تمهيد
الخطاب الديني والمنهج العلمي
القرآن نصٌّ لغوي يُمكن أن نصفَه بأنَّه يُمثِّل في تاريخ الثقافة العربية نصًّا محوريًّا. وليس من قبيل التبسيط أن نصفَ الحضارة العربية الإسلامية بأنَّها حضارة «النص»، بمعنى أنَّها حضارة أنبتَت أُسسها وقامت علومها وثقافتها على أساس لا يُمكن تجاهل مركز «النص» فيه. وليس معنى ذلك أنَّ «النص» بمُفردِه هو الذي أنشأ الحضارة، فإنَّ النص أيًّا كان لا ينشئ حضارةً ولا يُقيم علومًا وثقافة. إنَّ الذي أنشأ الحضارة، وأقام الثقافة جدلُ الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره مع النص من جهة أخرى. إنَّ تفاعل الإنسان مع الواقع وجدله معه — بكل ما يَنتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية — هو الذي يُنشئ الحضارة. وللقرآن في حضارتنا دور ثقافي لا يُمكن تجاهله في تشكيل ملامح هذه الحضارة وفي تحديد طبيعة علومها. وإذا صحَّ لنا بكثير من التبسيط أن نَختزل الحضارة في بُعدٍ واحد مِن أبعادها لصحَّ لنا إنَّ نقول إنَّ الحضارة المصرية القديمة هي حضارة «ما بعد الموت»، وأنَّ الحضارة اليونانية هي حضارة «العقل»، أمَّا الحضارة العربية الإسلامية فهي حضارة «النص».
وإذا كانت الحضارة تتركَّز حول «نص» بعينِه يُمثِّل أحد محاورها الأساسية، فلا شك أن «التأويل» — وهو الوجه الآخر للنص — يُمثِّل آليةً هامة من آليات الثقافة والحضارة في إنتاج المعرفة. قد يكون هذا «التأويل» مُباشرًا؛ أي ناتجًا عن تعامل مباشر مع النص وتوجُّهٍ قصديٍّ إلى استخراج دلالته ومعناه، وهذا هو التأويل في مجال العلوم الدينية. وقد يكون التأويل تأويلًا غير مباشر، نجده في مجالات العلوم الأخرى. إنَّ النص حين يكون محورًا لحضارة أو ثقافة لا بد أن تتعدَّد تفسيراته وتأويلاته. ويخضع هذا التعدُّد التأويلي لمُتغيِّرات عديدة متنوعة. أهم هذه المتغيِّرات مثلًا طبيعة العلم الذي يتناوَل النص أي المجال المعرفي الخاص الذي يُحدِّد أهداف التأويل وطرائقه. ثاني هذه المُتغيرات الأفق المعرفي الذي يتناول العالم المُتخصِّص من خلاله النص، فيُحاوِل أن يفهم النص من خلاله، أو يُحاول أن يجعل النص يُفصح عنه. وغني عن القول أنَّ هذه المتغيِّرات يصعب أن ينفرد أحدها ويكون هو المتغير المسيطر في عملية التأويل والتفسير، والأحرى القول إنَّ هذه المتغيِّرات تعمل في حالة تفاعُل نشط خلَّاق في أي عملية تأويلية.
وإذا كانت الثقافة العربية ثقافة تُعطي للنصِّ القرآني هذه الأولية، وتجعل من التأويل نهجًا فلا بدَّ أنَّ لهذه الثقافة مفهومًا — ولو ضمنيًّا — لماهية النص ولطرائق التأويل. ومع ذلك فقد حظيَ جانب «التأويل» ببعض الدراسات التي ركَّزت على العلوم الدينية وتجاهَلَت ما سواها، ولم يحظَ مفهوم «النص» بدراسة تُحاوِل استكشاف هذا المفهوم في تراثنا إن كان له وجود، أو تُحاول صياغته وبلورته إن لم يكن له وجود. إنَّ البحث عن مفهومٍ للنصِّ ليس مُجرَّد رحلة فكرية في التراث، ولكنَّه فوق ذلك بحَث عن «البُعد» المفقود في هذا التراث، وهو البُعد الذي يُمكِن أن يُساعدَنا على الاقتراب من صياغة «الوعي العلمي» بهذا التراث.
لقد تنبَّه جيل الليبراليِّين المُجدِّدين لأهمية هذا «البُعد» في تراثنا، ولكن صيحاتهم وتنبيهاتهم ذهبَتْ أدراج الرياح؛ لأنَّ ثمَّة قُوى في الواقع الثقافي والاجتماعي لا تُريد تحقيق «الوعي العلمي» بالتراث؛ لأنَّ من شأنه أن يسحَب الأرض من تحت «توجيهاتهم الأيديولوجيَّة» لهذا التراث، وهي توجيهات تُحافِظ على الأوضاع الاجتماعية المُتردِّية وتُساندها. وإذا كانت قوى التغيير والإصلاح في نضالها ضدَّ الفساد الاجتماعي والفِكري تُحاول بدورها أن تَستند إلى التراث فإنَّها أيضًا تستند إليه بنفس الطريقة، طريقة «التوجيه الأيديولوجي». ولا شكَّ أنَّ المُنتصر في معركة «التوجيه الأيديولوجي» هذا هو الفِكر الرجعي التثبيتي؛ وذلك لأنَّ استناده إلى التراث استناد إلى تاريخ طويل من سيطرة الفِكر الرَّجعي على التراث ذاته.
إنَّ الدراسة الأدبية — ومحورها مفهوم «النص» — هي الكفيلة بتحقيق «وعي علمي» نتجاوَز به موقف «التوجيه الأيديولوجي» السائد في ثقافتنا وفِكرنا. والبحث عن هذا المفهوم وبلورته وصياغته لا يُمكن أن يتمَّ بمعزل عن إعادة قراءة «علوم القرآن» قراءةً جديدةً باحثة مُنقِّبة. إنَّ موقف الخطاب الديني المعاصر من «علوم القرآن» ومن «علوم الحديث» كذلك هو موقف الترديد والتَّكرار؛ إذ يتصوَّر كثير من علمائنا أنَّ هذَين النمطين من العلوم يقَعان في دائرة العلوم التي «نضَجَت واحترقت» حتَّى لم يَعُد فيها للخَلَف ما يُضيفه إلى السلف. ولم يقرأ علماؤنا هؤلاء — وهم يَنقُلون عن السيوطي — قوله:
لذلك نرى أكثرهم يَنقُلون عن السيوطي ما خفَّ فهمُه على الناشئة والطلاب؛ فالغاية عندهم ليست التأليف والجمع — وهو نهج القدماء — ناهيك أن يكون البحث والتنقيب، بل الغاية كل الغاية تسهيل الكُتب القديمة بسلبِها كل ميزاتها طلبًا للكسب والشُّهرة. وإذا خلُصَت النيَّات تكون الغاية من الكتابة والتأليف طلب البركة من الله والتقرُّب إليه بالتماس صالح الأعمال، وعلى رأسها دون شكٍّ الكتابة عن «القرآن» وعلومه أو عن «الحديث النبوي» وعلومه. والحقيقة أنَّ التماس البركة يستلزم أصلًا «صلاحية» العمل للتقرُّب به إلى الله. ولا شك أنَّ لكل عمل صلاحياته التي لا يستقيم إلَّا بها، وبدونها لا يكون عملًا أصلًا. والبحث العلمي عمل له شروط ليس منها على التحقيق النَّقل عن القدماء والتبسيط المُخل في أهم مجال من مجالات الدرس والبحث. وإذا خلا «البحث العلمي» من شروطه الموضوعية التي يَعرفها المُتخصِّصون، فكيف يكون عملًا، ناهيك أن يكون صالحًا يتقرَّب به صاحبه من الله طالبًا منه الثواب و«البركة».
