مقدمة
تُعدُّ كثير من أفكار هذه الدراسة ثمرةً لتفاعلٍ خصب مع طلاب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، سواء في الجامعة الأم أو في فرع الخرطوم بالسودان الشقيق. وقد أُتيح لي من خلال المشاركة في تدريس مادتي «القرآن والحديث» و«البلاغة العربية» أن أقوم مع الطلاب باختبار مجموعة من الفروض تدور كلها حول «القرآن» من جوانبه المُختلفة. وكان النهج الذي سِرنا عليه هو قراءة ما كتبه القدماء عن الموضوع أولًا، ثم مناقشة آرائهم من خلال منظور مُعاصر ثانيًا؛ وذلك بعد فَهْمِها واستيعابها. وبقدر ما كان هذا النهج مُرهقًا للطلاب بقدر ما أبرز قُدرتهم على الحوار والنقد. ولكن الأهم من ذلك أن هذا النهج قد ساعد على بلورة كثير من الفروض التي كنَّا نُحاول اختبارها، وهي الفروض التي قامت هذه الدراسة على كثير منها.
وذلك الحوار مع الطلاب في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة كان يدور في دائرةٍ من حوار أوسع مع أساتذة وأصدقاء وزملاء داخل الجامعة وخارجها. ولم يكن الحوار في هذه الدائرة الأوسع يقف عند حدود الهموم الأكاديمية، بل كان يتناول هذه الهموم في إطار من هموم أوسع هي هموم الثقافة والوطن بشكل عام. ولعلَّه من قبيل تحصيل الحاصل أن نقول إنَّ اهتمامات الباحث على المستوى الأكاديمي لا تَنفصل عن هموم المواطن بل تتجاوَب معها. وليست الأسئلة والافتراضات التي يطرحها الباحث في أيِّ دراسة، في حقيقتها إلا صدًى — قد يبدو بعيدًا وخافتًا في أحايينَ كثيرة — لهموم المواطن على أيِّ مستوى من المستويات.
ومن المنظور الأكاديمي بالمعنى السالف تُعدُّ هذه الدراسة خطوة ثالثةً على طريق درس تراثنا الفكري من منظور علاقة المُفسِّر بالنص وجدله معه. وكانت الخطوتان السابقتان دراسة تأويل النص القرآني، سواء كان هذا التأويل يتمُّ على أُسس عقلية كما هو الأمر عند المعتزلة، أم كان يتمُّ على أسس ذوقية حدسية كما هو الأمر عند المتصوفة. ولقد كان التركيز في الدراستين السابقتَين ينصب على الآفاق الفكرية والمعرفية التي تبدأ منها عمليات التفسير والتأويل. ولذلك كان من الضروري أن يكون التركيز في هذه الدراسة على جانب النص ذاته، وذلك في محاولة لاكتشاف مُكوناته وآلياته الخاصة ودوره الإيجابي في عملية التأويل.
إنَّ التركيز على دور المُفسِّر في فهم النص وفي تحديد دلالته ومغزاه قد يُوهم أن النشاط التأويلي والتفسيري مجرَّد جذب للنص إلى أفق القارئ والمُفسِّر. وهذا ما حدث في فلسفة التأويل المعاصرة؛ حيث بُولغ في دور القارئ والمُفسِّر إلى حدِّ إهدار كينونة النص والتضحية بها لحساب فعالية التأويل. من هنا كان السؤال عن كينونة النص في الدراسات النقدية المعاصِرة سؤالًا هامًّا ومشروعًا.
وإذا كان الباحث قد اهتم في دراسته الأولى بالتركيز على فعالية المؤوَّل فإنه قد تنبه في دراسته الثانية لأهمية النص وأشار لدوره وفعاليته ولفعالية ما يَرتبط به من تراثٍ تفسيري وتأويلي، وأشار لتأثير ذلك كله على فكر المُفسِّر. ولذلك كان من الطبيعي أن تكون الخطوة الثالثة إفراد دراسة خاصة تتناول مفهوم النص وتُناقش جوانبه المختلفة، وتكون هذه الخطوة الثالثة بدورها بمثابة تمهيد لخطوات أخرى يتم بها استكمال درس الاتجاهات التأويلية الأخرى في التراث درسًا عِلميًّا لا يُغفل أحد طرفي العلاقة ولا يُركز على أحدهما على حساب الآخر.
