الفصل الأول
إن حركة الوحي النازلة من الله إلى الإنسان والتي تعني الكشف والإفصاح والبيان قد تحولت في الفكر الديني المتأخر إلى حركة صعود من جانب الإنسان سعيًا إلى الله ذاته. وعلى حين كانت حركة الوحي في بدايتها تستهدف الإنسان بما هو عضو في جماعة ومن ثم تستهدف إعادة بناء الواقع لتحقيق مصلحة الإنسان ولإشباع حاجاته المادية والروحية، فقد كانت الحركة الإنسانية في التصورات الصوفية حركة للخلاص الذاتي الفردي بمعانقة المطلق والفناء فيه. ونتيجة لذلك تم توجيه النص وتمت إعادة تصوره في الفكر لتحقيق هذه الوظيفة. لقد تحولت حركة الكشف إلى محاولة اكتشاف، وصار النص الكاشف مجرد أداة لاكتشاف قائل النص والتوحد به. ولم يكن لمثل هذا التحول أن يتم إلا بعد حدوث تحول موازٍ في حركة الواقع الذي يتفاعل معه النص.
وإذا كان المجتمع الإسلامي الأول قد جعل همه الأول التكيف مع معطيات النص وفرض سيادته على النصوص الأخرى، فإن تحقق هذه الغاية كان مرهونًا بوحدة المجتمع وعدم تنافر عناصره ومكوناته الاجتماعية. وقد كان من الطبيعي أن يؤدي قيام الدولة واتساع أطرافها إلى تعدد في طبيعة القوى الاجتماعية المكونة، وهو تعدد سرعان ما تحول إلى صراع اقتصادي اجتماعي سياسي ديني.
وقد أفضى هذا الصراع إلى تعدد الرؤى والتصورات حول طبيعة النص الديني وحول غايته وهدفه. وعلى حين ركزت الاتجاهات العقلية التي يُعد المعتزلة أشهر ممثليها على الإنسان بوصفه المخاطَب بالنص والمستهدَف من تعاليمه، كما أنها استوعبت النص على أساس أنه «فعل مخلوق»، نجد أن الأشاعرة قد ركزوا على الطرف الآخر، طرف القائل، ومن ثم كان تصورهم للنص أنه «صفة» ذاتية للقائل لا فعلًا من أفعاله. وكان من الطبيعي أن تتضاءل في هذا التصور قيمة «الإنسان» الذي يمثل الطرف الآخر — طرف المتلقي — في عملية الوحي، بل وفي مفهوم النص.
وتنشأ تصورات الغزالي للنص ولأهدافه وغاياته من منطلقين أساسيين أحدهما أشعري كلامي والثاني صوفي غنوصي. ويتحدد المنطلق الأشعري للغزالي من حقيقة تصور الأشاعرة للنص بوصفه «صفة» من صفات الذات الإلهية، في حين يتحدد منطلقه الصوفي من حصر غاية الوجود الإنساني على الأرض في تحقيق الفوز والفلاح في الآخرة. وإذا كانت هذه الغاية يمكن الوصول إليها وتحقيقها عبر تحقيق الوجود الإنساني الأمثل في الواقع والمجتمع، فإن الغزالي يرى أن تحقيقها لا يتم إلا عبر الزهد في الدنيا والانقطاع إلى الله وطرح كل ما سواه.
من هذين المنطلقين لا يتحدد فقط مفهوم الغزالي للنص، بل يتحدد أيضًا طبيعة المشروع الفكري الذي حاول الغزالي أن يقدمه للمسلمين من خلال كتاباته وتعاليمه. ومن الضروري لكي نفهم تصورات الغزالي للنص ولأهدافه وغاياته أن نفهم طبيعة مشروعه الفكري في ضوء ظروف عصره وحركة واقعه. وإذا كان الغزالي في «المنقذ من الضلال» يحدثنا عن أزمته الفكرية، ويفسر لنا كيف تخلى عن منهج المتكلمين والفلاسفة وانحاز إلى الطريق الصوفي بوصفه الطريق المؤدي إلى اليقين، فالحقيقة أن الغزالي لم يتخلَّ إطلاقًا عن منهج المتكلمين والفلاسفة كما يدعي. وكتابات الغزالي في المرحلة الأخيرة من حياته تعكس هذا التعدد في التوجهات ما بين الكلام والفلسفة والتصوف وأصول الفقه والمنطق. والحقيقة أن الغزالي لم يَكْفِه القيام بدور المتكلم أو دور الفيلسوف أو حتى دور الصوفي، ولكنه أراد أن يقدم مشروعًا متكاملًا «لإحياء» علوم الدين. ويقوم مفهوم «الإحياء» على افتراض مؤداه العودة إلى الماضي لحل معضلات الحاضر. وداخل هذا الافتراض يكون الحاضر نموذجًا للفساد والضعف والانحراف عن المعايير الأصيلة للدين، في حين يكون الماضي نموذجًا للنضارة والطهارة والنقاء وتحقيق الوجود الفعلي للوحي.
يرتد تصنيف العلوم عند الغزالي إذن إلى ثنائية حادة في تصوره للعلاقة بين الدنيا والآخرة. وإذا كان القرآن لا يضع مثل هذا التعارض الحاد بين الدنيا والآخرة ويطلب من المسلم ألا ينسى نصيبه من الدنيا، كما تطلب منه المأثورات أن يعمل للدنيا كأنه يعيش أبدًا وأن يعمل للآخرة كأنه سيموت غدًا، فإن الغزالي يعبر عن تصوره لتعارض حاد بينهما بحيث يستحيل جمعهما، بل يجعل من هذا التصور الحد الأدنى من العلم الذي ينبغي على العالم «عالم الآخرة» أن يعرفه.
ورغم هذا التعارض الحاد فلا مناص من تقبل الحد الأدنى من الحياة الدنيوية طالما أن الدنيا معبر وطريق إلى الآخرة.
من خلال هذا التصور الثنائي لعلاقة الدنيا بالآخرة يتم تصور النص وتحديد أهدافه وغاياته، كما يتم تصنيف العلوم التي يمكن استخراجها منه. وإذا كان هذا التصور الثنائي لعلاقة الدنيا بالآخرة ينطلق من توجه صوفي، فإن في تصور النص عند الغزالي ثنائية أخرى تنطلق من التصور الأشعري للكلام الإلهي بوصفه صفة ذاتية لا بوصفه فعلًا. وما دام الكلام الإلهي صفة ذاتية قديمة فقد كان من الضروري الفصل بين «الصفة القديمة» الملازمة للذات الإلهية وبين «تجليها» في العالم في القرآن المقروء المتداول أي في «النص». إن «النص» المقروء بالألسنة والمكتوب بين دفتي «المصحف» ليس إلا «محاكاة» لصفة الكلام القديم. ومعنى ذلك أن «اللغة» في هذا «النص» غطاء خارجي، أو قشرة يستكن داخلها «مضمون أزلي» قديم. وإذا كان الفكر الأشعري قبل الغزالي قد وقف في تصور الكلام الإلهي عند حدود التفرقة بين الصفة القديمة والمحاكاة في التلاوة أو القراءة، فإن البعد الصوفي في فكر الغزالي قد استطاع أن يساعده على تطوير هذا المفهوم من خلال ثنائية أخرى هي ثنائية «الظاهر والباطن». من خلال هذه الثنائية أمكن أن يكون للقرآن ظاهر وباطن لا على مستوى المعنى والدلالة فقط كما هو شائع في الفكر الصوفي، بل على مستوى البناء والتركيب في نسق النص ونظامه، فالباطن هو الأسرار والجواهر، هو الحقائق التي يتضمنها النص من حيث هو مضمون، أما الظاهر فهو الصدف والقشر، هو اللغة التي يظهر النص بها لأفهامنا وعقولنا.
