الفصل السابع

حقوق المرأة

بُنيت حقوق المرأة في القرآن الكريم على أعدل أساس يتقرر به إنصاف صاحب الحق، وإنصاف سائر الناس معه، وهو أساس المساواة بين الحقوق والواجبات.

فالمساواة ليست بعدل إذا قضت بمساواة الناس في الحقوق على تفاوت واجباتهم وكفاياتهم وأعمالهم، وإنما هي الظلم كل الظلم للراجح والمرجوح. فإن المرجوح يضيره ويضير الناس معه أن يأخذ فوق حقه، وأن ينال فوق ما يقدر عليه، وكل من ينقص من حق الراجح يضيره؛ لأنه يغل من قدرته، ويضير الناس معه؛ لأنه يحرمهم ثمرة تلك القدرة، ويقعدهم عن الاجتهاد في طلب المزيد من الواجبات، مع ما يشعرون به من بخس الحقوق.

والمشترعون المحدثون يصلحون عيب المساواة المطلقة بما يدعونه مساواة في الفرصة، وهو إصلاح مطلوب في تقدير العدالة الاجتماعية، عند معرفة الفرصة واحتمال الاختلاف فيها على حسب اختلاف الأفراد والأحوال. ولكن الاحتياط بمساواة الفرصة عبث عند اختلاف الجنسين واختلاف وظيفة كل منهما بحكم الفطرة ونتائجها في العلاقات الاجتماعية. فلا محل هنا لتعليق المساواة بالفرصة السانحة؛ إذ كانت الفرصة هنا مقرونة بأوضاع الطبيعة التي لا تبديل فيها. فليست هنالك فرصة تنتظرها المرأة تبدل من وظائفها، ومن نتائج هذه الوظيفة في واجباتها الفطرية والاجتماعية، وليست هنالك فرصة تسوي بين الرجل والمرأة؛ حيث لا مساواة بينهما في تركيب البنية ولا في خصائص التركيب.

وليس من العدل أو من المصلحة أن يتساوى الرجال والنساء في جميع الاعتبارات، مع التفاوت بينهم في أهم الخصائص التي تُناط بها الحقوق والواجبات.

وبين الرجال والنساء ذلك التفاوت الثابت في الأخلاق الاجتماعية، وفي الأخلاق الفطرية، وفي مطالب الأسرة، ولا سيما مطالب الأمومة وتدبير الحياة المنزلية.

فمن الثابت أن المرأة لم تستقل في حياة النوع كله بالقوامة على الأخلاق الاجتماعية، ولم يكن لها العمل الأول قط في إنشاء قيم العرف والآداب العامة، ولم يكن خلقها مستمدًّا من الغريزة، فهو في الجانب الاجتماعي منه خاضع لقوامة الرجل وإشرافه فيما هو أقرب الأمور بها، وألصقها بتكوينها، وأبرزها بالنسبة إليها خُلق الحياء، وخُلق الحنان، وخُلق النظافة التي تشمل الزينة بأنواعها.

•••

ومن الثابت كذلك أن الأخلاق الفطرية في المرأة عرضة للتناقض الذي لا مناص منه بين مطالب الأنوثة، ومطالب الكائن الحي في البيئة الاجتماعية، فلا مناص من التناقض بين شعور الأنثى التي تحس أكبر السعادة في الاستكانة إلى الرجل الذي تنضوي إليه لما تأنسه فيه من القوة والغلبة، وبين شعور الفرد الذي يبلغ تمامه بالاستقلال عن كل فرد يفتئت على حدوده الشخصية. ولا مناص من التناقض بين فرح الأم بتمام أنوثتها ساعة الولادة وبين فزع الكائن الحي من الخطر على حياته، ويقرب منه التناقض بين اكتفاء وظيفة النوع عند حصول الحمل، وبين عبث الشهوة الجسدية لغير ضرورة نوعية. ولن يذهب هذا التناقض المتغلغل في أعماق البنية بغير أثره المحتوم في استقلال الخلق، وشعور الجد والصدق والصراحة.

