الفصل الثالث

هذه الشجرة

قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء، وهي الصورة الإنسانية لوسائل الذكر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء.

الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري. وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها؛ أي حيث ينبغي أن تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الإنسان.

وقد ذكر القرآن الكريم قصة الأكل من الشجرة في ثلاثة مواضع من سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه.

ففي سورة البقرة:

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ.

[البقرة: ٣٥، ٣٦]
وفي سورة الأعراف:

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ.

[الأعرف: ١٩، ٢٠]
وفي سورة طه:

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ.

[طه: ١٢٠، ١٢١]
وليس في هذه الآيات من السور الثلاث إشارة إلى ابتداء حواء بالإغراء، أو بالكيد على ما جاء في سورة يوسف، ولكن بعض المفسرين ذكر ذلك في شرح الآيات معتمدًا على أقوال حُفَّاظ التوراة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام، فقال الطبري من المفسرين الأقدمين نقلًا بالإسناد عن وهب بن منبه:

لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة، ونهاهما عن الشجرة، أراد إبليس أن يستزلهما فدخل في جوف الحية، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء به إلى حواء فقال: انظري إلى هذه الشجرة! ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: انظر إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها! فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب! قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب، ثم قال ربه: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملًا إلا حملته كُرهًا، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مرارًا، وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي. ملعونة أنت لعنتَه، ولا يمكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحدًا منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.

وقال الألوسي صاحب «روح المعاني» من المفسرين المحدثين: وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار. وقيل: توسل بحية تسورت الجنة، والمشهور حكاية الحية. وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب.

ومرجع هذا الشرح كما هو ظاهر، قصة التوراة التي حفظها وهب بن منبه، ورواها لصحبه من المسلمين بعد دخوله في الإسلام، ونصها كما جاءت في الإصحاح الثالث من سفر التكوين:

وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية، فقالت للمرأة: أحقًّا قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، وأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل، وانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان. فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم، وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان واختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة: فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت. فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم، ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين، وترابًا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه، وقال للمرأة: تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا: لا تأكل منها — ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل بعرق وجهك، تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود.

وعلى هذا المرجع من التوراة اعتمدت كتب العهد الجديد حيث جاء في الإصحاح الحادي عشر من كتاب كورنثوس الثاني:

ولكنني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح.

وجاء في تيموثاوس من الإصحاح الثاني:

إن آدم لم يغو، ولكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي.

تلك قصة الشجرة في كتب الأديان، وهي تعبر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في إدراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور كل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به إرادة النوع، والمحافظة على بقائه، وإنما تتم هذه الإرادة بين جنس يملك الزمام، وجنس تقوم إرادته على أن يحرك إرادة غيره، وقد ترجمت قصة الشجرة سر الجنس الكامن في طبائع الأحياء جمعاء، بين الإرادة والإغراء، وبين المطاردة والانقياد، فانطوت في هذا السر كل خليقة يتميز بها الذكور والإناث، وتنتقل إلى العالم الإنساني، فيتميز بها الرجال والنساء تمييزًا يبقى في كيان الخلقة، وفي دقائق الخلايا الجسدية التي يتركب منها ذلك الكيان، بعد كل دعاية مذهبية، وكل طور من أطوار المجتمع السياسي. وبعد كل ترويج أو تهريج يلغط به أولئك الذين ينظرون حولهم ولا يحسون، أو يحسون ما حولهم وما في أنفسهم ولا يفقهون.

ومن نقائض الطبع الأنثوي التي أشرنا إليها فيما تقدم، أن تخالف المرأة أشد المخالفة وتذعن غاية الإذعان، حين يضطرب الحس فيها بين إرادتها الفردية وإرادتها النوعية.

وحب الإغراء على هذا النحو مفهوم بشطريه أو بنقيضيه، مفهوم على الموافقة وعلى المخالفة؛ لأن المرأة محكومة لا تحكم غيرها إلا من طريق إغرائه، أو من طريق تنبيهه إلى ما هو «شهي للنظر بهجة للعيون» كما جاء في العهد القديم.

وكل خُلق من أخلاق المرأة مرموز إليه في قصة الشجرة، ومنها الولع بالممنوعات كما يُولع بها كل محكوم مضطر إلى الاتباع.

