذِيب والتَّجَنِّي

والعرب تسمِّي الطواعين رماح الجن. وفي ذلك يقول الشاعر:

لعمْركَ ما خَشِيتُ عَلَى أُبَيٍّ
رِمَاحَ بَنِي مُقَيِّدَةِ الحِمَار
ولَكِنِّي خَشِيتُ عَلَى أُبَيٍّ
رِمَاحَ الجِنِّ أَوْ إيَّاكَ حَار

يقوله بعض بني أسد للحرث الغساني الملك.

قال أبو عثمان: وتفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة، ولم يُحوِّلوا القبلة، ولم يجعلوا الرسول دون الخليفة، ولم يختموا في أعناق الصحابة، ولم يُغيِّروا أوقات الصلاة، ولم يَنقُشوا أَكُف المُسلمِين، ولم يأكلوا الطعام ويشربوا على مِنبَر رسول الله ، ولم ينهبوا الحرم، ولم يطئوا المُسلِمات في دار الإسلام بالسِّباء.

قال أبو عثمان: ويفخر بنو العباس على بني مروان، وهاشم على عبد شمس، بأن المُلك كان في أيديهم فانتزعوه منهم وغلبوهم عليه بالبطش الشديد وبالحيلة اللطيفة، ثم لم ينزعوه إلا من أَيدِ أشجعهم شجاعةً وأشدهم تدبيرًا وأبعدهم غورًا، ومَن نشأ في الحروب ورُبي في الثغور ومَن لا يعرف إلا الفتوح وسياسة الجنود، ثم أُعطِي الوفاء من أصحابه والصبر من قُوَّاده فلم يَغدِر منهم غادر ولا قَصَّر منهم مُقصِّر، كما قد بلغك عن حنظلة بن نباتة وعامر بن ضُبارة ويزيد بن عمرو بن هبيرة، ولا من سائر قُوَّاده حتى أحبابه وكُتَّابه، كعبد الحميد الكاتب، ثم لم يَلْقه ولا لقي تلك الحروب في عامة تلك الأيام إلَّا رجالُ ولدِ العباس بأنفسهم، ولا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم كعبد الله بن علي وصالح بن علي وداود بن علي وعبد الصمد بن علي، وقد لقيهم المنصور نفسه.

قال: وتفخر هاشم أيضًا عليهم بقول النبي وهو الصادق المُصدَّق: «نُقلتُ من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة، وما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما.» وقوله: «بُعثت من خيرة قريش.» ومعلوم أن بني عبد مناف افترقوا فكانت هاشم والمطلب يدًا وعبد شمس ونوفل يدًا.

قال: وإن كان الفخر بكثرة العدد؛ فإنه من أعظم مفاخر العرب. فولد علي بن عبد الله بن العباس اليوم مثل جميع بني عبد شمس، وكذلك ولد الحسين بن علي بن أبي طالب. هذا مع قرب ميلادهما. وقد قال النبي : «شَوهاءُ وَلودٌ خيرٌ من حَسناءَ عقيم». وقال: «أنا مُكاثرٌ بكم الأمم.» وقد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن النبي قَدِم من سفر فأراد الرجال أن يَطرُقوا النساء ليلًا فقال: «أمهلوا حتى تمتشط الشَّعِثَةُ وتستحد المُغيَّبة، فإذا قَدِمتم فالكَيسَ الكَيس.» قالوا: ذهب إلى طلب الولد. وكانت العرب تفخر بكثرة الولد، وتَمدَح الفحل القَبيس وتَذُم العاقر والعقيم. قال عامر بن الطفيل يعني نفسه:

لَبِئْسَ الفَتَى إنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا
جَبَانًا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ

وقال علقمة بن علاثة يفخر على عامر: آمنتُ وكفر، ووفيتُ وغدر، ووَلدتُ وعقر. وقال الزِّبرقان:

فَاسْأَلْ بَنِي سَعْدٍ وغَيْرَهُمُ
يَوْمَ الفَخَارِ فَعِنْدَهُمْ خُبرِي
أيُّ امْرئٍ أنَا حِينَ يَحْضُرُني
رِفْدُ العَطَاءِ وطَالِبُ النَّصْرِ
وإذَا هَلَكْتُ تَرَكْتُ وَسْطَهُمُ
وُلْدِي الكِرَام ونَابِهَ الذِّكْرِ

وقال طَرَفَةُ بن العَبْدِ:

فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بنَ خَالِدٍ
ولَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بن مَرْثَدٍ
فَأَصْبَحْتُ ذا مالٍ كَثِيرٍ وعَادَنِي
بَنُونَ كِرَامٌ سَادَةٌ لِمُسَوَّدِ

ومدح النابغة الذبياني ناسًا فقال:

لَمْ يُحْرَمُوا طِيبَ النِّسَاءِ وأُمُّهُمْ
طَفَحَتْ عَلَيْكَ بِنَاطِقٍ مِذْكَارِ

وقال نهشل بن حري:

عَلَّ بِنَيَّ يَشُدُّ اللهُ عَظَمَهُمُ
والنَّبْعُ ينْبُتُ قُضْبَانًا فَيَكْتَهِلُ

ومكث الفرزدق زمانًا لا يُولَد له فعيَّرَته امرأته فقال:

وقالَتْ أرَاهُ وَاحِدًا لا أخَا لَهُ
يُؤَمِّلُهُ فِي الوَارِثِينَ الأَبَاعِدُ
لَعَلَّكِ يَوْمًا أنْ تَرِينِي كَأَنَّمَا
بَنِيَّ حَوَالَيَّ اللُّيُوثُ الحَوَارِدُ
فإنَّ تَمِيمًا قَبْلَ أنْ يَلِدَ الحَصَا
أقَامَ زَمَانًا وهُوَ فِي النَّاسِ وَاحِدُ

وقال آخر، وقد مات إخوته وملأ حوضه ليستقي فجاء رجلٌ صاحبُ عشيرةٍ وعِترةٍ فأخذ بضَبْعه فنَحَّاه ثم قال لراعيه: اسقِ إبلَك:

لَوْ كَانَ حَوْضَ حِمَارٍ مَا شَرِبْتَ بِه
إلَّا بِإِذْنِ حِمَارٍ آخِرَ الأَبَدِ
لَكِنَّه حَوْضُ مَنْ أَوْدَى بإِخْوَتِه
رَيْبُ المَنُونِ فَأَمْسَى بَيْضَةَ البَلَدِ
لَوْ كَانَ يُشْكَى إلَى الأمْوَاتِ مَا لَقِيَ الْـ
أَحْيَاءُ بَعْدَهُم مِنْ قِلَّةِ العَدَدِ
ثمَّ اشْتَكَيْتُ لَأَشْكَانِي وأَنْجَدَنِي
قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أو قَبْرٌ عَلَى فَحَدِ

وقال الأعشى وهو يذكر الكثرة:

ولَسْتَ بِالأَكْثَرِ مِنهُمْ حَصًا
وإنَّمَا العِزَّةُ لِلْكَاثِرِ

قال: وقد وَلَد رجالٌ من العرب كل منهم يَلِد لِصُلبه أكثر من مائة، فصاروا بذلك مَفخرًا، منهم: عبد الله بن عمير الليثي، وأنس بن مالك الأنصاري، وخليفة بن بر السعدي، أتى على عامَّتِهم الموت الجارف. ومات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس عن ثلاثٍ وأربعين ذكرًا وخمسٍ وثلاثين امرأة كلهم لصلبه، فما ظنُّك بمن مات من ولده في حياته وليس طبقة من طبقات الأسنان الموت إليها أسرع وفيها أعم وأفشى من سن الطفولية؟ وأَمْرُ جعفر بن سليمان قد عاينه عالَمٌ من الناس وعامَّتُهم أحياء. وليس خبر جعفر كخبر غيره من الناس. قال الهيثم بن عدي: أفضى المُلك إلى ولد العباس وجميعُ وَلدِ العباس يومئذٍ من الذكور ثلاثة وأربعون رجلًا، ومات جعفر بن سليمان وحده عن مثل هذا العدد من الرجال. وممن قَرُب ميلاده وكَثُر نسله حتى صار كبعض القبائل والعمائر: أبو بكر صاحب رسول الله ، والمُهلَّب بن أبي صفرة، ومسلم بن عمرو الباهلي، وزياد بن عبيد أمير العراق، ومالك بن مِسمع. ووَلدُ جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددًا من أهل هذه القبائل. وأربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرةَ بنين معروفِين، وهم: عبد المطلب بن هاشم، والمطلب بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس، والمغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وليس على ظهر الأرض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب، ولا يشك أحد أن عدد الهاشميِّين شبيه بعدد الجميع. فهذا ما في الكثرة والقلة.

قال: وإن كان الفخر بنُبل الرأي وصواب القول، فمن مثل عباس بن عبد المطلب وعبد الله بن العباس؟ وإن كان في الحكم والسُّؤدد وأصالة الرأي والغَناء العظيم، فمن مثل عبد المطلب؟ وإن كان إلى الفقه والعلم بالتأويل ومعرفة التنزيل، وإلى القياس السديد وإلى الألسنة الحِداد والخطب الطوال، فمن مثل علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس؟ قالوا: خطبنا عبد الله بن عباس خُطبةً بمكة أيامَ حِصارِ عثمان لو شهدها الترك والديلم لأسلموا. وفي عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت:

إذَا قَالَ لَمْ يَتْرُكْ مَقَالًا لِقَائِلٍ
بِمُلْتَقَطَاتٍ لَا تَرَى بَيْنَهَا فَصْلًا
شَفَى وكَفَى مَا فِي النُّفُوسِ فَلَمْ يَدَعْ
لِذِي إِرْبَةٍ فِي القَوْلِ جِدًّا ولَا هَزْلًا

وهو البَحر، وهو الحَبر، وكان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي: «غُصْ غَوَّاص.» وكان يُقدِّمه على جلَّة السلف.