(١) بين السلفية والتجديد
إنَّ التحدي الحضاري والاجتماعي والثقافي الذي تواجهه أمتنا اليوم يختلف عن ذلك التحدِّي الذي كان يُواجهها منذ سبعة قرون أو أكثر حين كتب الزركشي (ت٧٩٤ﻫ) «البرهان في علوم القرآن»، أو حين كتَب السيوطي (ت۹۱۰ﻫ) «الإتقان في علوم القرآن». كان التحدِّي الذي واجههما الحفاظ على الذاكرة الحضارية للأمة، على ثقافتها وفكرها في مواجهة الزحف الصليبي الغربي. وعلى ذلك كانت هذه المُصنَّفات في علوم القرآن وفي علوم الحديث (ابن الصلاح، ت٦٤٣) بمثابة محاولة لجمع هذا التراث المُتنوِّع في مجال «النص» الديني وتيسير تناوله على القارئ والطالب، كانت محاولة لتركيز العلوم واختصارها؛ بحيث يُمكن استيعابها بأقل جهد وفي وقت أقل.
ولم تكن هذه العمَلية في حقيقتها سوى استجابة حضارية لموقف فَرَضَ على العقل العربي الانسحاب إلى الداخل، والاعتصام داخل حدود علوم «النص» والعُكوف على الثقافة والفِكر يَحميهما من الضياع ويحافظ عليها من التشتت. وإذا كانت الوحدة السياسية قد صارت وهمًا بحكم سيطرة الأقليات العسكرية على الأقاليم الإسلامية المختلفة، وبحكم الصراعات التي قامت بين هذه الأقليات العسكرية، فإنَّ وحدة الثقافة والفِكر كانت حقيقة «تعويضية» يُمكن الاعتماد عليها لمواجهة هذا التمزُّق السياسي. وإذا كانت الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف قد تهاوت أركانها وسُلِبَت أطرافها فإن «وحدة الحضارة» ما زالت تؤكِّد للمسلمين تفوُّقهم على أعدائهم.
لكن هذه العمليات — على أهميتها من الوجهة الثقافية — كانت تتمُّ من منطلق تصوُّر ديني للنص صاغته اتجاهات الفكر الرجعي في تيار الثقافة العربية الإسلامية، وهو تصوُّر أقل ما يُقال عنه الآن أنَّه تصوُّر يَعزل «النص» عن سياق ظروفه الموضوعية التاريخية، بحيث يتباعَد به عن طبيعته الأصلية بوصفه «نصًّا» لغويًّا، ويُحوِّله إلى شيء له قداسته بوصفه شيئًا. كان القرآن قد تحوَّل إلى «مصحف»، إلى أداة للزينة، وتلك قضية سنُناقشها بالتفصيل فيما بعد. والذي يُهمنا الإشارة إليه هنا أنَّ هذا التحويل لطبيعة النص؛ ومن ثمَّ لوظيفته، كان محصلة لمجمَل اتجاهات الثقافة المسيطرة — الثقافة الرجعية — ثقافة الطبقات التي استندت إلى تأييد المُغامرين العسكريين. إنَّ التركيز على وظيفةٍ ما لنصٍّ من النصوص — دون غيرها من الوظائف المُمكنة والمحتملة لهذا النص — يرتبط بالاتجاه العام السائد المسيطر على الثقافة في حركتها الجدلية مع الواقع الذي تصُوغه وتُعبِّر عنه. وإذا كان من الصعب هنا أن نتتبَّع بدقة ذلك التحوُّل الوظيفي الذي لحق بالنص الديني في حركة الثقافة العربية، فإنَّنا نكتفي بالإشارة إلى سيطرة العناصر غير العربية على حركة الواقع العربي الإسلامي، ونقصد العناصر العسكرية من السلاجقة والترك والديلم، ثم سيطرة الدولة العثمانية على العالم الإسلامي حتى الحرب العالمية الأولى.
لقد كانت هذه السيطرة للعسكر بكل ما يُمثلون من استناد إلى القوة وحدها كفيلة بالقضاء على حركة التفاعل الحية النشطة بين النصوص والواقع، وكان هذا الوضع أشد تأثيرًا على علاقة النص القرآني بالواقع وتفاعله معه. ويمكن أن يُقال إن هؤلاء العسكر قد شكَّلوا القوة التي قامت بحماية الحدود السياسية للمجتمع الإسلامي من هجمات التتار والصليبيِّين، وهذا أمر لا ينكره أحد، لكن ذلك كان على حساب قهر اجتماعي واضمحلال ثقافي لا يُمكن إنكارهما. لقد كان هؤلاء العسكر — في أحسن أحوالهم — مسلمين طيِّبي النيات إن أحسنَّا الظن بهم أفرادًا، لكنهم كانوا يُمثِّلون طبقة حاكمة عسكرية في النهاية. كانوا يُكرِّسون كل ما تُمثِّله الديكتاتورية العسكرية من تضخيم لأهمية القوة المادية ومن تهوين لشأن الوعي العقلي والثقافي. كانوا يُمثلون الديكتاتورية العسكرية بكلِّ ما يُصاحبها من «انغلاق» فكري، ورفض للحوار اعتمادًا على مبدأ «الرضوخ» العسكري للأوامر وتنفيذها. إنَّ حرص العسكريِّين على النظام والضبط والطاعة يتحوَّل إلى مأساة إذا تمَّ نقله إلى مجالات الثقافة والفكر. فإذا أضفنا إلى ذلك أن هؤلاء العسكريِّين كانوا أعاجم أدركنا الكيفية التي تحولت بها النصوص الدينية من موضوعات للفهم والتفسير والتأويل إلى أن تكون أشياء تُستخدم للزينة أو لالتماس البركة. هكذا تحول القرآن من «نص» إلى «مصحف»، من دلالة إلى شيء.
