الفصل الثامن

الزواج

الزواج صلة شرعية بين الرجل والمرأة، تُسنُّ لحفظ النوع وما يتبعه من النظم الاجتماعية.

وشريعة الإسلام في نظام الزواج بهذه المثابة، شريعة تامة تحيط بجميع حالاته، وهي على أتمِّها في الجانب الذي يتناوله أشد النقد من قبل المخالفين للإسلام عامة، أو المخالفين فيه لنظام الزواج على التخصيص، ونريد به الجانب الذي ينص على إباحة تعدد الزوجات.

فالإسلام لم ينشئ تعدد الزوجات، ولم يوجبه، ولم يستحسنه، ولكنه أباحه في حالات يشترط فيها العدل والكفاية، ولا تحسب الشريعة الاجتماعية تامة وافية ببيان المباح والمحرم في جميع الحالات، إن لم تعرض لهذا الجانب من جانب الزواج، ولم تعتبره احتمالًا من الاحتمالات، التي تحتاج إلى النص عليها بالإباحة أو التحريم.

فليس البحث هنا عن تعدد الزوجات هل هو واجب أو غير واجب، وهل هو من العلاقات المثالية أو من العلاقات التي تتخلف عن مقام المثل الأعلى في الأخلاق. فإن الشرائع لا تُفرض للمثل الأعلى الذي يتحقق به الكمال، ولكنها تُفرض لأحوال الضرورة كما تفرض لأحوال الاختيار، ويحسب فيها حساب ما يقبل على الرضى، وما يقبل على الكره. ولا بد فيه من حكم للشريعة تقتضيه عند الحاجة إليه.

فليس النص على إباحة تعدد الزوجات؛ لأنه واجب على الرجل أو مستحسن مطلوب، وإنما النص فيه لاحتمال ضرورته في حالة من الحالات. ويكفي أن تدعو إليه الضرورة في حالة بين ألف حالة، لتقتضي الشريعة بما يتبع في هذه الحالة ولا تتركها غفلًا من النص الصريح.

ومن مخالفة الواقع أن يُقال: إن هذه الحالة لا تعرض للناس في وقت من الأوقات، فإن مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة قد يجعل السماح بتعدد الزوجات أفضل الحلول، ويجعل كل حل سواه قسوة بالغة أو تعطيلًا لأشرف الأغراض التي يُشرع من أجلها الزواج.

فقد يحدث أن تُصاب الزوجة بمرض عضال، يقعدها عن واجباتها الزوجية، ويفقدها وظيفة الأمومة، فإذا امتنع تعدد الزوجات في جميع هذه الحالات فلا محيص للزوج الذي عقمت زوجته، وعجزت عن تدبير بيتها، من تطليق تلك الزوجة، أو من الإبقاء على زواج فقد معناه، وبطل الغرض الأكبر منه للأسرة وللنوع، ولم يبق منه للرجل إلا تكاليف الخدمة البيتية التي تعوله وتعول زوجته بلا عقب ولا سكن يطمئن إليه.

•••

فالسماح بتعدد الزوجات في هذه المشكلة البيتية حل مقبول أسلم وأكرم من نبذ المرأة المريضة، ومن إكراه الرجل على العقم والمشقة. وليس من موانع التشريع في أمثال هذه المشكلات، أن تكون فيه غضاضة على المرأة التي يبني الرجل بزوجة أخرى، مع بقائها في عصمته. فإن الغضاضة لاحقة بها في الطلاق، وليست الغضاضة التي تصيب الرجل المقسور على العقم واحتمال تكاليف الخدمة البيتية بالأمر الذي يسهو عنه التشريع، بل هي أولى بنظر الشريعة التي تُقدِّس الزواج وتحفظ قوامه، إذ كان إهمالها إهمالًا لحكمة الزواج، وإلغاء لمقصد الشارع من إبرام الصلة بين الزوجين، وتحريم الزنى والفسوق.