قال: وإن كان الفخر في البسالة والنجدة وقتل الأقران وجَزْر الفُرسان، فمن كحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب؟ وكان الأحنف إذا ذكر حمزة قال: أَلْيَسُ. وكان لا يرضى أن يقول شجاع؛ لأن العرب كانت تجعل ذلك أربع طبقات: فتقول: شجاع، فإذا كان فوق ذلك قالت: بطل، فإذا كان فوق ذلك قالت: بُهمة، فإذا كان فوق ذلك قالت: أَلْيَس. وقال العجاج: «أَلْيَسُ عن حَوْبائه سَخِي.» وهل أكثر ما يَعُد الناس من جرحاهما وصرعاهما إلا ساداتكم وأعلامكم؟ قَتل حمزةُ وعليٌّ عتبةَ والوليد، وقتلا شيبةَ أيضًا شَرِكا عبيدة بن الحارث فيه، وقتل عليٌّ حنظلةَ بن أبي سفيان. فأمَّا آباء ملوككم من بني مروان فإنهم كما قال عبد الله بن الزبير لما أتاه خبر المصعب: إنَّا والله ما نموت جَبحًا كما يموت آل أبي العاص، والله ما قُتل منهم قتيل في جاهلية ولا إسلام، وما نموت إلا قتلًا، قَعصًا بالرماح وموتًا تحت ظلال السيوف. قال أبو عثمان: كأنه لم يَعُد قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتلًا؛ إذ كان إنما قُتل في غير معركة، وكذلك قتل عثمان بن عفان إذا كان إنما قُتل مُحاصَرًا، ولا قَتْل مروان بن الحكم لأنه قُتل خَنقًا، خَنقَته النساء! قال: وإنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بني أسد بن عبد العزى من القتلى؛ لأن من شأن العرب أن تفخر بذلك كيف كانوا قاتلِين أو مقتولِين. ألا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى إلا في القوم المعروفِين بالبأس والنجدة وبكثرة اللقاء والمُحارَبة، كآل أبي طالب، وآل الزبير، وآل المُهلَّب؟ قال: وفي آل الزبير خاصةً سبعة مقتولون في نَسَق، ولم يوجد ذلك في غيرهم: قتل عمارة وحمزة ابنا عبد الله بن الزبير يوم قُدَيْدٍ في المعركة قتلهما الإباضية، وقُتل عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج، وقُتل مصعب بن الزبير بِدَيْر الجائليق في المعركة أَكرَمَ قَتْل، وبإزائه عبد الملك بن مروان، وقُتل الزبير بوادي السباع مُنصرَفه من وَقْعة الجَمل، وقُتل العوام بن خويلد في حرب الفِجار، وقُتل خويلد بن أسد بن عبد العزى في حربِ خزاعة. فهؤلاء سبعةٌ في نَسَق. قال: وفي بني أسد بن عبد العزى قتلى كثيرون غير هؤلاء: قُتل المنذر بن الزبير بمكة، قتله أهل الشام في حرب الحجاج وهو على بغل وَرْد كان نَفَر به فأَصعَد به في الجبل، وإياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري وهو يهجو صاحبكم عبيد الله بن زياد ويُعيِّره بفراره يوم البصرة:

لَابْنُ الزُّبَيْرِ غَدَاةَ تَدْمُرَ مُنْذِرًا
أَوْلَى بِكُلِّ حَفِيظَةٍ وَزَمَاعِ

وقُتل عمرو بن الزبير، قتله أخوه عبد الله بن الزبير، وكان في جوار أخيه عبيدة بن الزبير فلم يُغن عنه، فقال الشاعر يُحرِّض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير ويُعيِّره بإخفاره جوار عمرو أخيهما:

أَعُبَيْدُ لَوْ كَانَ المُجِيرَ لوَلْوَلَتْ
بَعْدَ الهُدُوءِ برنَّةٍ أَسْمَاءُ
أَعُبَيْدُ إِنَّكَ قَدْ أَجَرْتَ وجَارُكم
تَحْتَ الصَّفِيحِ تَنْبوبُهُ الأَصْدَاءُ
اضْرِبْ بِسَيْفِكَ ضَرْبَةً مَذْكُورَةً
فِيهَا أَدَاءُ أمَانةٍ ووَفَاءُ

وقُتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام، قتله سعد بن صفح الدوسي جَدُّ أبي هريرة من قِبل أمه بناحية اليمامة، وقَتَل معه أصرم وبعكك ابنَي العوام بن خويلد. وقد قُتل منهم في محاربة النبي قوم متهورون، منهم: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وكان شريفًا، قُتل يوم بدر. وأبوه الأسود كان المثل يُضرَب بِعِزَّتِه بمكة، وفيه قال رسول الله وهو يذكر عاقر الناقة: «كان عزيزًا منيعًا كأبي زَمعَةَ.» ويُكنى زمعة بن الأسود أبا حكيمة. وقُتل الحرث بن الأسود بن المطلب يوم بدر أيضًا، وقُتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحرث بن الأسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضًا، وقُتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضًا قتله علي بن أبي طالب، وقُتل يوم الحَرَّة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود ضَرَب عنقه مُسرف بن عقبة صبرًا، قال له: بايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية على أنك عبدٌ قِنٌّ له، قال: بل أبايعه على أني أخوه وابن عمه. فضَرَب عنقه. وقُتل إسماعيل بن هبار بن الأسود ليلًا، وكان دُعِي حيلةً فخرج مُصرِخًا لمن استصرخه فقُتل فاتُّهِم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن فأحلفه معاوية خمسين يمينًا وخلَّى سبيله، فقال الشاعر:

وَلَا أُجِيبُ بِلَيْلٍ دَاعِيًا أبَدًا
أَخْشَى الغُرُوْرَ كَمَا غُرَّ ابنُ هَبَّارِ
بَاتُوا يَجُرُّونَه فِي الخَبْتِ مُنْعَفِرًا
بِئْسَ الهَدِيَّةُ لِابْنِ العَمِّ والجَارِ

وقُتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي، وقُتل ابنه عبد الله يوم الدار مع عثمان. فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد قتيلٌ ابن قتيلٍ ابن قتيلٍ ابن قتيلٍ، أربعةٌ في نَسَق. ومن قتلاهم: عيسى بن مصعب بن الزبير، قُتل بين يدَي أبيه بمسكن في حرب عبد الملك، وكان مصعب يُكنى أبا عيسى، وعيسى كلاهما: موالي قريش كهلها وصميمها. ومنهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير، قُتل يوم قُدَيْد في حرب الخوارج، وقد ذكره الشاعر:

قُمْنَ فانْدُبْنَ رِجَالًا قُتِلُوا
بقُدَيْدٍ ولِنُقْصَانِ العَدَدْ
ثُمَّ لَا تَعْدِلْنَ فِيهَا مُصْعَبًا
حِينَ يُبْكَى مِنْ قَتِيلٍ بأَحَدْ
إنَّه قَدْ كَانَ فِيهَا بَاسِلًا
صَارِمًا يُقْدِمُ إِقْدَامَ الأَسَدْ

ومنهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير، خرج مع محمد بن عبد الله بن حسنِ بن حسنٍ فقتله أبو جعفر وصلبه. ومنهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير قُتل بقُدَيد أيضًا، وسُمِّيَ عتيقًا باسم جده أبي بكر الصديق.

قال: وإن كان الفخر والفضل في الجود والسماح، فمَن مثل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؟ ومَن مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب؟ وقد اعترَضَت الأموية هذا الموضع فقالت: إنما كان عبد الله بن جعفر يهب مما كان معاوية ويزيد يهبانه له، فمن فضلِ جُودنا جاد. قالوا: ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم، وابنه يزيد أول من ضاعف ذلك، فإنه كان يجيز الحسن والحسين ابنَي علي في كل عام لكل واحد منهما بألفِ ألفِ درهم، وكذلك كان يجيز عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر، فلما مات وقام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له: إن أمير المُؤمنِين معاوية كان يصل رحمي في كل سنة بألفِ ألفِ درهم، قال: فلك ألفا ألفِ درهم! فقال: بأبي أنت وأمي! أما إنِّي ما قلتها لابن أنثى قبلك! قال: فلك أربعة آلافِ ألفِ درهم. وهذا الاعتراض ساقط؛ لأن ذلك إن صح لم يعد جودًا ولا جائزةً ولا صلة رحم، هؤلاء قوم كان يخافهم على ملكه ويعرف حقهم فيه وموقعهم من قلوب الأمة، فكان يُدبِّر في ذلك تدبيرًا ويُريغ أمورًا ويُصانِع عن دولته وملكه. ونحن لم نعُدَّ قط ما أعطى خلفاء بني هاشم قُوَّادهم وكُتابهم وبني عمهم جودًا، فقد وهب المأمون للحسن بن سهل غلة عشرة آلاف ألف، فما عُدَّ ذلك منه مكرمةً، وكذلك كل ما يكون داخلًا في باب التجارة واستمالة القلوب وتدبير الدولة. وإنما يكون الجود ما يدفعه الملوك إلى الوفود والخطباء والشعراء والأشراف والأدباء والسمار ونحوهم، ولولا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده! فالعمالات شيء والإعطاء على دفع المكروه شيء، والتفضُّل والجود شيء.

ثم إن الذين أعطاهم معاوية ويزيد هو بعض حقهم، والذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما. وإن أُرِيد الموازنة بين ملوك بني العباس وملوك بني أمية في العطاء افتُضِح بنو أمية وناصروهم فضيحةً ظاهرة. فإن نساء خلفاء بني العباس أكثر معروفًا من رجال بني أمية، ولو ذَكرتُ معروف أم جعفر وحدها لأتى ذلك على جميع صَنائعِ بني مروان، وذلك معروف. ولو ذَكرتُ معروف الخَيزَران وسلسبيل لملأت الطوامير الكثيرة به، وما نظن خالصةَ مَوْلاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم. وإن شئت أن تذكر مَواليهم وكُتابهم فاذكر عيسى بن ماهان، وابنه عليًّا، وخالد بن برمك، وابنه يحيى، وابنَيه جعفرًا والفضل، وكاتبهم منصور بن زياد، ومحمد بن منصور فتى العسكر، فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بني عبد شمس.

فأمَّا ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام — وكان جعفر بن سليمان كثيرًا ما يذكر ذلك — وكان معاوية يبغض الرجل النَّهِم على مائدته. وكان المنصور إذا ذكرهم يقول: كان عبد الملك جبَّارًا لا يبالي ما صنع، وكان الوليد مجنونًا، وكان سليمان هَمُّه بطنه وفرجه، وكان عُمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم. وكان لا يذكر ابن عاتكة. ولقد كان هشام — مع ما استثناه به — يُقال هو الأحول السَّرَّاق، ما زال يدخل أعطيات الجند شهرًا في شهر وشهرًا في شهر حتى أخذ لنفسه مِقدارَ رزقِ سنة، وأنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها: «الحمدُ للهِ الوَهُوبِ المُجْزِل.» فما زال يُصفِّق بيدَيه استحسانًا لها حتى صار إلى ذكر الشمس فقال: «والشمس في الأفق كعين الأحول.» فأمر بوجء عنقه وإخراجه. وهذا ضعفٌ شديد وجهلٌ عظيم. وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي: ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتَين: حدا به الحادي مرة فقال:

إنَّ عَلَيْكَ أيُّهَا البُخْتِيُّ
أَكْرَمُ مَنْ تَمْشِي بِه المَطِيُّ

فقال: صدقت! وقالت مرة: والله لأَشْكُونَّ سليمان يوم القيامة إلى أمير المُؤمنِين عبد الملك! وهذا ضعفٌ شديد وجهلٌ مفرط.