لقد كان أبو الطيب المتنبي يشكو في القرن الرابع الهجري من عدم تقدير أو «عدم فهم» كافور الإخشيدي لشِعره، ويلعن الزمان الذي اضطرَّه إلى أن يُنشد الشعر في بلاط مثله، فما بالنا وقد سيطر على مقدرات العالم الإسلامي أمثال كافور الإخشيدي وربما أسوأ؟ لقد كان الهُزال والضعف اللذان أصابا النصوص الشعرية نتيجة اختفاء الحاكم الذي يُقدِّر الشعر ويتذوَّقه ويُكافئ عليه ظاهرةً أصابت الثقافة كلها بالهزال والنضوب، وكان هذا الهزال له تأثيره على «النص» الديني بعزله عن حركة الواقع فيما أطلق عليه «إقفال باب الاجتهاد». ومع هزال الثقافة الرسمية كانت الثقافة الشعبية تزدهر وتنمو، فانتقلَت بالنص من مجال التفسير والتأويل إلى مجال الفنون البصرية والتشكيلية والموسيقية، فازدهرت الفنون حين توارى الأدب. هكذا ازدهَرَت فنون الغناء — وأهمها تنغيم القرآن — والخط والزخرفة والأرابيسك، كما تطوَّرت فنون العمارة والتصوير، وكان فنُّ التصوير أشد ازدهارًا في فارس والهند.
وإذا كان ذلك التحدِّي الحضاري الذي واجه أمتنا منذ سبعة قرون هو الذي حدد للعلماء طرائقهم في التأليف والتصنيف، فجمعوا كل ما كان له علاقة بالنص من قريب أو من بعيد تحت عنوان: «علوم القرآن»، فإن التحدي الذي يواجهنا اليوم يفرض علينا سلوك طريق آخر. لم تَعُد قضيتنا اليوم حماية تراثنا من الضياع وثقافتنا من التشتُّت، وإن كانت تلك قضية هامة في كل زمان بالنسبة لكل الأمم. لكن الذي نريد أن نقوله إنَّها ليست «القضية الأولى» في هذه المرحلة التي وصل فيها التهديد إلى «الوجود» ذاته. لقد أصبح التحالف بين العدو الخارجي متمثلًا في الإمبريالية العالمية والصهيونية الإسرائيلية وبين القوى الرجعية المسيطرة في الداخل حقيقةً بارزةً لكل ذي عينين. وعلى ذلك أصبح موقفنا اليوم هو الدفاع عن وجودنا ذاته بعد أن أفلح العدو أو كاد في اختراق الصفوف في محاولة نهائية لإعادة تشكيل وعينا، أو بالأحرى في محاولة لسلبنا وعينا الحقيقي ليُزودنا — عبر مؤسَّساته الثقافية والإعلامية — بوعي زائف يضمن استسلامنا النهائي لخططه وتبعيتنا المطلقة له على جميع المستويات. وإذا كان علماء الماضي قد استجابوا للتحدِّي الذي كان مطروحًا عليهم استجابة حققت إلى حدٍّ ما «الحفاظ» على التراث من الضياع، فإن التراث الذي حفظوه لنا هو التراث الرجعي بالمعنى الذي سبق أن أشرنا إليه. ما عسانا نحن اليوم أن نفعل استجابةً لتحدِّي اليوم بوصفنا دارسين وباحثين؟
إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تختلف لا شك طبقًا لاختلاف مواقف الباحثين من الواقع الذي نحياه بكل ما يَنتظمه من قوى وصراعات، كما أنها تختلف باختلاف وعي الباحث — النابع من موقفه — بمُشكلات هذا الواقع ومعضلاته وتصنيفه لها طبقًا لأولوياتها في ذهنه. يذهب البعض مثلًا إلى أن خلاصنا الحقيقي يتمثَّل في العودة إلى الإسلام بتطبيق أحكامه وتحكيمه في حياتنا كلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية انتهاء إلى أصغر التفاصيل في حياة الفرد والجماعة. وأصحاب هذا الاتجاه وإن كانوا اليوم أعلى صوتًا — بحكم ظروف عديدة ليس هنا مجال التعرُّض لها — لا يكادُون يُقدِّمون لنا مفاهيم كلية أو تصوُّرات للتغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. إنهم لا يتجاوَزون الاستشهاد بما حقَّقه المسلمون بالإسلام من تقدُّم وحضارة، ويُفسِّرون هذا التقدُّم بمجرد «اتباع» المسلمين للنصوص وتحكيمها في حياتهم. وإذا سألناهم كيف نُحقِّق العودة إلى «الإسلام» إذا صحَّ افتراضكم أننا تخلينا عنه لا نكاد نجد من إجابة سوى «تطبيق أحكام الشريعة» وهو المطلب الذي تتبنَّاه وتُنادي به الآن كل القوى التي تصف نفسها باسم «الدينية».
وكانت المرحلة الثانية في تطوُّر الوحي هي مرحلة «البناء الاجتماعي» وتقنين هذا البناء، وهي مرحلة لم تبدأ إلَّا مع استقرار المجتمع الجديد في مكانٍ يُمكن أن يكون أساسًا لدولة واضحة المعالم، محدَّدة الحدود والأطراف. كان هذا المكان هو «المدينة»؛ حيث توافرت أُسس المجتمع كما كان يُمكن أن تتوفَّر في تلك المرحلة التاريخية. ومع تمايز ملامح المجتمع الجديد في «المدينة» عن المجتمع القديم في «مكة» وانفصاله عنه بدأ الصراع بين المجتمعَين، وبدأت التشريعات تترى. إنَّ البدء بمطلب تطبيق أحكام الشريعة يَتناسى أن مفهوم «الحدود» ذاته يفترض «المحدود» فليس ثمَّة «حد» بغير مضمون يَحتويه ويكون «حدًّا» له. ومقاصد الشريعة من الحدود: حماية المجتمع من الانحراف والمُنحرفين، بمعنى أنَّ «الحدود» تفترض أولًا وجود المجتمع المسلم الذي تحميه هذه الحدود. وإذا كان المُنطلَق النظري للخطاب الديني المعاصر — على تفاوت نظرات مُمثِّليه وخلافهم في التفاصيل — أنَّ المجتمعات المعاصرة مجتمعات «جاهلية» كان طرح مبدأ «تطبيق أحكام الشريعة» بمثابة حرث في البحر لا جدوى منه. ومن المؤسِف أن تتبنَّى كل أحزابنا السياسية هذا المطلب رغم افتراض اختلاف المنطلقات النظرية لكل حزب من هذه الأحزاب، وهو أمر يكشف إلى أي حدٍّ وصل التعتيم الفكري في مجال الفكر الديني في ثقافتنا المعاصرة.
وإذا كان هذا الحل السلفي — في حقيقته وجوهره — يتنكَّر — دون أن يدري — لمقاصد الوحي وأهداف الشريعة حين يفصل بين «النص» والواقع، وذلك بالمطالبة بتطبيق «نصٍّ» مُطلَق على «واقع» مطلق، فإن بلورة مفهومٍ للنص قد يُزيل بعض جوانب هذا التعتيم، وقد يكشف القناع عن حقيقة الوجه «الرجعي» لهذا الفكر وامتداداته في التراث، وحقيقة عدم انفصاله عن تيار ثقافة الطبقة المسيطرة، تيار الثقافة الرسمية الإعلامية.
