من كتاب حجج النبوة

قال أبو عثمان:

الحمد لله الذي عرَّفَنا نفسه وعلَّمَنا دينه وجَعلَنا من الدعاة إليه والمُحتجِّين له، فنحن نسأله تمام النعمة والعون على أداء شكره، وأن يُوفِّقنا للحق برحمته، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه والمرغوب إليه فيه، وصلى الله على محمد وسلم.

ثم إنَّا قائلون في الأخبار ومُخبِرون عن الآثار، ومُفرِّقون بين أسباب الشبهة وأسباب الحُجة، ثم مُفرِّقون بين الحُجة التي تلزم الخاصة دون العامة، ومُخبِرون عن الضرب الذي يكون الخاصَّة فيه حُجة على العامة، وعن الموضع الذي يكون القليل فيه أحق بالحُجة من الكثير، ولِم شاع الخبر وأَصلُه ضعيف، ولِم خَفِي وأَصلُه قوي، وما الذي يؤمَن من فساده وتبديله مع تقادُم عَصرِه وكثرة الطاعنِين فيه، وعن الحاجة إلى رواية الآثار وإلى سماع الأخبار، وعن أخلاق الناس وآبائهم ومذاهبِ أسلافهم، وعن سِيَر الملوك قبلهم وما صَنعَت الأيام بهم، وعن شرائع أنبيائهم وأعلام رسلهم، وعن أدب حكمائهم وأقاويل أئمتهم وفقهائهم، وعن حالاتِ من غاب عن أبصارهم في دهرهم، ولِم كان الإخبار على الناس أَخفَّ من الكِتمان، ولِم كان الصمت أثقل عليهم من الكلام، وما الضرب الذي يَقدرون على كِتمانه وطَيِّه والضرب الذي لا يَقدرون إلا على إذاعته ونشره، ولِم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور واختلفت في غيرها، ولِم حفظت أمورًا ونَسِيَت سواها، ولم كان الصدق أكثر من الكذب، ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل. والعجب من تَرْك الفقهاء تمييز الآثار وتَرْك المُتكلمِين القول في تصحيح الأخبار، وبالأخبار يَعرِف الناس النبي من المُتنبِّي والصادق من الكاذب، وبها يعرفون الشريعة من السُّنة والفريضة من النافلة والحظر من الإباحة والاجتماع من الفُرقة والشذوذ من الاستفاضة والردَّ من المُعارَضة والنار من الجنة وعامَّة المفسدة والمصلحة. فإذا نَزَّلتُ الأخبار منازلها وقَسَّمتُها ذكرتُ حُجج الرسول ودلائله وشرائعه وسُننه، ثم جَنَّستُ الآثار على أقدارها ورَتَّبتُها في مراتبها وقَرَّبتُ ذلك واختَصرتُه وأَوضَحتُ عنه وبَيَّنتُه، حتى يستوي في معرفتها من قَلَّ سماعه وساء حفظه، ومن كثُر سماعه وجاد حفظه، بالوجوه الجليلة والأدلة الاضطرارية.

ولم أُرِدْ في هذا الكتاب جمع حُجج الرسول عليه السلام وتَفصيلَها والقولَ فيها لنقصٍ مسها أو لوهنٍ كان في أصلها من ناقلِيها والمُخبرِين عنها، أو لأن طعن المُلحدِين نهَكَها وفرَّق جماعتها ونَقَض قُواها! ولكن لأمورٍ سأذكرها وأَحتجُّ لها. وكيف تَقصُر الحُجة عن بلوغ الغاية وتنقُص عن التمام والله تعالى المُتوكِّل بها ومُسخِّر أصناف البرية لها ومُهيِّج النفوس على إبلاغها! وقد أخبر بذلك عن نفسه في مُحكَم كتابه عز ذكره حيث قال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وأدنى منازل الإظهار إظهار الحُجة على من ضادَّه وخالَفَ عليه. وقال عز ذكره: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود، ولم يكن ليأمر الأقصى كما يأمر الأدنى، ويأمر الغائب على الحاضر، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.

فأقول: إن كل مِنطيقٍ محجوج، والحُجة حُجتان: عِيانٌ ظاهر، وخبرٌ قاهر. فإذا تَكلَّمْنا في العيان وما يُفرَّع منه، فلا بدَّ من التعارف في أصله وفرعه منه، ولا بدَّ من التصادق في أصله والتعارف في فرعه، فالعقل هو المُستدِل، والعِيان والخَبر هما عِلَّة الاستدلال وأَصلُه، ومُحالٌ كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. والعقلُ مُضمَّن بالدليل والدليل مُضمَّن بالعقل، ولا بدَّ لكل واحد منهما من صاحب، وليس لإبطال أحدهما وجهٌ مع إيجاب الآخر. والعقل نوعٌ واحد، والدليلُ نوعان: أحدهما شاهد عِيانٍ يدل على غائب، والآخر مجيء خبرٍ يَدُل على صدق.

ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي وأعلامه والاحتجاج لشواهده وبرهاناته، فأقول: إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرِّقًا في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد بعد أن كان غيرها مُطلَقًا غير محظور، والذين حَصَّنوه ومنعوه الزيادة والنقصان، لو كانوا جمعوا علامات النبي وبرهاناته ودلائله وآياته وصنوف بدائعه وأنواع عجائبه في مقامه وظَعْنه وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم وبحضرة العدد الكثير الذين لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل والعدو المائل، لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها لا زِنديقٌ جاحد ولا دَهريُّ معاند ولا مُتظرِّف ماجن ولا ضعيفٌ مخدوع ولا حَدثٌ مغرور، ولكان مشهورًا في عوامِّنا كشُهرته في خواصِّنا، ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نَصاراهم ومَجُوسِهم، ولَمَا وجد المُلحِد موضع طَمَع في غبي يَستميلُه وفي حَدَثٍ يُموِّه له، ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا لما تَكلَّفْنا كشف الظاهر وإظهار البارز والاحتجاج للواضح. إلا أن الذي دعا سَلَفَنا إلى ذلك الاتِّكال على ظهورها واستفاضة أمرها، وإذ كان ذلك كذلك فَلَم يُؤتَ من أُتي من جُهَّالنا وأحداثنا وسُفَهائنا وخُلَعائنا إلا من قِبل ضَعف العناية وقِلَّة المُبالاة، ومن قِبَل الحَداثة والغَرارة، ومن قِبَل أنهم حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تَبلغْه قواهم وتَتَّسِع له صدورهم وتَحمِله أقدارهم، فذهبوا عن الحق يمينًا وشمالًا. لأن من لم يَلزم الجادَّة تَخبَّط، ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط، ومن خرق بنفسه وكلَّفَها فوق طاقتها ولم يَنَل ما لا يَقدِر عليه تَفلَّت منه ما كان يقدر عليه. فإذا كانوا كذلك فإنما أُتُوا من قِبَل أنفسهم ولم يُؤتَوا من سَلَفهم، أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيانٍ أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان، ولِيُعرِّضَهم لطاعته بالذب عن دينه والاحتجاج لنبيه ، وليُجرِيَ هذا الخير على أيديهم كما أَجرَى أكثر منه على أيدي أسلافهم؛ لئلَّا يَبخَس أَحدَ خليقته من العلماء والفقهاء، ولِأن يجعل فضله مُقسَّمًا بين جميع الأولياء، وإن كان الأَوَّل أحق بالتقديم والآخِر أحق بالتأخير للذي قدَّموا من الاحتمال وأعطَوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه، والأصل أحق بالقوة من الفرع، وهم السابقون ونحن التابعون، وهم الذين وطَّئوا لنا وكلَّفونا ما لم نكن لِنُكلِّفه أنفسنا، فتجرَّعوا دوننا المَرار ومنحونا رُوح الكفاية، ولأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه ، ولأن القرآن نطق بفضيلتهم والله تعالى أعلم بمن بعدهم. والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد دون أُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، والذين رأَوا من قول عبد الله في المُعوذتَين وقول أُبيٍّ في سورتي١ العرب ومن تَعلُّق الناس بالاختلاف فكانوا لا يزالون قد رَأَوا الرجل يروي الحرف الشاذَّ ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه، فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على المقروء عندهم المشهور فيما بينهم، وأنهم إن لم يُشدِّدوا في ذلك لم ينقطع الطمع ولم ينزجر الطير. لأن رجلًا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورةً واحدةً طويلةً أو قصيرةً لَتبيَّن له في نظامها ومخرجها وفي لفظها وطبعها أنه عاجزٌ عن مثلها، ولو تَحدَّى بها أبلغ العرب لظهر عَجزُه عنها، وليس ذلك في الحرف والحرفَين والكلمة والكلمتَين! ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم ويجري على ألسنتهم أن يقول رجلٌ منهم: الحمد لله وإنَّا لله وعلى الله توكلنا وربنا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل. وهذا كله في القرآن، غير أنه مُتفرِّقٌ غيرُ مجتمع. ولو أراد أَنطقُ الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورةً واحدةً طويلةً أو قصيرةً على نظم القرآن وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قَدَر عليه، ولو استعان بجميع قَحطان ومَعَد بن عدنان. ورَأَوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يُحصِّنوه مما يُشكِل ويمكن أن يُفتعَل مثله من الحرف والحرفَين والكلمة والكلمتَين. وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير على البلغاء والشعراء وخافوا إن هم لم يَتقدَّموا في ذلك أن يتطرقوا عليه كما تطرقوا على الرواية؛ لأنهم حين رَأَوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة ورَأَوا كثرة اختلافها والغرائب التي لا يعرفونها لم يكن لهم إلا تحصينُ الشيء الذي عليه مَدارُ الأمر وإن كانوا يعلمون أن الله بالغُ أمرِه. فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأُمة كما حاط السلفُ أولها، وأن يعملوا بظاهر الحَيْطة إذ كان على الناس الاجتهاد، وليس عليهم علم الغيوب. وإنما ذلك كنَحوِ رجل أبصر نبيًّا يُحيي الموتى فعرف صدقه، فلما انصرف سأله عنه بعضُ من لم ير ذلك ولا صَحَّ عنده فعليه ألَّا يَكتُمه وإن كان يعلم أن الله تعالى سيُعلمه ذلك من قِبل غيره وأنه عزَّ ذكره سيُسمِعه صِحَّته على حبه وكرهه. ورأوا أن قراءة زيدٍ أحقُّ بذلك؛ إذ كانت آخر العَرض، ولأن الجمع الذين سمعوا آخر العَرض أكثر ممن سَمع أَوَّله، فحملوا الناس على قراءةِ زيد دون أُبي وعبد الله، وإن كان الكل حقًّا. إذ كان رُبَّ حقٍّ في بعض الزمان أَقطَع للقيل والقال وأَجدَر أن يُميت الخلاف ويَحسِم الطمع، فتركوا حقًّا إلى حقٍّ العملُ به أحق. ولو أن فقيهًا رأى إطباق العلماء على صَومِ يوم عرفة واستنكارهم الإفطار فيه فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة، أو خاف أن يَلحَق الفَرضَ على تطاول الأيام ما ليس فيه، كان مُصيبًا، ولكان قد ترك حقًّا إلى أحقٍّ منه. وللحق درجات، وللخلاف درجات، وللحرام درجات. ألا ترى أن لِوَلِيِّ المقتول أن يَقتُل أو يَصفَح، وأنه إن قَتَل قَتَل بحق وإن صَفَح صَفَح بحق، والصفح أفضل من القتل. ولو أن رجلًا أخرج ساكنًا بيتًا له أو اقتضى دينًا له عند حلول أجله أو طلق زوجته وما دخل بها لكان ذلك له والحق فعل؟ وغير ذلك الحق أَولى به؟ وكيف لا يكون أَولى به وهو أحسن والثواب فيه أعظم وإلى سلامة الصدور أقرب؟ وقد يكون الأمران حَسنَين وأحدهما أحسن، وقد يكون الأمران قبيحَين وأحدهما أقبح. وبعد، فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به إلا فيما تَبيَّن أنه معصية، فأمَّا غير ذلك فإنه واجبٌ مفروض ولازمٌ غيرُ مدفوع. وعَلِموا أيضًا أنهم لا يَبقَون إلى آخر الزمان وأن من يجيء بعدهم لا يقوم مقامهم ولا يُفصِّل الأمور تفصيلهم، ولو عرفوا كمعرفتهم وأرادوا ذلك كإرادتهم لما أُطيعوا كطاعتهم. وعلموا أن الأكاذيب والبِدَع ستكثر، وأن الفِتَن ستُفتح، وأن الفساد سيَفْشو. فكرهوا أن يجعلوا للمُتطرفِين عِلةً ولأهل الزيغ حُجة، بل لا شك أنهم لو ترَكوا الناس عامةً يقرءون على حرفِ فلانٍ وكلما أجاز فيه فلان عن فلان لأَلحَق قومٌ في آخر الزمان بهم من ليس منهم ولا يَجرِي مجراهم ولا يَجُوز مجازهم.