قال أبو عثمان: وكان هشام يقول: والله إنِّي لأستحيي أن أعطي رجلًا أكثر من أربعة آلاف درهم. ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدَّها في جُوده وتوسُّعه، وإنما اشترى بها ملكه وحصن بها عن نفسه وما في يدَيه. قال له أخوه مسلمة: أتطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيلٌ جبان؟ فقال: ولكني حليمٌ عفيف. فاعترف بالجبن والبخل، وهل تقوم الخلافة مع واحد منهما؟ وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم والتغرير الشديد، ولو سَلِمَت من الفساد لم تَسلَم من العيب. ولقد قدَّم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله: أَعورُ بين عُميان. وزعمتم أنه كان ناسكًا ورعًا تقيًّا، فكيف وقد جَلَد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائدةَ جلدةٍ وصَب على رأسه جَرَّةً من ماءٍ باردٍ في يومٍ شاتٍ حتى كزَّ فمات، فما أَقرَّ بدمه ولا خرج إلى وَليِّه من حقه ولا أعطى عَقلًا ولا قَوَدًا، ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله وأحكامه وقصاصه فيقال كان مطيعًا بإقامتها وأنه أزهق الحد نفسه؟ واحسبوا الضرب كان أدبًا وتعزيرًا، فما عذره في الماء البارد في الشتاء على إثر جَلدٍ شديد؟ ولقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه، فقال لرجاء بن حيوة في بعض ما يدخل وما يخرج من شأنه: نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر وتشير بي في هذا الشأن، فوالله ما لي عليه من طاقة! فقال له رجاء: قاتلك الله، ما أحرصك عليها! ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج قال له الوليد: مات الحجاج يا أبا حفص؟ فقال: وهل كان الحجاج إلا رجلًا مِنَّا أهل البيت؟ وقال في خلافته: لولا بيعةٌ في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجَعلتُ هذا الأمر شورى بين صاحب الأعواص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق، وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر، وبين سالم بن عبد الله بن عمر. فما كان عليه من الضرر والحرج، وكان عليه مِن الوَكْف والنقص لو قال: بين علي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن الحسين بن علي؟ على أنه لم يُرد التيمي ولا العدوي، وإنما دبَّر الأمر للأموي. ولم يكن عنده أحدٌ من هاشم يصلح للشورى، ثم دبَّر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عُوجل بالسُّم. وقَدِم عليه عبد الله بن حسن بن حسن، فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه وموضعه وكيف ذلك من قلوب المُسلمِين وفي صدور المُؤمنِين، لم يَدعْه يبيت بالشام ليلةً واحدة، وقال له: الْحَقْ بأهلك فإنك لم تُغنِمهم شيئًا هو أنفس منك ولا أَرَدَّ عليهم من حياتك، أخاف عليك طواعين الشام، وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب. وإنما كره أن يَرَوه ويسمعوا كلامه فَلعَلَّه أن يَبذُر في قلوبهم بَذرًا ويغرس في صدورهم غرسًا. وكان أعظم خلق الله قولًا بالجَبْر حتى يتجاوز الجَهميَّة ويُربي على كل ذي غايةٍ صاحبِ شُنْعة، وكان يصنع في ذلك الكُتب مع جهله بالكلام وقِلة اختلافه إلى أهل النظر. وقال له شوذب الخارجي: لِم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظَلَمَةً فَجَرَة؟ فقال عمر: متى عَهدُك بِلَعنِ فرعون؟ قال: ما لي به عهد. قال: أفَيَسَعُكَ أن تُمسِك عن لَعْن فرعون ولا يَسَعُني أن أُمْسِك عن لَعْن آبائي؟! فرأى أنه قد خَصَمه وقطع حُجته، وكذلك يظن كلُّ من قَصَّر عن مقدار العالم وجاوز مقدار الجاهل! وأيُّ شَبهٍ لفرعون بآل مروان وآل أبي سفيان؟ هؤلاء قومٌ لهم حزب وشيعة وناسٌ كثيرٌ يدينون بتفضيلهم وقد اعتَورَتهم الشُّبه في أمرهم، وفرعون على خلاف ذلك وضده لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شُبهة! ثم إن عمر ظنينٌ في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم، وشوذب ليس بظنينٍ في أمر فرعون، وليس الإمساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه الخوارج، فكيف استويا عنده؟! وشكا إليه رجلٌ من رهطه دَينًا فادحًا وعيالًا كثيرًا فاعتَلَّ عليه فقال له: هلا اعتَلَلتَ على عبد الله بن الحسن؟ قال: ومتى شاورتك في أمري؟ قال: أوَمُشيرًا تراني؟ قال: وهل أعطيتُه إلا بعضَ حَقِّه؟ قال: ولِمَ قَصَّرْتَ عن كُلِّه؟! فأمر بإخراجه، وما زال إلى أن مات محرومًا منه. وكان عُمَّال أهله على البلاد عُمَّاله وأصحابه. والذي حَسَّن أمره وشبه على الأغبياء حاله أنه قام بعقب قوم قد بدَّلوا عامَّة شرائع الدين وسنن النبي ، وكان الناس قبله من الظلم والجَور والتهاون بالإسلام في أَمرٍ صَغُر في جنبه ما عاينوا منه وألفوه عليه، فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عِداد الأئمة الراشدِين. وحسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليًّا على منابرهم فلما نهى عُمر عن ذلك عُدَّ مُحسِنًا. ويشهد لذلك قول كثير فيه:

ولِيتَ فَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا ولَمْ تُخِفْ
بَرِيًّا ولَمْ تَتْبَعْ مَقَالَة مُجْرِمِ

وهذا الشعر يدل على أن شتم عليٍّ قد كان لهم عادةً حتى مُدح من كَفَّ عنه. ولما وَلِي خالد بن عبد الله القسري مكة — وكان إذا خطب بها لعن عليًّا والحسن والحسين — قال عبيد الله بن كثير السهمي:

لعَنَ اللهُ مَنْ يَسُبُّ عَليًّا
وحُسَيْنًا مِنْ سوقةٍ وإمامِ
أيُسَبُّ المُطَهَّرونَ جُدودًا
والكرامُ الآباء والأعمامِ
يأْمَنُ الطَّيْرُ والحَمَامُ ولا يأْ
مَنُ آلُ الرَّسُولِ عِنْدَ المَقَامِ
طِبْتَ بَيْتًا وطَابَ أهْلُكَ أهْلًا
أهْلُ بَيْتِ النَّبِيِّ والإسْلَامِ
رَحْمَةُ اللهِ والسَّلَامُ عَلَيْهِم
كُلَّما قَامَ قَائِمٌ بِسَلَامِ

وقام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان — وكان ممن يتأله بزعمهم — إلى هشام بن عبد الملك وهو يخطب على المنبر بعرفة، فقال: يا أمير المُؤمنِين، هذا يوم كانت الخلفاء تَستحِب فيه لعن أبي تراب. فقال هشام: ليس لهذا جئنا. ألا ترى أن ذلك يدلُّ على أنه قد كان لَعْنُه فيهم فاشيًا ظاهرًا؟ وكان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليًّا ويقول: قتل جَديَّ جميعًا: الزبير وعثمان. وقال المغيرة وهو عامل معاوية يومئذٍ لصعصعة بن صوحان: قم فالعن عليًّا! فقام فقال: إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليًّا، فالعنوه لعنه الله. وهو يُضمِر المغيرة.

وأمَّا عبد الملك فحسبك من جهله تبديل شرائع الدين والإسلام وهو يريد أن يلي أُمورَ أصحابِها بذلك الدين بعينه! وحسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في مَنعِ بني هاشمٍ الخلافة أن يُلعَن علي بن أبي طالب على منابره ويُرمَى بالفجور في مَجالِسه، وهذا قُرَّة عينِ عَدوه وعَيْر عَين وليِّه، وحسبك من جهله قيامه على مِنبر الخلافة قائلًا: إنِّي والله ما أنا بالخليفة المُستضعَف، ولا بالخليفة المُداهِن، ولا بالخليفة المأفون. وهؤلاء سَلَفه وأئمته، وبشُفعتهم قام ذلك المقام، وبِتقدُّمهم وتأسيسهم نال تلك الرئاسة، ولولا القادة المُتقدِّمة والأجناد المُجنَّدة والصنائع القائمة لكان أَبعَد خَلقِ الله من ذلك المقام وأَقربَهم إلى الهلكة إن رام ذلك الشرف. وعَنى بالمُستضعَف عثمان، وبالمُداهِن معاوية، وبالمأفون يزيد بن معاوية. وهذا الكلام نقضٌ لسلطانه، وعداوةٌ لأهله، وإفسادٌ لقلوب شيعته. ولو لم يكن من عَجْز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قُوَّته إلا بأن يُظهِر عَجْز أئمته، لكفاك ذلك منه … فهذا ما ذَكَرتْه هاشمٌ لأنفسها.

قالت أمية: لنا من نوادر الرجال في العقل والدهاء والأرب والنكر ما ليس لأحد، ولنا من الأجواد وأصحاب الصنائع ما ليس لأحد. زعم الناس أن الدهاة أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وزياد، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. فمنا رجلان ومن سائر الناس رجلان. ولنا في الأجواد: سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، لم يُوجَد لهما نظير إلى الساعة. وأما نوادر الرجال في الرأي والتدبير: فأبو سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، ومسلمة بن عبد الملك. وعلى أنهم يُعَدُّون في الحُلماء والرؤساء، فأهل الحجاز يضربون المثل في الحلم بمعاوية كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالأحنف. فأمَّا الفتوح والتدبير في الحرب فلمعاوية غيرَ مُدافَع، وكان خطيبًا مِصقعًا ومِحْرَبًا مُظفَّرًا، وكان يُجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله. وكان عبد الملك خطيبًا حازمًا مِحْرَبًا مُظفرًا. وكان مسلمة شجاعًا مُدبِّرًا وسائسًا مُقدَّمًا، وكثير الفتوح كثير الأدب. وكان يزيد بن معاوية خطيبًا شاعرًا. وكان الوليد بن يزيد خطيبًا شاعرًا. وكان مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن الحكم شاعرَين. وكان بشر بن مروان شاعرًا ناسبًا وأديبًا عالمًا. وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبًا شاعرًا وجيد الرأي أريبًا كثير الأدب حكيمًا، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة وقرَّب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، وترجم كُتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات. وقالوا: وإن ذَكرتَ البأس والشجاعة فالعباس بن الوليد بن عبد الملك، ومروان بن محمد، وأبوه محمد بن مروان بن الحكم وهو صاحب مُصعب. وهؤلاء قومٌ لهم آثارٌ بالروم لا تُجهل وآثارٌ بأرمينية لا تُنكر، ولهم يوم العقر شَهِده مسلمة والعباس بن الوليد. قالوا: ولنا الفتوح العظام، ولنا فارس وخراسان، وأرمينية وسجستان، وأفريقية وجميع فتوح عثمان. فأمَّا فتوح بني مَروان فأَكثرُ وأَعمُّ وأَشهَرُ من أن تحتاج إلى عدٍّ أو إلى شاهد، والذين بلغوا في ذلك الزمان أقصى ما يمكن صاحب خُفٍّ وحافرٍ أن يبلغه حتى لم يُحتجَرْ منهم إلا ببحرٍ أو خليجِ بحرٍ أو غياضٍ أو عقاب أو حصونٍ وصياصي ثلاثةُ رجالٍ: قتيبة بن مسلم بخراسان، وموسى بن نصير بأفريقية، والقاسم بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند والهند، وهؤلاء كلهم عُمَّالنا وصنائعنا. ويقال: إن البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال: عبد الله بن عامر، وزياد، والحجاج، فرجلان من أنفسنا والثالث صنيعتنا. قالوا: ولنا في الأجواد وأهل الأقدار: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية، وأخوه خالد. وفي خالد يقول الشاعر:

إلَى خَالِدٍ حَتَّى أنَخْنَا بِخَالِدٍ
فَنِعْمَ الفَتَى يُرْجَى ونِعْمَ المُؤَمَّلُ

ولنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو عقيد النَّدى، كان يُسبِت ستةَ أشهر ويُفيق ستةَ أشهر، ويُرى كحيلًا من غير اكتحال، ودهينًا من غير تدهين، وله يقول موسى شَهوَات:

أبَا خَالِدٍ أَعْنِي سَعِيدَ بنَ خَالِدٍ
أخَا العُرْفِ لَا أَعْنِي ابنَ بِنْتِ سَعِيدِ
ولَكنني أعْنِي ابْنَ عائِشةَ الَّذِي
أبُو أبَوَيْهِ خَالدُ ابْنُ أسيدِ
عَقيدُ النَّدَى مَا عاشَ يَرْضَى بِه النَّدَى
فإنْ مَاتَ لَمْ يرْضَ النَّدَى بِعَقيدِ

قالوا: وإنما تمكَّن فينا الشعر وجاد ليس من قِبَل أن الذين مدحونا ما كانوا غير من مدح الناس، ولكن لِمَا وجدوا فينا مما يَتَّسِع لأجله القول ويَصدُق فيه القائل. قد مدح عُبيدُ الله بن قيس الرُّقَيات من الناس آل الزبير عبد الله ومُصعبًا وغيرهما، فكان يقول كما يقول غيره، فلما صار إلينا قال:

مَا نَقِمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إلَّا
أَنَّهُمْ يَحْلمُونَ إنْ غَضِبُوا
وأنَّهُمْ مَعْدِنُ الملوكِ فمَا
تَصْلُحُ إلَّا عَلَيْهمُ العَرَبُ

وقال نصيب:

مِنَ النَّفَرِ الشُّمِّ الذينَ إذَا انْتَجَوا
أقرَّتْ لِنَجْوَاهم لُؤَيُّ بنُ غَالِب
يُحَيَّونَ بسَّامِينَ طوْرًا وتارةً
يُحيَّوْنَ عبَّاسين شُوسَ الحواجب

وقال الأخْطَلُ:

شُمْسُ العَدَاوَةِ حَتى يُسْتقَاد لهمْ
وأعْظَمُ النَّاسِ أحْلَامًا إذَا قَدَرُوا

قالوا: وفينا يقول شاعركم والمُتشيِّع لكم الكميت بن زيد:

فالآنَ صِرْتُ إلى أُمَيَّـ
ـةَ والأمورُ لها مصايرْ

وفي مُعاوية يقول أبو الجَهْمِ العَدَوِيُّ:

نُقَلِّبُهُ لِنَخْبُرَ حَالَتَيْهِ
فنَخْبُرَ مِنْهُمَا كَرَمًا ولِينَا
نَمِيلُ عَلَى جَوانِبِه كَأنَّا
إذَا مِلْنَا نَمِيلُ عَلَى أبِينَا

وفيه يقول:

تُرِيغُ إليْهِ هَوَادِي الكَلَا
مِ إذَا ضلَّ خُطْبَتَهُ المِهْذَرُ

قالوا: وإذا نظرتم في امتداح الشعراء عبدَ العزيز بن مروان عرفتم صِدق ما نقوله.

قالوا: وفي إرسال النبي إلى أهل مكة عثمان واستعماله عتاب بن أسيد وهو ابن اثنين وعشرين سنة دليلٌ على موضع المَنَعة ومن تهاب العرب وتعز قريش. وقال النبي قبل الفتح: «فَتَيَان أضِنُّ بهما على النار: عتابُ بن أَسيد وجُبيرُ بن مُطعم.» فولى عتابًا وترك جُبير بن مطعم. وقال الشَّعبي: لو وُلِد لي مائةُ ابنٍ لَسَمَّيتُهم كلهم «عبد الرحمن» للذي رأيت في قريش من أصحاب هذا الاسم. ثم عدَّ: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص. فأمَّا عبد الرحمن بن عتاب فإنه صاحب الخيل يوم الجمل، وهو صاحب الكف والخاتم، وهو الذي مر به عليٌّ وهو قتيل فقال: لهفي عليك يعسوب قريش! هذا اللُّباب المَحْض من بني عبدِ مناف! فقال له قائل: لَشَدَّ ما أَبَّنْتَه اليوم يا أمير المؤمنِين! قال: إنه قام عنِّي وعنه نسوةٌ لم يَقُمْن عنك.

قالوا: ولنا من الخطباء معاويةُ بن أبي سفيان، أَخطَب الناس قائمًا وقاعدًا وعلى منبر وفي خُطبة نكاح! وقال عمر بن الخطاب: ما يَتصَعَّدني شيءٌ من الكلام كما تَتصَعَّدني خُطبة النكاح. وقد يكون خطيبًا من ليس عنده في حديثه ووصفه للشيء واحتجاجه في الأمر لسانٌ بارع. وكان معاوية يجري مع ذلك كله.

قالوا: ومن خطبائنا يزيد بن معاوية، كان أعرابيَّ اللسان بدويَّ اللهجة. قال معاوية — وخطب عنده خطيب فأجاد: لَأَرمِينَّه بالخطيب الأشدق. يُريد يزيدَ بن معاوية. ومن خطبائنا سعيد بن العاص، لم يُوجَد كتحبيره تحبيرٌ ولا كارتجاله ارتجال. ومِنَّا عمرو بن سعيد الأَشدق، لُقِّبَ بذلك لأنه حيث دخل على معاوية وهو غلامٌ بعد وفاة أبيه فسمع كلامه، فقال: إن ابن سعيد هذا لأَشدَق. وقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إليَّ ولم يُوصِ بي! قال: فبِمَ أوصى إليك؟ قال: ألَّا يَفقِد إخوانه منه إلا وجهه.

قالوا: ومِنَّا سعيد بن عمرو بن سعيد، خطيبٌ ابن خطيبٍ ابن خطيب. تَكلَّم الناس عند عبد الملك قيامًا وتَكلَّم قاعدًا، قال عبد الملك: فتَكلَّمَ وأنا والله أُحِب عَثْرَته وإسكاته، فأَحسَنَ حتى استَنطقْتُه واستَزدتُه. وكان عبد الملك خطيبًا، خطب الناس مَرةً فقال: ما أنصفتمونا معشر رعيتنا، طلبتم مِنَّا أن نسير فيكم وفي أَنفُسنا سِيرة أبي بكر وعمر في أنفسهما ورعيَّتِهما، ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سِيرة رَعيَّة أبي بكر وعمر فيهما وفي أَنفُسهما، ولكلٍّ من النَّصَفة نصيب. قالوا: فكانت خُطبته نافعة.

قالوا: ولنا زياد وعبيد الله بن زياد، وكانا غايتَين في صحة المعاني وجودة اللفظ، ولهما كلامٌ كثيرٌ محفوظ.

قالوا: ومن خطبائنا سُليمان بن عبد الملك، والوليد بن يزيد بن عبد الملك. ومن خطبائنا ونُسَّاكنا يزيد بن الوليد الناقص. قال عيسى بن حاضر: قُلتُ لعمرو بن عُبَيْدٍ: ما قولك في عمر بن عبد العزيز؟ فكلح ثم صرف وجهه عني، قُلتُ: فما قولك في يزيد الناقص؟ فقال: أو الكامل، قام بالعدل وعَمِل بالعدل وبذل نفسه وشَرى وقَتَل ابن عمه في طاعة ربه، وكان نكالًا لأهله، ونَقَص من أُعطياتهم ما زادته الجبابرة، وأظهر البراءة من آبائه، وجعل في عهده شَرْطًا ولم يجعله جَزْمًا. لا والله لكأنه ينطق عن لسان أبي سعيد — يريد الحسن البصري — قال: وكان الحسن من أَنطَق الناس. قالوا: وقد قُرئ في الكتب القديمة: يا مبذر الكنوز، ويا ساجدًا بالأسحار، كانت ولايتك رحمةً وعليهم حُجَّة. قالوا: هو يزيد بن الوليد. ومن خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص: عمرو ابن خولة، كان ناسبًا فصيحًا خطيبًا. وقال ابن عائشة الأكبر: ما شهد خطيبًا قط إلا لجلج هيبةً له ومعرفةً بانتقاده. ومن خطبائنا عبد الله بن عامر، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وكانا من أكرم الناس وأبين الناس. كان مَسلمة بن عبد الملك يقول: إنِّي لَأُنَحِّي كَوْر عِمامتي عن أُذني لأسمع كلام عبد الأعلى. وكانوا يقولون: أشبه قريش نعمةً وجهارةً واقتدارًا وبيانًا بعمرو بن سعيد: عبد الأعلى بن عبد الله.

قالوا: ومن خطبائنا ورجالنا: الوليد بن عبد الملك، وهو الذي كان يُقال له: «فحل بني مروان»، كان يركب معه ستون رجلًا لِصُلبه. ومن ذَوِي آدابنا وعلمائنا وأصحاب الأخبار ورُواة الأشعار والأنساب: بِشْرُ بنُ مَرْوانَ أمير العراق.

قالوا: ومَن أكثر نُسَّاك الملوك مِنَّا؟ مِنَّا معاوية بن يزيد بن معاوية، وهو الذي قيل له في مرضه الذي مات فيه: لو أَقَمتَ للناس ولي عهد؟ قال: ومن جعل لي هذا العهد في أعناق الناس! والله لولا خوف الفتنة لما أَقمتُ عليها طَرْفةَ عين! والله لا أَذهَب بمرارتها وتَذهبون بحلاوتها! فقالت له أمه: لودَدْتُ أنك حَيضة. قال: أنا والله وَدَدتُ ذلك.

قالوا: ومِنَّا سُليمان بن عبد الملك الذي هدم الديماس ورد المُسَيَّرِينَ وأخرج المسجونِين وترك القريب واختار عمر بن عبد العزيز، وكان سليمان جوادًا خطيبًا جميلًا صاحبَ سلامةٍ ودَعَة وحُبٍّ للعافية وقُربٍ من الناس حتى سُمِّيَ المهدي، وقِيلت الأشعار في ذلك.