إنَّ الاتجاه المقابل في الخطاب الديني المعاصر هو تيار «التجديد»، وهو تيار يرى أننا لا يُمكن أن نُقلِّد القدماء؛ فقد عاش القدماء عصرهم، واجتهدوا، وأسَّسوا علومًا، وأقاموا حضارة، ووضعوا فلسفة، وصاغوا فكرًا. ومجمَل هذا كله هو «التراث» الذي ورثناه عنهم، وهو تراث ما زال يُساهم في تشكيل وعيِنا ويُؤثِّر في سلوكنا بوعي أو بدون وعي. وإذا كنا لا نستطيع أن نتجاهل هذا التراث ونُسقطه من حسابنا، فإنَّنا بنفس القدر لا نستطيع أن نتقبَّله كما هو، بل علينا أن نُعيد صياغته، فنطرح عنه ما هو غير ملائم لعَصرنا، ونُؤكِّد فيه الجوانب الإيجابية، ونجددها ونصوغها بلغة مناسبة لعصرنا. إنه التجديد الذي لا غناء عنه إذا كنَّا نريد أن نتجاوز أزمتنا الراهنة. إنه التجديد الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويربط بين الوافد والموروث.
إنَّ التجديد يقوم على أساس وجود «أصل» قديم، لكن هذا «الأصل» القديم الذي هو «التراث» ليس واحدًا، بل هو مُتنوِّع مُتغيِّر طبقًا لطبيعة القوى المنتجة له. إن «التراث» ليس معطًى واحدًا بل هو اتجاهات وتيارات عبَّرت عن مواقف وقوى اجتماعية وعن أيديولوجيات ورؤى مختلفة.
إن المجدِّد أمام هذا التغاير في اتجاهات التراث وأمام هذا التنوع في مُنطلقاته وأُسُسه النظرية والاجتماعية لا سبيل لديه سوى الاختيار الذي يُحدِّده موقف الباحث من الواقع الذي يعيش فيه بوصفِه شرطًا أوليًّا للتجديد. وإذا كان من حق كل باحث أن يُساهم في تجديد التراث، فلا شكَّ أن الهيمنة والسيطرة ستكون لأنصارٍ أشد اتجاهات التراث تخلفًا ورجعيةً بحكم سيطرة هذه الاتجاهات على مجمل التراث لفترة طويلة من جهة، وبحكم سيطرة أنصار هذه الاتجاهات في التراث على الواقع وعلى المؤسَّسات الثقافية من جهة أخرى. إن مطلب التجديد على وجاهته وأهميته إذا لم يستند إلى فهم «علمي» للأصول الموضوعية التي قام التراث على أساسها كفيل بأن يُؤدي إلى تكريس أشد عناصر التراث تخلفًا إلى جانب أنه يُساند — دون وعي — أشد القوى سيطرة وهيمنة ورجعية في الواقع الراهن.
لقد بدأ مُفكِّرو النهضة بالدعوة إلى التجديد منذ الأفغاني ومحمد عبده، ولكن هذه الدعوة لم تُحقِّق أكثر من بعض المكاسب الهينة التي تتَضاءل قيمتها إذا ما قورنت بما حقَّقته قوى الفِكر الرجعي من تجديدٍ في مجال التراث أيضًا. لقد كان رشيد رضا تلميذًا لمحمد عبده، وهو الذي حافَظَ لنا على تراث الإمام ونقله إلينا، لكن من جُبَّة الشيخ برزَت الاتجاهات الرجعية المحافظة في مجالات الفكر الديني والأدبي على السواء. ولقد بدأ طه حسين والعقاد حياتهما مُجدِّدَين على مستوى الفكر واللغة والأدب، وانتهى كلٌّ منهما محافظًا رجعيًّا يقف في وجه تيارات التجديد التي انبثقت من أفكارهما الأولى. إن التجديد على أساس «أيديولوجي» دون استناد إلى وعي عِلمي بالتراث لا يقلُّ في خطورته عن «التقليد».
(٢) الوعي العلمي بالتراث
ينبغي إذن أن يكون التحدي المطروح أمامنا الآن هو إنتاج وعي «علمي» بالتراث من حيث الأصول التي كوَّنته والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوُّره حتى وصَل إلينا. وإذا كان التحدِّي المطروح على أمتنا هو خطر ضياع الكيان الثقافي والتاريخي بالتبعية للآخر فإن العلم بحقيقة التراث والحضارة ومكوناتهما يُمكن أن يساعدنا في الصمود والتصدي والمقاومة. و«العلم» نقيض التغني بالأمجاد الزائفة والفخر بإنجازات لم نساهم في صنعها، ولم نحاول حتى أن نفهم مُكوناتها.
إن إنتاج وعي «علمي» بالتراث يستلزم من الباحث كثيرًا من الجرأة والشجاعة في طرح الأسئلة، ويَستلزم منه جرأة أشد وشجاعة أعظم في البحث عن الإجابات الدقيقة لهذه الأسئلة. وعلى الباحث أن يكون على وعي دائمًا بأنَّ تراثنا الطويل مليء — بحكم هذا الطول والامتداد التاريخي — بكثير من الإجابات الجاهزة، التي يحتاج تجنُّبها إلى طاقة هائلة. إنَّ هذه الإجابات الجاهزة تتقافَز إلى وعي الباحث ويُمكن أن تشوش عليه عمله. وإذا كان من المستحيل علميًّا وإنسانيًّا أن يتجنَّب الباحث كل ما هو مطروح من إجابات في التراث أو في الثقافة، فإنَّ عليه أن يختار من بينها أشدها صدقًا واقترابًا من الحقيقة.
وإذا كان مفهوم «الحقيقة» مفهومًا نسبيًّا في ذاته، فإنَّ النسبية هنا يجب أن تُفهم على أساس النسبية «الثقافية»، لا النِّسبية الذاتية. من هنا يكون البحث عن «حقيقة» التراث بحثًا عن حقائق في ثقافتِنا لا بحثًا عن حقائق مُطلقة. وقد يرى الآخرون — الأغيار بالمعنى الثقافي — في تراثنا حقائق أخرى يدركونها من منظورهم الثقافي الخاص، ولكن ذلك لا يَنبغي أن يشوش علينا رؤيتنا الثقافية للحقيقة. إن ما تدركه ثقافة ما بوصفه حقيقة مطلقة هو كذلك بالنسبة لهذه الثقافة. وليست مهمة البحث العلمي — خاصة في مجال الإنسانيات — نفي ذلك أو إثباته، بل مهمتها تحليله في إطار النظام الثقافي الذي يَنتمي إليه. وهنا علينا أن نفرق بين «تعدد» الأيديولوجيات داخل النظام الثقافي الواحد وبين وحدة الرؤية التي تجعل من الثقافة كلًّا مُوحَّدًا رغم ذلك.