فصل منه في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد

ولو كان زيد من آل أبي العاص أو من عرض بني أمية لوجد ابن مسعود متعلقًا، ولو كان بدل زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلًا، ولو كان (غير) ابن مسعود رجلًا من بني هاشم لوجد للطعن موضعًا، ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبدَّ بذلك الرأي على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله وجميع المهاجرين والأنصار لوجد للتهمة مساغًا. فأما والأمر كما وصفنا وبيَّنَّا، فما الطاعن على عثمان إلا رجلٌ أخطأ خُطة الحق وعَجِل على صاحبه، ولكلِّ بني آدم من الخطأ نصيبٌ والله عز ذِكرُه يغفر له ويرحمه. والذي يخطِّئ عثمان في ذلك فقد خطَّأ عليًّا وعبد الرحمن وسعدًا والزبير وطلحة وما عليه الصحابة. ولو لم يكن ذلك رأيَ عليٍّ لَغيَّره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يُمكِنه في زمن عثمان لأَمكَنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحُجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة وأهل القدم والقُدوة. ومع أن الوجه فيما صنعوا واضحٌ بل لا نجد لما صنعوا وجهًا غير الإصابة والاحتياط والإشفاق والنظر للعواقب وحَسْمِ طعن الطاعن. ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضًا لما اجتمع عليه أولُ هذه الأمة وآخرها. وإن أمرًا اجتَمعَت عليه المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة لَظاهرُ الصواب واضحُ البرهان على اختلاف أهوائهم وبُغيتِهم لكل ما ورد عليهم. فإن قال قائل: هذه الروافض بأَسْرها تأبى ذلك وتُنكره وتطعن فيه وترى تغييره! قلنا: إن الروافض ليست مِنَّا بسبيل؛ لأن مَن كان أذانه غير أذاننا وصلاته غير صلاتنا وطلاقه غير طلاقنا وعتقه غير عتقنا وحجته غير حجتنا وفقهاؤه غير فقهائنا وإمامه غير إمامنا وقراءته غير قراءتنا وحلاله غير حلالنا وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو مِنَّا. ولأيِّ شيءٍ جانب عن قراءة ابن مسعود؟ فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه ولا أشد على الشيعة منه! ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله تعالى عنه أن قال: لقد خَشِيت الله تعالى في حبي لعمر! فلِمَ يحامون عنه وهو كان شَجَاهم لو أدركهم.

فصل منه: فأَمَّن الله رجلًا فارقهم ولزم الجماعة، فإن فيها الأنس والحُجة، وتَرْك الفرقة فإن فيها الوحشة والشبهة. والحمد لله الذي جَعلَنا لا نُفرِّق بين أَئمَّتِنا كما جَعلَنا لا نفرق بين أنبيائنا.
فصل منه: والذي دعانا إلى تأليفِ حُجج الرسول ونظمها وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى كانت مجموعةً منظومةً نَشِط لحفظها وتفهمها مَن كان عسى ألَّا ينشط لجَمعِها ولا يَقدِر على نَظْمها وجَمْع مُتفرِّقها، وعلى اللفظ المُؤثَر عنها، ومَن كان عسى ألَّا يعرف وجه مطلبها والوقوع عليها، ولعل بعض الناس يَعرف بعضها ويَجهل بعضها، ولعل بعضهم وإن كان قد عَرفَها بحقها وصدقها فلَم يَعرِفها من أسهل طُرقها وأَقربِ وجوهها، ولعل بعضهم أن يكون قد كان عرف فنَسِي أو تهاون بها فعَمِي، بل لا نشك أنها إذا كانت مجموعةً مُحبَّرة مُستقصاةً مُفصَّلة فإنها ستزيد في بصيرة العالِم، ويَجمع الكل لمن كان لا يعرف إلا البعض ويُذكِّر الناس ويكون عُدةً على الطاعن، ولعل بعض من ألحد في دينه وعمي عن رشده وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العُجب بنفسه والثقة بما عنده إلى أن يلتمس قراءتها لِيَتقدَّم في نقضها وإفسادها فإذا قرأها فهمها وإذا فهمها انتبه من رَقدته وأفاق من سَكرته لِعِز الحق وذُل الباطل ولإشراف الحُجة على الشبهة، ولأن من تَفرَّد بكتابٍ فقرأه ليس كمن نازَع صاحبه وجافاه؛ لأن الإنسان لا يباهي بنفسه والحقُّ بعدُ قاهرٌ له، ومع التلاقي يحدث التباهي وفي المحافل يَقِل الخضوع ويشتد النزوع.

ثُمَّ رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماعِ الأخبار والتفقُّه في تصحيح الآثار، فأقول: إن الناس قد استَغنَوا عن التكرير وكُفوا مُؤنةَ البحث والتنقير لِقلَّة اعتبارهم، ومن قَلَّ اعتباره قَلَّ علمه، ومن قَلَّ علمه قَلَّ فضله، ومن قَلَّ فضله كَثُر نقصه، ومن قَلَّ علمه وفضله وكثُر نقصه لم يُحمدْ على خيرٍ أتاه ولم يُذمَّ على شرٍّ جَناه ولم يجد طعم العِز ولا سرور الظفَر ولا روح الرجاء ولا برد اليقين ولا راحة الأمن. وكيف يُشكر من لا يقصد، وكيف يُلام من لا يتعمد، وكيف يَقصِد من لا يعلم، وما عسى أن يبلغ قَدْر سرور من لا يُحِسُّ من السرور إلا بما سُرَّت به حواسه ومَسَّه جلده! وكيف يأتي أَربَح الأفعال وأَبعَد الشرَّين من رَكِب شراسة السباع وغباوة البهائم ثم لم يُعطَ الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله والعلم بمصالحه ومفاسده فيَقوَى بها على عصيان طبائعه ومُخالَفة شهواته، وبها يعرف عواقب الأمور وما تأتي به الدهور، وفضل لذة القلب على لذة البدن، وأن سرور الجاهل لا يَحسُن في جنب سرور العالِم، وأن لذة البهائم لا تُعادِل لذة الحكيم العالِم. وأيُّ سُرورٍ كسرورِ العز والرياسة واتساع المعرفة وكثرة صواب الرأي والنُّجْح الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدُّم في التدبير ثُم العلم بالله وحده وأنك بِعَرض ولايته والجاه عنده وأنه الذي يرعاك ويكفيك، وأنك إذا عملت اليسير أعطاك الكثير، ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي، ومتى أَدبَرتَ عنه دعاك، ومتى رَجعتَ إليه اجتباك، ويَحمدك على حقِّك ويُعطيك على نظرك لنفسك، ولا يُغنيك إلا لِيَقِيَك، ولا يُميتك إلا ليُحيِيَك، ولا يمنعك إلا لِيُعطيَك، وأنه المبتدئ بالنعمة قبل السؤال والناظر لك في كل حال. وهذا كله لا يُنال إلا بغريزة العقل، على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها (بل) بما باشَرَته حَواسُّها دون النظر والتفكُّر والبحث والتصفُّح، ولن ينظر ناظر ولا يُفكِّر مُفكِّر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة وعلى طلب الحيلة؛ ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرضا والبخل والسخاء والجزع والصبر والرياء والإخلاص والكبر والتواضع والسخط والقناعة، فجعلها عروقًا، ولن تَفِيَ قوة غريزة العقل لجميع قوى طبائعه وشهواته حتى يُقيم ما اعوَجَّ منها ويُسكِّن ما تَحرَّك دون النظر الطويل الذي يَشُدُّها والبحث الشديد الذي يَشحَذها والتجارب التي تُحنِّكها والفوائد التي تزيد فيها، ولن يَكثُر النظر حتى تَكثُر الخواطر، ولن تَكثُر الخواطر حتى تَكثُر الحوائج، ولن تَبعُد الرويَّة إلا لبُعد الغاية وشدة الحاجة.

ولو أن الناس تُرِكوا وقَدْر قوى غرائزهم ولم يُهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكُّر في معاشهم وعواقب أمورهم وأُلجئوا إلى قدر خواطرهم التي تُولِّدها مباشرة حواسُّهم دون أن يُسمِعهم الله خواطر الأَوَّلِين وأدب السلف المُتقدمِين وكُتب رب العالمِين، لَمَا أدركوا من العلم إلا اليسير ولَمَا ميَّزوا من الأمور إلا القليل. ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالِم وتربيته وتسويد العاقل ورفع قَدْره وأن يجعله حكيمًا وبالعواقب عليمًا لَمَا سخَّر له كل شيء ولم يُسخِّره لشيء ولَمَا طبعه الطبع الذي يجيء منه أريبٌ حكيمٌ وعالمٌ حليم، كما أنه — عزَّ ذكره — لو أراد أن يكون الطفل عاقلًا والمجنون عالمًا لطبعهم طبع العاقل ولسواهم تسوية العالِم، كما أراد أن يكون السَّبْع وثَّابًا والحديد قاطعًا والسُّمُّ قاتلًا والغِذاء مقيمًا، فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالمًا والمهيَّأ للحكمة حكيمًا وذو الدليل مستدلًّا وذو النعمة مُستنفِعًا بها. فلمَّا علم الله — تبارك وتعالى — أن الناس لا يُدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم دون أن يَرِد عليهم آداب المُرسَلِين وكُتب الأَولِين والإخبار عن القرون والجبابرة الماضِين، طبع كل قَرنٍ من الناس على إخبار من يليه ووضع القرن الثاني دليلًا يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة والمعاني الغريبة مَشحذةٌ للأذهان ومادةٌ للقلوب وسببٌ للتفكير وعِلَّةٌ للتنقير عن الأمور، وأكثرُ الناس سماعًا أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكُّرًا، وأكثرهم تفكُّرًا أكثرهم علمًا، وأكثرهم علمًا أرجحهم عملًا، كما أن أكثر البُصراء رؤيةً للأعاجيب أكثرهم تَجارِب! ولذلك صار البصير أَكثرَ خواطر من الأعمى، وصار البصير السميع أَكثرَ خواطر من البصير الأصم. وعلى قَدْر شدة الحاجة تكون الحركة، وعلى قدْر ضعف الحاجة يكون السكون. كما أن الراجي والخائف دائبان، والآيِس والآمِن وادعان. وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا وآدم أبي البشر صلوات اللهم عليهم أجمعِين، وخلقهم ناقِصين وعن درك مصالحهم عاجزِين، وأراد منهم العبادة وكلَّفهم الطاعة وترك العِيان للأمل البعيد، وأرسل إليهم رُسُله وبعث فيهم أنبياءه وقال: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، ولم يُشهِد أكثر عباده حُجج رسله عليهم السلام ولا أحضرهم عجائب أنبيائه ولا أسمعهم احتجاجهم ولا أراهم تدبيرهم، لم يكن بُدٌّ من أن يُطلِع المُعاينِين على أخبار الغائبِين، وأن يُسخِّر أسماع الغائبِين لأخبار المُعاندِين، وأن يخالف بين طبائع المُخبرِين وعِلل الناقلِين، لِيدُل السامعِين ومن يحبب من الناس. على أن العدد الكثير المُختلفِي العلل المُتضادِّي الأسباب المُتفاوتي الهمم لا يتفقون على تَخرُّص الخبر في المعنى الواحد، وكما لا يتفقون على تخرُّص الخبر في المعنى الواحد على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عِلَلهم التلاقي عليه والتراسل فيه، ولو كان تلاقِيهم مُمكنًا وتراسُلهم جائزًا لَظهَر ذلك وفشا واستفاض وبدا، ولو كان ذلك أيضًا مُمكنًا وكان قولًا مُتوهمًا لبَطلَت الحجة ولنُقِضت العادة ولفَسدَت العبرة ولعادت النفس بِعلَّة الأخبار جاهلة، ولكان للناس على الله أعظم الحُجة وقد قال الله عز وجل: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ إذا كلَّفهم طاعة رُسُله وتصديق أنبيائه ورُسله وكُتبه والإيمان بجنته وناره ولم يضع لهم دليلًا على صِدق الأخبار وامتناع الغلط في الآثار، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيرًا.

واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليُوفِّق بينهم، ولم يُحب أن يُوفِّق بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مُسخَّرِين بالأسباب المُختلِفة وكانوا مُجبَرين في الأمور المتفِقة والمختلِفة لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفي هذا ذَهاب العيش وبُطلان المصلحة والبَوار والتواء، ولو لم يكونوا مُسخَّرِين بالأسباب مُرتهَنِين بالعِلل لرغبوا عن الحجامة أجمعِين وعن البيطرة والقِصابة والدِّباغة. ولكن لكل صنفٍ من الناس مُزيِّنٌ عندهم ما هم فيه ومُسهِّلٌ ذلك عليهم. فالحائك إذا رأى تقصيرًا من صاحبه أو سوء حذق أو خَرقًا قال له: يا حجَّام، والحجَّام إذا رأى تقصيرًا من صاحبه قال له: يا حائك. ولذلك لم يُجمِعوا على إسلام أبنائهم في غير الحِياكة والحِجامة والبَيْطرة والقِصابة. ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سببًا للاتفاق والائتلاف لما جعل واحدًا قصيرًا وآخر طويلًا، وواحدًا حسنًا والآخر قبيحًا، وواحدًا غنيًّا وآخر فقيرًا، وواحدًا عاقلًا وآخر مجنونًا، وواحدًا زكيًّا وآخر غبيًّا، ولكن خالف بينهم لِيَختبرهم، وبالاختبار يطيعون وبالطاعة يسعدون، ففرَّق بينهم لِيَجمَعهم وأَحَب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المَثوبة. فسبحانه وتعالى ما أَحسَن ما أَبلَى وأَوْلى وأَحكَم ما صنع وأَتقَن ما دبر؛ لأن الناس لو رَغِبوا كلهم عن عار الحياكة لبَقِينا عُراة، ولو رَغِبوا بأجمعهم عن كد البناء لبقينا بِالعَراء، ولو رغبوا عن الفلاحة لذَهبَت الأقوات ولَبَطَل أصل المعاش، فسَخَّرهم على غيرِ إكراهٍ ورَغَّبَهم من غيرِ دُعاء. ولولا اختلاف طبائع الناس وعِللِهم لما اختاروا من الأشياء إلَّا أحسَنَها ومن البلاد إلَّا أعدَلَها ومن الأمصار إلَّا أوسَطَها، ولو كان كذلك لتناجزوا على طلب الواسط وتشاجروا على البلاد العُليا ولما وَسِعهم بلدٌ ولما تَمَّ بينهم صُلح، فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة. وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حَوَّلتَ ساكني الآجام إلى الفيافي وساكني السهل إلى الجبال وساكني الجبال إلى البحار وساكني الوَبَر إلى المَدَر لأذاب قلوبَهم الهَمُّ ولأَتَى عليهم فَرْط النزاع. وقد قيل: عمَّر الله البُلدان بِحُب الأوطان. وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى: ليس الناس بشيءٍ من أقسامهم أَقنعَ منهم بأوطانهم. وقال معاوية في قوم من اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من الشام منزلًا خصيبًا وفرض لهم في شئون العطاء: يصلون أوطانهم بقطيعة أنفسهم. وقال الله جل وعز: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فقَرَن الضَّنَّ بالأوطان إلى الضن بمُهج النفوس. وليس على ظهرها إنسانٌ إلا وهو مُعجَب بعقله لا يسره أن له — بجميع ماله — ما لغيره، ولولا ذلك لَمَاتوا كَمدًا ولَذَابوا حَسدًا. ولكن كلُّ إنسانٍ وإن كان يرى أنه حاسدٌ في شيء فهو يرى أنه محسودٌ في شيء.

ولولا اختلاف الأسباب لتنازعوا بلدةً واحدةً واسمًا واحدًا وكنيةً واحدةً؛ فقد صاروا — كما ترى — مع اختيار الأشياء المختلفة إلى الأسماء القبيحة والألقاب السمجة، والأسماء مبذولةٌ والصناعات مُباحةٌ والمتاجر مُطلَقةٌ ووجوه الطرق مُخلَّاة، ولكنها مُطلقةٌ في الظاهر مُقسَّمةٌ في الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبَّره الحكيم من ذلك ولا بالمصلحة فيه. فسبحان من حبَّب إلى واحد أن يسمِّي ابنه محمدا وحبَّب إلى آخر أن يسميه شيطانًا وحبَّب إلى آخر أن يُسمِّيه عبد الله وحبَّب إلى آخر أن يُسمِّيه حمارًا؛ لأن الناس لو لم يُخالَف بين عِلَلهم في اختيار الأسماء وجاز أن يجتمعوا على شيءٍ واحدٍ كان في ذلك بطلان العلامات وفساد المُعامَلات. وأنت إذا رَأيتَ ألوانهم وشمائلهم واختلاف صورهم وسَمِعتَ لغاتهم ونغمهم عَلِمتَ أن طبائعهم وعِلَلهم المحجوبة الباطنة على حسب أمورهم الظاهرة. وبعض الناس وإن كانوا مُسخَّرِين للحياكة، فليس بمُسخَّر للفسق والخيانة والأحكام والصدق والأمانة. وقد يُسخَّر المُلك لقوم بأسبابٍ قديمة وأسبابٍ حديثة فلا يزال ذلك الملك مقصورًا عليهم ما دامت تلك الأسباب قائمة، فليس إذا كانوا لِلمُلك مُسخَّرين وكان الناس لهم مُسخَّرِين بالجبرية والنخوة والفظاظة والقسوة ولطول الاحتجاب والاستتار وسوء اللقاء والتضييع. وقد يكون الإنسان مسخَّرًا لأمرٍ ومُخيَّرًا في آخر، ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها وخفيها وظاهرها؛ لأن بني الإنسان إنما سُخِّروا له إرادة العائدة عليهم ولم يُسخَّروا للمعصية كما لم يُسخَّروا للمفسدة. وقد تستوي الأسباب في مواضع وتتفاوت في مواضع. كل ذلك لِيجمَع الله تعالى لهم مصالح الدنيا ومراشد الدين. ألا ترى أن أمةً قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله، وأُمةً قد اجتمعت على أنه ابن الله، وأُمةً اجتمعت على أن الآلهة ثلاثةٌ عيسى أحدهم، ومنهم من يتذبذب، ومنهم من يَتدَهَّر، ومنهم من يَتحوَّل نسطوريًّا بعد أن كان يعقوبيًّا، ومنهم من أسلم بعد أن كان نصرانيًّا! ولستَ واجدًا هذه الأمة مع اختلاف مذاهبها وكثرة تنقُّلها انتَقلَت مرة واختَلفَت مرة متعمدةً أو ناسيةً في يومٍ واحد فجعلته وهو الجمعة يوم السبت، ولم تخطب في يومِ جمعةٍ بخطبةِ يومِ خميس، ولا غَلطَت في كانون الأول فجَعلَته كانون الآخر، ولا بين الصوم والإفطار؛ لأن الباب الأَوَّل في باب الإمكان وتعديل الأسباب والامتحان، والباب الثاني داخل في باب الامتناع وتسخير النفوس وطرح الامتحان. وقد زعم ناسٌ من الجهال ونفرٌ من الشُّكَّاك — ممن يزعم أن الشك واجبٌ في كل شيء إلا في العيان — أن أهل المنصورة وافَوْا مُصلَّاهم يومَ خميسٍ على أنه يوم الجمعة في زمن منصوري، وأن أهل البحرَين جلسوا عن مُصلَّاهم يوم الجمعة على أنه يومُ خميسٍ في زمن أبي جعفر، فبعث إليهم وقَوَّمَهم. وهذا لا يجوز ولا يُمكِن في أهل الأمصار ولا في العدد الكثير من أهل القرى؛ لأن الناس من بين صانع لا يأخذ أُجرَته ولا راحة له دون الجمعة، وبين تُجار قد اعتادوا الدَّعة في الجُمَع والجلوس عن الأسواق، ومن بين مُعلِّمِ كُتَّابٍ لا يصرف غِلمانه إلا في الجُمَع، ومن بين مَعنيٍّ بالجُمَع يتلاقى هناك مع المعارف والإخوان والجلساء، وبين مَعنيٍّ بالجُمَع حرصًا على الصلاة ورغبةً في الثواب، ومن رجلٍ عليه موعدٌ ينتظره، ومن صَيْرَفيٍّ يصرف ذلك اليوم سفاتجه وكُتبَ أصحابه، ومن جندي فهو يعرف بذلك نَوبَته، وبعضٌ كالسُّؤَّال والمساكينِ والقُصَّاص الذين يمدُّون أعناقهم للجمعة انتظارًا للصدقة والفائدة، في أمورٍ كثيرة وأسبابٍ مشهورة. ولو جاز ذلك في أهل البحرَين والمنصورة لجاز ذلك على أهل البصرة والكوفة، ولو جاز ذلك في الأيام لكان في الشهور أَجوَز، ولو جاز ذلك في الشهور لكان في السنين أَجوَز، وفي ذلك فساد الحج والصوم والصلاة والزكاة والأعياد. ولو كان ذلك جائزًا لجاز أن يتفق الشعراء على قصيدةٍ واحدة، والخطباء على خطبةٍ واحدة، والكُتَّاب على رسالةٍ واحدة، بل جميع الناس على لفظةٍ واحدة. وإنما نَزَّلتُ لك حالات الناس وخبَّرتُك عن طبائعهم وفَسَّرتُ لك عِلَلهم لتعلم أن العدد الكثير لا يَتفِقون على تخرُّص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن الواحد على غير التَّشاعُر فيكون باطلًا، وسأُبيِّن لك مَوضِعَ اختلافِهم واتفاقِهم وأنه لم يُخالِف بينهم في بعض الوجوه إلا إرهاصًا لمصلحتهم ولِتصِح أخبارهم. ألا ترى أن أحدًا لم يَبِع قَطُّ سِلعةً بدرهم إلا وهو يرى أن ذلك الدرهم خيرٌ له من سِلعته، ولم يَشترِ قَطُّ سِلعةً بِدِرْهم إلا وهو يرى أن تلك السلعة خيرٌ له من دِرْهمه، ولو كان صاحبُ السِّلعة يرى في سِلعته ما يرى فيها صاحب الدرهم وكان صاحب الدرهم يرى في الدرهم ما يرى فيه صاحب السلعة ما اتفق بينهما شراءٌ أبدًا ولا بيعٌ أبدًا، وفي هذا جَميعُ المفسدة وغَايةُ الهلكة. فسبحان الذي حَبَّب إلينا ما في أيدي غيرنا وحبَّب إلى غيرنا ما في أيدينا لِيَقع التبايُع، وإذا وقع التبايُع وقع الترابُح، وإذا وقع الترابُح وقع التعايُش. ويدلك أيضًا على اختلاف طبائعهم وأسبابهم أنك تجد الجماعة وبين أيديهم الفاكهة والرُّطب فلا تجد يدَين تلتقيان على رطبة بعينها وكل واحد من الجميع يرى ما حواه الطبق غير أن شهوته وَقعَت على واحدةٍ غير التي آثرها صاحبه، ولربما سبق الرجل إلى الواحدة وقد كان صاحبه يريدها في نفسه غير أن ذلك لا يكون إلا في الفَرط، ولو كانت شهواتهم ودواعيهم تتفق على واحدةٍ بعينها لكان في ذلك التمانُع والتجاذُب والمبادرة وسوء المُخالَطة والمُؤاكَلة. وكذلك هو في شهوة النساء والإماء والمراكب والكِسا. وهذا كثيرٌ والعلم به قليل، وبأقل مما قُلنا يعرف العاقل صواب مذهبنا، والله تعالى نسأل التوفيق. وهو الذي خالف بين طبائعهم وأسبابهم حتى لا يُتَّفَق على تخرُّص خبر واحد؛ لأن في اتفاق طبائعهم وأسبابهم في جهة الأخبار فساد أمورهم وقِلَّة فوائدهم واعتبارهم، وفي فساد أخبارهم فسادُ متاجرهم والعلم بما غاب عن أبصارهم وبطلان المعرفة بأنبيائهم ورسلهم عليهم السلام ووعدهم ووعيدهم وأمرهم ونهيهم وزجرهم ورغبتهم وحدودهم وقِصاصِهم الذي هو حياتهم، والذي يُعدِّل طبائعهم ويُسوِّي أخلاقهم ويُقوِّي أسبابهم والذي به يتمانعون من تواثُب السِّباع وقِلَّة احتراس البهائم وإضاعة الأعمار، وبه تَكثُر خواطرهم وتفكيرهم وتَحسُن معرفتهم.

ولم نقل إن العدد الكثير لا يجتمعون على الخبر الباطل كالتكذيب والتصديق، ونحن قد نجد اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة والدهرية وعباد البِدَدة يُكذِّبون النبي ويُنكِرون آياته وأعلامه، ويقولون لم يَأتِ بشيءٍ ولا بان بشيءٍ. وإنما قلنا إن العدد الكثير لا يتفقون على نفي مثل إخبارهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب التهامي الأبطحي عليه السلام خرج بمكة ودعا إلى كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وأباح كذا وجاء بهذا الكتاب الذي نقرؤه فوَجَب العمل بما فيه وأنه تَحدَّى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه في المواضع الكثيرة والمحافل العظيمة فلم يرُم ذلك أحدٌ ولا تَكلَّفه ولا أَتَى ببعضه ولا شبيهٍ منه ولا ادَّعى أنه قد فعل، فيكون ذلك الخبر باطلًا. وليس قول جمعهم إنه كان كاذبًا مُعارَضة لهذا الخبر إلا أن يُسَمُّوا الإنكار مُعارَضة، وإنما المُعارَضة مثل المُوازَنة والمُكايَلة، فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها فقد عارضونا ووازنونا وكايلونا وقد تكافَينا وتدافَعْنا. فأما الإنكار فليس بحُجة كما أن الإقرار ليس بحُجة، ولا تصديقنا النبي حُجة على غيرنا ولا تكذيب غيرنا له حُجة علينا، وإنما الحُجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله.