قالوا: ولنا عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب، قد ولده عمر وباسمه سُمِّي، وهو أَشَج قريش المذكور في الآثار المنقولة، العدل في أشد الزمان، وظَلَف نفسه بعد اعتياد النعم حتى صار مَثلًا ومَفخرًا. وقيل للحسن: أما رَوَيتَ أن رسول الله قال: «لا يزداد الزمن إلا شِدةً والناس إلا شُحًّا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق»؟ قال: بلى. قيل: فما بال عمر بن عبد العزيز وعدله وسيرته؟ فقال: لا بدَّ للناس من مُتنَفَّس. وكان مذكورًا مع الخطباء ومع النُّسَّاك ومع الفقهاء.

قالوا: ولنا ابنُه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، كان ناسكًا زكيًّا طاهرًا، وكان من أتقى الناس وأحسنهم معونةً لأبيه، وكان كثيرًا ما يعظ أباه وينهاه.

قالوا: ولنا من لا نظير له في جميع أموره، وهو صاحب الأعواص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: لو كان إليَّ من الأمر شيءٌ لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وصاحب الأعواص.

قالوا: ومن نُسَّاكنا أبو حراب من بني أمية الصغرى، قتله داود بن علي. ومن نُسَّاكنا يزيد بن محمد بن مروان، كان لا يهدب ثوبًا ولا يَصبِغه ولا يَتخلَّق بخلوق ولا اختار طعامًا على طعامٍ، ما أُطعِم أَكَله، وكان يكره التكلف وينهى عنه. قالوا: ومن نُسَّاكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان، أراد عمر أخوه أن يجعله وليَّ عهدِه لِما رأى من فضله وزهده، فسُمَّا جميعًا. ومن نُسَّاكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، كان يُصلِّي كل يوم ألف ركعة، وكان كثير الصدقة، وكان إذا تَصدَّق بصدقة قال: اللهم إن هذا لوجهك فَخفِّف عني الموت. فانطلق حاجًّا ثم تَصبَّح بالنوم، فذهبوا يُنبِّهونه للرحيل فوجدوه ميِّتًا، فأقاموا عليه المأتم بالمدينة، وجاء أشعب فدخل إلى المأتم وعلى رأسه كُبَّة من الطين فالتدم مع النساء، وكان إليه محسنًا. ومن نُسَّاكنا عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.

قالوا: فنحن نَعُدُّ من الصلاح والفضل ما سمعتموه، وما لم نذكره أكثر.

وأنتم تقولون: أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن، وزعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب كما أن الطيب لا يثمر الخبيث. فإن كان الأمر كما تقولون فعثمان بن عفان ثَمرةٌ خبيثةٌ، وينبغي أن يكون النبي دفع ابنتَيه إلى خبيث؟ وكذلك يزيد بن أبي سفيان صاحب مُقدِّمة أبي بكر الصديق على جيوش الشام؟ وينبغي لأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله أن يكون كذلك؟ وينبغي لمحمد بن عبد الله المُدبَّج أن يكون كذلك، وإن ولدته فاطمة عليها السلام؛ لأنه من بني أمية؟ وكذلك عبد الله بن عثمان سبط رسول الله الذي مات بعد أن شَدَنَ، نقر الديك عينه فمات؛ لأنه من بني أمية؟ وكذلك ينبغي أن يكون عَتَّابُ بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وإن كان النبي وَلَّاه مكة أم القرى وقبلة الإسلام مع قوله : «فَتَيان أضنُّ بهما على النار: عتاب بن أسيد وجبير بن مطعم.» كذلك؟ وينبغي أن يكون عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب، وكذلك معاوية بن يزيد بن معاوية، وكذلك يزيد الناقص؟ وينبغي ألَّا يكون النبي عدَّ عثمان في العشرة الذين بشَّرهم بالجنة؟ وينبغي أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيدُ يومِ مَرْجِ الصُّفَّر والحبيس في سبيل الله ووَالِي النبي على اليمن ووالِي أبي بكر على جميع أجناد الشام ورابع أربعة في الإسلام والمهاجر إلى أرض الحبشة، كذلك؟ وكذلك أَبَانُ بن سعيد بن العاص المُهاجِر إلى المدينة والقديم الإسلام والحبيس على الجهاد يجب أن يكون ملعونًا خبيثًا؟ وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو بدري من المُهاجِرِين الأَوَّلِين، وكذلك أُمامةُ بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله ؟ وكذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكان النبي يُخرِجها في المغازي ويَضرِب لها بسهم ويصافحها؟ وكذلك فاطمة بنت أبي معيط من مُهاجِرة الحبشة؟

قالوا: ومما نفخر به وليس لبني هاشم مثله أن مِنَّا رجلًا ولي أربعين سنة، منها عشرون سنة خليفة وهو معاوية بن أبي سفيان. ولنا أربعةُ إخوةٍ خُلفاء: الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك، وليس لكم إلا ثلاثة: محمد وعبد الله وأبو إسحق، أولاد هارون.

قالوا: ومِنَّا رجلٌ ولده سبعة من الخلفاء: وهو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، أبوه يزيد ابن عاتكة خليفة، وجده عبد الملك خليفة، وأبو جده مروان بن الحكم خليفة، وجده من قِبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية أبوها يزيد بن معاوية وهو خليفة، ومعاوية بن أبي سفيان وهو خليفة، فهؤلاء خمسة. وأم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وحفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فهذان خليفتان. فهذه سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل.

قالوا: ومِنَّا امرأةٌ أبوها خليفة، وجَدُّها خليفة، وابنها خليفة، وأخوها خليفة، وبعلها خليفة، فهؤلاء خمسة، وهي: عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. أبوها يزيد بن معاوية خليفة، وجدها معاوية بن أبي سفيان خليفة، وابنها يزيد بن عبد الملك بن مروان خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وبعلها عبد الملك بن مروان خليفة.

قالوا: ومن وَلَد المُدبَّج محمد بن عبد الله الأصفر امرأةٌ ولدها النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ وطلحة والزبير، وهي: عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير، وأم عروة أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وأم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو المُدبَّج فاطمة بنت الحسين بن علي، وأم الحسين بن علي فاطمة بنت رسول الله ، وأم فاطمة بنت الحسين بن علي أم إسحق بنت طلحة بن عبيد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب.

قالوا: ولنا في الجمال والحُسن ما ليس لكم، مِنَّا المُدبَّج والديباج، قيل ذلك لجماله، ومِنَّا المُطرف، ومِنَّا الأُرجوان. فالمُطرف وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان سُمِّيَ المطرف لجماله، وفيه يقول الفرزدق:

نَمَا الفَارْوقُ أَنَّكَ وابْنُ أَرْوَى
أَبُوكَ فَأَنْتَ مُنْصَدَعُ النَّهَارِ

والمدبج هو الديباج، كان أطول الناس قيامًا في الصلاة، وهلك في سجن المنصور.

قالوا: ومِنَّا ابن الخلائف الأربعة، دُعي بذلك وشُهر به، وهو المؤمل بن العباس بن الوليد بن عبد الملك. كان هو وأخوه الحارث ابنَي العباس بن الوليد من الفجاءة بنت قطري بن الفجاءة إمام الخوارج، وكانت سُبيت فوَقعَت إليه، فلما قام عمر بن عبد العزيز أتت وجوه بني مازن وفيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر، فقال حاجب:

أَتَيْنَاكَ زُوَّارًا ووفْدًا إلى التي
أَضَاءَتْ فَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ نُورُهَا
أبُوهَا عَميدُ الحَيِّ جَمْعًا وأُمُّها
مِنَ الحَنْظَلِيَّاتِ الكِرَامِ حُجورُها
فإنْ تَكُ صَارَتْ حِينَ صَارَتْ فإنَّها
إلَى نَسَبٍ زاكٍ كِرَامٍ تُغِيرُها

فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد: إمَّا أن تردها إلى أهلها وإمَّا أن تتزوجها. قال قائل ذات يوم للمؤمل: يا ابن الخلائف الأربعة! قال: ويلك، من الرابع؟ قال: قطري. فأمَّا الثلاثة فالوليد وعبد الملك ومروان، وأمَّا قطري فبُويع بالخلافة. وفيه يقول الشاعر:

وَأَبُو نَعَامَةَ سَيِّدُ الكُفَّارِ

قالوا: ومن أين صار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أَحَق بالدعوة والخلافة من سائر إخوته؟ ومن أين كان له أن يضعها في بَنِيه دون إخوته؟ وكيف صار بنو الأخ أحق بها من الأعمام! قالوا: إن يكن هذا الأمر إنما يُستحق بالميراث فالأقرب إلى العباس أحق، وإن كان بالسن والتجربة فالعمومة بذلك أَولى!

قالوا: فقد ذَكَرْنا جُملًا من حال رجالنا في الإسلام. وأمَّا الجاهلية، فلنا الأعياص، والعنابس، ولنا ذو العِصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص كان إذا أَعتَم لم يُعتِم بمكة أحد، ولنا حرب بن أمية رئيسُ يومِ الفجِار، ولنا أبو سفيان بن حرب رئيس أُحُد والخندق وسيِّد قُريشٍ كلها في زمانه. وقال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر حين رأى العباس وأبا سفيان على فراشه دون الناس: ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال! قال عمر: بئس أخو العشيرة أنت! هذا عم رسول الله ، وهذا سيد قريش!

قالوا: ولنا عتبة بن ربيعة، ساد مُملقًا ولا يكون السيد إلا مُترفًا، لولا ما رأوا عنده من البراعة والنُبل والكمال، وهو الذي تحاكمت بجيلة وكلب في منافرة جرير والفرافصة وتراهنوا بسوق عكاظ وضعوا الرُّهُنَ على يده دون جميع من شهد على ذلك المشهد. وقال رسول الله — ونظر إلى قُريشٍ مقبلةً يوم بدر: إن يكن منهم عند أحد خيرٌ فعند صاحب الجمل الأحمر! وما ظنك بشيخ طلبوا له من جميع العسكر عند المبارزة بيضةً فلم يقدروا على بيضة يُدخل رأسه فيها؟ وقد قال الشاعر:

وإنَّا أُناسٌ يَمْلَأُ البَيْضَ هَامُنا

قالوا: وأمية الأكبر صنفان: الأعياص والعنابس. قال الشاعر:

مِنَ الأعْيَاصِ أوْ مِنْ آلِ حَرْبٍ
أغَرُّ كَغُرَّةِ الفَرَسِ الجوادِ

سُمُّوا بذلك في حرب الفِجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها وقالوا: نموت جميعًا أو نظفر. وإنما سُمُّوا بالعنابس لأنها أسماء الأُسود، وإنما سُمُّوا الأعياص لأنها أسماء الأصول. فالعنابس: حرب وأبو حرب، وسفيان وأبو سفيان، وعمرو. والأعياص: العيص وأبو العيص، والعاص وأبو العاص، وأبو عمرو. ولم يُعقِب من العنابس إلا حرب، وما عقب الأعياص إلا العيص؛ ولذلك كان معاوية يشكو القِلَّة. قالوا: وليس لبني هاشم والمطلب مثل هذه القسمة، ولا مثل هذا اللقب المشهور.