(١) علوم القشر والصدف
اللغة في هذا التصور مجرد وسيط تؤدي فعالياته إلى اكتشاف السطح والقشرة الخارجية للنص دون أن تحقق اقتحامًا أو ولوجًا لعالم النص الداخلي، لأسراره وجواهره. وفعاليات اللغة تبدأ من مستوى الصوت وتنتهي عند مستوى الدلالة مرورًا بمستويات أخرى تشكل في مجموعها خمسة علوم تعد علوم القشر والصدف والكسوة.
وبناءً على هذا الترتيب تكون علوم القشر والصدف بالنسبة للقرآن خمسة علوم هي: علم مخارج الحروف وهو علم يرتبط بقراءة النص وأدائه، ثم علم لغة القرآن وهو العلم الذي يبحث في الألفاظ من جميع نواحيها، ويلي ذلك علم إعراب القرآن وعن هذا العلم يتفرع علم رابع هو علم القراءات، وتنتهي هذه العلوم إلى العلم الخامس وهو علم التفسير الظاهر. وترتيب هذه العلوم على هذا الشكل، أي من حيث البدء بالمخارج والانتهاء بالتفسير الظاهر، إلى جانب أنه ترتيب تصاعدي من الجزء إلى الكل ومن الصوت إلى الدلالة، ترتيب تقييمي يبدأ بالأدنى ويرتقي إلى الأرقى والأسمى. وكلما اقترب العلم من القشر والصدف قلت قيمته، في حين تتزايد قيمة العلم الذي يتباعد عن القشر الأول ويقترب من الجوهر. هذه العلوم إذن وإن كانت تنتمي كلها إلى مستوى القشر والصدف تتفاوت قيمتها فيما بينها؛ إذ للصدف وجه إلى الباطن ملاق للدر قريب الشبه به لقرب الجوار ودوام المماسة، ووجه إلى الظاهر قريب الشبه بسائر الأحجار لبعد الجوار وعدم المماسة. فكذلك صدف القرآن ووجهه البراني الخارج هو الصوت، والذي يتولى علم تصحيح مخارجه في الأداء والتصويت صاحبُ علم الحروف، فصاحبه صاحب علم القشر البراني البعيد عن باطن الصدف فضلًا عن نفس الدرة.
وقد انتهى الجهل بطائفة (يَقصد المعتزلة) إلى أن ظنوا أن القرآن هو الحروف والأصوات وبنوا عليها أنه مخلوق لأن الحروف والأصوات مخلوقة وما أجدى هؤلاء بأن يُرْجموا أو تُرجَم عقولهم فإما أن يعنفوا أو يشدد عليهم، فلا يكفيهم مصيبة أنه لم يَلُحْ لهم من عوالم القرآن وطبقات سَمَواته إلا القشر الأقصى.
وهذا يعرفك منزلة علم المقرئ إذ لا يَعْلَم إلا بصحة المخارج، ثمَّ يليه علم لغة القرآن وهو الذي يشتمل عليه مثلًا ترجمان القرآن وما يقاربه من علم غريب ألفاظ القرآن، ثم يليه في الرتبة إلى القرب علم إعراب اللغة وهو النحو، فهو من وجه يقع بعده لأن الإعراب بعد المُعْرَب ولكنه في الرتبة دونه بالإضافة إليه لأنه كالتابع للغة، ثم يليه علم القراءات وهو ما يعرف به وجوه الإعراب وأصناف هيئات التصويت وهو أخص بالقرآن من اللغة والنحو ولكنه من الزوائد المستغنى عنها دون اللغة والنحو فإنهما لا يُستغنى عنهما. فصاحب علم اللغة والنحو أرفع قدرًا ممن لا يعرف إلا علم القراءات وكلهم يدورون على الصدف والقشر وإن اختلفت طبقاتهم.
إن هذه العلوم جميعًا على أهميتها لا تكاد تتجاوز القشرة الخارجية للنص — الصدف — إلى ما وراءه من درر وجواهر. وليست المكانة التي يحظى بها علم التفسير عند الغزالي إلا مكانة نسبية، أي بالنسبة إلى ما وراءه من علوم تراد له لكي تخدمه ولا يراد لها ليخدمها. ولكن علم التفسير الظاهر هذا إذا قيس بما يليه من علوم الجواهر والدرر يتحول إلى علم خادم ويفقد قيمته التي كان يحظى بها قبل ذلك. وإذا كانت ضالة المؤمن فهم كلام الله واستخراج دلالته واكتشاف معانيه فإن علوم اللغة فيها الكفاية والغُنية، ما دام الله سبحانه وتعالى قد اختار اللغة العربية وسيطًا لخطاب البشر. لكن إذا كانت اللغة مجرد غطاء ظاهري زائل فانٍ متغير حادث يستكن وراءه معنى باطن أبدي باقٍ ثابت قديم هو صفة المتكلم فإن علوم اللغة تصبح مجرد وسائل وأدوات لنزع الغطاء الخارجي أو لاختراقه إن شئنا الدقة. وإذا أضفنا إلى ذلك أن غاية الوجود الإنساني صارت معانقة المطلق والفناء فيه، فإن مهمة النص تتحول إلى أن تكون الكشف عن المطلق وعن صفاته. وبناءً على هذا التصوُّر لا يكون المعنى أو الدلالة هو الضالة والغاية، بل يكون المتكلم القديم هو الهدف الذي نسعى إليه من خلال فك شفرة النص. وتتحول العلوم الخمسة السابقة كلها بما فيها علم التفسير الظاهر إلى وسائل لغايات أخرى. ويصبح علماء اللغة والقراء والمفسرون مجرد حُفَّاظ وعاة ناقلين إلى غيرهم ثمرات علومهم، وهؤلاء الأغيار — أهل الطريق السالكين إلى الله — هم القادرون وحدهم على النفاذ من الصدف والقشر واستخراج الجواهر والدرر المستكنة تحتها. هم وحدهم القادرون على الوصول إلى الحقائق والغوص في بحار النص لاستخراجها. إن علماء اللغة والقراء والمفسرين ليسوا في مثل هذا التصور إلا علماء الظاهر والقشر والصدف، وهم بذلك أقرب إلى أن يُعَدُّوا من طبقات علماء الدنيا.
إن المقارنة التي يعقدها الغزالي هنا بين علوم القرآن — علوم القشر والصدف — وبين علوم الحديث مقارنة هامة من حيث إنها تكشف عن تصوره لدرجة هذه العلوم وقيمتها إذا قورنت بعلوم اللباب التي يتضمنها النص القرآني. في مثل هذه المقارنة يكون المفسر بالتفسير الظاهر — أي استنادًا إلى علوم اللغة — مثل الحافظ المؤدي الذي ينقل نص الحديث إلى من هو أفقه منه فيقوم باستخراج ما فيه من حكم. ومن هذه المقارنة أيضًا نفهم ما أشار إليه الغزالي في نص سابق من عدم أهمية علم القراءات واعتباره من الزوائد المستغنى عنها دون اللغة والنحو، وهو تصور يتناقض مع أهمية هذا العلم القصوى، إذ ليس تعدد القراءات إلا إثراء لدلالة النص وكشفًا لإمكانات لا تتوفر إلا في النصوص الممتازة. ولا شك أن الغزالي كان على دراية عميقة بالتداخل والتراسل بين علوم اللغة وعلوم القرآن، وليس علم القراءات إلا أحد العلوم التي لا تنفصل فيها علوم اللغة عن علوم القرآن. ولعل الغزالي يقصد من وراء «علم القراءات» الذي يستغنى عنه طرائق الأداء الشفاهي للنص. وأيًّا كان ما يقصده الغزالي فالذي لا شك فيه أن مقارنته بين علوم القشر والصدف وعلوم الحديث تكشف عن تصوره لهذه العلوم بأنها علوم خارجية، أو علوم تمهيدية، علوم تنتهي مهمتها عند حدود القشر والصدف، ولكنها هامة وخادمة لعلوم أخرى وراءها.