فإن قلت: وأيُّ مجيءٍ أثبتُ (من) خبر النصارى عن عيسى بن مريم عليه السلام! وذلك أنك لو سألت النصارى مُجتمِعِين ومُتفرِّقِين لخبَّروك عن أسلافهم أن عيسى قد قال: إنِّي إله؟

قلنا: قد علمنا أن نصارى عصرنا لم يكذبوا على القَرْن الذي كان قبلهم والذين كانوا يَلُونَهم، ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن عيسى عليه السلام لو قال: «إنِّي إله» لَما أعطاه الله تعالى إحياء الموتى والمَشْي على الماء! على أن في عيسى عليه السلام دلالةً في نفسه أنه ليس بإله وأنه عبدٌ مُدبَّر ومقهورٌ مُيسَّر. وليس خبرهم هذا إلا كإخبار النصارى عن آبائهم والقَرْن الذي يليهم أن بولس قد كان جاء بالآيات والعلامات، وكإخبار المانَوية عن القَرْن الذي كان يليهم منهم أن ماني قد كان جاءهم بالآيات والعلامات، وكإخبار المجوس عن آبائهم والذين كانوا يَلُونهم أن زرادشت قد جاءهم بالآيات والعلامات. وقد علمنا أن هؤلاء النصارى لم يكذبوا على القَرْن الذي كان يليهم ولا الزنادقة ولا المجوس، ولكن الدليل على أصل خبرهم ليس كفرعه؛ لأن الله تعالى جل وعز لا يعطي العلامات من لا يعرفه؛ لأن بولس إن كان عنده أن عيسى عليه السلام إلهٌ فهو لا يعرف الله تعالى، بل لا يعرف الربوبية من العبودية والبشرية من الإلهية.

فصل منه: وللنصارى خاصةً رياءٌ عجيب وظاهرُ زهد، والناس أَبطأُ شيءٍ عن التصفُّح وأَسرعُ شيءٍ إلى تقليدِ صاحبِ السِّن والسمت، وظاهرُ العمل أَدعَى لهم من العِلم.
فصل منه على ذكرهم: وكل قومٍ بَنَوا على حب الأشكال والشَّغَف بالرجال يشتد وَجدُهم به وحُبهم له حتى ينقلب الحب عِشقًا والوَجد صَبابةً، للمُشاكَلة التي بين النفوس، وعلى قَدْر ذلك يكون البُغض والحِقد؛ لأن النصارى حين جعلوا ربهم إنسانًا مثلهم بَخِعَت نفوسهم بإِلاهِيَّتِهم له لتَوهُّمهم الربوبية، وسَمحَت بالمودة لتوهُّمِهم البشرية؛ فلذلك قَدَروا من العبادة على ما لم يَقدِر عليه سواهم، وبمثل هذا السبب صارت المُشبِّهة مِنَّا أعبد ممن ينفي التشبيه، حتى ربما رَأيتَ المُشبِّه يتنفس من الشوق إليه ويشهق عند ذكر الزيارة ويبكي عند ذكر الرؤية ويُغشَى عليه عند ذِكرِ رَفعِ الحُجُب! وما ظنك بشوق من طَمِع في مجالسةِ ربِّه جل جلاله ومحادثة خالِقه عز ذكره؟! ولقد غالت القوم غول ودعاهم أمرٌ فانظر ما هو. وإن سألتني عنه خبرتك أنَّما هو نتيجة أحد أمرَين: إما تقليد الرجال، وإما طلب تعظيمهم؛ ولذلك السبب لم تَرضَ اليهود من إنكارِ حق عيسى بتكذيبه حتى طَلبَت قَتْله وصَلْبه والمُثلة به، ثُمَّ لم تَرضَ بذلك حتى زَعمَت أنه لغيرِ رِشْدة، فلو كانت دون هذه المنزلة منزلةٌ لما انتَهَت اليهود دون بلوغها، ولو كانت فوق ما قالت النصارى منزلةٌ لما انتهت دون غايتها. وبذلك السبب صارت الرافضة أَشَدَّ صَبابةً وتحرُّقًا وأَفرطَ غضبًا وأَدومَ حقدًا وأحسن تواصلًا من غيرهم أيضًا. ورُبَّ خبرٍ قد كان فاشيًا فدخل عليه من العِلل ما منعه من الشهرة، ورُبَّ خبرٍ ضعيف الأصل واهن المخرج قد تهيأ له من الأسباب ما يُوجِب الشُّهرة.
فصل منه: واعلم أن لأكثر الشعر ظعنًا وحظوظًا، كالبيت يحظى ويسير حتى يحظى صاحبه بحظه، وغيرُه من الشعر أَجودُ منه. وكالمَثَل يحظى ويسير وغيرُه من الأمثال أَجوَد. وما ضاع من كلامِ الناس وضَلَّ أكثر مما حُفظ وحُكي. واعتبر ذلك من نفسك وصديقك وجليسك. وأَمْرُ الأسباب عجيب، ومن ذلك قَتْل عليِّ بن أبي طالب من السادة والقادة والحُماة ما عسى لو ذَكرتُه لاستَكبرتَه واستَعظَمتَه، فأضرب الناس عن ذِكرِهم وجَهِلَت العوام مواضعهم وأخذوا في ذكر عمرو بن عبد وُدٍّ فرفعوه فوق كل فارسٍ مشهور وقائدٍ مذكور. وقد قرأتُ على العلماء كتاب الفِجار الأول والثاني والثالث وأَمْر المُطيَّبِين والأحلاف ومقبل أبي أُزيهِر ومجيء الفيل وكل يومِ جمعٍ كان لقريش فما سمعت لعمرو هذا في شيءٍ من ذلك ذِكرًا.

فإن قلت: إن نبل القاتل زيادةٌ في نبل المقتول، فكل من قَتلَه عليُّ بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه أنبل منه وأحق بالشهرة، ولكن أشعار ابنِ وُدٍّ ومناقلة الصبيان في الكُتاب هما اللتان أورثتاه ما ترى وتسمع.

فصل منه في أمر الأخبار: وإنما ذَكرتُ هذا لتعلم أن الخبر قد يكون أصله ضعيفًا ثم يعود قويًّا ويكون أصله قويًّا فيعود ضعيفًا، للذي يعتريه من الأسباب ويحلُّ به من الأعراض من لَدُن مخرجه وفصوله إلى أن يبلغ مُدته ومُنتهَى أجله وغايةَ التدبير فيه والمصلحة عليه. فلما كان هذا مَخوفًا وكان غيرَ مأمونٍ على المُتقادم منه، وضع الله تعالى لنا على رأسِ كلِّ فترةٍ علامة، وعلى غايةِ كلِّ مُدةٍ أمارة، لِيُعيد قوة الخبر ويُجدِّد ما قد همَّ بالدُّروس من أنباء المُرسَلِين عليهم الصلاة والسلام أجمعِين؛ لأن نوحًا عليه السلام هو الذي جَدَّد الأخبار التي كانت في الدهر الذي بينه وبين آدم عليه السلام حتى مَنعَها الخلل وحَمَاها النقصان بالشواهد الصادقة والأمارات القائمة. وليس أن أخبارهم وحُججهم قد كانت دَرسَت وأَخلَت! بل حين همَّت بذلك وكادت، بعثه الله عز وجل بآياته لئلا تخلو الأرض من حُججه؛ ولذلك سمَّوْا آخر الدهر الفَتْرة، وبين الفَتْرة والقَطْعة فرق، فاعرف ذلك. ثم بعث الله عز وجل إبراهيم عليه السلام على رأس الفَتْرة الثانية التي كانت بينه وبين دَهرِ نوح، وإنما جعلها الله تعالى أطول فترة كانت في الأرض لأن نوحًا كان لبث في قومه يحتج ويُخبِر ويُؤكِّد ويُبيِّن ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا، ولأن آخر آياته كانت أعظم الآيات وهي الطوفان الذي أغرق الله تعالى به جميع أهل الأرض، غيره وغير شيعته، وإنما فار الماء من جوف تَنُّور ليكون أَعجَبَ للآية وأَشهَر للقصة وأَثبَت للحُجة. ثُمَّ ما زالت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعِين بعضهم على أَثَرِ بعضٍ في الدهر الذي بين إبراهيم وبين عيسى عليهما السلام، فلِترادُف حُججهم وتظاهُر أعلامهم وكثرة أخبارهم واستفاضة أمورهم ولِشِدة ما تأكَّد ذلك في القلوب ورَسَخ في النفوس وظَهر على الألسنة لم يَدخُلها الخَللُ والنقصُ والفسادُ في الدهر الذي كان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين عيسى عليه السلام، فحين همَّت بالضعف وكادت تنقُص عن التمام وانتَهَت قوتها بعث الله تعالى محمدًا فجدَّد أقاصيص آدم ونوح وموسى وهرون وعيسى ويحيى عليهم السلام وأمورًا بين ذلك، وهو الصادق بالشواهد الصادقة، وأن الساعة آتيةٌ وأنه ختم الرسل عليهم السلام به، فعَلِمنا عند ذلك أن حُجته ستبقى إلى مُدتِها وبلوغِ أمرِ الله عز وجل فيها.
فصل منه: ثم رجع الكلام إلى القول في الأخبار فأقول: إن الناس مُوكَّلون بحكايةِ كلِّ عجيب، ومُيسَّرون للإخبار عن كلِّ عظيم، وليسوا للحَسَن أحكى منهم للقبيح، ولا لما ينفع أحكى منهم لما يضُر، وعلى قَدْر كِبَر الشيخ تكون حكايتهم له واستماعهم منه. ألا ترى أن رجلًا من الخلفاء لو ضرب عُنقَ رجلٍ من العظماء لما أمسى وفي عسكره أو بلدته جاهلٌ ولا عالمٌ إلا وقد استقر ذلك عنده وثَبَت في قلبه؛ لأن الناس بينَ حاسدٍ فهو يحكي ذلك الذي دخل عليه من الثُّكْل وقِلَّةِ العَدد، وبينَ واجدٍ يُعجِّب الناس، وبين واعظٍ مُعتبِر، وبينَ قومٍ شأنُهم الأراجيفُ بالفاسد والصالح. ولو كان ضَرب عُنقه في يومِ عيدٍ أو حلبةٍ أو استمطارٍ أو موسمٍ لكان أَشَدَّ لاستفاضته وأَسرعَ لظهوره، ولو جاز أن يكتُم الناس هذا وشبهه على الإيثار للكتمان وعلى جهة النسيان لكنا لا ندري لَعلَّه قد كان في زمن صِفِّين والجمل والنَّهْرَوان حربٌ مثلُها أو أَشَدُّ منها ولكن الناس آثروا الكتمان واتفقوا على النسيان. فإذا كان قَتْل الملِك للرجل من العظماء بهذه المنزلة من قلوب الأعداء ومن قلوب الحُكماء والغَوغاء، فما ظنك بمن لو أبصروا رجلًا قد أحياه بعد أن ضَرَب عنقه وأبان رأسه من جسده! أليس يكون تَعجُّبهم من إحيائه أَشَد من تَعجُّبهم من قَتْله؟! وكان يكون إخبارهم من خَلَّفوا في منازلهم ومن وَرَد عليهم عن القَتْل لِيكون سببًا للإخبار عن الإحياء؛ إذ كان الأول صغيرًا في جنب الثاني! فهذا يَدلُّ على أن أعلام الرسل عليهم الصلاة والسلام وآياتهم أحق بالظهور والشهرة والقَهرِ للقلوب والأسماع من مخارجهم وشرائعهم. بل قد نعلم أن موسى عليه السلام لم يُذكر ولم يُشهر إلا لأعاجيبه وآياته، وكذلك عيسى عليه السلام، ولولا ذلك لما كانا إلا كغيرهما ممن لا ُيشعَر بموته ولا مولده. وكيف َتتقدَّم المعرفة بهما المعرفة بأعلامها وأعاجيبهما وأنت لم تسمع بذكرهما قط دون ما ذُكِر من أعلامهما! فإذا كان شأن الناس الإخبار عن كلِّ عجيبٍ وحكاية كلِّ عظيمٍ والإطراف بكلِّ طريفٍ وإيراد كلِّ غريبٍ من أمور دنياهم، فما لا يمتنع في طبائعهم ولا يخرج من قوى الخليقة في البطش والحيلة أحق بالإخبار والإذاعة وبالإظهار والإفاضة. هذا على أن يترك الطباع وما تُولد عليه والنفوس وما تُنتج والعلل وما يُسخِّر، فكيف إن كان الله عز وجل قد خَصَّ أعلام أنبيائه وآيات رسله عليهم السلام من تهييج الناس على الإخبار عنها ومن تسخير الأسماع لحفظها بخاصَّةٍ لم يجعلها لغيرها.
فصل منه: فإن قال قائل: إن الحُجة لا تكون حُجة حتى تُعجِز الخليقة وتَخرُج من حد الطاقة كإحياء الموتى والمشي على الماء وكفلق البحر وكإطعام الثمار في غير أوانِ الثمار وكإنطاق السِّباع وإشباع الكثير من القليل، وكل ما كان جِسمًا مُخترعًا وجرمًا مُبتدعًا، وكالذي لا يجوز أن يتولاه إلا الخالق ولا يَقدِر عليه إلا الله عز وجل ذكره. فأمَّا الأخبار التي هي أفعال العباد وهم تَوَلَّوْها وبهم كانت وبقولهم حَدثَت، فلا يجوز أن يكون حُجة؛ إذ كان لا حُجة إلا ما لا يَقدِر عليه الخليقة وما لا يُتوهَّم من جميع البريَّة!