قال الشاعر الجاهلي طفيل الغنوي:

إن النساء كأشجار خلقن لنا
منها المرار وبعض المر مأكول
إن النساء متى ينهَين عن خُلق
فإنه واجبٌ لا بد مفعول
«ولا تُولع المرأة بالممنوع لأنها محكومة وكفى، أو لأنها محكومة لضعفها واعتمادها على من يمنعها، بل هي تُولع بالممنوع لأنها تتدلل، ولأنها تجهل وتستطلع، ولأنها موهونة الإرادة لا تطيق الصبر على حنة الغواية والامتناع، وكل أولئك عنوان خصلة أخرى من ورائها: هي خصلة الضعف الأصيل.»١

«والولع بالإغراء والإغواء أخو الولع بالمخالفة والعصيان: كلاهما دليل على رجوع الأمر إلى الآخرين، فالمخالفة دليل على أن المخالف محكوم لغيره، والإغواء دليل على أنه يرجع إلى غيره في العمل ويعتمد عليه. فهما ثمرتان من هذه الشجرة، أو هما خصلتان من خصال الأنوثة الخالدة في الصميم».

«تتعرض المرأة وتنتظر، والرجل يطلب ويسعى، والتعرض هو الخطوة الأولى في طريق الإغواء، فإن لم يكْفِ فوراءه الإغواء بالتنبيه والحيلة والتوسل بالزينة والإيماء، وكل أولئك معناه تحريك إرادة الآخرين والانتظار».

«فإرادة المرأة تتحقق بأمرين: النجاح في أن تُراد، والقدرة على الانتظار، ولهذا كانت إرادة المرأة سلبية في الشئون الجنسية على الأقل، إن لم نقل في جميع الشئون، ولعل كلمة (لا) سابقة لكل نية تمتحن بها المرأة إرادتها وصبرها، فأحوج ما تكون إلى الإرادة والصبر حين تنوي ألَّا تتقدم ولا تسلم ولا تُجيب ولا تُطيع. وهنا تتصل هذه الخليقة فيها بخليقة العناد، وقوام العناد كله أن يقاوم المعاند رغبة الآخرين، وعمل الآخرين. فالإرادة التي تتمثل في العناد مؤنثة، والإرادة التي تتمثل في العزيمة مذكرة، وهذا هو شأن الإرادتين في غالب الأحوال».

«وليس للمرأة أن تريد غير هذا النوع من الإرادة، لأسباب عميقة في أصول التركيب والتكوين، وموقف الجنسين من الاستجابة لمطالب النوع يُهدينا إلى حكمة هذا الفارق من طريق قريب. فالذكور من جميع الحيوانات قد أُعطيت القدرة — بتركيبها الجسدي — على إكراه الإناث لاستجابة مطالب النوع، طائعات أو مقسورات، ولا يتأتى ذلك للإناث على حال من الحالات الجسدية، فغاية ما عندهن من وسيلة أن يهجن الرغبة في الذكور، وأن يجعلنهم يريدون، ولا يستطيعون الامتناع عن الإرادة».

«فهذا الفارق ملحوظ في أعمق أعماق التركيب الجسدي من كلا الجنسين، منذ نشأ الفارق بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان، وحكمته ظاهرة كل الظهور؛ لأنها هي الحكمة التي توافق بقاء النوع، وارتقاء الأفراد جيلًا بعد جيل. فالإغواء كافٍ للأنثى، ولا حاجة بها إلى الإرادة القاسرة. بل من العبث تزويدها بالإرادة التي تغلب بها الذكر عنوة؛ لأنها متى حملت كانت هذه الإرادة مضيعة طوال مدة الحمل بغير جدوى. على حين أن الذكور قادرون إذا أدوا مطلب النوع مرة، أن يؤدوه مرات بلا عائق من التركيب والتكوين، وليس هذا في حالة الأنثى بميسور على وجه من الوجوه».

«وإكراه الأنثى على تلبية إرادة الذكر يفيد النوع، ولا يؤذي النسل الذي ينشأ من ذكر قادر على الإكراه وأنثى مزودة بفتنة الإغواء. فهنا تتم للزوجين أحسن الصفات الصالحة لإنجاب النسل، من قوة الأبوة وجمال الأمومة، ويتم للنوع مقصد الطبيعة، من غلبة الأقوياء الأصحاء القادرين على ضمان نسلهم في ميدان التنافس والبقاء. وعلى نقيض ذلك لو أعطيت الأنثى القدرة على الإرادة والإكراه، لكان من جراء ذلك أن يضمحل النوع ويضار النسل؛ لأنه قد ينشأ في هذه الحالة من أضعف الذكور الذين ينهزمون للإناث، وكيفما نظرنا إلى مصلحة النوع، وجدنا من الخير له أبدًا أن يتكفل الذكور بالإرادة والقوة، وأن تتكفل الإناث بالإغواء والتلبية، بل وجدنا أن فوارق البنية قد جعلت السرور في كل من الجنسين قائمًا على هذا الأساس العميق في الطباع. فلا سرور للرجل في إكراهه على مطلب النوع، بل هو منغص له مضعف من لذة جسمه. أما المرأة فقد يكون استسلامها لغلبة الرجل عليها باعثًا من أكبر بواعث سرورها، ولعله أن يكون مطلوبًا لذاته كأنه غرض مقصود، بل هو في الواقع غرض مقصود لما فيه من الدلالة على توفق الأنثى إلى إغواء أقوى الذكور. ومن البداهات الفطرية أن تتظاهر المرأة بالألم والانكسار في استجابتها للنوع؛ لأنها تفطن ببداهتها الأنثوية إلى هذا الفارق الأصيل في خصائص الجنسين».