وإذا كان موضوعنا هنا ليس التراث بشموله واتساعه، بل «علوم القرآن» فقط، فإن هذه العلوم اعتدَّت بها الثقافة العربية الإسلامية بوصفها العلوم الأصول، أو العلوم الأمهات. إن المكانة المسيطرة للنص القرآني في نظامنا الثقافي يُمكن أن يفسر كل جوانب التراث على أساس أن كل جانب يُمكن أن يكون نمطًا خاصًّا من أنماط «تأويل» النص أو تفسيره. ولما كانت مواجهة علوم القرآن كلها بتتبُّع أصولها ومُكوِّناتها من هذا المنظور جهدًا يفوق قدرة باحث واحد، فإن هذه الدراسة ستَكتفي بالتعامل مع المفهوم الأساسي لعلوم القرآن، وهو مفهوم «النص»، وسيكون هذا المفهوم هو محور حركتنا بين علوم القرآن المختلفة.
وتستهدف هذه الدراسة تحقيق هدفَين؛ أما أولهما فهو إعادة ربط الدراسات القرآنية بمجال الدراسات الأدبية والنقدية بعد أن انفصلَت عنها في الوعي الحديث والمعاصر نتيجة لعوامل كثيرة أدَّت إلى الفصل بين محتوى التراث وبين مناهج الدرس العلمي. وصارت الدراسات الإسلامية نتيجة لذلك مجالًا حائرًا بين التخصُّصات الأكاديمية. والحقيقة أن هذه الدراسات تنتظم علومًا كثيرة محورها واحد هو «النص». سواء كان هذا النص هو القرآن أو الحديث النبوي. إنَّ دراسة «النص» من حيث كونه نصًّا لغويًّا؛ أي من حيث بنائه وتركيبه ودلالته وعلاقته بالنصوص الأخرى في ثقافة معيَّنة، دراسة لا انتماء لها إلا لمجال «الدراسات الأدبية» في الوعي المُعاصر. وقد يكون النص موضوعًا للدراسة في علوم أخرى، فقد يتحوَّل إلى «موضوع» للدرس اللغوي بكل فروعه بدءًا من الصوتيات وانتهاءً بالدلالة والمعجم. وقد درس اللغويون والنحويون النص القرآني وظلُّوا رغم ذلك لغويِّين ونحاة. قد يقال إن النص القرآني نص خاص، وخصوصيته نابعة من قداسته وألوهية مصدره، لكنه رغم ذلك يظلُّ نصًّا لغويًّا ينتمي لثقافة خاصة وهو ما نأمل أن تكشف عنه هذه الدراسة لمفهوم النص.
إنَّ النص القرآني — موضوع علوم القرآن — يمكن أن يُدرس من زوايا كل العلوم وهو ما حدث بالفعل في علوم التراث، ولم يُخرِج هذا الدرس هذه العلوم عن طبيعتها الخاصة. إن قضية «الإعجاز» مثلًا قد دُرِست من زوايا مختلفة في علوم مختلفة، درسها المتكلِّمون لإثبات النبوة، ودرسها البلاغيُّون للكشف عن الأوجه اللغوية للإعجاز، وهي تُعد بالإضافة إلى ذلك مقدمة تمهيدية في علوم الفقه وأصول الفقه. وهي كذلك علم من علوم القرآن.
والحقيقة أننا لو استطردنا في مناقشة هذه القضية لانتهى بنا التحليل إلى أنَّ مفهوم «الدراسات الإسلامية» لا يُمثِّل علمًا خاصًّا، بل هو مفهوم يتَّسع لكثرة من العلوم والتخصُّصات. وفي أقسام اللغة العربية لا مدخل لدراسة النص القرآني إلا من أحد جانبين؛ الجانب اللغوي أو الجانب الأدبي. وهذان الجانبان ليسا مُنفصلَين في مناهج الدرس الأدبي المعاصر.
وإذا كان النص القرآني هو نص الإسلام فإن الهدف الثاني لهذه الدراسة يتمثل في محاولة تحديد مفهوم «موضوعي» للإسلام، مفهوم يتجاوَز الطروح الأيديولوجية من القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة في الواقع العربي الإسلامي. إنَّ الباحث في مجال «الدراسات الإسلامية» أو في مجال «علوم القرآن» لا يستطيع أن يتجاهل هذا الصراع الدائر أو يغمض عينيه عنه تحت أي دعوى أكاديمية. وهل يستطيع الباحث أن يتجاهَل المدَّ المتزايد لفكر الجماعات الإسلامية في المجتمع رغم كل ما تلقاه هذه الجماعات مِن اضطهادٍ وما تُحاصرها به المؤسسات الرسمية من تشويش إعلامي؟ وهل يمكن للباحث أن يتجاهل أن الدعوة للدين تتحوَّل على يد هذه الجماعات أحيانًا إلى نوع من «الإرهاب» الفكري؟ هل يستطيع الباحث أن يتجاهَل تلك النابتة التي نبتَت تُناقش قضايا عفا عليها الزمن، وصارت من «التراث» القديم، وذلك حين يوضع «الدين» مقابلًا «للعلم» في مناقشات ومحاضرات وندوات ومؤلَّفات عن «الإسلام والعلمانية» حيث يَنبري رجال الدين لمهاجمة «العلمانية» ويَنبري العلمانيون للدفاع عنها؟ وهل يستطيع الباحث أخيرًا أن يتجاهل الإعلام الرسمي الديني بكلِّ ما يمارسه من تخريب في وعي الناس حين يُحاصِرهم بالأحاديث والمناقشات والتمثيليات والأفلام والفتاوى التي تُغيِّب الناس عن قضاياهم الحقيقية، وتُفسِّر الدين لصالح القوى المسيطرة المتحالفة مع أعداء الوطن والدين؟
أليس ممَّا له دلالته في هذا الصدد أن تكون القدس — وبها المسجد الأقصى أولى القبلتَين وثاني الحرمين — تحت سيطرة الصهاينة، ويُبارك علماؤنا الصُّلح مع العدو مباركة علَنية أو مباركة صامتة؟ ولكن حين يتجرَّأ مفكر على إنكار «حديث الذبابة» يتصدَّى له كبيرهم فيقيم الدنيا ولا يقعدها. وحين يُناجي كاتب في بلواء المرض ومحنته ربه وينشر مناجاته تلك تثور ثائرة الشيوخ لأن «الإنسان» تجرأ على «ربه». هؤلاء العلماء الأفذاذ باركوا الصلح مع العدو باسم «الإسلام» وكانوا من قبل يدعوننا للجهاد والتضحية باسم «الإسلام»، والعدوُّ هو العدو لم يتغيَّر ولم يكف عن عدوانه على الأنفس والأرض.