وقد يكون للرجل المتزوج قريبة لا يئويها غيره، ويكون لها نسل لا يرعاه الزوج الغريب عنها، فمن الحذلقة المرذولة أن يُقال: إن الإحسان إليها بالصدقة أكرم لها من كفالتها في عصمته، ورضاها في هذه الحالة أولى بالتقديم من رضى زوجته التي تعميها الأثرة عن كل شعور غير شعورها، فكلتاهما امرأة، وكلتاهما إنسان يحق له العطف والحماية من الكدر والشقاء.

وليس بالنادر أن تمر بالأمم أزمات، يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال، كما يحدث في أعقاب الحروب والثورات، وقد يحدث في أعقاب الأوبئة التي تنتقل عدواها في المجامع العامة، فلا تتعرض لها المرأة كما يتعرض الرجل، وقد يحدث أن تكون زيادة عدد الإناث ظاهرة مطردة في كثير من الأنواع كما يقول بعض المشتغلين بعلم الأحياء، فإذا حدث هذا الاختلال في نسبة التساوي بين الجنسين، فليس لهذه المشكلة حل أسلم وأكرم من السماح بتعدد الزوجات؛ لأن المرأة التي لا تتزوج تعيش عيشة البطالة والفتنة، أو تكدح في طلب الرزق بعمل من الأعمال لا يتيسر لجميع النساء، وتُبتلى بالعقم في الحالتين.

وما من اعتراض على هذا الحل يبنيه المعترض على المبدأ الجد في علاج أدواء المجتمع، والإخلاص في تقدير مصائبه وآفاته. فإنهم يحسبون أن الحرص على كرامة بالمبدأ — الخيالي — كفيل لها بالصيانة، وكفيل للمجتمع بحل مشكلة الزواج، وما من أحد يعجز عن المغالاة بكرامة المرأة، وما ينبغي لها في عالم الخيال، ولكن كرامة المرأة في الحق وفي الواقع لا تساوي شيئًا عند من يرتضي لها العقم، والابتذال، والإغضاء عن خلائل الزوج، وسراريه، ولا يأذن لها أن تُؤْثِر الرضى بتعدد الزوجات على الرضى بكل هذه المساوئ والمحظورات، وهي صاحبة الحق في الاختيار بين الأمرين، فإنها لا تساق كرهًا إلى الزواج، إذا سمح الشارع بتعدد الزوجات، ولكنها تساق كرهًا إلى العقم والغواية إذا حرمه عليها الشارع، ولم يغلق دونها طريق الإسفاف والابتذال. فمن تعلل بحق المرأة، فليترك لها على الأقل أن تكون هي صاحبة الاختيار بين العلاقة المشروعة على علاتها، وبين العلاقة التي تُحرَّم عليها في كل شريعة وكل دين. والواقع أن التشريع الذي يُحرِّم تعدد الزوجات لا يحد من حرية الرجل بمقدار ما يحد من حرية المرأة؛ لأن الرجل لا يعدد زوجاته بغير مشيئة المرأة؛ فهذه المشيئة هي التي يقع عليها الحجر، ويُفرض عليها القصور، أو تُضرب عليها الوصاية من قبل الشارع، فلا ترجع إليها الحرية فيما ترتضيه.

وقد سكتت الشرائع الاجتماعية، قبل الإسلام، عن كل حكم من أحكام الزواج غير الحكم المفهوم من إباحته على إطلاقه بغير عدد محدود من الزوجات، أيًّا كانت نسبة العدد بين الجنسين، وقدرة الزوج على مؤنة البيت، وحالة المجتمع من توفير أسباب المعيشة البيتية. فلم تفرض شريعة منها أي فارق بين زواج وزواج، ولا بين حالة ممكنة وحالة متعذرة، أو بين حالة يحسن فيها الاكتفاء بالزوجة الواحدة، وحالة يبطل فيها مقصد الزواج بهذا الاكتفاء. وذلك هو النقص الذي تداركه الإسلام حين لمح الفوارق الكثيرة بين ظروف الزواج من وجهته الاجتماعية أو وجهته البيتية، فعرف الحالة المُثلى للعلاقة الشرعية بين الرجل والمرأة، كما عرف الحالة القاسرة التي يضطر إليها الزوج، وتضطر إليها الزوجة، ويضطر إليها المجتمع والشارع؛ لأنها أصلح من تعطيل الزواج، وأوفق من العزوبة والابتذال.