•••

«وليس بنا هنا أن ننظر في العدل الطبيعي بين خصائص الذكور وخصائص الإناث، وإنما نسجل هذه الحقائق بالملاحظة الصادقة، والدلالة الواضحة، ولا يعنينا أن ننصب لها ميزان العدل في توزيع الطبائع والملكات. ولكننا مع هذا القول نعود فنقول: إن العدل هنا بين الجنسين غير مفقود، وإن القسمة هنا ليست بالقسمة الضيزى،٢ فإذا قيل: إن الحمل قد جنى على المرأة؛ لأنه خصَّها بالألم، وجعل الإرادة من نصيب الرجل، فلا ينبغي أن ننسى أن الحمل قد أتاح للمرأة مزية فطرية لا تتاح لزوجها على وجه اليقين، وهي ضمان نسلها بغير دخل ولا ارتياب. فكل من ولدت المرأة فهو وليدها الذي يستحق عطفها وحنانها، وليس ذلك شأن الآباء فيما يُنسب إليهم من الأبناء. وما من أم تُسأل عن ألم الحمل إلا تبين من شعورها أنها تستعذبه ولا تتبرم به، وأنها قد تشعر بغبطة من الألم لا يعرفها الرجال الذين يثورون على الآلام، ومن امتزاج الألم بطبيعة المرأة أصبحت التفرقة بين ألمها ولذتها في رعاية الأبناء من أصعب الأمور، وعلى هذا يعتز الرجل بأنه يريد المرأة، ولا تعتز المرأة بأن تريده. لأن الإغواء هو محور المحاسن في النساء، والإرادة الغالبة هي محور المحاسن في الرجال، ولهذا زُودت الطبيعة المرأة بعدة الإغواء وعوضتها بها عن عدة الغلبة والعزيمة، بل جعلتها حين تغلب هي الغالبة في تحقيق مشيئة الجنسين على السواء».

•••

«ولكن التفرقة في عدة الغواية واجبة بين ما هو من صفات الجنس كله، وما هو من صفات هذه المرأة أو تلك من أفراد النساء. فقد تكون امرأة من النساء أذكى وأبرع من هذا الرجل أو ذاك، فتأخذه بالحيلة والدهاء، كما يغلب الأذكياءُ الجهلاءَ في كل مجال يتصاولون فيه. إلا أنها صفة فردية لا يُقاس عليها عند بيان الصفات الجنسية التي خُصَّت بها المرأة على التعميم، وهذه الصفات الجنسية هي التي تعنينا في هذا المقام؛ لأنها التراث المشترك بين جميع بنات حواء في مواجهة الجنس الآخر: وهو جنس الرجال».

«فالذي يساعد المرأة من قبل الطبيعة على إغراء الرجل هو الهوى الجنسي في تركيب الرجل نفسه، فلولا هذا الهوى لكانت حيلتها معه من أضعف الحيل، وسلطانها عليه كأهون سلطان، ومما يرينا أن الطبيعة هي العاملة هنا، وليست المرأة هي التي تعمل بقدرتها واحتيالها، أن هواها في نفس الرجل شبيه بكل هوى ينمو فيه بحكم العادة والفطرة، فهو يعاني من مقاومة التدخين، أو معاقرة الخمر، عناء يجهده ويغلبه على مشيئته في كثير من الأحيان، ولو كان للتبغ أو للخمر لسان يتكلم لجاز أن يتحدث الناس عن لسانهما المعسول الذي يخلب العقول، وعن حيلتهما النافذة التي تسلب الرشاد».

«والأداة البالغة من أدوات الإغواء والإغراء، هي قدرة المرأة على الرياء والتظاهر بغير ما تخفيه، فهذه الخصلة قد تسمو فيها حتى تبلغ رتبة الصبر الجميل، والقدرة على ضبط الشعور، ومغالبة الأهواء، وقد تسفل حتى تعافها النفوس كما تعاف أقبح الختل والنفاق. أعانتها عليها روافد شتى من صميم طبائع الأنوثة التي يوشك أن يشترك فيها جميع الأحياء. فمن أسباب هذه القدرة على الرياء — أو هذه القدرة على ضبط الشعور — أن المرأة قد ريضت زمنًا على إخفاء حبها وبغضها؛ لأنها تخفي الحب آنفة من المفاتحة به والسبق إليه، وهي التي خُلقت لتتمنع وهي راغبة، وتخفي البغض لأنها محتاجة إلى المداراة كاحتياج كل ضعيف إلى مداراة الأقوياء».