قلنا: إنَّا لم نزعم أن الأخبار حُجة فيحتجوا علينا بها، وإنما زعمنا أن مجيئها حُجة، والمجيء ليس هو أمرًا يَتكلَّفه الناس ويختارونه على غيره، ولو كان كذلك لكانوا متى أرادوه فعلوه وتَهيَّئوا له، ولَفعَلوه في الباطل كما يجيء لهم في الحق. والمجيء أيضًا ليس هو فعلًا قائمًا فيستطيعوه أو يعجزوا عنه، وإنما هو أن الإنسان يعلم أنه إذا لَقِي البصريِّين فأخبروه أنهم قد عاينوا بمكة شيئًا ثُمَّ لقي الكوفيِّين فأخبروه بمثل ذلك، أنهم قد صدقوا؛ إذ كان مثلهم لا يَتَواطأ على مثل خَبرهِم على جهلهم بالغيب وعلى اختلاف طبائعهم وهممهم وأسبابهم. فليس بين هذا وبين إحياء الموتى والمشي على الماء فَرْق؛ إذ كان الناس لا يقدرون عليه ولا يطمعون فيه. والمجيء إنما هو مَعنًى معقول وشيءٌ موهوم إذا كان وكيف يكون، ومعلوم أن الناس لا يمكنهم أن يَقدِروا عليه ولا يستطيعون فعله، وإنما مَدار أَمْر الحُجة على عجز الخليقة، فمتى وَجَدتَ أمرًا ووَجَدتَ الخليقة عاجزة عنه فهي حُجة، ثم لا عليك جوهرًا كان أو عرضًا أو موجودًا أو مُتوهَّمًا أو معقولًا، ألا ترى أن فَلْق البحر ليس هو من جنس اختراع الثمار؟ لأن الفَلْق هو انفراج أجزاء والثمار أجرام حادثة! وكذلك لو ادَّعى رجلٌ أن الله عز وجل أرسله فجعل حُجَّته علينا الإخبار بما أَكَلْنا وادَّخَرْنا وأَضمَرْنا لكان قد احتج علينا.

فإن قُلتَ: إن المُنجِّمِين ربما أخبروا بالضمير وبالأمر المستور وببعض ما يكون.

قلنا: هناك فَرْق، فإن خطأ المُنجمِين كثيرٌ وصوابهم قليل، بل هو أقلُّ من القليل. وأنتم لا تَقدِرون أن تقفوا من إخبار المُرسَلِين عليهم السلام في كثيرِ إخبارهم على خطأٍ واحد. والذي سَهَّل قليل المُنجِّمِين طرافةُ ذلك منهم؛ لأنهم لو قالوا فأخطئوا أبدًا لما كان عجبًا، لأنه ليس بعَجَب أن يكون الناس لا يعلمون ما يكون قبل أن يكون، ومن أعجب العجب أن يوافق قولهم بعض ما يكون، وقد نجد المُنجِّمِين يختلفون في القضية الواحدة ويُخطِئون في أكثرها. وقد نجد الرسول يُخبِرهم عما يأكلون ويشربون ويدَّخرون ويُضمِرون في الأمور الكثيرة المعاني والمختلفة في الوجوه حتى لا يخطئ في شيء من ذلك. وليس في الأرض مُنجِّم ذكر شيئًا أو وافق ضميرًا إلا وأنت واجدٌ بعضَ من يَزجُر قد يجيء بمثله وأَكثرَ منه.

فإن قلت: إن الناس يَكذِبون في الإخبار عن الأعراب والكُهَّان من كلِّ جيل!

قلنا: فهم في إخبارهم عن المُنجِّمِين أكذب. وبعدُ، فالناس غير مُستعظِمِين لكثرةِ كذبِ المُنجِّمِين وخطئهم وخِدَعِهم، والناس يستعظمون اليسير من المُرسَلِين عليهم والسلام. وكلما كان الرجل في عينك أَعظَم وكان عن الكذب أَزجَر كان كذبه عندك أَعظَم. وإنما المُنجِّم عند العوامِّ كالطبيب الذي إن قَتَل المريض علاجُه كان عندهم أن القضاء هو الذي قَتَله، وإن بَرَأ كان هو أَبرَأه. على أن صوابهم أكثرُ ودليلَهم أَظهَر. وقد صار الناس لا يقتصرون للمُنجِّمِين على قَدْر ما يسمعون منهم دون أن يُولِّدوا لهم ويضعوا الأعاجيب على ألسنتهم، وكلُّ مُلحِد في الأرض (مُبغِض) للرسول طاعِنٌ عليه عائبٌ له، يرى أن يُصدِّق عليه كلَّ كذابٍ يريد ذَمَّه، وأن يُكذِّب كلَّ صادقٍ يُريد مَدحه.

وبعدُ، فلو كان خبر المُنجِّمِين في الصواب كخبر الأنبياء والمُرسَلِين عليهم الصلاة والسلام الذي هو حُجة لما كان خبر المُنجِّمِين حُجة.

فإن قُلتَ: ولِم ذاك؟ قُلتُ: لأن من كثُر صوابه على غيرِ استدلالٍ ومُقايَسةٍ وعلى غيرِ حسابٍ وتجربةٍ أو على نظرٍ ومُعايَنة، لم يكن الأمر من قِبل الوحي؛ لأنك لو قُلتَ قصيدةً في نفسك فحدَّثك بها رجلٌ وأنت تعلم أنه ليس بمُنجِّم وأَنشَدَكَها كُلًّها، لعَلِمتَ أن ذلك لا يكون إلا بوحي. ومثل ذلك رجلٌ اشتد وجعُ عينه فعالجه طبيبٌ فبرئ، فلو جعل الطبيب ذلك حجة على نبوته لوجب علينا تكذيبه، ولو قال رجل من غير أن يمسه أو يدنو إليه: اللهم إن كنت صادقًا عليك فاشفه الساعة! فبرئ من ساعته، لعلمنا أنه صادق. فإن قالوا: وما عِلْمنا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يكن مُنجِّمًا؟ قلنا: إنَّ علمنا بذلك كعِلْمنا بأن العباس وحمزة وعليًّا وأبا بكر وعمر رضوان الله عليهم أجمعِين لم يكونوا مُنجِّمِين ولا أطباء مُتكهِّنِين. وكيف يجوز أن يصير إنسانٌ عالمًا بالنجوم من غير أن يختلف إلى المُنجِّمِين أو يختلفوا إليه أو يكون علم النجوم فاشيًا في أهل بلاده أو يكون في أهله واحدٌ معروفٌ به، ولو بلغ إنسان في علم النجوم وليست معه عِلة من هذه العِلَل وكان ذلك يَخفَى لكان ذلك كبعض الآيات والعلامات! ومتى رأينا حاذقًا بالكلام أو بالطب أو بالحساب أو بالغناء أو بالنجوم أو بالعروض خفي على الناس موضعه وسببه وجميع ما ذكرنا! فعناية الناس به وعداوتهم له وشهرته في نفسه دون محمد . وهل نسَبَ أحدٌ قَطُّ لأحدٍ إلَّا دون ما نَسبَه له رَهطُه وأَدانِي أهلِه ومن معه في بَيتِه ورَبعِه؟ وما أعرف — يرحمك الله — المُعانِد والمُسترشِد والمُصدِّق والمُكذِّب يُنكِر أن محمدًا لم يكن مُنجِّمًا ولا طبيبًا، وإذا قال الجاهل إنه قد كان يعلم الخط فخفي له ذلك، وتَعلَّم الأسباب والقضاء في النجوم فخفي له ذلك، وتَعلَّم البيان وقَدَر منه على ما يَعجِز أمثاله عنه وخفي ذلك، أليس مع قوله ما يَعلَم خِلافَه يَعلَم أنه قد سَلَّم له أُعجوبةً كأعجوبةِ إبراءِ الأَكمَه والأَبرَص والمشي على الماء؟ إذ كان ذلك لا يجوز ولا يمكن في الطبائع والعقل والتجربة.

وافهم — يرحمك الله — ما أنا واصفه لك، هل يجد التارك لصديقه أنه لا يدري بزعمه لَعلَّه كان أَعلَم الخلق بالنجوم ناظرًا لنفسه غيرَ مُعاندٍ لحُجةِ عقله، وهو لم يجد أحدًا قَطُّ برع في صناعةٍ واحدة فخَفِي على الناس موضِعُه بكل ما حَكَينا وفَسَّرْنا؟ وأنت كيف تعلم أنه ليس في إخوانك من ليس بمُنجِّم وأن فيهم من ليس بطبيب إلا بمثل ما يَعرِف به رهط النبي وآله منه! وكيف لم يُشتَهَر ذلك، ولِمَ لم يُحتَج به عليه! ولقد بلغ من إسرافهم في شتمه وإفراطهم عليه أن نافقوا وأحالوا؛ لأنهم كانوا يقولون له أنت ساحر وأنت مجنون، وإنما يقال للرجل ساحرٌ لخلابته وحُسن بيانه ولُطف مكائده وجَودةِ مُداراته وتَحبُّبه، ويُقال مجنونٌ لِضِد ذلك كله.

فصل منه: وليس ينتفع الناس بالكلام في الأخبار إلا مع التصادُق، ولا تَصادُق إلا مع كثرة السماع والعلم بالأصول؛ لأن رجلًا لو نازع في الأخبار وفي الوعد والوعيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ والفريضة والنافلة والسُّنة والشريعة والاجتماع والفُرقة، ثُم حَسُنَت نيته وناصَحَ عن نفسه، لما عرف حقائقَ باطلٍ دون أن يكون قد عرف الوجوه وسمع الجمل وعرف المُوازَنة وما كان في الطبائع وما يَمتنِع فيها، وكيف أيضًا يقول في التأويل من لم يسمع بالتنزيل، وكيف يعرف صدق الخبر من لم يعرف سبب الصدق؟

واعلم أن من عَوَّد قلبه التشكُّك اعتراه الضعف، والنفس عَزوفٌ فما عودتها من شيء جرت عليه، والمُتخيِّر إلى تقويةِ قلبه ورَدِّ قُوَّته عليه وإفهامه موضع رأيه وتوقيفه على الأمر الذي شغل صدره أحوجُ منه إلى المُنازَعة في فرق ما بين المجيء الذي يُكذَّب مثلُه والمجيء الذي لا يُكذَّب مثلُه. وسنتكلف من علاج دائه وترتيب إفهامه إن أعان على نفسه بما لا يبقى سببًا للشَّكِّ ولا علّة للضعف، والله تعالى المعين على ذلك والمحمود عليه.

فصل منه: ومتى سمعنا نبي الله عليه السلام اتكل على عدالته وعلى معرفة قومه بقديم طهارته وقِلَّة كذبه دون أن جاءهم بالعلامات والبرهانات؟ ولعمري لو لم نجد الحافظ ينسى والصادق يكذب والمؤمن يُبدل لقد كان ما ذهبوا إليه وجهًا.
فصل منه في ذكر دلائل النبي : وبابٌ آخر يُعرف به صدقه وهو إخباره عما يكون وإخباره عن ضمائر الناس وما يأكلون وما يدَّخرون، ولدعائه المُستجَاب الذي لا تأخير فيه ولا خلف له. وذلك أن النبي حين لقي من قريش والعرب ما لقي من شدة أذاهم له وتكذيبهم إياه واستعانتهم عليه بالأموال والرجال، دعا الله عز وجل أن يجدب بلادهم وأن يدخل الفقر في بيوتهم، فقال : اللهم سِنين كسَنِي يوسف، اللهم اشدُدْ وَطْأتك على مضر. فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وقَلَّت المزارع وماتَت المَواشِي وحتى اشتَوَوا القِدَّ والعِلْهِزَ. فعند ذلك وَفَد حاجب بن زرارة على كسرى يشكو إليه الجَهْد والأَزل ويستأذنه في رَعيِ السواد، وهو حين ضَمِنه عن قومه وأَرهَنه قوسه. فلما أصاب مُضرَ خاصة الجهد ونهَكَهم الأزل وبَلغَت الحُجة مبلغها وانتَهتَ الموعظة مُنتهاها عاد بفضله على الذي بدأهم به فسأل ربه الخِصْب وإدرار الغيث، فأتاهم منه ما هَدَّم بيوتهم ومنعهم حوائجهم، فكلَّمُوه في ذلك فقال: اللهم حَوالَيْنا ولا علينا. فأمطر الله عز وجل ما حولهم وأمسك عنهم. وكتب إلى كسرى يدعوه إلى نجاته وتخليصه من كفره، فبدأ باسمه على اسمه، فأنِف من ذلك كسرى لِشِقْوته وأمر بتمزيقٍ الكتاب، فلما بلغه قال: اللهم مزِّق ملكه كل ممزق. فمزَّق الله جل وعز ملكه وجدَّ أصله وقطع دابره؛ لأن كل ملك في الأرض وإن كان قد خرج من معظم ملكه فهو مُقيم على بقية منه؛ وذلك أن الإسلام لم يترك ملكًا بحيث تناله الحوافر والأخفاف والأقدام إلا أزاله عنه وأخرجه منه إلى عقاب يعتصم بها ومعاقل يأوي إليها أو طرده إلى خليجٍ منيع لا يقطعه إلا السفن، فهم من بين هاربٍ قد دخل في وجارٍ أو اختفى في غيضة أو مُقيم على فمِ شعبٍ ورأسِ مَضيق، قد سَخَت نفسه عن كلِّ سَهلٍ وأَسلَم كل مَرْج، أو مَلِكٍ لا قَرَار له وليس بذي مَدَر فيُؤتَى، وإنما أصحابه أكرادٌ يطلبون النُّجْعة أو كخوارجَ يطلبون الغِرَّة. فأمَّا أن يكون مَلِكٌ يَصمُد لهم ويُقيم بإزائهم ويُغاديهم الحرب ويُمسِّيهم ويُساجِلهم الظفر ويُناهِضهم، كما كانت ملوك الطوائف، وكالذي كان بين فارس والروم، فلا، وذلك لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

فلم يرض أن أظهر دينه حتى جعل أهله الغالِبِين بالقدرة والظاهرين بالمنَعَة والآخذِين الإتاوة. وكتب كسرى إلى فيروز الديلمي وهو من بقية أصحاب سيف بن ذي يزن: أن احمِل إليَّ هذا العبد الذي بدأ باسمه قبل اسمي واجترأ عليَّ ودعاني إلى غير ديني. فأتاه فيروز فقال: إن ربي أمرني أن أَحمِلَك إليه. فقال : إن ربي خبَّرني أنه قد قَتَل ربك البارحة، فأَمسِكْ عليَّ ريث ما يأتيك الخبر، فإن تَبيَّن لك صِدْقي وإلَّا فأنت على أمرك. فراع ذلك فيروز وهَالَه وكَرِه الإقدام عليه والاستخفاف به. فإذا الخبر قد أتاه أن شيرويه قد وثب عليه في تلك الليلة فقتله. فأسلم وأخلص ودعا من معه من بقيَّة الفرس إلى الله عز ذكره فأسلموا.