•••

فالشرائع المدنية عامة قبل الإسلام كانت تبيح تعدد الزوجات واقتناء السراري بغير تحديد للعدد، ولا التزام بشرط من الشروط، غير ما يلتزمه الزوج من المؤنة والمأوى.

والشريعتان الدينيتان السابقتان للإسلام — وهما الإسرائيلية والمسيحية — مختلفتان في أحكام الزواج، وفي النظر إلى معناه وغايته من الوجهة الروحية.

فالشريعة الإسرائيلية أباحت تعدد الزوجات بمشيئة الزوج حسب رغبته واقتداره، ويُفهم من أخبار العهد القديم أن داود وسليمان عليهما السلام — وهما ملكان نبيان — جمعا بين مئات الزوجات الشرعيات والإماء، ولم يلحق بهما اللوم إلا لما نُسب إلى داود من الزواج بامرأة قائده «أوريا» بعد تعريضه للقتل في الحرب، وما نُسب إلى سليمان من مطاوعته لإحدى زوجاته في إقامة الشعائر المخالفة للدين.

ففي الإصحاح الثاني عشر من سفر صمويل الثاني يقول النبي ناثان لداود: «أنا مسحتك ملكًا على إسرائيل، وأنقذتك من يد شاول، وأعطيتك بيت سيدك ونساء سيدك، لماذا أخذت امرأة «أوريا» لك امرأة؟»

وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر الملوك الأول أن الملك سليمان «أحب نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون: موآبيات وعمونيات وأورميات وصيدونيات وحيثيات … فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة، وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري. فأمالت نساؤه قلبه.»

ويقول نيوفلد صاحب كتاب «قوانين الزواج عند العبرانيين الأقدمين»:١ «إن التلمود والتوراة معًا قد أباحا تعدد الزوجات على إطلاقه، وإن كان بعض الربانيين ينصحون بالقصد في عدد الزوجات، وإن قوانين البابليين وجيرانهم من الأمم التي اختلط بها بنو إسرائيل كانوا جميعًا على مثل هذه الشريعة في اتخاذ الزوجات والإماء.»

•••

ومما لاحظه معظم المؤرخين للنظم الاجتماعية بين العبرانيين وجيرانهم الشرقيين — كما لاحظه نيوفلد — أن إباحة تعدد الزوجات على إطلاقه، مصحوبة بإباحة التسري على أنواعه، وهي كثيرة كما يؤخذ من الأسماء التي كانت تُطلق على النساء المملوكات في مصطلحات العهد القديم، فكان للرجل أن يملك ما يشاء بين أمة وسرية وجارية وعبدة وسبية من النساء المملوكات بالسبي أو الشراء. وقد يؤخذ من أعمالهن المنسوبة إليهن في كتب العبرانيين أنهن درجات مختلفات في المنزلة الاجتماعية والصفات الشرعية، ولكن الواحدة منهن قد تُذكر باسم جارية في موضع، واسم أمة في موضع آخر، ويعود هذا — على الأرجح — إلى حالة المالك الذي يستطيع أحيانًا أن يخصص للخدمة المنزلية خادمة غير السرية، ويحتاج أحيانًا إلى استخدام السرية في أعمال البيت كلها مما تقوم به الزوجة عادة حيث لا توجد الجارية أو السرية. وأيًّا كان عمل النساء المملوكات فهن — بطبيعة الحال — لا يتساوين في المكانة الأدبية ولا في قيمة الثمن، ولا في صفات الجمال والذكاء، ومنهن من كانت تحل محل الزوجة العقيم برضى الزوجة، لتلد للرجل ذرية تتبناها تلك الزوجة، وتنتقل إليها حقوقها في الميراث، وتظل الجارية أم البنين في مقام وسط بين مقام ربة البيت والأمة المملوكة التي تُباع وتُشترى.