قالت هاشم:

أما ما ذكرتم من الدهاء والنكر، فإن ذلك من أسماء فُجَّار العقلاء، وليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء والأبرار. قد بلغ أبو بكر وعمر من التدبير وصواب الرأي والخبرة بالأمور العامة، وليس من أوصافهما ولا من أسمائهما أن يقال كانا داهيَين ولا كانا مَكيرَين! وما عامل معاوية وعمرو بن العاص عليًّا قط بمعاملة إلا وكان عليٌّ أعلم بها منهما، ولكن الرجل الذي يحارب ولا يستعمل إلا ما يحل له أقل مذاهب في وجوه الحِيل والتدبير من الرجل الذي يستعمل ما يَحِل وما لا يَحِل! وكذلك من حدث وأخبر، ألا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية ولا لما يُولِّد ويصنع نهاية؟ والصدوق إنما يحدث عن شيء معروف ومعنى محدود؟ ويدلُّ على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء ليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المُتقِين. ولو كان الدهاء مرتبةً والمكر منزلةً لكان تقدُّم هؤلاء الجميع السابقِين الأَوَّلِين عيبًا شديدًا في السابقِين الأَوَّلِين، ولو أن إنسانًا أراد أن يمدح أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا ثم قال: الدهاة أربعةٌ وعدهم، لكان قد قال قولًا مرغوبًا عنه؛ لأن الدهاء والمكر ليس من صفات الصالحِين، وإن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء! ألا ترى أنه قد يَحسُن أن يقال: كان رسول الله أكرم الناس، وأحلم الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. ولا يجوز أن يُقال: كان أمكر الناس وأدهى الناس؟ وإن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر وخديعة، وبكل أَرَب ومكيدة؟

وأما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، فأين أنتم من جود عبد الله بن جعفر وعبيد الله بن العباس، والحسن بن علي؟ وأين أنتم من جود خلفاء بني العباس كمحمد المهدي، وهارون، ومحمد بن زبيدة، وعبد الله المأمون، بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبني برمك أعظم من جود الرجلَين اللذَين ذكرتموهما، بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية.

وأمَّا ما ذكرتم من حِلم معاوية، فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا مُحتملِين لذلك، ولكن الوجه في هذا ألَّا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله وأكرم أخلاقه، وإلا أن يَبِين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسمًا يُسمَّى به ويصير معروفًا به، كما عُرف الأحنف بالحلم، وكما عُرف حاتم بالجود، وكذلك هرم قالوا: هرم الجواد! ولو قلتم كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس لقلنا ولعله يكون قد كان حليمًا ولكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورًا ومن أشكاله بائنًا. وإنكم لتَظلِمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم، فكيف من دونه؟ لأن العرب تقول: أحلم الحِلمَين ألَّا يَتعرَّض ثم يَحلُم. ولم يكن في الأرض رجلٌ أكثر تعرُّضًا من معاوية! والتعرُّض هو السَّفَه. فإن ادَّعيتم أن الأخبار التي جاءت في تعرُّضه كلها باطل، إنَّ لقائلٍ أن يقول: وكل خبر رَوَيْتموه في حلمه باطل! ولقد شُهِر الأحنف بالحلم، ولكنه تكلم بكلام كثير يَجرَح في الحلم ويَثلِم في العِرض. ولا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب ولا عن الحسن بن علي بن أبي طالب لفظًا فاحشًا ولا كلمةً ساقطةً ولا حرفًا واحدًا مما يُحكى عن الأحنف ومعاوية! وكان المأمون أحلم الناس، وكان عبد الله السَّفَّاح أحلم الناس. وبعد، فمن يستطيع أن يصف هاشمًا أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الأخلاق والأفعال حتى يُسمِّيه بذلك ويخصه به دون كل شيءٍ فيه من الفضل؟ وكيف وأخلاقهما متساوية وكلها في الغاية؟ ولو أن رجلًا كان أظهر الناس زهدًا وأصدقهم للعدو لقاءً وأصدق الناس لسانًا وأجود الناس كفًّا وأفصحهم منطقًا، وكان بكل ذلك مشهورًا، لمنع بعض ذلك من بعض، ولما كان له إلا اسم السيد المُقدَّم والكامل المُعظَّم، ولم يكن الجود أغلب على اسمه، ولا البيان ولا النجدة.

وأما ما ذكرتم من الخطابة والفصاحة والسؤدد والعلم بالأدب والنسب، فقد علم الناس أن بني هاشم في الجملة أَرَقَّ أَلسِنةً من بني أمية. كان أبو طالب والزبير شاعرَين، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرًا. ولم يكن في أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر، ولم يكن في أولاد أمية إلا أن تَعُدوا في الإسلام العَرْجَى من ولد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن الحكم، فنعدُّ نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وإن عددتم الخطابة والبيان والفصاحة لم تعدوا كعليِّ بن أبي طالب ولا كعبدِ الله بن العباس. ولنا من الخطباء: زيد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وجعفر بن الحسين بن الحسن، وداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وداود وسليمان ابنا جعفر بن سليمان. قالوا: كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية، وكان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما، وكان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة، فكان أهل مكة يقولون: لم يرد علينا أمير إلا وسليمان أبين منه قاعدًا وأخطب منه قائمًا. وكان داود إذا خطب اسحَنفَر فلم يَرُدَّه شيء. قالوا: ولنا عبد الملك بن صالح بن علي كان خطيبًا بليغًا، وسأله الرشيد — وسليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر حاضران — فقال له: كيف رأيت أرض كذا؟ قال: مَسافِي رِيح ومَنابِتُ شِيح. قال: فأرض كذا؟ قال: هَضَباتٌ حُمر ورَبَواتٌ عُفر. حتى أتى على جميع ما سأله عنه، فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام.

قالوا: وأَّما ما ذكرتم من نُسَّاك الملوك، فلنا علي بن أبي طالب وبزهده وبدينه يُضرب المثل. وإن عددتم النُّسَّاك من غير الملوك، فأين أنتم عن علي بن الحسين زين العابدين الذي كان يُقال له: عليٌّ الخير وعليٌّ الأغر وعليٌّ العابد، وما أقسم على الله بشيءٍ إلا وأَبرَّ قَسَمه؟ وأين أنتم عن علي بن عبد الله بن العباس؟ وأين أنتم عن موسى بن جعفر بن محمد؟ وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا لابس الصوف طول عمره مع سَعة أمواله وكثرة ضِياعه وغَلَّاته؟

وأما ما ذكرتم من الفتوح، فلنا الفتوح المُعتصِمية التي سارت بها الركبان وضُربت بها الأمثال، ولنا فتوح الرشيد، ولنا الآثار الشريفة في قتل بابك الخرمي بعد أن دامت فتنته في دار الإسلام نحو ثلاثين سنة.

فأما الفقه والعلم والتفسير والتأويل، فإذا ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس، وزيد ومحمد ابنَي علي بن الحسين بن علي، وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا عِلمُه وفِقهُه، ويقال إن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب؛ ولذلك نُسِب سفيان إلى أنه زيدي المذهب وكذلك أبو حنيفة. ومَن مثل علي بن الحسين زين العابدين، وقال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر الواحد: وجدت علي بن الحسين — وهو أفقه أهل المدينة — يُعوِّل على أخبار الآحاد. ومَن مثل محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرر علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غلبنا الناس كلهم بأبي هاشم الأَوَّل!

وإن ذكرتم النجدة والبسالة والشجاعة، فمَن مثل علي بن أبي طالب وقد وقع اتفاق أوليائه وأعدائه على أنه أشجع البشر؟ ومن مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله؟ ومن مثل الحسين بن علي! قالوا يوم الطف: ما رَأَينا مَكثورًا قد أُفرِد من إخوته وأهله وأنصاره أَشجَع منه، كان كالليث المِحْرَب يَحْطِم الفرسان حَطمًا، وما ظنك برجلٍ أَبَت نفْسُه الدنية وأن يُعطي بيده، فقاتل حتى قُتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمه بعد بذل الأمان لهم والتوثقة بالأيمان المُغلَّظة، وهو الذي سَنَّ للعرب الإباء واقتدى بعده أبناء الزبير وبنو المُهلَّب وغيرهم. ومن لكم مثل محمد وإبراهيم ابنَي عبد الله؟ ومن لكم مثل زيد بن علي، وقد علمتم كلمته التي قالها حيث خرج من عند هشام: ما أَحَبَّ الحياةَ إلا من ذَلَّ. فلما بَلغَت هشامًا قال: خارجٌ ورب الكعبة. فخرج بالسيف ونهى عن المنكر ودعا إلى إقامة شعائر الله حتى قُتل صابرًا محتسبًا. وقد بَلغَتكم شجاعة أبي إسحاق المعتصم ووقوفه في مشاهد الحروب بنفسه حتى فتح الفتوح الجليلة، وبَلغَتكم شجاعة عبد الله بن عليٍّ وهو الذي أزال مُلكَ بني مروان وشهد الحروب بنفسه، وكذلك صالح بن علي وهو الذي تبع مروان بن محمد إلى مصر حتى قتله.

قالوا: وإن كان الفضل والفخر في تواضع الشريف وإنصاف السيد وسجاحة الخلق ولين الجانب للعشيرة والموالي، فليس لأحدٍ من ذلك ما لبني العباس. ولقد سألنا طارق بن المبارك — وهو مولًى لبني أمية وصنيعةٌ من صنائعِهم — فقلنا: أي القبيلَين أشد نخوة وأعظم كبرياء وجبرية! أبنو مروان أم بنو العباس؟ فقال: والله لبنو المروان في غير دولتهم أعظم كبرياء من بني العباس في دولتهم. وقد كان أدرك الدولتَين. ولذلك قال شاعرهم:

إذا تائِهٌ مِنْ عبدِ شمْسٍ رَأَيْته
يَتيهُ فَرَشِّحْهُ لِكُلِّ عَظِيمِ
وإنْ تَاه تيَّاهٌ سِواهُمْ فإنَّما
يَتيهُ لِنوْكٍ أوْ يَتيهُ لِلُومِ

ومن كلامهم: من لم يكن من بني أمية تيَّاهًا فهو دعي.

قالوا: وإن كان الكبر مفخرًا يُمدح به الرجال ويُعدُّ من خصال الشرف والفضل، فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرًا من كل أموي كان ويكون في الدنيا، وأخباره في كِبره وتِيهه مشهورةٌ متعالية.