وإذا صرفنا النظر عن التفاوت المستكن في الطباع، وتخيلنا لغير حجة معقولة أنه لا يمنع التسوية بين الجنسين في الكفايات والواجبات، فالتفاوت بعد ذلك مسألة من مسائل الوقت وتوزيع العمل بين كل منهما بما يقتضيه وقته المملوك له لأداء عمله. فليس لدى المرأة وقت يتسع لما يتسع له وقت الرجل من المطالب العامة، مع اشتغالها بمطالب الحمل والرضاع والحضانة وتدبير الحياة المنزلية.

ونظام الأسرة يستلزم تقرير الرئاسة عليها لواحد من الاثنين: الزوج أو الزوجة، ولا يغني عن هذه الرئاسة ولا عن تكاليفها، أن نسمي الزواج شركة بين شريكين متساويين، وتوفيقًا بين حصتين متعادلتين. فإن الشركة لا تستغني عمَّن يتخصص لولايتها، ويسأل عن قيامها، وينوب عنها في علاقتها بغيرها. وليس من المعقول أن تتصدى الزوجة لهذه الولاية في جميع الأوقات؛ إذ هي عاجزة عنها على الأقل في بعض الأوقات، غير قادرة على استئنافها حين تشاء.

•••

هذه الفوارق بين الجنسين تدخل في حساب الشريعة لا محالة عند تقرير الحقوق والواجبات بينهما، وتأبى كل مساواة لا تقوم على أساس المساواة بين الحق والواجب، وبين العمل والكفاية.

وهذه هي المساواة التي شرعها القرآن الكريم بين الرجل والمرأة، أو بين الزوج والزوجة، أو بين الذكر والأنثى، ولا صلاح لمجتمع يفوته العدل في هذه المساواة، ولا سيما المجتمع الذي يدين بتكافؤ الفرص ويجعل المساواة في الفرصة مناطًا للإنصاف.

للمرأة مثل ما للرجل وعليها مثل ما عليه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: ٢٢٨].

وكل منهما قوة عاملة في دنياه، يُطلب منه عمله ويحق له جزاؤه: أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ [آل عمران: ١٩٥].

ولكل منهما سعيه وكسبه: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء: ٣٢].

ولا يختلفون في نصيب مقدور بغير التكاليف التي تُفرض على الرجل وحده، فللذكر من الأبناء مثل حظ الأنثيين في الميراث: يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ [النساء: ١١].

وكذلك نصيب الإخوة من رجال ونساء.

ومسوغ هذا التفاوت أن الأخ مسئول عن نفقة أخته، وأن الابن يعول من لا عائل لها من أهله، وأن رب البيت عامة هو الزوج أو الأب أو الرشيد من الأبناء والإخوة ومن إليهم، وتقرير وجوب السعي على الرجل أولى وأصلح من تقريره على المرأة التي يظلمها من يساويها به في واجبات السعي على المعاش، مع نهوضها بواجب الأمومة والحضانة وتدبير المعيشة المنزلية.

ويتفاوت الرجل والمرأة في غير الميراث في بعض مسائل الحقوق التي تتصل بالسعي والمعاش، ومنها مسألة الشهادة على الديون والمواثيق: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ [البقرة: ٢٨٢].

والشهادة في جميع الأحوال — كما نصَّ عليها القرآن الكريم — عمل يعالج فيه الشاهد أن يتغلب على دخائل الحب والبغض ويتجنب الميل مع هواه:
  • يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: ١٣٥].
  • يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة: ٨].