(٢) علوم اللباب (الطبقة العليا)
(أ) معرفة الله
صارت معرفة الله هي غاية الغايات، وأصبح الوصول إليه هو الهدف الأسمى من الحياة ومن المعرفة والعلم. وكان من الطبيعي أن يعاد تقسيم آيات القرآن بناءً على تحقيق هذه الغاية، فصارت الآيات الدالة على معرفة الله هي سر القرآن ولبابه الأصفى، وصار العلم الناتج عن هذه الآيات هو العلم الأول في علوم الطبقة العليا من علوم اللباب. لم تعد الغاية من الوحي «نزولًا» من الله للإنسان، أو «تنزيلًا» لأوامره ونواهيه هدفها تحقيق الوجود الأمثل للإنسان، بل صارت غاية الوحي القصوى التعريف بالمتكلم الذي يحاول الإنسان السعي و«العروج» إليه. وكلما اقترب العلم من تحقيق هذه الغاية كلما تصاعدت قيمته، والآيات التي تومئ إلى العلم يتحدد مستواها بمستوى العلم الذي تومئ إليه. ولا غرابة بعد ذلك أن يكون في القرآن آيات في الطبقة العليا من اللب وأخرى في الطبقة السفلى، ولا غرابة أن تكون الآيات الدالة على معرفة الله هي الآيات التي تقع في القسم الأول من الطبقة العليا من لباب القرآن.
وفي تقسيم الغزالي لآيات القرآن وللعلوم التي يمكن استخراجها منها علينا أن نلاحظ أنه يستخدم لغة قد تبدو ذات طبيعة مجازية تصويرية، كأن يتحدث عن علوم «القشر» وعلوم «اللباب» وكما سنرى في تقسيمه لآيات القرآن إلى جواهر ودُرَرَ وإلى زمرد. وعند حديثه عن الطبقة السفلى من علوم اللباب نجده يستخدم مفردات «العود» و«الترياق» و«المِسْك». وإذا كنا هنا نكتفي بإبداء الملاحظة، فذلك لأننا سنتعرض لها بعد ذلك في حديثنا عن مفهومه للتأويل. إن آيات القسم الأول هي آيات الجواهر واليواقيت، أو لنقل إن هذه الآيات بمثابة الكبريت الأحمر الذي ينتج اليواقيت والجواهر؛ تلك هي الآيات التي تُعَرِّف بالمدعو إليه في القرآن، أو تعرف بالمتكلم. هذا القسم من الآيات.
هو شرح معرفة الله تعالى وذلك هو الكبريت الأحمر وتشتمل هذه المعرفة على معرفة ذات الحق ومعرفة الصفات، ومعرفة الأفعال. وهذه الثلاثة هي: الياقوت الأحمر فإنها أخص فوائد الكبريت الأحمر. وكما أن لليواقيت درجات فمنها الأحمر والأكهب والأصفر، وبعضها أنفس من بعض، فكذلك هذه المعارف الثلاثة ليست على رتبة واحدة، بل أَنْفَسُها معرفة الذات، فهو الياقوت الأحمر، ثم يليه معرفة الصفات وهو الياقوت الأكهب، ويليه معرفة الأفعال وهو الياقوت الأصفر.
وكما أن أنفس هذه اليواقيت أجل وأعز وجودًا ولا تظفر منه الملوك لعزته إلا باليسير وقد تظفر مما دونه بالكثير، فكذلك معرفة الذات أضيقها مجالًا وأعسرها منالًا وأعصاها على الفكر، وأبعدها عن قبول الذكر، ولذلك لا يشتمل القرآن منها إلا على تلويحات وإشارات، ويرجع ذكرها إلى ذكر التقديس المطلق كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وسورة الإخلاص وإلى التعظيم المطلق كقوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
إن هذا العلم الأول الذي هو لب اللب ينقسم إلى علوم ثلاثة تتدرج من الضيق إلى الاتساع، أو من ندرة الآيات المعبرة عنها — اليواقيت — إلى الكثرة والشيوع، فعلم الذات — الياقوت الأحمر — لا يجد الغزالي له في القرآن سوى سورة الإخلاص وآية دالة على التقديس المطلق لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وأخرى دالة على التعظيم المطلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وبصرف النظر عن أن هذا تقسيم يذكرنا بابن عربي في تقسيمه الثلاثي لتجليات الذات الإلهية في العالم، كما يذكرنا بتصوره للصور — عالم الخيال — الضيق الأسفل الواسع الأعلى، فإن هذا التقسيم في فكر الغزالي — وعند ابن عربي أيضًا — منشؤه حرص الأشاعرة على المفارقة بين الذات الإلهية وصفاتها، وقد أدى هذا الحرص إلى عزل الذات الإلهية عن الانغماس في شئون العالم، وجعل الصفات هي القوى الفاعلة والمؤثرة. وإذا كان هذا العزل قد سَهَّل لابن عربي الولوج إلى عالم «وحدة الوجود» بالمعنى الذي شرحناه في مكان آخر، فإن بواكير هذه الوحدة موجودة عند الغزالي حين يوسع دائرة الأفعال الإلهية في قوله: «بل ليس في الوجود إلا الله وأفعاله، وكل ما سواه فعله».
إذا تجاوزنا دائرة «الذات» إلى دائرة «الصفات» وجدناها تتسع أكثر فتكثر الآيات التي تشير إليها في القرآن وهي الياقوت الأصفر. لكن هذه الآيات تتزايد أكثر وأكثر في دائرة «الأفعال»، ذلك أن أفعال الله تقود الغزالي إلى تفرقته بين عالم الحس والشهادة وبين عالم الغيب والملكوت. وإذا كانت الآيات التي تشير إلى عالم الحس والشهادة كثيرة فإن عالم الملكوت هو العالم الحقيقي، إنه بالنسبة لعالم الشهادة بمثابة اللب بالنسبة للقشر. هذا العلم يتضمن:
إن مثل هذا التصور لعالم الغيب والملكوت يجعل منه أولًا الأصل في حين يكون عالم الحس والشهادة هو الصورة، إنه اللب والثاني هو القشرة. وإذا كان الروح والقلب ينتميان — دون جملة الإنسان — إلى عالم الغيب والملكوت فإن جسده ينتمي إلى عالم الحس والشهادة. لذلك لا بد من نقطة التقاء يلتقي فيها العالمان أو يتمازجان، وليس ذلك إلا عالم الخيال الذي يمثل فيما يرى الغزالي النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت، وهو — بالتالي — الدرجة الأولى من درجات عالم الحس والشهادة. وهذا التصور الذي يجعل من الخيال واسطة بين العالمين تصور متسق مع تصور آخر سنشير إليه هو أن عالم الملكوت عالم المعاني في حين أن عالم الشهادة عالم الصور. وعلى ذلك يكون الخيال منطقة التقاء العالمين وامتزاجهما طالما أنه القوة الوحيدة التي يتجسد فيها المعنى ويتحول الحس إلى فكرة …
هكذا أدى التوحيد بين «القرآن» وبين الصفات الإلهية — صفة الكلام — إلى تحويل النص إلى بحر من الأسرار والعلوم لا يكاد العقل الإنساني يلتقط منها سوى بعض السوانح السطحية. وفي هذا الإطار يتم التقليل من شأن العلم الإنساني والتهوين من قدرة الإنسان وطاقته على اكتشاف قوانين الطبيعة والكون. إن المماثلة بين «النص» والعلم الإلهي بالإضافة إلى ذلك الفصل التام بين الذات الإلهية والعالم قد أديا إلى عزل «النص» عن آفاق الإنسان المعرفية، وإلى جعل «النص» المنبع الوحيد للمعرفة. وفي هذا يربط الغزالي بين علوم الدنيا والنص قائلًا:
«فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلًا الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته ومعرفة الشفاء وأسبابه.
ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان وقد قال الله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وقال وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وقال وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وقال يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وقال وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار وكيفية تكوُّر أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض وهو علم برأسه.
ولا يعرف كمال معنى قوله يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرًا وباطنًا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها. وقد أشار في القرآن في مواضع إليها وهي من علوم الأولين والآخرين، وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين.
وإذا كان علم الذات أرقى دوائر علوم معرفة الله، فإنه علم صعب لا يحتمله أكثر الأفهام. وإذا كان الرسول ﷺ قد انتقل من الأفعال إلى الصفات إلى الذات ثم أقر بعجزه، فما بالك بالمؤمن العادي؟ هل يمكن أن نرى في مسلك الغزالي تجاه النص — وهو مسلك تبعه فيه ابن عربي حذوك النعل بالنعل — تحويلًا من وظيفته الاجتماعية الإنسانية إلى وظيفة غنوصية سرية يكون الإقرار بالعجز فيها هو غاية المعرفة ومنتهاها؟! لا يتركنا الغزالي للاستنتاج والتخمين، فهو يحدثنا عن هذا العلم وعن العلم الذي يليه — من حيث الأهمية — وهو علم المِعَاد بوصفهما علمين لا يجوز أن يطلع عليهما أكثر الخلق، إن علم معرفة الله تعالى كما أشار الغزالي من قبل بفروعه الثلاثة هو أشرف العلوم.
ويتلوه في الشرف علم الآخرة وهو علم المعاد كما ذكرناه في الأقسام الثلاثة وهو متصل بعلم المعرفة، وحقيقته معرفة نسبة العبد إلى الله تعالى عند تحققه بالمعرفة أو مصيره محجوبًا بالجهل. وهذه العلوم الأربعة، أعني علم الذات والصفات والأفعال وعلم المعاد أَوْدَعْنا من أوائله ومجامعه القدر الذي رُزِقْنا منه مع قِصَر العمر وكثرة الشواغل والآفات وقلة الأعوان والرفقاء بعض التصانيف لكنا لم نظهره فإنه يَكِلُّ عنه أكثر الأفهام ويستَضِرُّ به الضعفاء وهم أكثر المترسمين بالعلم، لا يصلح إظهاره إلا على من أتقن علم الظاهر وسلك في قمع الصفات المذمومة من النفس وطرق المجاهدة حتى ارتاضت نفسه واستقامت على سواء السبيل فلم يبق له حظ في الدنيا ولم يبق له طلب إلا الحق ورُزِق مع ذلك فطنةً وقَّادة وقريحةً منقادةً وذكاء بليغًا وفهمًا صافيًا.
ولا شك أن هذا التحويل لطبيعة النص ولوظيفته يرتكز إلى المفهوم الأشعري لماهية الكلام الإلهي من جهة، كما أنه يرتكز إلى المفهوم الصوفي للخلاص الذاتي بالوصول إلى معانقة المطلق والفناء فيه من جهة أخرى. لم تعد غاية الوحي تأسيس مجتمع وبناء واقع يقوم النص فيه بدور المرشد والهادي، بل صارت الغاية هي الوصول إلى المطلق عبر فك شفرة النص ورموزه. لم يعد الإنسان عضوًا في مجتمع حي متفاعل بل صار وحيدًا مع المطلق إما عارفًا متوحدًا، أو جاهلًا محجوبًا، وصارت حياة الإنسان رحلة للوصول إلى المطلق وصارت الدنيا طريقًا للسفر. لذلك كله يكون العلم الثاني من علوم اللباب هو تعريف السلوك إلى الله، أو التعريف بالصراط المستقيم الذي هو الدر الأزهر.
(ب) طريق السلوك إلى الله
إن السلوك إلى الله — الطريق المستقيم — لم يعد يكمن في الاستجابة إلى أوامر الوحي وتطبيقها على سلوك الأفراد والمؤسسات الاجتماعية، أي لم يعد يكمن في إقامة مجتمع العدل والحرية والسلام، بل صار يكمن في التبتل والانقطاع إلى الله:
هذا التبتل والانقطاع بملازمة الذكر وبمخالفة النفس والهوى من شأنه أن يؤدي عبر مراحل السلوك الصوفي العديدة إلى الانتقال من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت، ويؤدي بكلمات أخرى إلى الاتصال بعالم المعاني والأرواح ومفارقة عالم الصور والأجساد. وبهذا الانتقال يتم العبور من الظاهر إلى الباطن وتأويل النص بتجاوز مستوى التفسير الظاهر إلى معانقة علومه الباطنة واكتشاف أسراره المستكنَّة وراء القشر والصدف. وبدون هذا السفر يستحيل الوصول، ويستحيل الانتقال من هذا العالم الحسي إلى ما وراءه من عالم الغيب والملكوت. إن وجه العلاقة بين العالمين — عالم الملك والشهادة وعالم الغيب والملكوت — لا يمكن لغير الصوفي العارف المحقِّق أن يعرفه، ويظل الإنسان العادي الذي يمثل أغلبية المسلمين سجينًا داخل أسوار هذا العالَم، عالم الحس والصُّوَر، عاجزًا عن إدراك حقيقة العلاقة بين العالمين، ناهيك أن يتجاوز قضبان السور الذي يحبسه:
«لعلك تقول فاكشف عن وجه العلاقة بين العالمين وأن الرؤيا لِمَ كانت بالمثال دون الصريح وأن رسول الله ﷺ لِمَ كان يرى جبريل كثيرًا في غير صورته وما رآه في صورته إلا مرتين؟ فاعلم أنك إن ظننت أن هذا يُلْقى إليك دفعة من غير أن تقدم الاستعداد لقبوله بالرياضة والمجاهدة واطراح الدنيا بالكلية والانحياز عن غمار الخلق والاستغراق في محبة الخالق فقد استكبرت وعلوت علوًّا كبيرًا، وعلى مثلك يُبْخَل بمثله، ويقال:
فاقطع طمعك عن هذا بالمكاتبة والمراسلة، ولا تطلبه إلا من باب المجاهدة والتقوى فالهداية تتلوها وتثبتها كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وقال ﷺ: «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لا يعلم».