وإذا كنا سنُناقش في التمهيد مغزى هذه الدراسة بالنسبة لهموم الثقافة والوطن فإننا نكتفي في هذه المقدمة بأن نردَّ الحق لأصحابه فنُقدِّم هذه الدراسة أولًا للأساتذة والأصدقاء والزملاء الذين يَدين الباحث لهم بكل ما هو جدير بالثناء في هذا العمل. وإذا كان لي أن أجمع هؤلاء في واحد يتَّفقون عليه ويَدينون له بكل ما هو نبيل وأصيل فيهم فلن أجد سوى المرحوم عبد العزيز الأهواني، الأستاذ والعالم والمُواطن.
ومع الأساتذة والأصدقاء والزملاء أُقدِّم لطلاب قسم اللغة العربية بعض ثمار حواري وتفاعُلي معهم؛ ليتأكَّدوا أن التعليم الحقيقي يؤدي إلى التعلُّم أيضًا، وأن الاكتفاء بالتلقين لا يضرُّ الطالب وحده، بل يكون ضرره على المُعلم أشد. ولطلاب فرع الخرطوم في نفسي أثر خاصٌّ لا يسعني تجاهله هنا؛ فباستجاباتهم المتحمِّسة لأفكاري سواء بالقبول أم الرفض ردُّوا إلى نفسي ثقتها في جدوى ما كنتُ أبذله من جهد، وهي ثقة كانت قد أوشكت على التبدُّد والضياع شتاء عام ١٩٨٢م في الجامعة الأم.
وإذا كانت هذه الدراسة قد استغرق الإعداد لها أكثر من خمس سنوات، فقد كانت ثمة طوارئ أخرى تصرفُني عنها، ثم أعود إليها ثم أنصرف عنها، وكان التدريس دائمًا يعود بها إلى بؤرة الاهتمام. وكان أن تناولتُها في مقال طويل لمجلة «فصول»، ولكن المقال ضاع في البريد بين اليابان ومصر، ولم يكن لديَّ سوى المسودات؛ وذلك نتيجة الثقة المفرطة في الخدمة البريدية. ولقد كان ضياع المقال خسارة فادحة في ذلك الوقت، ولكن هذه الخسارة الفادحة تحوَّلت إلى تلك الضارة النافعة؛ إذ عدت إلى بطاقاتي ومسوداتي من جديد، فكان هذا الكتاب الذي أُقدمه لأساتذتي وأصدقائي ولطلابي أيضًا، فهو منهم ولهم.
ولا يسعني في النهاية إلا أن أتقدم بالشكر للأصدقاء الذين قاموا مشكورين بجهد مراجعة أصول هذا الكتاب المطبوعة على الآلة الكاتبة وتصحيح الأخطاء التي وقعت في النَّسخ، وهو جهد مُضنٍ لا يعلمه إلَّا من يُعانيه خاصة إذا اتصل الأمر بنصوص قديمة ما أسهل أن يقع الناسخ في شراك أسلوبها فتسقط منه سطور كاملة، ناهيك عن التحريف والتصحيف نتيجةَ اشتباه الألفاظ على الناسخ. وقد قام الصديقان: أحمد صبري الحكيم وخيري محمد فرج مشكورَين بهذا العبء الفادح، وراجع على مراجعتهما الصديق الدكتور إبراهيم مبروك الذي قام بالإضافة إلى ذلك بعمل التصويبات ونَسخ قائمة المراجع الأجنبية على الآلة الكاتبة، فإليهم جميعًا عظيم الشكر وجزيل الامتنان.
وكان الجهد الذي شاركَت به السيدة زوجتي ليرى هذا الكتاب النور جُهدًا مُضنيًا؛ فبالإضافة إلى الأعباء الكثيرة التي تحمَّلَتْها عني توفيرًا لوقتي وجهدي تحمَّلت وحدها بحماس فائق عبء كتابة المخطوط على الآلة الكاتبة رغم كل الصعوبات التي أشرتُ إليها. ولقد كان حماسها هذا دافعًا لا يُنكَر أثره في حفزي على مواصلة العمل دون تعب أو كلل. والحق أن دَيْن الكتاب وصاحبه أكبر من هذه الإشارات السريعة؛ فالدَّين الأكبر كما قلت للأساتذة والأصدقاء والطلاب، وهو دَين لا يمكن الوفاء به بمجرَّد الكلمات، فلعلَّ الجميع يجدون في هذا الكتاب بعض ما يُحقِّق آمالهم وتوقعاتهم، وإن خاب ظنهم فعليَّ وحدي يقع العبء.
اليابان في ١٨ فبراير ١٩٨٧م