والقضية في الشهادة هي قضية العدل وحماية الحق والمصلحة، ولها شروطها التي يلاحظ فيها المبدأ وضمان الحيطة على أساسه السليم. والمبدأ هنا — كما ينبغي أن تتحراه الشريعة — هو دفع الشبهة من جانب الهوى وما يوسوس به للنفس في أحوال المحبة والكراهة وعلاقات الأقربين والغرباء، وليس بالقاضي العادل من يعرض له هذا المبدأ، فيقضي بالمساواة بين الجنسين في الاستجابة لنوازع الحس، والانقياد لنوازع العاطفة، والاسترسال مع مغريات الشعور من رغبة ورهبة. فالمبدأ الذي ينبغي للقاضي العادل أن يرعاه هنا حرصًا على حقوق الناس أن يعلم أن النساء لا يملكن من عواطفهن ما يملكه الرجال، وأنه يجلس للحكم ليحمي الحق، ويدفع الظلم، ويحتاط لذلك غاية ما في وسعه من حيطة؛ لأنه أمر لا يعنيه لشخصه، ولا يحل له أن يجعله سبيلًا إلى تحية من تحايا الكياسة، أو مجاملة من مجاملات الأندية. وقديمًا كانت هذه التحايا والمجاملات تجري في ناحية من المجتمع، وتجري معها في سائر نواحيه ضروب من الظلم للمستضعفين والمستضعفات تقشعر لها الأبدان.

وعلى هذه السُّنة من تقرير المبادئ السليمة في شئون العدالة والمصلحة تجري شريعة القرآن الكريم؛ حيث تقتضي الحيطة لحماية البريء، وإنصاف المظلوم، وأن يزداد عدد الشهود من الرجال فلا يكتفي منهم بالشاهد والشاهدين، إمعانًا في دفع الشك وتأويله — حيث وجد — لمصلحة المتهم، حتى تلزمه الإدانة بنجوة من الشكوك والشبهات.

ولقد يوجد من النساء من تقوم شهادة إحداهن بشهادة ألف رجل، ولقد يوجد من الرجال ألوف لا تُقبل منهم شهادة، ولكن المشترع الذي يقول — لأجل ذلك: إن مزاج الرجل ومزاج المرأة سواء في الحس والعاطفة، يتقبل من مغالطة الواقع والضمير ما يبطل تشريعه وينحيه عن هذا المقام.

•••

وليس من غرضنا في هذا الكلام على حقوق المرأة، أن نُفصِّل الأعمال التي تجوز لها في المجتمع، فإنها — فيما نرى — لا تقبل الإحصاء، ولا تتشابه في المجتمعات، مع اختلاف الزمن وتباين الأحوال، وإنما نجتزئ في كلامنا هنا ببيان حكمة الاختلاف حيث وجد اختلاف الحقوق. فأما الأعمال المباحة للمرأة فهي الأعمال المباحة للرجل بغير تمييز، وكل ما تحاط به من حدود، أن تمضي على سواء الفطرة، فلا تخل بالقوامة الضرورية للمجتمع وللأسرة؛ إذ هي قوامة لا بد من تقريرها لأحد الجنسين، وليس من الطبيعي، ولا من المعقول أن يتساوى فيها الجنسان.

وبعد: فإن حقوق الإنسان المثالية أمل من آمال الطوبيات التي نترقبها في المستقبل، ولا نتبينها على جليتها في مجتمع من مجتمعات الأمم الحاضرة ولا الأمم الماضية، كائنًا ما كان قسطها من الحضارة والمعرفة؛ لأن المجتمع الأمثل صورة متخيلة، لم يزل رواد الإصلاح أنفسهم يتلمسون إليه السبل ولا يتفقون عليها ولا على الغاية المنشودة التي تؤدي إليها.

بيد أننا نستطيع بغير تردد أن نفهم أن المجتمع الأمثل ليس هو المجتمع الذي تضطر فيه المرأة إلى الكدح لقوتها وقوت أطفالها.

وليس هو المجتمع الذي تعطل فيه أمومتها، وتنقطع لذاتها، وتنصرف إلى مطالبها وأهوائها.

وليس هو المجتمع الذي ينشأ فيه النسل بغير أمومة، وبغير أبوة، وبغير أسرة، كأنه محصول من محاصيل الزراعة التي تتولاها الدولة عن الجماعة البشرية.