قالوا: وإن كان الشرف والفخر في الجمال والكمال وفي البَسْطة في الجسم وتَمام القَوام، فمن كان كالعباس بن عبد المطلب! قالوا: رأينا العباس يطوف بالبيت وكأنه فِسطاطٌ أَبيَض. ومَن مثل عليِّ بن عبد الله بن العباس وولده، وكان كل واحد منهم إذا قام إلى جنب أبيه كان رأسه عند شحمة أُذنِه، وكانوا من أَطولِ الناس، وإنك لتجد مِيراث ذلك اليومِ في أولادهم. ثُمَّ الذي رواه أصحاب الأخبار وحُمَّال الآثار في عبد المطلب من التمام والقَوام والجمال والبهاء، وما كان من لَقبِ هاشمٍ بالقمر لجماله ولأنهم يستضيئون برأيه، وكما رواه الناس أن عبد المطلب ولد عشرة كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجَذَعة ويشرب الفرَق وتَرُدُّ أُنُفهم قبل شفاههم، وأن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون بالبيت كأنهم جِمالُ جون قال: بهؤلاء تمنع مكة وتشرف مكة. وقد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفَّاح وحُسنه، وكذلك المهدي، وابنه هارون الرشيد، وابنه محمد بن زبيدة إلى الواثق، وكان الحسن بن علي أصبح الناس وجهًا، كان يُشبَّه برسول الله . وكذلك عبد الله بن الحسن المحض.

وقالوا: ولنا ثلاثة في عصر كلهم يُسمَّى عليًّا، وكلهم كان يصلح للخلافة بالفقه والنُّسُك والمركب والرأي والتجربة والحال الرفيعة بين الناس: علي بن الحسين بن علي، وعلي بن عبد الله بن العباس، وعلي بن عبد الله بن جعفر. كل هؤلاء كان تامًّا كاملًا بارعًا جامعًا. وكانت لُبابة بنت عبد الله بن العباس عند علي بن عبد الله بن جعفر، قالت: ما رأيته ضاحكًا قط ولا قاطبًا، ولا قال شيئًا احتاج إلى أن يعتذر منه، ولا ضرب عبدًا قط ولا ملكه أكثر من سنة. قالوا: وبعد هؤلاء ثلاثة بنو عم، وهم بنو هؤلاء الثلاثة، وكلهم يُسمَّى محمدًا، كما أن كل واحد من أولئك يُسمى عليًّا، وكلهم يصلح للخلافة بكرم النسب وشرف الخصال: محمد بن علي بن الحسين بن علي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن علي بن عبد الله بن جعفر. قالوا: كان محمد بن علي بن الحسين لا يُسمع المُبتلَى الاستعاذة، وكان ينهى الجارية والغلام أن يقولا للمسكين: يا سائل، وهو سيِّد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تَعلَّم الناس الفقه، وهو المُلقَّب بالباقر، باقر العلم، لَقَّبه به رسول الله ولم يُخلق بعدُ، وبشَّر به ووعد جابر بن عبد الله برؤيته وقال: ستراه طفلًا فإذا رَأيْتَه فأَبلِغْه عني السلام. فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وُصِّي به. وتَوعَّد خالد بن عبد الله القسري هشام بن عبد الملك في رسالةٍ له إليه وقال: والله إنِّي لأعرف رجلًا حجازي الأصل شامي الدار عراقي الهوى! يريد محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.

وأمَّا ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فإنَّا نذكر فاطمة بنت رسول الله ، وهي سيدة نساء العالَمِين، وأمها خديجة سيدة نساء العالَمِين، وبعلها علي بن أبي طالبٍ سيد المُسلمِين كافَّة، وابن عمها جعفر ذو الجناحَين وذو الهجرتَين، وابناها حسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وجَدها أبو طالب بن عبد المطلب أشد الناس عارضةً وشكيمةً وأجودهم رأيًا وأشهمهم نفسًا وأمنعهم لما وراء ظهره، منع النبي من جميع قريش ثم بني هاشم وبني المطلب، ثم منع بني إخوته من بني أخواته من بني مخزوم الذين أسلموا، وهو أحد الذين سادوا مع الإقلال، وهو مع هذا شاعرٌ خطيب. ومن يُطيق أن يفاخر بني أبي طالب وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أَوَّل هاشمية وَلدَت لهاشمي، وهي التي رُبِّي رسول الله في حجرها وكان يدعوها: أمي، ونزل في قبرها وكان يوجب حقها كما يوجب حق الأم؟ من يستطيع أن يُسامي رجالًا ولدهم هاشم مرتين من قِبل أبيهم ومن قِبل أمهم؟ قالوا: ومن العجائب أنها ولدت أربعةً كلٌّ منهم أسنّ من الآخر بعشرِ سنين: طالب وعقيل وجعفر وعلي. ومَن الذي يَعُد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرةً في نَسَق، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاكٍ؟ فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون، ابن ابن ابن ابن هكذا إلى عشرة، وهم: الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي. وهذا لم يتفق لبيتٍ من بيوت العرب ولا من بيوت العجم.

قالوا: فإن فخرتم بأن منكم اثنتَين من أمَّهات المُؤمنِين: أم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش، فزينب امرأةٌ من بني أسد بن خزيمة ادَّعيتموها بالحِلف لا بالولادة! وفينا رجلٌ ولدته أُمَّان من أُمَّهات المؤمنين: محمد بن عبد الله بن الحسن المحض، ولدته خديجة أم المُؤمنِين، وأم سلمة أم المؤمنين، وولدته مع ذلك فاطمة بنت الحسين بن علي، وفاطمة سيدة نساء العالَمِين ابنة رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم. وكان يُقال: خير النساء الفواطِم والعواتِك. وهن أُمَّهاته.

قالوا: ونحن إذا ذكرنا إنسانًا فقبل أن نعُد من ولده نأتي به شريفًا في نفسه مذكورًا بما فيه دون ما في غيره. قلتم: لنا عاتكة بنت يزيد، وعاتكة في نفسها كامرأةِ من عرضِ قريش ليس فيها في نفسها خاصةً أمر تستوجب به المفاخرة. ونحن نقول: مِنَّا فاطمة، وفاطمة سيدة نساء العالَمِين، وكذلك أمها خديجة الكبرى. وإنما تُذكران مع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم اللتَين ذكرهما النبي وذكر إحداهما في القرآن، وهن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب والعجم. وقلتم: لنا عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، وَلدُه سبعة من الخلفاء. وعبد الله هذا في نفسه ليس هناك. ونحن نقول: مِنَّا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، كلهم سيد، وأمه العالية بنت عبد الله بن العباس، وإخوته: داود وصالح وسليمان وعبد الله رجال كلهم أغرُّ مُحجَّل، ثم وَلَد الرؤساء إبراهيم الإمام وأخويه أبا العباس وأبا جعفر ومن جاء بعدهما من خلفاء بني العباس. وقلتم: مِنَّا عبد الله بن يزيد، وقلنا: مِنَّا الحسين بن علي سيِّد شباب أهل الجنة وأَوْلى الناس بكل مَكرُمة وأطهرهم طهارة، مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم والأنف، وأخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة وأرفع الناس درجة وأشبههم برسول الله خَلقًا وخُلقًا، وأبوهما علي بن أبي طالب وهو الذي تَرْكُ وَصْفِه أبلغ في وصفه، وعمهما ذو الجناحَين، وأمهما فاطمة، وجَدَّتهما خديجة، وأخوالهما: القاسم وعبد الله وإبراهيم، وخالاتهما زينب ورقية وأم كلثوم، وجَدَّتاهما: آمنة بنت وهب والدة رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وجَدُّهما رسول الله المُخرِس لكل مُفاخر والغالب لكل منافر. قل ما شِئتَ واذكر أيَّ بابٍ شِئتَ من الفضل فإنك تجدهم قد حازوه.

قالت أمية:

نحن لا ننكر فخر بني هاشم وفضلهم في الإسلام، ولكن لا فرق بيننا في الجاهلية إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون: هاشم وعبد شمس، ولا هاشم وأمية، بل كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف، حتى كان أيام تَميُّزهم في أمر علي وعثمان في الشورى، ثُمَّ ما كان في أيام تَحزُّبهم وحربهم مع عليٍّ ومعاوية. ومن تأمَّل الأخبار والآثار علم أنه ما كان يُذكر فرق بين البيتَين، وإنما يقال: بنو عبدِ مناف. ألا ترى أن أبا قحافة سمع رجةً شديدةً وأصواتًا مرتفعة — وهو يومئذٍ شيخ كبير مكفوف — فقال: ما هذا؟ قالوا: قُبض رسول الله. قال: فما صنعت قريش؟ قالوا: ولوا الأمر ابنك. قال: ورَضِيت بذلك عبدُ مناف؟ قالوا: نعم. قال: فلا مانع لما أعطى الله ولا مُعطي لما منع … ولم يقل أَرَضِيَ بذلك بنو هاشم، أرضي بذلك بنو عبد شمس! وإنما جمعهم على عبدِ مناف؛ لأنه كذلك كان يُقال. وهكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلي وقد سَخِط إمارة أبي بكر: أَرَضِيتم يا بني عبدِ مناف أن تلي عليكم تَيْم؟! ولم يقُلْ أَرَضِيتم يا بني هاشم! وكذلك قال خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن وقد استُخلِف أبو بكر: أَرَضِيتم معشر بني عبدِ مناف أن تلي عليكم تَيْم؟!

قالوا: وكيف يُفرِّقون بين هاشم وعبدِ شمس وهما أخوان لأبٍ وأم! ويدل أن أمرهما كان واحدًا وأن اسمهما كان جامعًا قول النبي وصنيعه حين قال: مِنَّا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن. وكان أسديًّا، وكان حليفًا لبني عبد شمس — وكل من شهد بدرًا من بني كثير بن داود وكانوا حلفاء بني عبد شمس — فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك مِنَّا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو مِنَّا بالحِلْف. فجعل حليف بني عبد شمس حليف بني هاشم، وهذا بيِّن لا يحتاج صاحبُ هذه الصفة إلى أكثر منه. قالوا: ولهذا نكح هذا البيت في هذا البيت، فكيف صرنا نتزوج بنات النبي وبنات بني هاشم على وجه الدهر إلا ونحن أكفاء وأمرنا واحد؟ وقد سمعتم إسحاق بن عيسى يقول لمحمد بن الحارث أحد بني عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد: لولا حيٌّ أكرمهم الله بالرسالة لزَعَمتُ أنك أشرف الناس. أفلا ترى أنه لم يُقدِّم علينا رهطه إلا بالرسالة؟

قالت هاشم:

قلتم: لولا أنَّا كُنَّا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم. فقد نجد القوم يستوون في حسب الأب ويفترقون في حسب الأنفس، وربما استوَوْا في حسب أبي القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانة، ويختلفون كاختلاف كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، وكاختلاف أبناء قصي عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى. والقوم قد يساوي بعضهم بعضًا في وجوهٍ ويفارقونهم في وجوهٍ ويستجيزون بذلك القَدْر مُناكَحَتهم وإن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زَوَّجهم. وقد يُزوِّج السيد ابن أخيه وهو حارضٌ ابنُ حارض، على وَجهِ صلةِ الرحم، فيكون ذلك جائزًا عندهم. ووجوه في هذا الباب كثيرة. فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه، وإن كُنَّا قد زَوَّجناكم وساويناكم في بعض الآباء والأجداد!