وكل هذه العلاقات بين الرجل ونساء بيته كانت تُباح على إطلاقها، ولا يُشرع لها قيد غير قيد الوثيقة الشرعية، سواء كانت وثيقة زواج أو وثيقة شراء.

وبقيت حقوق الزوجات، وأشباه الزوجات، على هذه الحال في الشرائع القديمة قبل الإسلام إلى زمن غير بعيد.

•••

ثم جاءت المسيحية — وهي أكبر الديانات الكتابية بعد ديانات أنبياء بني إسرائيل — فلم تتوسع في التشريع الاجتماعي؛ لأنها نشأت في بيئة مكتظة بالشرائع، تستولي عليها الأمتان اللتان أسرفتا إسراف الغلو المفرط في سن القوانين، والارتباط بحروف «النواميس» فذكرت هذه الديانة الجديدة شيئًا عن الزواج في ناحيته العبادية، أو في ناحيته التي تتصل بالعالم الآخر دون عالم الحياة الدنيا، ولم يرد في كتبها نص صريح بتحريم تعدد الزوجات، وإنما ورد في كلام بولس رسولها الكبير استحسان الاكتفاء بزوجة واحدة، لرجل الدين المنقطع عن مآرب دنياه، ذهابًا إلى الرضى بأهون الشرين، وقياسًا على أن ترك الزواج لمن استطاعه خير من الزواج.

وبقي تعدد الزوجات مباحًا في العالم المسيحي إلى القرن السادس عشر، كما جاء في تواريخ الزواج بين الأوروبيين، ويقول وسترمارك Westermarek في تاريخه: «إن ديارمات Diarmat ملك أيرلندا كان له زوجتان وسريتان، وتعددت زوجات الملوك الميروفنجيين غير مرة في القرون الوسطى، وكان لشرلمان زوجتان وكثير من السراري، كا يظهر من بعض قوانينه أن تعدد الزوجات لم يكن مجهولًا بين رجال الدين أنفسهم، وبعد ذلك بزمن كان فيلب أوف هيس، وفردريك وليام الثاني البروسي، يبرمان عقد الزواج مع اثنتين بموافقة القساوسة اللوثريين، وأقر مارتن لوثر نفسه تصرف الأول منهما، كما أقره ملانكتون Melankton وكان لوثر يتكلم في شتى المناسبات عن تعدد الزوجات بغير اعتراض، فإنه لم يُحرَّم بأمر من الله، ولم يكن إبراهيم — وهو مثل المسيحي الصادق — يحجم عنه إذ كان له زوجتان. نعم إن الله أذن بذلك لأناس من رجال العهد القديم في ظروف خاصة، ولكن المسيحي الذي يريد أن يقتدي بهم يحق له أن يفعل ذلك متى تيقن أن ظروفه تشبه تلك الظروف، فإن تعدد الزوجات على كل حال أفضل من الطلاق. وفي سنة ١٦٥٠ الميلادية — بعد صلح وستفاليا، وبعد أن تبين النقص في عدد السكان من جراء حروب الثلاثين — أصدر مجلس الفرنكيين بنورمبرج قرارًا يجيز للرجل أن يجمع بين زوجتين. بل ذهبت بعض الطوائف المسيحية إلى إيجاب تعدد الزوجات، ففي سنة ١٥٣١ نادى اللامعمدانيون في مونستر صراحة، بأن المسيحي — حق المسيحي — ينبغي أن تكون له عدة زوجات، ويعتبر المورمون — كما هو معلوم — أن تعدد الزوجات نظام إلهي مقدس».