إن من حقِّنا — والحال كذلك — أن نتساءل في جدية وإخلاص وموضوعية: ما هو الإسلام؟ والسؤال يكتسب مشروعيته من تلك الفوضى الفِكرية التي تسيطر على المفاهيم الدينية في ثقافتنا نتيجة لاختلاف الرُّؤى والتوجهات في الواقع الثقافي المعاصر من جهة، ونتيجة لتعدُّد الاجتهادات والتأويلات في التراث من جهة أخرى. وإذا كانت مثل هذه الاختلافات قد أدَّت في الماضي إلى نوع من «اللاأدرية» انتهَت إلى تحريم التفكير ذاته، وإلى غلق باب الاجتهاد، فإنَّ غايتنا من طرح السؤال الوصول إلى فهم «موضوعي» لماهية الإسلام. كلنا يتحدَّث عن الإسلام، وعن رأي الإسلام وحُكمِ الإسلام، ولكن يبدو من هذه الأحاديث أننا نتحدث عن مفهوم لم نتَّفق على تحديده ولو في الحدود الدنيا من الاتفاق. وقد أدَّى هذا التعارض المفهومي في الماضي إلى أن ذهب قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن إلى التسوية بين كل الآراء وبين كل الاجتهادات مهما تضارَبَت وتناقضت، فقال:
«كل ما جاء به القرآن حق، ويدلُّ على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب، والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب؛ لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين واحتملَت معنيَين مُتضادَّين. وسُئل يومًا عن أهل القدر وأهل الإجبار فقال: كلٌّ مصيب هؤلاء قوم عظَّموا الله، وهؤلاء قوم نزَّهوا الله. قال وكذلك القول في الأسماء، فكل من سمَّى الزاني مؤمنًا فقد أصاب، ومن سمَّاه كافرًا فقد أصاب، ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب، ومن قال هو كافر مُشرك فقد أصاب؛ لأن القرآن قد دل على هذه المعاني.
ولسنا نظنُّ أن أحدًا من المسلمين اليوم يتقبَّل هذا الموقف «اللاأدري»، كما أنَّنا لسنا نظن أن تبني أحد هذه المواقف المذكورة والدفاع عنه، وهي مواقف صيغت في الماضي في واقع مختلف، يُمكن أن يحل إشكاليات اليوم في الثقافة الإسلامية المعاصرة.
إنَّ البحث عن مفهوم للنص لا يزعم الإجابة على كل هذه الهموم والتصدي لها تصديًا شاملًا، ولكنه بداية للبحث العلمي في مجال شائك يبدو أنه لم يَعُد فيه مجال لقول جديد. سيقول المغرضون من الناس وأصحاب الكراسي المزورة — على حدِّ تعبير الكندي فيلسوف الإسلام الأول — ليس لهذه التساؤلات من معنى إلا التشكيك في العقيدة، وسيقولون إن هذه ليست أسئلة جديدة، بل هي قديمة أجاب عنها العلماء كلٌّ في مجال تخصُّصه، فالإجابة عنها الآن من قبيل تحصيل الحاصل، ولكن على الباحث أن يُعرض عن كل ذلك ويمضي في طريقه طارحًا السؤال تلو السؤال باحثًا عن إجابة لكل سؤال، متباعدًا قدر الإمكان عن الإجابات الجاهزة التي لا تضيف إلى وعينا بموضوع الدرس جديدًا.
والباحث هنا لا يزعم امتلاكه للحقيقة بألف ولام العهد، وإنما يزعم أنه بسبيله للبحث عنها ومقاربتها بالقدر الممكن علميًّا وإنسانيًّا. وغني عن القول إن الباحث على وعي بخطر «التشويش الأيديولوجي» النابع من موقفه من الواقع الذي يعيش فيه ويتفاعَل معه بوصفه مواطنًا، ويدرك أن عليه أن يُقلِّل من تأثير هذا الخطر على قدر ما يستطيع. ويَكفي الوعي الدائم به مانعًا من الانزلاق إلى مهاوي التحليلات الأيديولوجية؛ إذ لا يقع فيه حتى الأذقان إلا من يُنكرونه ويزعمون لأنفسهم تجرُّدًا وموضوعية ونزاهة لا تليق إلا بالحق المطلق المجرَّد، وأنَّى لنا ذلك.
(٣) في المنهج
تَنطلِق هذه الدراسة من مجموعة الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني من جهة، كما أنها تَنطلِق من المفاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة أخرى. والحقيقة أن الفصل بين ما يطرحه النص عن نفسه وبين ما صاغته الثقافة عنه فصل تعسُّفي، لكنه فصل لا غناء عنه للتوضيح والبيان. إن النص في حقيقتِه وجوهره مُنتج ثقافي. والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عامًا. وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتَّفقًا عليها، فإنَّ الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثَم إمكانية الفهم العِلمي لظاهرة النص. إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص؛ ومن ثَم لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة، أمر لا يتعارَض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها. ولنقل بعبارة أخرى إن الله سبحانه وتعالى حين أوحى للرسول ﷺ بالقرآن اختار النظام اللغوي الخاص بالمُستقبِل الأول. وليس اختيار اللغة اختيارًا لوعاء فارغ وإن كان هذا ما يؤكده الخطاب الديني المعاصر، ذلك أن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه. وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يُمكن من ثمَّ أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع أيضًا طالما أنه نصٌّ داخل إطار النظام اللغوي للثقافة. إنَّ ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه ولا تنفي من ثمَّ انتماءه إلى ثقافة البشر.
إنَّ القرآن يصف نفسه بأنه رسالة، والرسالة تُمثِّل علاقة اتصال بين مُرسِل ومُستقبِل من خلال شفرة، أو نظام لغوي. ولمَّا كان المُرسِل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعًا للدرس العلمي، فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النَّص القرآني مدخلَ الواقع والثقافة، الواقع الذي ينتظم حركة البشر المُخاطَبين بالنص، وينتظم المُستقبِل الأول للنص وهو الرسول، والثقافة التي تتجسد في اللغة، بهذا المعنى يكون البدء في دراسة النص بالثقافة والواقع بمثابة بدء بالحقائق الإمبريقية، ومن تحليل هذه الحقائق يمكن أن نصل إلى فهم علمي لظاهرة النص. إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحال قضية بديهية لا تحتاج لإثبات. ومع ذلك فإن هذه القضية تحتاج في ثقافتنا إلى تأكيد متواصل نأمل أن تقوم به هذه الدراسة.