«ومن أسباب القدرة على الرياء، أو القدرة على ضبط الشعور، أن الأنوثة سلبية في موقف الانتظار، فليس من شأن رغباتها أن تسرع إلى الظهور والتعبير، أو ليس من شأنها أن تفلح بالظهور والتعبير كما تفلح رغبات الذكور».

«ومن أسباب القدرة على الرياء، أو القدرة على ضبط الشعور، أن مغالبة الآلام قد عودتها مغالبة الخوالج النفسية ما دامت في غنى عن مطاوعتها والكشف عنها، ومنها أن اصطناع الزينة الذي استقر في خليقتها إنما هو في لبابه اصطناع لكل ظاهر تحسه الأبصار والأسماع، أو تحسه الضمائر والأفهام».

«وفي اللغة العربية توفيقات كثيرة في الجمع بين الحقيقة المادية والحقيقة المجازية بكلمة واحدة، ومنها كلمة «التجمل» التي تفيد معنى التزين لمرأى العيون كما تفيد معنى التزين لمرأى النفوس».

«ولرسوخ هذه الطبيعة الأنثوية في تكوين المرأة — شغفت بالرياء لغرض تعنيه، ولغير غرض تعنيه في كثير من الأحوال، كأنها وظيفة حيوية تستمتع بها بالمعالجة والرياضة كما تستمتع الأعضاء بالحركة والنشاط».

«وقد يعين المرأة على الرجل — غير الهوى وغير الخداع — خُلق آخر هو في الحقيقة خُلق يعين الرجل على نفسه، وليس عمل المرأة فيه إلا من قبيل الإذكاء والتنبيه. فالمرأة سكن للرجل كما جاء في القرآن الكريم، ولا يطيب للإنسان أن يحذر من سكنه، أو يتجافى عن الهدوء والطمأنينة فيه، ولا تتم سعادته به إلا أن ينفي عنه الحذر، ويُقبل عليه بجمع فؤاده وطوية ضميره. فهو الذي يغمض عينيه بيديه ويستنيم إلى الرقاد هربًا من السهاد، ونصف ما يقبله من الخداع إنما هو الخداع الذي نسجه بيمينه وزخرفه بتلفيقه، وكذلك المرأة إذا تعلقت بالرجل كانت أسبق منه إلى التصديق، وكان خداعه إياها أسهل من خداعها إياه».

«ومن غوايات المرأة الكبرى أنها قصبة السبق في حلبة التنافس بين الرجال، فالظفر بها يُرضي كل شعور يحيك بقلب الرجل، سواء منه ما يتناوله بإدراكه ووعيه، وما ليس يدركه ولا يعيه».

«وقد اختلف أصحاب المذاهب الفلسفية في تعليل نوازع الحياة التي تُفسر بها أعمال الناس وترد إليها. فقال بعضهم: إنها طلب القوة، وقال غيرهم: إنها طلب البقاء، وزعم هؤلاء وهؤلاء أنها طلب اللذة، وجاء آخرون في العصر الحاضر فتغلغلوا بالنوازع الجنسية وراء كل غريزة، ونفذوا بها إلى كل سرداب من سراديب النفس الخفية، وأيًّا كان موضوع الصدق من هذه النوازع، فالمرأة معها جميعًا تطلق شعور القوة وشعور البقاء وشعور اللذة، وتتقصى وشائج الجنس إلى جذورها الكامنة في أعرق بواطن الحياة».

«وما الظن بقصبة السبق التي تستطيع أن تستدني إليها من تشاء وتنأى عمن تشاء؟ إن المتسابقين ليتناحرون على القصبة الخرساء، وهي لا تحكم لهم بشيء ولا تفاضل بين يمين ويمين. والمرأة هي تلك القصبة التي تحابي وتجافي حَرِيَّة ألا تبقى في عزيمة العَادِين بقية من نوازع السباق».

«تلك هي بعض عناصر الغواية الأنثوية التي تملكها المرأة من حيث تدري ولا تدري، وكذلك تنبت الثمرة الثانية على هذه الشجرة».

١  كتاب «هذه الشجرة» للمؤلف.
٢  الضيزى: الجائرة. وفي القرآن: تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ [النجم: ٢٢].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