ولكن كيف يؤدي هذا السفر إلى المعرفة؟ وكيف يؤدي الانقطاع عن علائق الدنيا وملازمة الذكر إلى اكتشاف أسرار الوجود وأسرار النص في نفس الوقت؟ إن الانتقال من عالم الملك والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت انتقال يتم بالروح والقلب دون الجسد، ولا يتم هذا الانتقال إلا بالمجاهدة التي بها يتم التقليل من سيطرة الجسد والحس والمطالب الحيوانية للإنسان على الروح والقلب إلى الحد الأدنى، ثم ينتقل السالك بعد ذلك إلى تطهير القلب من الصفات الذميمة في عملية معقدة أسهب الغزالي في شرحها في كتاب «الإحياء». وعن طريق هذا التطهير يتم جلاء القلب وصفاء الروح، فتنجلي الحقائق في القلب. هذا هو الانتقال الذي يحدث، فهو انتقال معنوي لا مكاني، وهذا هو السفر إلى الله.
إن هذا التجلي الذي يحدث في القلب نتيجة للمجاهدة من شأنه أن ينقل العارف من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت، لكن هذا الانتقال لا يتم إلا عبر عالم الخيال الذي يمثل عالمًا وسيطًا بين العالمين، وهو «النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى عن اللب الأصفى». وإذا كان الإنسان العادي يظل عند حدود ما يقدمه عالم الخيال من اختلاط، فإنه لا «يشاهد من الرمان إلا قشرته، ومن عجائب الإنسان إلا بشرته». لكن الصوفي العارف المتحقق الذي تجلى الحق في قلبه يَعْبُرُ هذا العالم الوسيط إلى عالم الأرواح والمعاني، وبذلك يتجاوز «القشر» إلى «اللب»، يتجاوز عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت، يتجاوز علوم الدنيا إلى علوم الآخرة.
وإذا كان هذا التجاوز أو العبور يتم عبر عالم الخيال على المستوى السيكولوجي فإنه يتم على المستوى المعرفي عبر علوم القشر والصدف بدءًا من مستواها الأدنى إلى مستواها الأعلى وهو علم التفسير الظاهر الذي يُعد في مجال العلوم بمثابة عالم الحس والخيال في تصور الوجود. إذا تحقق الصوفي بالعبور إلى عالم الملكوت يستطيع لا شك العبور — بالتأويل — من مستوى التفسير الظاهر إلى لب النص وجواهره ودرره. وعلينا قبل أن ننتقل إلى تصور الغزالي لعملية التأويل على مستوى النص أن نستكمل أولًا تصوره لعلوم القرآن وأقسام النص.
(ج) تعريف الحال عند الوصول (الثواب والعقاب)
وإذا كانت معرفة الله بأقسامها الثلاثة وطريق الوصول إليه (الصراط المستقيم)، يمثلان اليواقيت والدرر بوصفهما أعلى العلوم وأرقاها، بل هي في الحقيقة جوهر النص ولبابه الأقصى، فإن آخر علوم الطبقة العليا، علم تعريف الحال عند الوصول إلى الله عز وجل. والمقصود بتعريف الحال بيان المآل في الآخرة على حسب طريق السلوك في الدنيا. إن هذا القسم من النص — بعبارة أخرى — هو القسم الخاص بالثواب والعقاب ولكن الغزالي يستخدم مصطلحات صوفية مثل «علم الآخرة» و«علم المعاد»، وأحيانًا يجعل الغزالي هذا العلم سابقًا — من حيث القيمة — على علم تعريف الصراط المستقيم كما سبقت الإشارة:
إن تقسيم الناس إلى عامة وخاصة له إلى جانب دلالته الاجتماعية الطبقية دلالة دينية ذات نتائج خطيرة، فالخاصة من منظور المتصوفة هم أرباب المقامات والأحوال السالكون إلى الله عبر التخلي عن مطالب الدنيا ومكافحة غرائز الجسد. ولكن لكي يتحقق لهؤلاء السالكين الوقت والفراغ والضروريات لتحقيق هذه الغاية لا بد من آخرين يعملون ويشقون ويكدحون، آخرين لو توجهوا جميعًا إلى عمارة «الآخرة» لخربت الدنيا وهي شرط ضروري للخلاص. إن عمارة الدنيا مقدمة لعمارة الآخرة، وبدلًا من أن يكون الخلاص الأخروي نتيجة للفعل الإنساني في عمارة الدنيا وتحقيق وجوده فيها صار تقسيم الناس هو الحل، فصار هناك أهل الدنيا وهم أهل الظاهر الذين يكفيهم الإيمان العادي ليحقق نجاتهم من العذاب ويوصلهم إلى النعيم «المادي»، وهناك أهل الآخرة وهم أهل الباطن الذين يعانقون الحقيقة ويفنون فيها فيفوزون بالنعيم الدائم.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن مثل هذا التقسيم الديني إلى خاصة وعامة كان بمثابة قلب للتقسيم الاجتماعي الواقع في المجتمع. كان من الضروري ما دام أهل الدنيا يَتَنَعَّمون في خيراتها ويستحوذون على متاعها أن يكون نصيبهم من الآخرة قليلًا على عكس أولئك الذين لم ينالوا من الدنيا سوى التعب والنصب. ولما كان الصراع الاجتماعي لتحقيق العدل قد تحول إلى صراع ديني ضد وساوس الشيطان وخطرات النفس ومطالب الجسد، فقد كان من الطبيعي أن تكون علوم الدنيا في الدرك الأسفل من البناء التصنيفي للعلوم عند الغزالي، وأن تكون علوم الدين — بالمعنى الصوفي الذي انحصر في معرفة الله ومعرفة الطريق الموصل إليه — في قمة هذا البناء. وبين علوم الدنيا وعلوم الآخرة — أو علوم الدين — تقع علوم في منطقة وسطى بين النمطين، وتلك هي علوم الطبقة السفلى من علوم اللباب.
(٣) علوم اللباب (الطبقة السفلى)
تقع هذه العلوم في طبقة أدنى من علوم لباب القرآن، وكذلك تقع آيات القرآن التي تومئ إليها، ولكنها تقع بالنسبة لعلوم الدنيا في طبقة أعلى، ذلك أنها وإن كانت أدنى من العلوم السابقة تنتمي إلى علوم القرآن، فهي تكتسب من هذا الانتماء قيمتها التي تعلو بها على علوم الدنيا. في هذه العلوم الوسطى يضع الغزالي القصص القرآني وعلم الكلام وعلم الفقه. وإذا رتبناها من حيث أهميتها كان من الضروري أن نضع علم الفقه على رأسها.
(أ) الفقه
وعلى ذلك يمكن القول إن الفكر الصوفي قد انتهى إلى إيجاد «قانونين» أحدهما «قانون» العامة، وهو القانون الذي يصوغه الفقهاء من عرض الوقائع على النص واستخراج الحكم إما مباشرة وإما بالقياس والاجتهاد. والقانون الثاني هو «قانون» الخاصة وهو قانون يحدد ضوابط السلوك الداخلي الباطني وهو يستخرج — بالتأويل والعبور — من النص أيضًا. أحد القانونين لضبط سلوك أهل الدنيا والظاهر، والقانون الثاني يقدم للخاصة أهل الباطن معايير للوصول إلى المطلق والفناء فيه. وهكذا نجد أن ثنائية «الدنيا والآخرة» تحدد لعلم الفقه وظيفته في إطار الحياة الدنيا، بينما يكون طريق الآخرة محكومًا بقانون علم المعاد. وهكذا تنحصر مهمة علم الفقه في:
إن مفهوم غاية الوجود الإنساني بوصفه «سفرًا» إلى الله لا بوصفه «تحقيقًا» لإرادته قد أدى إلى اعتبار الدنيا مجرد «منزل» من منازل السفر. وإذا كان المسافر هو «القلب» الذي هو مسكن «الروح» فإن البدن مجرد «مركب» وأداة لهذا القلب. وعلى ذلك تنحصر وظائف علم الفقه في حفظ البدن وحفظ أمور المعاش الدنيوية. والذي يقيم «البدن» هو الأكل والشرب، والذي يحفظ أمور المعاش الدنيوية بقاء النسل. وعلى ذلك تنحصر موضوعات علم الفقه في:
يحاول الغزالي أن يضع كل آيات الأحكام والحدود داخل هذا الإطار الذي حدده من منظوره الصوفي لعمل الفقه وهو الحفاظ على النفس والنسل، حيث جعل «آيات المبايعات والربويات والمداينات والمواريث ومواجب النفقات وقسم الغنائم والصدقات والمناكحات والعتق والكتابة والاسترقاق والسبي من باب الحفاظ على النفس. ويدخل تحت الحفاظ على النسل «آيات النكاح والطلاق والرجعة والعدة والخلع والصداق والإيلاء والظهار واللعان وآيات محرَّمات النسب والرضاع والمصاهرات». وتدخل «آيات الحدود والقتال والكفارات والديات والقصاص» إطار دفع المفاسد إذ هي عقوبات زاجرة تمنع ما يهدد النفس أو النسل. ولا يخرج عن هذا الإطار آيات الجهاد وقتال الكفار، ولا يخرج عنها كذلك قتال المارقين داخل حدود المجتمع الإسلامي.