لكن القول بأن النص مُنتَج ثقافي يُمثِّل بالنسبة للقرآن مرحلة التكون والاكتمال، وهي مرحلة صار النص بعدها مُنتِجًا للثقافة، بمعنى أنه صار هو النص المُهيمِن المسيطِر الذي تُقاس عليه النصوص الأخرى وتتحدَّد به مشروعيتها. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة وتعبيره عنها وبين إمداده للثقافة وتغييره لها. ولكن علينا دائمًا أن نكون على وعيٍ بأن القول بوجود مرحلتَين في تاريخ النص لا يعني أنهما مرحلتان متقابلتان مُتعارضتان؛ فالنصُّ في مرحلته الأولى — في تعبيره عن الثقافة — لم يكن مجرَّد حامل سلبي لها؛ فقد كانت له فعاليته الخاصة — بوصفه نصًّا — في تجسيد الثقافة والواقع، وهي فعالية لا تعكسهما عكسًا آليًّا، بل تُجسدهما تجسيدًا بنائيًّا؛ أي تجسيدًا يُعيد بناء معطياتهما في نسق جديد. وفي المرحلة الثانية ليس المقصود بأن النص مُنتِجٌ للثقافة تحويل الثقافة إلى صدى سلبي للنص؛ فللثَّقافة أيضًا آلياتها الخاصة في التعامل مع النص، وذلك بإعادة قراءاته وتأويله.
إنَّ اختيار منهج التحليل اللغوي في فهم النص والوصول إلى مفهوم عنه ليس اختيارًا عشوائيًّا نابعًا من التردد بين مناهج عديدة متاحة، بل الأحرى القول إنه المنهج الوحيد المُمكن من حيث تلاؤمه مع موضوع الدرس ومادته. إن موضوع الدرس هو «الإسلام»، ولا خلاف بين علماء الأمة على خلاف مناهجهم واتجاهاتهم قديمًا وحديثًا أن الإسلام يقوم على أصلَين؛ هما «القرآن» و«الحديث» النبوي الصحيح. هذه حقيقة لا يُمكن التشكيك في سلامتها. الحقيقة الثانية التي لا يُمكن التشكيك في سلامتها كذلك أن هذه النصوص لم تُلْق كاملة ونهائية في لحظة واحدة، بل هي نصوص لغوية تشكَّلت خلال فترة زادت على العشرين عامًا. وحين نقول «تشكَّلت» فإننا نَقصد وجودها المتعين في الواقع والثقافة بقطع النظر عن أيِّ وجود سابق لهما في العلم الإلهي أو في اللوح المحفوظ. وتلك قضايا سنتعرَّض لها في متن الدراسة. وإذا كانت هذه النصوص قد تشكَّلت في الواقع والثقافة فإن لكلَيهما دورًا في تشكيل هذه النصوص.
ولعلَّ الحديث عن دور الواقع والثقافة في تشكيل هذه النصوص يُمثل نقطة الانفصال، وربما التدابر، بين منهج هذه الدراسة وبين المناهج الأخرى التي يتبنَّاها الخطاب الديني المعاصر عند مناقشة مثل هذه القضايا حيث تُعطى الأولية عند مناقَشة النصوص الدينية للحديث عن «الله» عز وجل «قائل النص»، ثم يلي ذلك الحديث عن النبي ﷺ «المُستقبِل الأول» للنص، ثم يلي ذلك الحديث عن الواقع تحت عناوين «أسباب النزول» و«المكي والمدني» و«الناسخ والمنسوخ». إنَّ مثل هذا المنهج — إن اكتملت له أدوات البحث المنهجي من الدقة والاستقصاء — بمَثابة ديالكتيك هابط في حين أن منهج هذه الدراسة بمثابة ديالكتيك صاعد. وعلى حين يبدأ المنهج الأول من المطلق والمثالي في حركة هابطة إلى الحسي والمُتعيِّن، فإنَّ المنهج الثاني يبدأ من الحسِّي والعيني صعودًا، يبدأ من الحقائق والبديهيات ليصل إلى المجهول ويكشف عما هو خفي. إن مُعضلة المنهج الأول أنه يعتمد على التأمُّل، ومن ثم يكون عرضة للانغماس في الأقاويل الخطابية، وبذلك يتحوَّل الخطاب العلمي من خلال هذا المنهج عن مهمته الحقيقية ليؤديَ مهمَّة أخرى هي مهمَّة الوعظ والإرشاد. ولعلَّ هذا يفسر لنا اختلاط مفهوم «العالم» بمفهوم «الواعظ» و«الخطيب» في ثقافتنا الدينية. ونأمل أن يُؤدي المنهج الذي تتبنَّاه هذه الدراسة إلى تجاوز هذه المعضلة. المعضلة الثانية التي يقع فيها المنهج الأول — ونأمل أن يتجاوَزها منهج هذه الدراسة — خطر الوقوع في شبكة «الإجابات الجاهزة» والانسياق في دوامة «التشويش الأيديولوجي»؛ حيث يبدو الباحث — في إطار هذا المنهج — وكأنه يَكتشِف جديدًا، وهو في الواقع يمارس دور الحواة والمشعوذين فيُخرج من ثيابه ما سبق أن خَبَّأه، وذلك ليُدهِش الناس وينال إعجابهم. وما يكون الباحث قد خَبَّأه في هذه الحالة ليس سوى ما قاله القدماء في نفس القضية وعن نفس الموضوع.
وإذا كان البدء بالواقع معناه البدء بالحقائق التي نعرفها من التاريخ فإن دراستنا لمفهوم النص سعيًا لتحديد ماهية الإسلام لا يَنبغي أن تُغفل الواقع، بل عليها أن تبدأ به بوصفه الحقيقة العينية الملموسة التي يمكن الحديث عنها. وعلينا أن نضع في الاعتبار أن الواقع مفهوم واسع يشمل الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويَشمل المتلقِّي الأول للنص ومُبلِّغه، كما يشمل المخاطبين بالنص. إن النص أداة اتصال يقوم بوظيفة إعلامية، ولا يُمكن فهم طبيعة الرسالة التي يتضمَّنها النص إلا بتحليل مُعطياته اللغوية في ضوء الواقع الذي تشكَّل النص من خلاله. والقول إن كل نص رسالة يُؤكد أن «القرآن» و«الحديث النبوي» نصوصًا يُمكن أن نُطبِّق عليها مناهج تحليل النصوص، وذلك ما دام ثمَّة اتفاق على أنهما «رسالة». ومعنى ذلك أن تطبيق نهج تحليل النصوص اللغوية الأدبية على النصوص الدينية لا يفرض على هذه النصوص نهجًا لا يتلاءم مع طبيعتها. إنَّ المنهج هنا نابع من طبيعة المادة ومُتلائم مع الموضوع.
والاعتراض الذي يُمكن أن يُثار هنا: كيف يُمكن تطبيق منهج تحليل النصوص على نصٍّ إلهي؟! وقد يتضمَّن الاعتراض بعض الاتهام (والعياذ بالله من سوء النية) حول تطبيق مفاهيم البشر ومناهجهم على نصٍّ غير بشري من حيث أصله ومصدره. والحقيقة أنَّ هذا الاعتراض إن صدر فإنما يصدر عن ذلك النمط من الفكر التأمُّلي المثالي الذي أشرنا إليه بوصف علمي باسم «الديالكتيك الهابط». وإذا كان أصحاب هذا المنهج يتَّفقون معنا كذلك في أن الله سبحانه وتعالى ليس موضوعًا للتحليل أو الدرس، وإذا كانوا يتفقون معنا كذلك في أنه سبحانه شاء أن يكون كلامه إلى البشر بلغتهم، أي من خلال نظامهم الثقافي المركزي، فإن المتاح الوحيد أمام الدرس العلمي هو درس «الكلام» الإلهي من خلال تحليل مُعطياته في إطار النظام الثقافي الذي تجلى من خلاله. ولذلك يكون منهج التحليل اللغوي هو المنهج الوحيد الإنساني الممكن لفهم الرسالة، ولفهم الإسلام من ثم.