فصل منه: في ذكر النبي ثم إن الذي تقدمه من البشارات في الكتب المُتقادِمة في الأزمان المُتباعِدة والبُلدان الموجودة بكلِّ مكانٍ على شِدَّةِ عَداوةِ أهلها وتعصُّب حاملِيها ومع قوة حَسَدهم وشِدة بَغيِهم وما ذلك ببديعٍ منهم ومن آبائهم، على أنهم أَشبَه بآبائهم منهم بأزمانهم، وكلُّ الناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم، وآباؤهم الذين قَتَلوا أنبياءهم عليهم السلام وتعنَّتوا رُسُلهم صلى الله عليهم حتى خَلَّاهم الله عز وجل من يده وأَفقَدهم عِصمته وتوفيقه. ولم أَستدِل على ذكره في التوراة والإنجيل والزبور وعلى صِفته والبشارة به في الكُتب إلَّا لأنك متى وَجَدتَ النصراني واليهودي يُسلمِ بأرض الشام وَجدتَه يَعتَل بأُمورٍ ويَحتجَ بأشياء مثلِ الأمور التي يحتج بها من أسلم بالعراق، وكذلك من أسلم بالحجاز ومن أسلم باليمن من غيرِ تلاقٍ ولا تعارُف ولا تشاعُر، وكيف يَتلاقَون ويتراسلون وهم غير مُتعارفِين ولا مُتشاعرِين! ولو كانوا كذلك لظهر ذلك ولم ينكتم، كما حَكَينا قبل هذا، ولو قابَلتَ بين أخبارهم واحتجاجِهم مع كثرة الألفاظ واختلاف المعاني لوجدتها مُتساوِية.
فصل منه: فإن قال قائل: لِم كانت أعلام موسى عليه السلام في كثرتها مع غيِّ بني إسرائيل ونُقصان أحلام القبط في وزن أعلام محمد وفي قَدْرها مع أحلام قريش وعقول العرب؟ ومتى أَحْبَبتَ أن تعرف غيَّ بني إسرائيل ونقص أحلام القبط ورجحان عقول العرب وأحلام كنانة فانظر بَوادِيَهم ورِباعَهم وانظر إلى بَنِيهم وبقاياهم كما نظرت إلى غيِّ بني إسرائيل ونقص بَنِي من مضى من القبط تَعتبِر ذلك وتعرف ما أقول. ثم انظر في الأشعار الصحيحة والخطب المعروفة والأمثال المضروبة والألفاظ المشهورة والمعاني المذكورة مما نَقَلَته الجماعات عن الجماعات وكلام العرب ومعانيهم في الجاهلية، ثم تَفقَّد وسَلْ أهل العلم والخبرة عن بني إسرائيل فإن وَجَدتَ لهم مثلًا سائرًا كما تسمع للقبط والفرس فضلًا عن العرب فقد أَبطَلْنا فيما قلنا. وقد كان الرجل من العرب يقف المواقف وينشئ عِدة أمثالٍ كلُّ واحدٍ منها ركنٌ يُبنَى عليه وأصلٌ يَتفرَّع منه. أوْ هل تسمع لهم بكلامٍ شريف أو مَعنًى يَستحسِنه أهل التجربة وأصحاب التدبير والسياسة أو حكم أو حِكمة أو حِذق في صناعة مع ترادُف المُلك فيهم وتظاهُر الرسالة في رجالهم؟ وكيف لا تَقضِي عليهم بالغيِّ والجهل ولم تسمع لهم بكلمةٍ فاخرة أو مَعنًى نبيه، لا ممن كان في المبدا ولا ممن كان في المحضر ولا من قاطني السواد ولا من نازلي الشام؟ ثم انظر إلى أولادهم مع طول لُبثِهم فينا وكونهم معنا، هل غير ذلك من أخلاقهم وشمائلهم وعقولهم وأحلامهم وآدابهم وفطنهم؟ فقد صلح بنا كثير من أمور النصارى وغيرهم، وليس النصارى كاليهود؛ لأن اليهود كلهم من بني إسرائيل إَّلا القليل. وبعدُ، فلم يَضرِب فيهم غيرهم؛ لأن مَناكِحهم مقصورةٌ فيهم ومحبوسةٌ عليهم قصورًا، ولهم مؤداة إلى آخره، وعقول أَسْلافِهم مردودةٌ على أَخْلَافِهم، ثم اعتَبرْ بقولهم لنبيهم عليه السلام: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ حين مرُّوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم يعبدونها، وكقولهم: أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً، وكعُكوفهم على عجلٍ صُنع من حُليِّهم يعبدونه من دون الله بعد أن أراهم من الآيات ما أراهم، وكقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. فكان الذي جاء به موسى عليه السلام مع نقص بني إسرائيل والقبط مثل الذي جاء به محمد مع رجحان قريش والعرب. وكذلك وعد محمد عليه الصلاة والسلام بنار الأبد كوعيد موسى بني إسرائيل بإلقاء الهُلاس على زروعهم والهمِّ على أفئدتهم وتسليط المَوْتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم وأن يظفر بهم عدوهم، فكان تعجيل العذاب الأدنى في استدعائهم واستمالتهم وردعهم عما يريد بهم وتعديل طبائعهم، كتأخير العذاب الشديد على غيرهم؛ لأن الشديد المُؤخَّر لا يَزجر إلا أصحاب النظر في العواقب وأصحاب العقول التي تَذهب في المذاهب. فسبحان من خالف بين طبائعهم وشرائعهم ليتفقوا على مصالحهم في دنياهم ومراشدهم في دينهم. مع أن محمدًا مخصوصٌ بعلامة لها في العقل موقعٌ كموقعِ فَلْق البحر من العين، وذلك قوله لقريش خاصة وللعرب عامة مع ما فيها من الشعراء والخطباء والبلغاء والدهاة والحلماء وأصحاب الرأي والمكيدة والتجارب والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كَذَبتُ في دعواي وصَدَقْتم في تكذيبي. ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عِلَلهم والكلام كلامهم وهو سَيِّد عملهم قد فاض بيانهم وجاشت به صدورهم وغلبتهم قُوَّتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيَّات والعقارب والذئاب والكلاب والخنافس والجُعلان والحَمير والحمام وكلِّ ما دبَّ ودرج ولاح لعينٍ وخَطَر على قلب، ولهم — بعدُ — أصناف النظم وضروب التأليف كالقصيد والرجز والمُزدوج والمُجانس والأسجاع والمنثور، وبعدُ فقد هَجَوه من كل جانب، وهاجى أصحابُه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجُّوه في المواقف، وخاصَموه في المواسم، وبادَروه العداوة، وناصَبوه الحرب، فقَتل منهم وقَتلوا منه وهو أَثبتُ الناس حقدًا وأبعدهم مطلبًا وأذكرهم لخير أو لشر وأنفاهم له وأهجاهم بالعَجز وأمدحهم بالقُوة، ثم لا يُعارِضه مُعارض ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر! ومحالٌ في التعارُف ومستنكر في التصادُق أن يكون الكلام أخصر عندهم وأيسر مُؤنةً عليهم، وهو أَبلغُ في تكذيبهم وأَنقضُ لقوله، وأَجدرُ أن يعرف ذلك أصحابه، فيجتمعوا على ترك استعماله والاستغناء به وهم يَبذلون مُهجهم وأموالهم ويَخرجون من ديارهم في إطفاءِ أمره وفي توهينِ ما جاء به، ولا يقولون بل لا يقول واحدٌ من جماعتهم: لِمَ تَقتلون أنفسكم وتَستهلكون أموالكم وتَخرجون من دياركم والحيلة في أمره يسيرةٌ والمأخذ في أمره قريب؟ لِيُؤلِّف واحدٌ من شعرائكم وخطبائكم كلامًا في نظم كلامه كأقصرِ سورةٍ يُخذِّلكم بها وكأصغرِ آيةٍ دعاكم إلى معارضتها. بل لو نسوا ما تركهم حتى يذكرهم، ولو تغافلوا ما ترك أن ينبههم، بل لم يرض بالتنبيه دون التوقيف. فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو من أحد أمرَين: إما أن يكونوا عرفوا عجزهم وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم فرَأَوا أن الإضراب عن ذكره والتغافل عنه في هذا الباب — وإنْ قرَّعَهم به — أَمثلُ لهم في التدبير وأَجدرُ ألَّا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف وأَجدرُ أن يجدوا إلى الدعوى سبيلًا وإلى اختداع الأنبياء سببًا؛ فقد ادَّعوا القُدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا. وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعَجز والتوقيف على النَّقص ثُمَّ لا يَبذلون مجهودهم ولا يُخرجون مكنونهم وهم أَشدُّ خلق الله أنفةً وأَفرطُ حميةً وأَطلَبُه بطائِلة، وقد سمعوه في كلِّ مَنهل ومَوقف، والناس مُوكلون بالخطابات مُولَعون بالبلاغات، فمن كان شاهدًا فقد سمعه ومن كان غائبًا فقد أتاه به من لم يُزوِّده! وإما أن يكون غير ذلك ولا يجوز أن يُطبِقوا على ترك المعارضة وهم يَقدِرون عليها؛ لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة والحكماء مع اختلاف عِلَلهم وبُعد هِمَمهم وشِدة عداوتِهم على بذل الكثير وصون اليسير، وهذا من ظاهر التدبير ومن جليل الأمور التي لا تخفى على الجُهَّال فكيف على العقلاء وأهل المعارف، فكيف على الأعداء؟ لأن تحبير الكلام أَهونُ من القتال ومن إخراج المال. ولم يقل إن القوم قد تركوا مُساءلته في القرآن والطعن فيه بعد أن كَثُرت خصومتهم في غيره! ويدلُّك على ذلك قوله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وقوله عز ذكره: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، وقوله تعالى ذكره: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، ويدلُّك كثرة هذه المُراجَعة وطول هذه المُناقَلة على أن التقريع لهم بالعجز كان فاشِيًا، وأن عَجزهم كان ظاهرًا. ولم يكن النبي تَحدَّاهم بالنظم والتأليف ولم يكن أيضًا أزاح عِلَّتهم حتى قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، وعارِضوني بالكذب. لقد كان في تفصيله له وتركيبه وتقديمه له واحتجاجه ما يدعو إلى مُعارَضته ومُغالَبته وطلب مَساوِيه! ولو لم يكن تَحدَّاهم في كلِّ ما قلنا وقرَّعَهم بالعجز عمَّا وصفنا، وهل هذا إلا تَمديحُه له وإكثارُه فيه، لكان ذلك سببًا مُوجِبًا لمُعارَضته ومُغالَبته وطلب تكذيبه؛ إذ كان كلامهم وهو سيِّد عملهم والمُؤنة فيه أَخفُّ عليهم وقد بذلوا النفوس والأموال، وكيف ضاع منهم وسقط على جماعتهم نيِّفًا وعشرين سنةً مع كثرة عددهم وشِدَّة عقولهم واجتماع كلمتهم، وهذا أَمرٌ جليلُ الرأي ظاهرُ التدبير.
فصل منه: في كراهة امتناعهم عن مُعارَضة القرآن لعَجزِهم عنها: والذي منعهم من ذلك هو الذي منع ابن أبي العوجاء وإسحاق بن طالوت والنعمان بن المنذر وأشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعِز ذُلًّا وبالإيمان كُفرًا وبالسعادة شِقوةً وبالحجة شُبهةً، بل لا شُبهة في الزندقة خاصة، فقد كانوا يصنعون الآثار ويُولِّدون الأخبار ويَبثُّونها في الأمصار، ويطعنون في القرآن ويسألون عن مُتشابِهه وعن خاصِّه وعامِّه ويضعون الكُتب على أهله، وليس شيءٌ مما ذكرنا يستطيع دفعه جاهلٌ غبي ولا مُعاندٌ ذكي.
فصل منه: ولما كان أَعجَب الأمور عند قومِ فرعونَ السِّحر ولم يكن أصحابه قَطُّ في زمان أَشدَّ استحكامًا فيه منهم في زمانه، بعث الله موسى عليه السلام على إبطاله وتوهينه وكشفِ ضعفه وإظهاره ونقضِ أصله، لردع الأغبياء من القوم ولمن نشأ على ذلك من السِّفْلة والطِّغام؛ لأنه لو كان أتاهم بكل شيء ولم يأتهم بُمعارَضة السحر حتى يفصل بين الحُجة والِحيلة لكانت نفوسهم إلى ذلك مُتطلِّعة ولَاعتلَّ به أصحاب الأشغال ولَشَغَلُوا به بال الضعيف، ولكن الله — تعالى جَدُّه — أراد حسم الداء وقطع المادَّة وألَّا يجد المبطلون مُتَعلَّقًا ولا إلى اختداع الضعفاء سبيلًا، مع ما أعطى الله موسى عليه السلام من سائر البُرهانات وضروب العلامات. وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله وعلى خاصَّة علمائه الطب، وكانت عوامُّهم تُعظِّمهم على خواصِّهم، فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى؛ إذ كانت غايتهم علاج المرضى، وإبراء الأكمه؛ إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله تعالى عز وجل من سائر العلامات وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بَخَعَت بالطاعة وقَهرَتها الحُجة وعَرفَت موضع العجز والقوة وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أَبخَعَ للعامَّة وأَجدَر ألَّا يُبقي في أنفسهم بقيَّة. وكذلك دهر محمد كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلَّها في صدورهم حُسن البيان ونظم ضروب الكلام مع علمهم له وانفرادهم به، فحين استَحكَمَت لغتهم وشاعت البلاغة فيهم وكَثُر شعراؤهم وفاقَ الناسَ خطباؤهم، بعثه الله عز وجل فتحدَّاهم بما كانوا لا يَشكُّون أنهم يَقدِرون على أَكثرَ منه، فلم يَزَل يقرعهم بعجزهم وينقصهم على نقصهم حتى تَبيَّن ذلك لضعفائهم وعوامِّهم، كما تبيَّن لأقويائهم وخواصِّهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيًّا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات. ولكل شيءٍ باب ومأتى واختصار وتقريب، فمن أحكم الحكمة إرسال كل نبي بما يُفحم أعجب الأمور عندهم ويُبطل أقوى الأشياء في ظنهم.
فصل منه: في ذكر أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام: وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة، ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة، وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجتمع لبَشريٍّ قَطُّ قبله، ولا تجتمع لبَشريٍّ بعده. وذلك أنَّا لم نَروِ ولم نَسمع لأحدٍ قَطُّ كصبره، ولا كحِلمه، ولا كوفائه، ولا كزهده، ولا كجوده، ولا كنجدته، ولا كصدق لهجته وكرم عشرته، ولا كتواضعه، ولا كعلمه، ولا كحفظه، ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قال، ولا كعجيبِ منشئه، ولا كقلةِ تلوُّنه، ولا كعفوه، ولا كدوام طريقته وقِلَّة امتنانه. ولم نجد شجاعًا قط إلا وقد جال جَولةً وفَرَّ فَرَّةً وانحاز مَرةً من معدودي شجعان الإسلام ومشهوري فرسان الجاهلية كفُلانٍ وفُلان، وبعدُ فقد نَصر النبي وهاجر معه قومٌ ولم نَرَ كنجدتهم نجدةً ولا كصبرهم صبرًا، وقد كانت لهم الجَوْلة والفرَّة، كما قد بلغك عن يومِ أُحُدٍ وعن يومِ حُنينٍ وغير ذلك من الوقائع والأيام، فلا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري أن يُحدِّث أن محمدًا جال جولةً قَط أو فر فرةً قَط أو خامَ عن غزوة أو هاب حربَ مَن كاثَره.