هذا الحصر لآيات الأحكام والحدود والمعاملات داخل حدود حفظ النفس والنسل — بوصفهما وسائل لتحقيق غاية أهم هي الوصول إلى الله — يُحوِّل مقاصد الشريعة تحويلًا تامًّا من إقامة المجتمع إلى الخلاص الفردي. وفي إطار هذا التحويل الكيفي يتحول الجهاد إلى وسيلة لحماية الوجود لا لنشر العدل. وهذا التحويل إلى جانب خطورته في ذاته ينتهي إلى التهوين من شأن «علم الفقه» بوصفه علمًا من العلوم التوابع التي تساعد على الحفاظ على الحياة الإنسانية من أجل تحقيق غاية وجودها وهو الفلاح الأخروي.
ويعبر الغزالي عن ضيقة لما لقيه هذا العلم من الذيوع والانتشار، ومن اهتمام العلماء به وتوسعهم في أصوله وفروعه على حين أن القليل من هذا كله كان يكفي لتحقيق الغاية منه، غاية حفظ النفس والنسل. ولا يكاد الغزالي يستثني نفسه من هذا الهجوم وهو ينعي على فقهاء عصره توسُّعهم غير الضروري في التصنيف في الفقه:
(ب) علم الكلام
يلي علم الفقه في ترتيب العلوم التي يدل عليها القرآن أو يمكن استخراجها من آياته علمان هما: علم الكلام والقصص، يطلق الغزالي على «علم الكلام» عبارة «محاجة الكفار ومجادلتهم»، ويقسم هذه المحاجة إلى ثلاثة أقسام تمثل أجزاء علم الكلام الرئيسة وهي الأقسام التي تمثل جوانب الإنكار حيث يتعلق الجانب الأول بإنكار الألوهية، ويتعلق الثاني بإنكار النبوة، ويتعلق الثالث بإنكار الحياة الأخرى والبعث بعد الموت. وهذا العلم، أو القسم من أقسام القرآن يمثل «الترياق الأكبر».
(ج) القصص
ويلي علمَ الكلام القصصُ القرآني، وهو الذي يبين أحوال السالكين والناكبين، والمقصود بالسالكين أهل الفوز والآخرة، وبالناكبين أهل الدنيا والخسار. وهذه القصص يحصرها الغزالي على الوجه التالي:
وإذا كان مفهوم القصص القرآني ينصرف إلى ما ورد في القرآن من أحوال مجتمعات ما قبل عصر النص وأنبيائه، فإن الغزالي يدرج في هذا القصص أحوال أهل مكة وأحوال محمد ﷺ، أي يدرج عصر تكوُّن النص وتشكله. ولا شك أن النص يعكس أحوال أهل العصر بوصفهم المخاطبين به، كما أنه يعكس أحوال النبي بوصفه المخاطب الأول والمبلغ، ولكن الجديد في تصور الغزالي إدراج هذا «البُعد» من أبعاد النص داخل إطار «القصص». ولعل الغزالي كان ينظر في هذا التصنيف إلى ما يؤديه قُصَّاصُ عصره من قصص وما يحكونه من روايات كانت السيرة النبوية دون شك جزءًا أصيلًا فيها.
(٤) مكانة الفقهاء والمتكلمين
ويسبقه في الأهمية كلٌّ من علم الفقه وعلم الكلام. وبناءً على ترتيب هذه العلوم الثلاثة تتحدد مراتب العلماء المشتغلين بها ومكانتهم في تصنيف الغزالي. إن الفقهاء والمتكلمين أشبه بحُرَّاس الطريق من القطاع واللصوص فهم الذين يُؤمِّنون طريق السالكين إلى الله وإن كانوا هم أنفسهم غير سالكين. يقوم الفقهاء بدور عُمَّار الرباطات في طريق مكة، بينما يقوم المتكلمون بدور قوافل الحراسة. إن المماثلة بين «السلوك الصوفي» في الطريق إلى الله وبين السفر إلى الكعبة في الطريق إلى الحج مماثلة بين جانبي الثنائية التي ينطلق منها الغزالي والمتصوفة عامة، فالسفر إلى الكعبة للحج رحلة حقيقية بالجسد إلى بيت الله تحقيقًا لإحدى العبادات الشرعية، لكن السلوك إلى الله بسفر القلب تحقيق لغاية الوجود السامية. من هذه المماثلة تكون مكانة الفقهاء والمتكلمين أدنى من مكانة السالكين إلى الله، فالفقهاء والمتكلمون — رغم أهمية علومهم — ينتمون إلى علماء الدنيا، في حين يكون السالك الصوفي من علماء الآخرة.
إن هذا التحديد لمكانة الفقهاء والمتكلمين إذا قورن بمكانة الصوفي السالك يرتد إلى أن علمي الفقه والكلام علوم أدوات أو وسائل، بينما علم التصوف وهو علم طريق السلوك — وهو العلم الثاني في علوم الطبقة العليا من علوم اللباب والتالي لعلم معرفة الله — علم غاية.
(٥) التأويل (من القشر إلى اللب)
وإذا كانت علوم القرآن تنقسم إلى علوم قشر وعلوم لباب فكيف يتجاوز الإنسان حدود القشر لكي يصل إلى اللباب؟ لا شك أن إجابة الغزالي ستكون «بلزوم الطريق المستقيم في السلوك إلى الله»، وهو الطريق الذي حصره في السلوك الصوفي كما رأينا، طريق الملازمة للذكر والتخلي عن الدنيا وعن شواغلها. وإذا قلنا للغزالي إن معرفة هذا الطريق علم صعب يحتاج لاستخراجه من القرآن إلى السلوك، أي يحتاج إلى ذاته، بمعنى أنك لكي تكون صوفيًّا لا بد أن تعلم السلوك، ولكي تعلم طريق السلوك لا بد أن تكون صوفيًّا، أليس في هذا دخول في الدور المنطقي! إذا قلنا ذلك فلا شك أن الغزالي يمكن أن يُحيلنا إلى شرحه للأحوال والمقامات في موسوعته «الأحياء» حيث يبدأ الطريق من مستوى السلوك العادي متدرجًا خطوة خطوة إلى الغاية التي ليس وراءها غاية. وكل مرحلة من مراحل السلوك — المقام — تؤدي إلى «حالة» معرفية يتجاوز بها السالك «حالة» سابقة، فينتقل من علم إلى علم في حركة صاعدة أيضًا حتى يتحقق بمعرفة الله تحقُّقًا عيانيًّا كشفيًّا مباشرًا.