•••

ومن المعلوم أن اقتناء السراري كان مباحًا على إطلاقه كتعدد الزوجات، مع إباحة الرق جملة في البلاد الغربية، لا يحده إلا ما كان يحد تعدد الزوجات، من ظروف المعيشة البيتية، ومن صعوبة جلب الرقيقات المقبولات للتسري من بلاد أجنبية، وربما نصح بعض الأئمة بالتسري لاجتناب الطلاق في حالة عقم الزوجة الشرعية. ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر من كتاب الزواج الأمثل للقديس أوغسطين، فإنه يفضل التجاء الزوج إلى التسري بدلًا من تطليق زوجته العقيم.

وتشير موسوعة العقليين Rationalist Eneyelopedia إلى ذلك، ثم تعود إلى كلامها عن تعدد الزوجات فتقول: إن الفقيد الكبير جروتيوس دافع عن الآباء الأقدمين، فيما أخذه بعض الناقدين المتأخرين عليهم من التزوج بأكثر من واحدة؛ لأنهم كانوا يتحرون الواجب ولا يطلبون المتعة من الجمع بين الزوجات.
ويرى وسترمارك أن مسألة تعدد الزواج لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرة بعد أخرى، كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث، فيما يتعلق بمشكلات الأسرة، فتساءل في كتابه المتقدم ذكره: «هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟» ثم أجاب قائلًا: إنه سؤال أجيب على آراء مختلفة. إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وإن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يتأدى إلى هذه النهاية، وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور ليبون Lebon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد، ويذهب الأستاذ إهرنفيل Ehrenfel إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء «السلالة الآرية» ثم يعقب وسترمارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره.

•••

كذلك كانت أنظمة الزواج في العالم قبل الإسلام، وكانت بها — كما يرى — حاجة شديدة إلى الإصلاح والتقويم، وينحصر كلاهما في شريعة واجبة، تحد من الإباحة المطلقة، وتهدي إلى الزواج السوي، ولا تهمل مع هذه الهداية أن تقدر الضرورة التي تلجئ الزوج والزوجة، وقد تلجئ المجتمع كله، إلى حالة ليست بالسوية ولا بالمأثورة مع المشيئة والاختيار، ولكنها تقع في الحياة على كثرة أو على قلة، فلا يجوز أن تهملها الشريعة التي تقدر مصالح الناس في حياتهم الدنيا، وتحسب حسابها لحياتهم الدنيوية كما تحسبه لحياتهم الروحية.

وهذا الإصلاح المنتظر هو الإصلاح الذي جاء به الإسلام على أوفاه من جانب التشريع.

جاء الإسلام فلم ينشئ تعدد الزوجات، ولم يوجبه، ولم يستحسنه، ولكنه أباحه وفضَّل عليه الاكتفاء بالزوجة الواحدة، وفضَّله على تعطيل الزواج في مقصده الطبيعي والشرعي، بقبول العقم، والتعرض للغواية، وفرض العزوبة — وهي تجمع بين العقم والعزوبة معًا — على كثير من النساء عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين.

ونزيد على ذلك أنه حفظ للمرأة حريتها التي يتشدق بها نُقَّاد الشريعة الإسلامية في أمر الزواج؛ لأن إباحة تعدد الزوجات لا يحرم المرأة حريتها، ولا يكرهها على قبول من لا ترتضيه زوجًا لها، ولكن تحريم التعدد يكرهها على حالة واحدة، لا تملك غيرها، حين تلجئها الضرورة إلى الاختيار بين الزواج بصاحب زوجة، وبين عزوبة لا يعولها فيها أحد، وقد يعجزها أن تعول نفسها.

واشترط القرآن الكريم العدل بين الزوجات في حالة التعدد على أن لا يزيد عددهن عن أربع: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء: ٣].

ثم ذكَّر الرجال بصعوبة العدل عسى أن يتريثوا قبل الإقدام على الحرج: وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء: ١٢٩].