وحتى لا نقع فيما وقع فيه القدماء فإن مصداقية النص في منهج تحليل النصوص لا تنبع من دليلٍ خارجي، بل تنبع من تقبُّل الثقافة للنص واحتفائها به. لقد اختلف القدماء حول هذه الإشكالية، وانصبَّ خلافهم فيها حول نقطة جزئية هي: هل يحتاج النص إلى دليل خارجي لإثبات مصداقيته، أم أنه يتضمَّن في داخله هذا الدليل؟ وإذا كانوا جميعًا قد اتفقوا على ضرورة وجود معيار خارجي فإنهم اختلفوا في طبيعة هذا المعيار، هل هو «العقل» أم «المُعجزة» الباهرة التي تقع على يد الرسول؟ وقد انتهى الفكر الديني القديم إلى أن المعجزة الكبرى هي «النص» ذاته، وكان لذلك نتائج ليس هنا مجال مناقشتها إذ سنتعرَّض لها في فصول الدراسة.
وفي منهج تحليل النصوص تنبع مصداقية النص من دوره في الثقافة، فما ترفضه الثقافة وتنفيه لا يقع في دائرة «النصوص»، وما تتلقَّاه الثقافة بوصفه نصًّا دالًّا فهو كذلك. وقد يختلف اتجاه الثقافة في اختيار النصوص من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، فتنفي ما سبق لها أن تقبَّلته، أو تتقبَّل ما سبق لها أن نفَتْه من النصوص. وإذا طبَّقنا هذا المعيار على القرآن بصفة خاصة فنحن إزاء نصٍّ لم يكَدْ يكتمل حتى أصبح جزءًا أصيلًا فاعلًا في الثقافة التي ينتمي إليها. ولم تكد تمرُّ عليه سنوات قليلة حتى صار هو النص المهيمِن والمسيطر في الثقافة. ثم تجاوز إطار ثقافته ليكون مُؤثِّرًا في ثقافات أخرى. لقد صار القرآن هو «النص» بألفِ ولام العهد. وإذا كنا نعتد المعيار الثقافي في تحديد مصداقية النص، فمن قبيل تحصيل الحاصل القول بأن مصداقية هذا النص — القرآن — لا تَنبع من كثرة عدد المؤمنين به، كما أنَّ قلة عددهم لا تُقلِّل من مصداقيته. إنَّ وجود النص في الثقافة أخطر من وجوده في عواطف المعتقدين والمؤمنين.
لذلك كله لا تعارُض بين تطبيق المنهج اللغوي — منهج تحليل النصوص — على القرآن وبين الإيمان بمصدرِه الإلهي. إن البحث عن مفهوم للنص ليس إلا محاولة لاكتشاف طبيعة النص الذي يُمثل مركز الدائرة في ثقافتنا. إنَّ محاولة البحث عن مفهوم للنص سعي لاكتشاف العلاقات المُركَّبة لعلاقة النص بالثقافة من حيث تشكُّله بها أولًا، وعلاقته بها من حيث تشكيله لها ثانيًا. وسيكون هذان المحوران موضوع الباب الأول من هذه الدراسة. وهذا الباب يَنقسِم إلى خمسة فصول، هي على التوالي: مفهوم الوحي، المُتلقي الأول للنص، المكي والمدني، أسباب النزول، ثم الناسخ والمنسوخ. وفي كل هذه الفصول سيكون التحليل قائمًا على أساس المحورَين السابقين في علاقة النص بالثقافة تشكُّلًا وتشكيلًا. وسيكون الباب الثاني من هذه الدراسة عن «آليات النص» من حيث علاقته بالنصوص الأخرى في الثقافة من جهة، ومن حيث آلياته في إنتاج الدلالة من جهة أخرى، ويندرج تحت هذا الباب أيضًا خمسة فصول هي على التوالي: الإعجاز، المناسبة بين الآيات والسور، الغموض والوضوح، العام والخاص، التفسير والتأويل. ويأتي الباب الثالث والأخير للكشف عن التحوُّل الذي أصاب مفهوم النص ووظيفته والذي صارت له السيادة في الثقافة العربية الإسلامية حتى عصورها الحديثة. وقد كان من الطبيعي أن نتوقَّف في هذا الباب عند فكر «أبو حامد الغزالي» بوصفه المفكر الذي التقَت عنده تيارات الفكر الديني واتجاهاته على المستويين الرسمي والشعبي. إن الدور الخطير الذي قام به الغزالي في صياغة المفاهيم والتصوُّرات التي كُتب لها الشيوع والاستقرار في مجال الفكر الديني فرض علينا هذه الوقفة الخاصة، وهي وقفة تستهدف الكشف عن أسباب بداية عزل النص عن الواقع وعن حركة الثقافة من جهة، والكشف عن جذورِ كثير من الأفكار والمفاهيم الشائعة في الخطاب الديني المعاصر من جهة أخرى.
إنَّ قراءة الغزالي بالإضافة إلى أهميتها في الكشف عن التحوُّل الذي طرأ على مفهوم النص في الفكر تَكشف لنا عن صوت الماضي الذي يُعاد تَصديره لنا في الحاضر، وتكشف أكثر عن آليات الفِكر الديني المعاصر في إضفاء صفة القداسة والإطلاق على ذاته بارتداء ثياب التراث في أشدِّ اتجاهاته تخلُّفًا ورجعية. وفي هذا الكشف نأمُل أن نُساهم في تعرية الوجه الحقيقي لكثير من مفاهيم الخطاب الدِّيني المعاصر باستخدام أساليب الدرس العِلمي.
وكان يَكفي أن يُدرك الشيخ حقيقة الهدف من وراء توظيفه وهو اكتساب «ثقة الناس» أما التخصص والخبرة في شئون المال والاقتصاد فلها رجالها وأهلها. وهل مهمَّة عالم «الدین» إعطاء الرأي الشرعي — لهذا أو ذاك — مقابل الأجر النقدي، وقد تكفَّلت الدولة أن «تُوظفه» لهذا الغرض فقط وتدفع له راتبه من «الضرائب» التي يدفعها فقراء الوطن؟ هكذا تحوَّلت وظيفة الشيخ من حماية العامة من سطوة «العسكر» إلى تقنين استغلال التجار لفقراء الوطن باسم «الإسلام»، رحم الله شيخ الإسلام «عز الدين بن عبد السلام».