ولا شك أننا يمكن أن نستنتج من ذلك التدرج السلوكي المعرفي أن تجاوز حدود القشر في النص والولوج إلى عالم اللب لا بد أن يبدأ من أدنى المستويات في حركة صاعدة وصولًا إلى القمة. هذا العبور من القشر إلى اللب بالتأويل يوازي عملية العروج الخيالية بالقلب من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت. وإذا كانت النقلة من عالم الحس إلى عالم الملكوت تتم عبر منطقة «الخيال» فإن عملية عبور قشر النص إلى لبه بالتأويل تتم أيضًا عبر «الخيال»، ولا شك أن الأحلام والرؤى خير مثال يشرح الكيفية التي يلتقي بها العالمان، بشرح من ثم آليات التأويل والعبور من القشر إلى اللب أو من الصورة إلى المعنى. إن القشر هو الكلمات في مستواها اللغوي واللب هو الدلالة الباطنية العميقة. وكل كلمة في وجود.
إن عالم الخيال — وهو عالم الرؤى والأحلام — عالم وسيط بين عالم الغيب والملكوت وعالم الحس والشهادة. في العالم الأول توجد «المُثُل» المعنوية الروحية، ولا يوجد في العالم الثاني إلا صور هذه «المثل». ولكل صورة في عالم الحس والشهادة «مثالها» الروحي في عالم الغيب والملكوت. وعالم الخيال هو العالم الوسيط الذي تتجسد فيه المثل المعنوية الروحية في أشكال حسية وصور مادية. في مثل هذا التصور الأفلاطوني للعالم يصبح العالم كله أشبه بالحلم أو الرؤيا، أليس الناس نيامًا فإذا ماتوا انتبهوا؟
إن اللغة في مثل هذا التصور تمثل وسيطًا يقوم بتجسيد المعنوي وتصويره. وإذا كان لا بد من تجاوز صور العالم إلى روحه وحقائقه بالانتقال — عبر عملية العروج الخيالي الصوفي — من عالم الحس والشهادة إلى عالم الغيب والملكوت، فلا بد كذلك من الانتقال على مستوى النص من القشر الخارجي الذي هو بمثابة الصورة إلى اللب الذي هو بمثابة المعنى. وهنا يتوازى القرآن — بوصفة نصًّا لغويًّا — مع العالم المادي مع عالم الخيال وتصبح عبارات القرآن بمثابة الأمثلة والصور التي يراها النائم في حلمه، ومن ثم تحتاج إلى «التعبير». إن «تأويل» النص وصولًا إلى معناه «الباطن» الذي هو اللب مماثل لعملية «التعبير» في الأحلام. إنهما مصطلحان يشيران إلى مفهوم واحد في حقيقة الأمر:
«إن كل ما يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعًا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير.
إن كل ألفاظ القرآن تصبح مثل الصور التي يراها النائم في نومه، تصبح صورًا مادية في حاجة إلى اكتشاف المعنى المستكن داخلها. هكذا تتحول اللغة من مجال «الدلالة» إلى أن تكون رموزًا لحقائق متوارية مستكنة في عالم المثل، عالم المعاني والأرواح ويستطيع الغزالي أن يعطينا أمثلة على هذا التصور:
إن ثنائية الصورة والمعنى يمكن التعبير عنها من خلال ثنائيات عديدة أخرى مثل المثال والروح، الحسي والمعنوي، والرمز والمرموز إليه والشاهد والغائب … إلخ. لكن الثنائية الأساسية التي على أساسها يمكن تقبل هذا النسق الفكري كله هي ثنائية الدنيا والآخرة، فالدنيا هي عالم الصور والمثل والحس والرموز والشاهد، والآخرة هي عالم المعاني والأرواح والمرموزات، هي عالم الغيب. وإذا كان كل شيء في هذه الحياة الدنيا زائلًا وفانيًا فمن الطبيعي أن يكون كل ما ينتسب إليها فاقدًا للقيمة والأهمية، فليس المهم هو الصورة بل المعنى، وليس المثال في ذاته هامًّا بل روحه، وليس للرمز قيمة إلا في أنه يومئ إلى المرموز إليه.
وعلينا أن نتقبل ما يُمْليه علينا الغزالي من أن روح الإصبعية هي التقليب، وروح القلم هي الكتابة وذلك على أساس أن «التقليب» ليس مجرد وظيفة من وظائف «الإصبع» بل على أساس أنه حقيقته وروحه. وعلينا أن نتقبل روح القلم وحقيقته دون اهتمام بشكله وصورته ومادته. وإذا كان ذوقنا المعاصر يمكن أن يتفق مع التأويل «الاعتزالي» للإصبع على أساس أنها لفظة استخدمت استخدامًا مجازيًّا يتجاوز الدلالة الحقيقية للفظ، فإن مفهوم الغزالي يكاد يقلب العلاقات الدلالية، فيكون «التقليب» هو الدلالة الحقيقية الروحية ويكون «الإصبع» صورة يمكن أن نقول إنها مجازية. ولا غرابة في مثل هذا «القلب» للعلاقات الدلالية ما دامت تصوُّرات الغزالي كلها للوجود وللنص تقوم على هذا النمط من «التحويل» الذي يشبه القلب.
وإذا اعترض مُعترِض على الغزالي قائلًا إن مقاصد الوحي لا بد أن تكون واضحة بالدلالة اللغوية، لأن الدلالة اللغوية دلالة عامة مشتركة يفهمها الناس، والوحي استهدف هداية البشر جميعًا، فما بالك تُحَوِّل النص إلى رموز لا يدرك مغزاها ودلالتها إلا أقل القليل؟ ثم كيف لنا أن نشاركك «تأويلك» لرموز الوحي زاعمًا أنك اتصلت بعالم المُثُل الروحية وأدركت ما لم ندركه نحن؟ وإذا كان لكل سالك طريق على ما تزعمون، وإذا كان الله يتجلى لكل قلب على قدر هذا القلب وعلى درجة صفائه فما بالك تزعم أن ما أدركته أنت من خلال معراجك هو «الحقيقة» بألف ولام العهد؟ وإذا كانت هذه «الحقيقة» لا يمكن لسواك التأكد من صدقها فما معيار مصداقيتها؟ إزاء مثل هذا الاعتراض قد يحيلنا الغزالي إلى تجربة النوم والأحلام فيقول:
وقد يحيلنا إلى النص ذاته وإلى تفسير الصحابة لبعض الآيات. ولكنه في هذه الإحالة يقوم بعملية «تأويل» أخرى داخل «التأويل»، فهو يحيلنا إلى آية يضرب القرآن فيها مثلًا، لكنه يحول كلمة «المثل» من مفهومها اللغوي البلاغي ويجذبها إلى مفهومه الثنائي عن المثال والروح والصورة والمعنى.
وإذا لم نقتنع بإحالات الغزالي السابقة كلها، لأن الإحالة الأولى تدخل في مجال القضايا الخلافية، أما الإحالة الثانية فتدخلنا معه في خلاف حول فهمه لمفهوم «المثل» فلا يبقى أمام الغزالي إلا أن يطلب من المعترض عليه أن ينتظر معاينة الحقائق بالموت حيث تنكشف له الحقائق وحيث يعلم الناس جميعًا حقائق الأشياء.