•••

وإذا اتخذنا حالة المرأة النافعة لنفسها ولنوعها مقياسًا للمجتمع الأمثل، فخير ما يكون عليه هذا المجتمع — إذن — أن تكون المرأة فيه مكفولة المؤنة في أمومتها، وأن تكون لها كفاية الأم التي تؤهلها لتزويد الأمة بجيلها المقبل، على أصلح ما يُرجى من سلامة البدن وسلامة الفكر والطوية.

وفي مثل هذا المجتمع تجري العلاقة بين الجنسين على سُنَّة توزيع العمل وتقسيم الحقوق بالقسطاس؛ كل جنس يتكفل بما هو أوفق له وأقدر عليه، ويملك من الحقوق ما يحتاج إليه، ويتخلى عن العمل الذي لا يناسبه ولا يلجأ إليه إلا على اضطرار.

ومركز المرأة حيث أقامها القرآن الكريم، كفيل لها بكل ما يعوزها لتحقيق رسالتها الفطرية في هذا المجتمع المثالي على الوجه الأمثل.

ويحدث في المجتمعات الحاضرة أن تحول العوارض الكثيرة دون انتظام المجتمع على هذه السُّنة القويمة من توزيع الأعمال وتقسيم الحقوق، لاختلال أوضاعه السياسية والاقتصادية والنفسية، فيما يعم الرجال من جميع الطبقات ولا يخص المرأة وحدها بين حياة الأسرة والحياة العامة، فتضطر المرأة إلى الكدح لقوتها وقوت صغارها، وتعجز عن تكاليف الأمومة، وتدبير البيت، والمشاركة بحصتها من الحياة الزوجية. وهذه حالة خلل تتضافر الجهود لإصلاحها وتبديلها، ولا يصح أن تتضافر لإبقائها واستدامتها وإقامة الشرائع والقوانين لتثبيتها. وعلى هذا النحو تضافرت الجهود من قبل على إصلاح الخلل الذي كان يدفع بالأطفال إلى العمل لمعاونة الآباء والأمهات في تحصيل أقواتهم وضرورات معيشتهم، فعولج هذا الخلل بتحريم تشغيلهم، وعولج الخلل من قبيله بالحظر العاجل تارة وبالحظر المتراخي مع الزمن تارة أخرى، ولم تكن علة من علل هذا الخلل وأشباهه حجة على صلاحه وإقامته مقام الحق الذي يُصان ولا يتبدل.

•••

وقد تمضي السنون، بل تمضي القرون، قبل أن يستقر المجتمع الإنساني على الوجه الأمثل في حقوق المرأة خاصة، وفي حقوق أبنائه وبناته من الرجال والنساء على التعميم، وقد تلجأ المرأة غدًا كما تلجأ اليوم إلى كسب الرزق ودفع الحاجة، والاعتصام بالعمل من الضنك والتبذل، فإذا سيقت المرأة إلى هذه المآزق، فليس في أحكام الإسلام حائل بينها وبين عمل شريف تزاوله المرأة الغربية. وليست كثرة العاملات في الغرب اليوم وقلتهن في الشرق لمانع من موانع الأحكام الإسلامية، وإنما هو الفارق بين مجتمع ومجتمع، وبين أطوار وأطوار، ومثل هذا الفارق كان على أقواه وأشده بين مجتمعات الغرب اليوم ومجتمعاته بالأمس. فندر عدد المشتغلات بالأعمال العامة بين الغربيات من قبل لأسباب اجتماعية واقتصادية، ويندر عدد المسلمات المشتغلات بها اليوم لأسباب كتلك الأسباب، وقد يطرأ عليها التبديل عجلًا أو متمهلًا على حسب الأحوال.

وفي وسع المرأة المسلمة التي تحرم قوامة البيت أن تزاول من العمل الشريف كل ما تزاوله المرأة في أمم الحضارة، فلها نصيبها مما اكتسبت، ولها مثل الذي عليها بالمعروف، وذلك حقها الذي تملكه، كلما سيقت إليه أو كلما اختارته لمصلحتها، وذلك حقها في القرآن الكريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