وبعد، فأنتم في الجاهلية والإسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش وإلى سائر العرب، أفتزعمون أنهم أكفاؤكم عينًا بعين؟

وأمَّا قولكم إن الحيَّين كان يُقال لهما عبد مناف، فقد كان يُقال لهما أيضًا مع غيرهما من قريش وبنيها: بنو النضر. وقال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، فلم يَدْعُ النبي أحدًا من بني عبد شمس، وكانت عَشيرتُه الأَقرَبون بني هاشم وبني عبد المطلب، وعشيرته فوق ذلك عبد مناف، وفوق ذلك قصي. ومن ذلك أن النبي لما أُتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس، وأم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، قال: هذا أشبه بنا منه بكم. ثُمَّ تَفَل في فيه فازدَردَه، فقال: أرجو أن تكون مَسقيًّا. فكان كما قال. ففي قوله: هو أشبه بنا منه بكم، خَصلَتان: إحداهما أن عبد شمس وهاشمًا لو كانا شيئًا واحدًا كما أن بني عبد المطلب شيء واحد لما قال هو بنا أشبه به منكم، والأُخرى أن في هذا القول تفضيلًا لبني هاشم على بني عبد شمس. ألا ترون أنه خرج خطيبًا جوادًا نبيلًا وسيدًا مَسقيًّا له مصانع وآثار كريمة! لأنه قال: هو بنا أشبه به منكم؟ وأُتي عبد المطلب بعامر بن كريز — وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء — فتأمله وقال: وعِظامِ هاشمٍ ما ولدنا ولدًا أَحرَض منه. فكان كما قال. ولم يقل: وعظامِ عبدِ مناف؛ لأن شرف جَدِّه عبدِ منافٍ له فيه شركاء، وشرف هاشم أبيه خالصٌ له.

وأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان وخالد بن سعيد: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟ فهذه الكلمة كلمةُ تحريضٍ وتهييج، فكان الأبلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقَين أن يدعوهم لأبٍ وأن يجمعهم على واحد، وإن كانا مفترقَين. وهذا المذهب سديد وهذا التدبير صحيح. قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة وهو نهشلي، وللفرزدق بن غالب وهو مجاشعي، ولمسكين بن أنيف وهو عبدلي: أرضيتم معشر بني دارم أن يَسب آباءكم ويَشتم أعراضَكم كلبُ بني كُليب؟!٢ وإنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر المُشتمِل على آباء قبائلهم لِيَستووا في الحميَّة ويتفقوا على الأنف، وهذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح.

قالوا: ويدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان وقبل صِفِّين. قال حسان بن ثابت لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:

وأَنْتَ مَنُوطٌ نِيطَ في آلِ هاشِمٍ
كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ

ولم يقل: نيط في آل عبد مناف! وقال آخر:

مَا أَنْتَ مِنْ هاشِمٍ فِي بَيْتِ مَكْرُمَةٍ
ولَا بَنِي جُمَحَ الخُضْرِ الجلاعيدِ

ولم يقل: ما أنت من آل عبد مناف. وكيف يقولون هذا وقد علم الناس أن عبدَ منافٍ ولد أربعة: هاشمًا والمطلب وعبد شمس ونوفلًا؟ وأن هاشمًا والمطلب كانا يدًا واحدةً، وأن عبد شمس ونوفلًا كانا يدًا واحدةً. وكان مما أبطأ ببني نوفلٍ عن الإسلام إبطاءُ إخوتهم من بني عبد شمس، وكان مما حث بني المطلب على الإسلام فضل محبتهم لبني هاشم؛ لأن أمر النبي كان بيِّنًا، وإنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد والبِغْضة، فمن لم يكن فيه هذه العِلَّة لم يكن له دون الإسلام مانع؛ ولذلك لم يصحب النبي من بني نوفل أحد، فضلًا عن أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة، وإنما صحبه حلفاؤهم كيعلي بن منبه وعتبة بن غزوان وغيرهما. وبنو الحارث بن المطلب كلهم بدري: عبيدة وطفيل وحصين. ومن بني المطلب: مسطح بن أثاثة بدري. وكيف يكون الأمر كما قلتم وأبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي لما تمالأت قريش عليه:

جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلًا
جَزَاءَ مُسِيءٍ عَاجِلًا غَير آجلِ
أمُطْعِمُ إمَّا سَامَنِي القَوْمُ خِطَّة
فإنِّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْتَ بِآكِلِي
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذِلْكَ فِي يَوْمِ شِدَّةٍ
ولَا مَشْهَدٍ عِنْدَ الأُمُورِ الجَلائِلِ

ولقد قسم النبي قسمة فجعلها في بني هاشم وبني المطلب، فأتاه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالا له: يا رسول الله، إن قرابتنا منك وقرابة بني المطلب واحدة، فكيف أعطيتهم دوننا؟ فقال النبي: إنَّا لم نزل وبني المطلب كهاتَين. وشَبَّك بين أصابعه. فكيف تقولون كُنَّا شيئًا واحدًا، وكان الاسم الذي يجمعنا واحدًا؟

قالت هاشم:

وإن كان الفخر بالأَيْد والقوة واهتِصار الأقران ومُباطَشة الرجال، فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية! وقد سمعتم أخباره وأنه قبض على درعٍ فاضلةٍ فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله. وسمعتم حديث الأَيِّد القوي الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب، وأن محمدًا قعد له لِيُقيمه فلم يَستطِع فكأنما يُحرِّك جبلًا، وأن الرومي قعد لِيُقيمه محمد فرفعه فوق رأسه ثُمَّ جَلَد به الأرض. هذا مع الشجاعة المشهورة والفقه في الدين والحلم والصبر والفصاحة والعلم بالملاحم والإخبار عن الغيوب حتى ادُّعِي له أنه المهدي. وقد سمعتم أحاديث أبي إسحاق المعتصم وأن أحمد بن أبي دواد عضَّ ساعده بأسنانه أشد العض فلم يُؤثِّر فيه، وأنه قال: ما أظن الأسنة ولا السهام تُؤثِّر في جسده؟! وإن كان الفخر بالبشر وطلاقة الأوجه وسجاحة الأخلاق، فمن مثل علي بن أبي طالب وقد بلغ من سجاحة خُلقِه وطلاقة وَجهِه أن عِيب بالدُّعابة؟ ومن الذي يُسوِّي بين عبد شمس وهاشم في ذلك؟! كان الوليد جبَّارًا، وكان هشام شَرِس الأخلاق، وكان مروان بن محمد لا يزال قاطبًا عابسًا، وكذلك كان يزيد بن الوليد الناقص. وكان المهدي بن المنصور أسرى خلق الله وألطفهم خُلقًا، وكذلك محمدٌ الأمين وأخوه المأمون. وكان السفَّاح يُضرَب به المثل في السَّرْوِ وسجاحة الخلق.

قالوا: ولنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله. مِنَّا يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان شجاعًا جريًّا، وهو الذي وَلِي الموصل لأخيه السفَّاح فاستعرض أهلها حتى ساخت الأقدام في الدم. ومِنَّا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، كان شاعرًا فصيحًا، وهو المعروف بأبي الأسباط. ومِنَّا محمد وجعفر ابنا سليمان بن علي، كانا أعظم من ملوك بني أمية وأَجَل قدْرًا وأكثر أموالًا ومكانًا عند الناس. وأهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخَيزَران مائةَ وصيفةٍ في يَدِ كل واحدةٍ منهن جامٌ من ذهبٍ وزنه ألفُ مثقالٍ مملوءٌ مِسكًا. وكان لجعفر بن سليمان ألفا عبدٍ من السودان خاصَّة، فكم يكون — ليت شعري — غيرهم من البيض ومن الإماء! وما رُؤِي جعفر بن محمد راكبًا قط إلا ظُنَّ أنه الخليفة. ومن رجالنا محمد بن السفَّاح، كان جوادًا أيِّدًا شديد البطش. قالوا: ما رُؤِي أخوان أشد قوةً من محمد وريطة أخته ولدَي أبي العباس السفاح، كان محمد يأخذ الحديد فيَلْوِيه فتأخذه هي فترُدُّه. ومن رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبي السرايا، كان ناسكًا عابدًا فقيهًا عظيم القَدْر عند أهل بيته وعند الزيدية. ومن رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو الذي شَيَّد ملك المنصور وحارب ابنَي عبد الله بن حسن وأقام عمود الخلافة بعد اضطرابه، وكان فصيحًا أديبًا شاعرًا. ومن رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، حَجَّ بالناس ووَلِي الشام، وكان فصيحًا خطيبًا. ومن رجالنا عبد الله بن موسى الهادي، كان أكرم الناس، وجوَّادًا مُمدَّحًا أديبًا شاعرًا. وأخوه علي بن موسى الهادي، كان أكرم الناس وأجود الناس، كان يلبس الثياب وقد حدَّد ظُفرَه فيَخرِقها بظُفره لئلَّا تُعاد إليه. وعبد الله بن أحمد بن عبد الله بن موسى الهادي، كان أديبًا ظريفًا.

قالوا: وقلتم: لنا عاتكة بنت يزيد يَكتنِفها خمسةٌ من الخلفاء. ونحن نقول: لنا زبيدة بنت جعفر يَكتنِفها ثمانيَةٌ من الخُلفاء: جَدُّها المنصور خليفة، وعم أبيها السفَّاح خليفة، وعمُّها المهدي خليفة، وابن عمها الهادي خليفة، وبعلها الرشيد خليفة، وابنها الأمين خليفة، وابنا بعلها المأمون والمعتصم خليفتان.

قالوا: وأمَّا ما ذكرتم من الأعياص والعنابس، فلسنا نُصدِّقكم فيما زعمتموه أصلًا لهذه التسمية، وإنما سُمُّوا الأعياص لمكان العيص، وأبي العيص، والعاص، وأبي العاص، وهذه أسماؤهم الأعلام ليست مُشتقَّة من أفعالٍ لهم كريمةٍ ولا خسيسة. وأما العنابس فإنما سُمُّوا بذلك لأن حرب بن أمية كان اسمه عَنبَسة، وأمَّا حربٌ فلَقبُه، ولما كان حرب أمثلهم سَمَّوا جماعتهم باسمه فقيل «العنابس» كما يقال «المهالبة» و«المناذرة»؛ ولهذا المعنى سُمِّيَ أبو سفيان بن حرب: ابن عنبسة، وسُمِّيَ سعيد بن العاص: ابن عنبسة.

•••

وهذا آخر ما عَثَرتُ عليه من هذا الكتاب استخلصتُه بعد جهدٍ وعناء.

١  المقر: الصبر.
٢  يعني جرير بن عطية الخطفي الشاعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