ولا نحسب أن الأمر في تحديد عدد الزوجات بأربع يدعو إلى سؤال من أحد يمارس حدود التنصيص في الشريعة. فإن التحديد يقتضي الوقوف عند حد متعارف عليه. وما من سبب يقتضي أن يكون عدد الكتيبة في الجيش مائة، ولا يكون تسعة وتسعين، أو مائة وواحدًا، إلا جاز لهذا السبب نفسه أن يكون العدد أكثر من ذلك، أو أقل من ذلك، بغير فارق في التنفيذ، وما من سبب يقتضي أن تكون درجة النجاح في الامتحان خمسين، ولا يقتضي كذلك أن يجعلها ستين أو أربعين. وإنما يجب الوقوف عند حد معلوم، ويقتضي ذلك الحد أن يكون العدد أقرب إلى الغرض المطلوب.

وعند حسبان الزيادة الراجحة في عدد النساء بالنسبة للرجال، لا يجدي أن يكون الحد اثنتين وحسب؛ إذ إن الرجال لا يتساوون في القدرة على أعباء الزواج كيفما كان عدد الزوجات؛ فمنهم من يُعييه أن يعول زوجة واحدة، ومنهم من لا يُعييه أن يعول كثيرات، وليست أقسام الرجال على حسب هذه القدرة معلومة لولاة الأمر المشرفين على صيانة الحدود، فلا مناص من حسبان من يستطيع تكاليف الزوجات الثلاث والأربع إلى جانب الذي يُعييه تكاليف الزوجة والزوجتين، وهذه موازنة ينتهي عندها الحد المعقول، متى كان من الواجب أن تنتهي إلى حد معقول.

•••

وحسب الشريعة أن تقيم الحدود وتوضح الخطة المثلى بين الاختيار والاضطرار، وأما ما عدا ذلك من التصرف بين الناس، فشأنه شأن جميع المباحات التي يحسن الناس وضعها في مواضعها، أو يُسيئون العمل والفهم فيها على حسب أحوال الأمم والمجتمعات من الارتقاء والهبوط، ومن المعرفة والجهل، ومن الصلاح والفساد، ومن الرخاء والشدة، ومن وسائل المعيشة على التعميم.

فالمباحات الاجتماعية والفردية كثيرة تأذن بها الشريعة، ولكنها لا تأخذ بأيدي الناس ليحسنوا تناولها والتصرف فيها، فليس أكثر من الطعام المباح، وليس أكثر من أضرار الطعام بمن يستبيحونه على غير وجهه، وبالزيادة أو النقص في مقداره، وبالخلط بين ما يصلح منه للسليم وما يصلح للمريض، وما يطيب منه في موعد ولا يطيب في موعد سواه، وإنه لمن الشطط على الشرائع — وعلى الناس — أن ننتظر من الشارع حكمًا قاطعًا في كل حالة من هذه الحالات؛ لأن الضرر من فرضها على من يتولاها بغير بصيرة أوخم وأعظم من تركها للتجربة والاختبار.

إن الممنوع من تعدد الزوجات لا حيلة فيه للمجتمع إلا بنقض بناء الزواج، وإهدار حرماته، جهرة أو في الخفاء.

أما المباح من تعدد الزوجات فالمجتمعات موفورة الحيلة في إصلاح عيوبه على حسب أحوالها الكثيرة من أدبية ومادية، ومن اعتدال أو اختلال في تكوين أسرها وعائلاتها وسائر طبقاتها.

فالتربية المهذبة كفيلة بالعلاقة الصالحة بين الزوج والزوجة، فلا يحمد الزوج نفسه علاقة بينه وبين امرأته لا تقوم على العطف المتبادل، والمودة الصريحة، والمعاونة الثابتة في تدبير الأسرة، ولا يتهيأ له جو البيت على المثال الذي يرتضيه مع زوجتين تدعوه إلى الجمع بينهما داعية من دواعي الأثرة والانقياد للنزوات.