•••

ثبَّتك الله بالحُجة، وحصن دينك من كل شُبهة، وتَوفاك مُسلمًا، وجعلك من الشاكرين. قد أعجبني — حفظك الله — استهداؤك العلم وفهمك له، وشَغَفك بالإنصاف ومَيلك إليه، وتعظيمك الحق ومُوالاتك فيه، ورغبتك عن التقليد وزِرايتك عليه، ومُواترة كُتبك على بُعد دارك وتقطُّع أسبابك وصبرك إلى أوان الإمكان، واتساعك عند تضايُق العذر. وفَهِمتُ — حفظك الله — كتابك الأَوَّل وما حَثثْتَ عليه من تبادُل العلم والتعاون على البحث والتحابِّ في الدين والنصيحة لجميع المُسلمِين. وقُلتَ: اكتب إليَّ كتابًا تقصد فيه إلى حاجات النفوس وإلى صلاح القلوب وإلى معتلجات الشكوك وخواطر الشبهات، دون الذي عليه أَكثرُ المُتكلمِين من التطويل ومن التعمق والتعقيد ومِن تكلُّف ما لا يجب وإضاعة ما يجب. وقلت: كن كالمُعلِّم الرفيق والمعالج الشفيق الذي يعرف الداء وسببه والدواء وموقعه ويَصبِر على طول العلاج ولا يَسأَم كثرة التَّرداد. وقُلتَ: اجعل تجارتك التي إيَّاها تُؤمِّل وصناعتك التي إياها تَعتمِد إصلاح الفاسد ورد الشارد. وقُلتَ: ولا بدَّ من استجماع الأصول ومن استيفاء الفروع ومن حَسْم كلِّ خاطر وقمع كلِّ ناجم وصرف كلِّ هاجس ودفع كلِّ شاغل حتى تَتمكَّن من الحُجة وتَتهنَّأ بالنعمة وتجد رائحة الكفاية وتثلج ببرد اليقين وتُفضي إلى حقيقة الأمر. وإن كان لا بدَّ من عوارض العجز ولواحق التقصير، فالبرُّ لها أجمل والضررُ علينا في ذلك أيسر. وقلت: ابدأ بالأَخفِّ فالأخف، وبكل ما كان آنَقَ في السمع وأَحلَى في الصدور، وبالباب الذي منه يُؤتى الريض المُتكلِّف والجَسور المُتعجرِف وبكلِّ ما كان أَكثَر عِلمًا وأَنفَذ كيدًا. وسَألتَني بتَفتِيحِ الاستِدادِ والعَجَلة إلى الاعتقاد وصِفةِ الأناةِ ومِقدارِها ومُقدِّمات العلومِ ومنتهاها، وزَعمتَ أن من اللفظ ما لا يُفهَم معناه دون الإشارة ودون معرفة السبب والهيئة دون إعارته وركته وتحديد واحتيازه. وقلت: فإن أنت لم تصور ذلك كله صورة تُغني عن المشافهة، ويُكتفى بظاهرها عن المراسلة، أَحوجتَنا إلى لقائك على بُعد دارك وكثرة أشغالك وعلى ما تخاف من الضيعة وفساد المعيشة. فكَتبتُ لك كتابًا أَجهدتُ فيه نفسي وبَلغتُ منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن والرد على الطعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي ولا لحشَوي، ولا لكافرٍ مُباد ولا لمنافقٍ مقموع ولا لأصحاب النَّظَّام ولمن نجم بعد النَّظَّام ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحُجة وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة. فلما ظَننتُ أني قد بلغت أقصى محبتك وأَتيتُ على معنى صفتك أتاني كتابك تذكر أنك لم تُرِد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردتَ الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة ولم أكُ أن أُحدِث لك فيها تأليفةً، فكَتبتُ لك أَشَقَّ الكتابَين وأثقَلَهما وأغمَضَهما معنًى وأطولَهُما طولًا، ولولا ما اعتَللتَ به من اعتراض الرافضة واحتجاج القوم علينا بمذهب معمر وأبي كلدة وعبد الحميد وثمامة وكل من زعم أن أفعال الطبيعة مخلوقة على المجاز دون الحقيقة، وأن مُتكلِّمي الحَشْويّة والنابتةِ قد صار لهم بمُناظرة أصحابِنا وبقراءة كُتبِنا بعضُ الفِطنة، لَمَّا كَتبتُ لك رغبةً بك عن أقدارهم وضَنًّا بالحكمة عن أغثارهم، وإنما يكتب على الخصوم الأكفاء وللأولياء على الأعداء، ولمن يرى للنظر حقًّا وللعلم قدْرًا وله في الإنصاف مذهب وإلى المعرفة سبب. وزَعمتَ أنك لم ترَ في كتب أصحابنا إلا كتابًا لا تفهمه أو كتابًا وَجدتَ الحُجة على واضع الكتاب فيه أَثبَت. وقلت: وإياك أن تتكل على مقدار ما عندهم دون أن تعتصر قوى باطلهم وتُوفيهم جميع حقوقهم وإذا تَقلَّدتَ الإخبار عن خصمك فحُطْه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أَبلَغ في التعليم وآيَس للخصوم. وقلت: وزعموا أنه يلزمك أن تزعم أن القرآن ليس بمخلوقٍ إلا على المجاز، كما ألزم ذلك نفسه معمر وأبو كلدة وعبد الحميد وثمامة وكل من ذهب مذهبهم وقاس قياسهم. فتَفهَّمْ — فهَّمَك الله تعالى — ما أنا واصفُه لك ومُورِده عليك:

اعلم أن القوم يلزمهم ما ألزموه أنفسهم، وليس ذلك إلا لعجزهم عن التخلُّص بحقهم وإلا لِذَهابهم عن قواعد قولهم وفروع أصولهم، فليس لك أن تُضيف العجز الذي كان منهم إلى أصل مقالتهم وتحمل ذلك الخطأ على غيرهم، فرُبَّ قولٍ شريف الحسب جيد المركَّب وافر العرض بريء من العيوب سليم من الأَفن قد ضيَّعه أهله وهجَّنه المُفترون عليه فألزموه ما لا يلزمه وأضافوا إليه ما لا يجوز عليه. ولو زعم القوم — على أصل مقالتهم — أن القرآن هو الجسم دون الصوت والتقطيع والنظم والتأليف، وأنه ليس بصوتٍ ولا تقطيعٍ ولا تأليف؛ إذ كان الصوت عندهم لا يُخترَع كاختراع الأجسام المُصوَّرة ولا يحتمل التقطيع كاحتمال الأجرام المُتجسِّدة، والصوت عَرض لا يحدث من جَوهر إلا بدخول جوهرٍ آخرَ عليه، ومُحالٌ أن يحدث إلا وهناك جسمان قد صَكَّ أحدهما صاحبه، ولا بدَّ من مكانَين مكان زال عنه ومكان زال إليه، ولا بدَّ من هواء بين المُصطكَّين، والجسم قد يحدث وحده ولا شيء غيره، والصوت على خلاف ذلك، والعرض لا يقوم بنفسه ولا بدَّ من أن يقوم بغيره، والأعراض من أعمال الأجسام لا تكون إلا منها ولا تُوجَد إلا بها وفيها، والجسم لا يكون إلا من جسم ولا يكون إلا من مُخترِع الأجسام وليست لكون الجسم له عِلة توجبه، ولا يحدث إذا حدث إلا اختيارًا وإلا ابتداعًا واختراعًا، والصوت لا يكون إلا عن عِلةٍ مُوجِبة ولا يكون إلا توليدًا ونتيجةً، ولا يحدث إلا من جُرمَين كاصطكاك الحجرَين وكقرع اللسان باطن الأسنان، وإلا من هواءٍ يتضاغط وريحٍ تختنق ونارٍ تلتهب، والريح عندهم هواءُ تحرك، والنار عندهم ريحٌ حارة، هكذا الأمر عندهم. فلو قالوا: لا يكون الشيء مخلوقًا في الحقيقة دون المجاز على مجاري اللغة إلا وقد بان الله عز وجل باختراعه وتولَّاه بابتداعه، وكان منه على اختيار. والابتداع الذي يُمكن تركُه وإنشاء عقيبةٍ بدلًا منه على ما كان تَولُّده ونتيجته من أجسامٍ يستحيل أن يُخلق من أفعالها ويحلَّها الله منها. والقرآن على غيرِ ذلك جِسمٌ وصوت، وذو تأليفٍ وذو نَظمٍ وتَقطيعٍ، وخلقٌ قائم بنفسِه مُستغنٍ عن غيره، ومَسموعٌ في الهواء ومرئيٌّ في الورق، ومُفصَّل وموصَّل، ذو اجتماعٍ وافتراق، ويحتمل الزيادةَ والنقصان والفَناءَ والبَقاء. وكل ما احتَملَته الأجسام ووُصِفَت به الأَجرام، كلُّ ما كان كذلك، فمخلوقٌ في الحقيقة دون المجاز. وتَوسَّع أهل اللغة فلو كانوا قالوا ذلك لكانوا أصابوا في القياس ووافقوا أهل الحق وكانوا مع الجماعة ولم يُضاهوا أهل الخلاف والفرقة ولم يفهموا أنفسهم بقول المشبهة، إذ كان ظاهر قولهم على التشبيه أدل وبه أشبه. ولا يجوز أن أَذكُر موضع موافقتي لهم ومخالفتي عليهم في صدر هذا الكتاب؛ لأن التدبير في وضع الكتاب والسياسة في تعليم الجهال أن يُبدأ بالأوضح فالأوضح والأقرب فالأقرب وبالأصول قبل الفروع، حتى يكون آخر الكتاب لآخر القياس، وآخر الكلام لا يُفهَم — أرشدك الله تعالى — ولا يُتوهم إلا على ترتيب الأمور وتقديم الأصول، فإذا رتبنا الأمور وقدمنا الأصول صارت أواخر المعاني في الفهم كأوائلها ودقيقها كجليلها، وقد عَلِمنا أن بعض ما فيه الاختلاف بين من يَنتِحل الإسلام أعظمُ فِريةً وأَشدُّ بليَّةً وأشنعُ كفرًا وأكبرُ إثمًا من كثيرٍ مما أجمعوا على أنه كُفر.