وقد ينشأ المانع لتعدد الزوجات في حالتي الغنى والفقر على السواء؛ فالغني يستطيع أن ينفق على بيوت كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يجد غنيًّا مثله يعطيه بنته، ليجمع بينها وبين ضرة تنازعها، ولو اعتزلتها في معيشة أخرى، وقد يشق عليه أن ينفق على الزوجات الغنيات بما تتطلبه هذه النفقة من السعة والإسراف، وإذا وجد النساء الفقيرات فلعلها حالة لا تحسب إذ ذاك من أحوال الاضطرار بالنسبة لمن يقبلن عليها من الزوجات.

والفقير قد يحتاج إلى كثرة النساء والأبناء لمعاونته على العمل — ولا سيما العمل الزراعي — ولكنه يهاب العالة ويحجم عما يجهده من تحصيل النفقة والمأوى.

والمجتمع يحق له أن يشترط الكفاية في الزوج لتربية أبنائه، ويتوخى لذلك دستورًا يحافظ على حرية الرجال والنساء، ولا يخلُّ بحقوقهم في التراضي على الزواج متى اتفقت رغبتهم عليه، وليس من العسير تسويغ ذلك الدستور من جانب المجتمع، لأن الأزواج المقصرين يجنون عليه، ويحملونه تبعات كل كفالة للأبناء، يعجز عنها الآباء والأمهات.

•••

ومن حسنات السماح بتعدد الزوجات عند الضرورة، أن يكون ذريعة من ذرائع المجتمع لدفع غوائل العيلة والفاقة عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين، فإذا كان هذا العارض من العوارض التي يخطر لرجل في علم «ليبون» أنه يستلزم سن القوانين لتداركه، فليس افتراضه في الشريعة باطلًا يقضى عليه بالعبث في جميع الظروف، ويحق للمجتمع أن يرجع إليه في تقدير تلك الظروف، فلا تصطدم عقائد الدين ودواعي المصلحة بين جيل وجيل.

إن قضية الزواج إحدى القضايا الإنسانية الكبرى التي يتم اعتدالها بين الدين والدنيا، فلا غنى عن وازع الدين في أمر يتعلق بالفضائل الجنسية، ولا غنى عن شروط المجتمع في أمر يتعلق بالمعائش والمعاملات، وقد كان لأحكام القرآن شرعتها الحميدة — على ما تقدم — في التوفيق بين مهمة المجتمع ومهمة الدين.

وقبل الانتهاء من هذا البحث نقول: إننا قد أوردنا فيه حقوق الشرع التي يُدان بها الرجل والمرأة في زواج الاختيار وزواج الاضطرار، وبقي أن نختمه ببيان حق واحد للمرأة وجيز متفق عليه، نأتي به بعد تلخيص تلك الحقوق؛ لأنه يوازنها جميعًا ويرجع بالأمر كله إلى حرية المرأة في إبرام عقد الزواج، فكل عقد من عقود الزواج باطل إذا أنكرته المرأة، وشكت إلى ولي الأمر إكراهها عليه. وفي الحديث الشريف: «إن الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها.» وفيه أيضًا: «لا تنكح الأيِّم حتى تُستأمر، ولا البكر حتى تُستأذن.»

وقد أبطل عليه السلام عقدًا أُبرم على كره من فتاة بأمر أبيها، إيثارًا لتزويجها من ابن أخيه على تزويجها من غريب عنها، فاستدعى الرسول أباها فجعل الأمر إليها، فقالت الفتاة: «إنني أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أُعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.»

ونقض النبي غير هذا — كما نقض الخلفاء — عقودًا كثيرة، شكا فيها النساء إبرام عقد الزواج بغير مرضاتهن، بل نقضوا عقودًا أبرمتها المرأة، ونفرت منها بعد العشرة الزوجية كما سيأتي في الكلام على الطلاق.

وإذا آل القول الأخير في إبرام عقد الزواج إلى المرأة، فالقوانين الاجتماعية تتحكم في حريتها ومصالحها التي ترتضيها لعائلتها وأبنائها، إذا ضربت عليها الوصاية كما تضرب على القاصر والقاصرة، وهي تزعم أنها تصون كرامتها وتحفظ عليها حريتها.

١  Ancient Hebrew Marriage Laws: By E. Nufeld.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