وبعد، فنحن لا نُكفِّر إلا من أوسعناه حُجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسُّس ولا امتحان الظنين من هَتْك السِّتار، ولو كان كلُّ كَشفٍ هتكًا وكل امتحانٍ تجسُّسًا لكان القاضي أَهتكَ الناس لسترٍ وأَشدَّ الناس كشفًا لعورة.

والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا، والذين أنكروا أمر الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجسامًا وأجرامًا غلاظًا. فإن كانوا قد أصابوا فلا سبيل عليهم، وإن كانوا قد أَخطَئوا فإن خَطأَهم لا يَتجاوَز بهم إلى الكفر، وقَولُهم وخِلافُهم بعد ظهور الحُجة تَشبيهٌ للخالق بالمخلوق، فبين المذهبَين أَبينُ فَرقٍ. وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم يوم جمع الفقهاء والمُتكلمِين والقضاة والمحصلِين إعذارًا وإنذارًا: امتحنتني وأنت تعرف المحنة وما فيها من الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة؟ قال المعتصم: أخطأت، بل كذبت …! وجدت الخليفة قبلي قد حبسك وقيَّدك، ولو لم يكن حَبسَك على تهمة لأمضى الحكم فيك، ولو لم يَخفْك على الإسلام ما عرض لك! فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة ولا من طريق الاعتساف ولا من طريق كشف العورة؛ إذ كانت حالك هذه الحال وسبيلك هذه السبيل. وقيل للمعتصم في ذلك المجلس: ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره ويعاينوا انقطاعه فينقض ذلك استبصارهم فلا يمكنه جحد ما أَقرَّ به عندهم؟ فأَبَى أن يَقبَل ذلك وأَنكَره عليهم وقال: لا أُريد أن أُوتى بقومٍ إن اتهَمْتُهم سِرتُ فيهم بسيرتي فيه، وإن بان لي أمرُهم أنفذتُ حكم الله فيهم، وهم ما لم أُوتَ بهم كسائر الرعيَّة وكغيرهم من عوام الأمَّة، وما شيءٌ أحبُّ إليَّ من الستر، ولا شيءٌ أَوْلى بي من الأناة والرفق. وما زال به رقيقًا وعليه رقيقًا. ويقول: لأن أَستحيِيَك بحق أحب إليَّ من أن أَقتلُك بحق. حتى رآه يُعاند الحجة ويكذب صراحًا عند الجواب، وكان آخر ما عاند فيه وأنكر الحق وهو يراه أن أحمد بن أبي دواد قال له: أليس لا شيء إلا قديم أو حديث؟ قال: نعم. قال: أوَليس القرآن شيئًا؟ قال: نعم. قال: أوَليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذًا حديث! قال: ليس أنا متكلم. وكذلك كان يصنع في جميع مسائله حين كان يُجيبه في كل ما سأل عنه حتى إذا بلغ المَخنَق والموضع الذي إن قال فيه كلمةً واحدةً برئ منه أصحابه قال: ليس أنا مُتكلم. فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحُجة خضع للحق. فمقته الخليفة وقال عند ذلك: أُفٍّ لهذا الجاهل مرةً والمُعاند مَرَّة. وأما الموضع الذي فيه واجه الخليفة بالكذب والجماعة بالقِحة وقِلَّة الاكتراث وشدة التصميم فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: أتزعم أن الله تعالى رب القرآن؟ قال: لو سمعتُ أحدًا يقول ذلك لقُلت! قال: أفما سمعتَ ذلك قطُّ من حالف ولا سائل ولا من قاصٍّ ولا في شعر ولا في حديث؟ قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة كما عرف عناده عند الحُجة. وأحمد بن أبي دواد — حفظك الله تعالى — أعلم بهذا الكلام وبغيره من أجناس العلم من أن يجعل هذا الاستفهام مسألةً ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة، ولكنه أراد أن يكشف لهم جُرأته على الكذب كما كشف لهم جُرأته في المعاندة. فعند ذلك ضربه الخليفة. وأيَّة حُجة لكم في امتحاننا إياكم وفي إكفارنا لكم وزعم يومئذ أن حُكم كلام الله تعالى كحُكم عِلمه، فكما لا يجوز أن يكون عِلمه محدثًا ومخلوقًا فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقًا ومحدثًا، فقال له: أليس قد كان الله يقدر أن يُبدِّل آية مكان آية وينسخ آية بآية وأن يذهب بهذا القرآن ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟ قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في العلم؟ وهل كان جائزًا أن يُبدِّل الله علمه ويذهب به ويأتي بغيره؟ قال: لا. وقال له: رَوَينا في تثبيت ما نقول الآثار وتَلَونا عليك الآية من الكتاب وأريناك الشاهد من العقول التي بها لزم الناس الفرائض وبها يَفصِلون بين الحق والباطل! فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث! فلم يكن ذلك عنده ولا استخزى من الكذب في هذا المجلس؛ لأن عِدَّة من حضره أكثر من أن يطمع أحد أن يكون الكذب يجوز عليه، وقد كان صاحبكم هذا يقول: لا تقيَّة إلا في دار الشرك. فلو كان ما أقرَّ به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية فقد أعملها في دار الإسلام وقد أَكذَب نفسه، وإن كان ما أقرَّ به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم. على أنه لم يرَ سيفًا مشهورًا ولا ضُرب ضربًا كثيرًا ولا ضُرب إلا بثلاثين سَوطًا مقطوعة الثمار مُشعَّبة الأطراف حتى أفصح بالإقرار مِرارًا، ولا كان في مجلسِ ضيقٍ ولا كانت حاله حالةً مُؤيِسةً ولا كان مُثقلًا بالحديد ولا خُلع قلبه بشدة الوعيد، ولقد كان يُنازَع بأَلينِ الكلام ويُجيبُ بأَغلَظِ الجَوابِ، ويَرزُنون ويَخِف ويحلُمون ويطيش. وعبتم علينا إكفارنا إياكم واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث، وقلتم تُكفرونا على إنكار شيءٍ يحتمل التأويل ويثبت بالأحاديث؟ فقد ينبغي لكم ألَّا تحتجُّوا في شيء من القَدَر والتوحيد بشيء من القرآن والحديث، وألَّا تُكفِّروا واحدًا خالفكم في شيء وأنتم أَسرعُ الناس إلى إكفارنا وإلى عداوتنا والنصب لنا.

فصل: وأصحابنا — حفظك الله — إذا قاسوا خطأهم ومرُّوا على غلطهم فإنما يَنقُضون به شيئًا من العَرَض والجَوهر وشيئًا من قولهم في المعلوم والمجهول فقط، وهم قوم يكفيهم من التنبُّه أَقلُّه، ومن القول أيسره. وخطأ النابتة وقول الرافضة تشبيهٌ مُصرِّح، وكُفرٌ مُجلِّح. فليس هذا الجنس من ذلك الجنس، والحمد لله.

وأما إخبارهم عن عَيبنا إياهم حين لم يقولوا لإن الله تبارك وتعالى ربُّ القرآن، وفينا من لا يقول إن الله تعالى رَبُّ الكفر والإيمان، فإنا لم نسألهم عن ذلك من جهةِ ما يَتوهَّمون، وإنما سألناهم عنه بجحدهم ما يَرَون بأبصارهم ويسمعون بآذانهم في الأشعار المعروفة، وفي الخطب المشهورة، وفي الابتهال عند الدعاء، وعلى ألسنة العوام، وعند العهود والأيمان، وعند تعظيم القرآن، وما يسمعون من السُّؤَّال في الطرقات، ومن القُصَّاص في المساجد، لا يرون عائبًا ولا يسمعون زاريًا. وليس أنَّا جعلنا هذا مسألةً على من أنكر خلق القرآن، ولكنَّا أردنا أن نُبيِّن للضعفاء معاندتهم وفِرارهم من البُهت ومكابرتهم إذ سمعوا أنهم لم يسمعوا الناس يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه، وأشباه ذلك. ولعمري أن لو سمعوا الناس يقولون عند أيمانهم وابتهالهم إلى ربهم على غيرِ قَصدٍ إلى خلاف ولا وفاق: ورب الزنا والسرقة، ورب الكفر والكذب. كما سمعوهم وهم يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه. ثُمَّ ألزمناهم خلق القرآن بمثل ما لهم علينا في خلق الزنا. لقد كان ذلك معارضةً صحيحةً وموازنةً معروفة. وأما قولهم: إن معنا العامة والعُبَّاد والفقهاء وأصحاب الحديث، وليس معهم إلا أصحاب الأهواء ومن يأخذ دينه من أول الرجال؟ فأيُّ صاحبِ تقوى — يرحمك الله — أبعد من الجماعة من الرافضة؟ وهم في هذا المعنى أشقياؤهم وأولياؤهم؛ لأن ما خالفوهم فيه صغيرٌ في جنب ما وافقوهم عليه. والذين سمَّوهم أصحاب أهوائهم المُتكلمُون والمُصلِحون والمُستصلِحون وأصحاب الحديث، والعوامُّ هم الذين يُقلِّدون ولا يُحصِّلون ولا يتخيرون. والتقليد مرغوبٌ عنه في حُجة العقل، منهيٌّ عنه في القرآن، قد عكسوا الأمور كما ترى ونقضوا العادات، وذلك أنَّا لا نشك أن من نظر وبحث وقابل ووزن أحق بالتبيُّن وأولى بالحُجة. وأما قولهم منا النُّسَّاك والعباد! فعباد الخوارج وحدهم أكثر عددًا من عبادهم، على قِلَّة عدد الخوارج في جَنْب عددهم. على أنهم أصحاب نية وأَطعمُ طعمة وأَبعدُ من التكسُّب وأصدق ورعًا وأقل زيًّا وأَدومُ طريقةً وأَبذلُ للمُهجة وأَقلُّ جمعًا ومنعًا وأَظهرُ زهدًا وجهدًا. ولعل عبادة عمرو بن عُبيدٍ تفي بعبادة عامة عُبَّادهم. وأما قولهم: إن للقرآن قلبًا وسنامًا ولسانًا وشفتَين، وأنه يُقدس ويشفع ويمحل. فإن هذا كله قد يجوز أن يكون مثلًا ويجوز أن يجعله الله كذلك إذا كان جسمًا، والله على ذلك قادرٌ وهو له غيرُ مُعجزٍ ومنه غيرُ مستحيل، وكل فعل لا يكون عيبًا ولا ظلمًا ولا بخلًا ولا كذبًا ولا خطأً في التدبير، فهو جائز والتعجُّب منه غيرُ جائز.

فصل منه: وما أكثر من يجيب في المسائل ويُؤلِّف الكتب على قَدْر ما يسنح له في وهمه وعلى قَدْر ما يتصور له في حاله تلك لا يعمل على أصله ولا يَشعُر بالذي انْبَنَى عليه ذلك الأصل، وإن كان ممن يعمل على أصل، وإنما صار علماؤنا إلى ما صاروا إليه لأنهم لا يقفون من القول في خلق القرآن على جوابٍ مُهذَّب ومذهبٍ مُصفًّى، وعلى قولٍ مفروغ منه وعلى جواباتٍ بأعيانها، فقد رَدَّدوا فيها النظر وامتحنوها بأغلظ المِحن وقلَّبوها وتَبطَّنوا معانيها بأَبلغِ التفكير وتعرَّفوا كل ما فيها واعتصروا جميعَ قُواها وسهَّلوا سبلها وذبُّوا العناد عنها احتقارًا منهم لمن خالفهم واتكالًا على طول السلامة منهم وثقةً بطول الظَّفّر بهم. ومن تمامِ أمرِ صاحب الحق ألَّا يتكل على عجز الخصم وألَّا يُعجَب بظهوره على من لا حَظَّ له في العلم. وعلى العلماء أن يخافوا دول العلم كما يخاف الملوك دول الملك. وقد رأيت البكرية والجبرية والفضيلية والشمرية وإنهم لأَحقَر عند المعتزلة من جُعل، وما زالوا يستقون من علمائهم ويَستمدُّون من كبرائهم ويدرسون كتبهم ويأخذون ألفاظهم في جميع أمورهم حتى رأيت شِيبهم ونابتِيهم يدَّعون أنهم أكفاء ويجمع بينهم في البلاء، والنابتة اليوم في التشبيه به مع الرافضة وهم دائبون في التألم من المعتزلة، عَددهم كثير ونَصبهم شديد والعوامَّ معهم والحشو يُطيعهم، الآن معك أمران: السلطان وميلهم إليه، وخوفهم منه. والعاقبة للمُتقِين.
١  كذا بالأصل، والظاهر أن بعض الكلمات سقطت من الناسخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