إن ثنائية الدنيا والآخرة تستوعب — كما سبقت الإشارة — كل ثنائيات النسق الفكري للغزالي، ومن الطبيعي في مجال النصوص أن يكون انتماء الصورة والمثال إلى الدنيا، في حين يكون انتماء المعنى والروح إلى الآخرة. وإذا كانت ثنائية عالم الحس والشهادة وعالم الغيب والملكوت في هذه الحياة الدنيا تجعل الظهور للأول والغياب للثاني، فإن هذا الوضع ينعكس في الحياة الأخرى حيث يكون الظهور للعالم الثاني والبطون من نصيب العالم الأول. وهذا الانقلاب من الطبيعي أن يحدث على كل مستويات العلاقات الثنائية المتضمنة في إهاب هاتين الثنائيتين، بمعنى أن الظهور يكون للأرواح والمعاني وتكون البطون للأمثلة والصور. وهذا الانقلاب على مستوى النص يبرز الحقائق التي كانت مختفية خلف قشر الألفاظ، وتبرز المرموزات من داخل الرموز، وبعبارة أخرى يصبح الباطن ظاهرًا والمعنى ينكشف وتختفي الصورة. في الآخرة يتحقق «التأويل» أو يأتي «تأويله»، بمعنى أنه ينكشف ويتحقق بانمحاء القشور وزوال الرموز واختفاء الصور.
يكشف لنا الغزالي عن هذا «الانقلاب» على جميع المستويات في تأويله لأحد الأحاديث النبوية وهو بصدد الحديث عن الطهارة، وذلك حيث يقول:
«وخبائث صفات الباطن أهم بالاجتناب، فإنها مع خبثها في الحال مهلكات في المآل، ولذلك قال ﷺ: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب» والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم. والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنَّى تدخله الملائكة، وهو مشحون بالكلاب …
وإذا كانت العلاقة بين المعنى والصورة علاقة تبادلية بحيث يكون الظهور للصورة في هذه الحياة الدنيا بينما يكون الظهور للمعنى في الحياة الأخرى، فمن الطبيعي أن يكون جهد المُؤوِّل جهدًا خارقًا لكي ينفذ من القشر إلى اللب ومن الرمز إلى المرموز إليه. إنه يقوم برحلة لا تقل في صعوبتها عن معراج الصوفي في سعيه لمعانقة الحقيقة، غير أن الصوفي يعانقها على المستوى المعرفي بينما يسعى إليها المُؤوِّل من خلال «النص». وإذا كان هذا العالم مجرد خيال والحقيقة تكمن هناك فإن الوصول إلى الحقيقة عبر النص أو عبر «المعراج» المعرفي هو وصول إلى الدلالة الحقيقية للوجود أو للنص. وإذا كان المعنى الباطن الروحي هو الدلالة الحقيقية، فلا شك أن الصورة المادية الظاهرة هي الدلالة المجازية التي تومئ إلى الحقيقة من طرف خفي. إن العالِم الحقيقي هو الذي يخوض بحار النص ويتجاوز سواحله إلى أعماق موجه لكي يظفر بالمعنى الجوهري الحقيقي المستكن في القشر والصدف والمحار. إن نصوصًا قرآنية يمكن أن تساعد الغزالي — كما ساعدت ابن عربي من بعده — على طرح إشكالية النص من خلال ثنائية الصورة والمعنى. إن قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وكذلك قوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ يساعدان الغزالي على تأكيد المفارقة بين الصورة والمعنى على مستوى الدلالة في النص. ذلك أن الآيتين — من منظور التأويل الصوفي — تؤكدان أن ثمة صورة مرئية هي الرمي من محمد والقتال بأيدي المسلمين، ولكنهما من جانب آخر يؤكدان أن حقيقة الرمي كانت بالله وحقيقة التعذيب كانت بالله، فها هنا — فيما يرى الغزالي — صورة وحقيقة، فالرامي في الآية الأولى في الحقيقة هو الله، وإن كان الرمي ظاهريًّا فعل محمد، والمعذب في الحقيقة في الآية الثانية هو الله وإن كان القتال ظاهرًا بيد المسلمين. وهذه المفارقة بين الظاهر والباطن — على مستوى ظواهر النصوص — لا يدركها إلا الصوفي المُتحقِّق:
هكذا يتحول النص إلى «سر» مقفل يحتاج إلى جهد خارق لكي تنفتح مغالقه ويكشف عن كنوزه وأسراره. وهكذا يكون هذا «السر» بمثابة شفرة خاصة لا يطمح الإنسان العادي — المقصود بالوحي وبالشريعة — إلى الاقتراب من حدوده إلا بشق الأنفس. ومن أجل تأكيد الطبيعة «السرية» للنص يستخدم الغزالي صورًا لغوية منتزعة من مجال طبيعي كالبحر والسواحل والشواطئ والجزر والأمواج واليواقيت والعود والترياق. وهذا الاستخدام يكشف لنا عن طبيعة فهم الغزالي للعلاقة بين الظاهر والباطن على مستوى اللغة عمومًا لا على مستوى النص القرآني فحسب، وهي العلاقة التي قلنا من قبل إن الانتقال فيها يجب أن يكون من المجاز إلى الحقيقة، ما دامت الحقيقة هي الروح الباطنة التي ستكون صورة ظاهرة في الحياة الأخرى. إن حركة الدلالة المعكوسة هذه يمكن أن تتضح بمناقشة الصور اللغوية التي يستخدمها الغزالي في حديثه عن علوم القرآن.
(٦) التأويل (من المجاز إلى الحقيقة)
إن القرآن بحر، ساحله علوم القشر والصدف وأعماقه الطبقة العليا من علوم اللب، وليس على الساحل من البحر إلا بعض الأصداف الخالية والرمال، في حين أن البحر مليء بالجواهر واللآلئ والدرر، وكلما غاص الإنسان في أمواج هذا البحر كلما استخرج من جواهره ودرره. وعلى قدر التعمق في البحر على قدر ما يستخرج الإنسان. وليس القارئ المستغرق في قراءته والمهتم بطرائق الأداء وعلوم القشر والصدف إلا طوافًا بهذا الساحل دون أن يعثر على شيء. وغاية الغزالي تنبيه هذا القارئ من رقدته، أو تنبيهه عليها:
في هذا النص نجدنا إزاء صورة مركبة لكنها دالة على مفهوم الغزالي للقرآن ولعلومه، فالقرآن هو البحر المحيط الذي تكمن في أعماقه الجواهر والدرر ومن ثم لا يعثر عليها إلا الغواصون وهم السالكون. وثم جزائر في هذا البحر مليئة بالأطايب ومن حيواناتها يمكن استخراج الترياق والمسك. وعلى السواحل من هذا البحر المحيط يمكن التقاط العنبر والعود. ومن هذا البحر تتفرع العلوم كالأنهار والجداول. وليست هذه الصورة المركبة مجرد تعبير بلاغي بل هي طرح لمفهوم متكامل ومن الضروري أن نتوقف عند دلالة جزئيات هذه الصورة كما يشرحها الغزالي نفسه:
إن علاقة «القلب والتحويل» هذه بين الرمز والمرموز إليه ليست علاقة وضعية اعتباطية، بل هي علاقة ذاتية نابعة من اكتشاف المعنى والدلالة المشتركة بين الرمز والمرموز إليه. إن معنى «الكبريت الأحمر» القلب والتحويل، ومعنى المعرفة هو القلب والتحويل أيضًا، فنحن إذن إزاء عبارات مختلفة ترتد من حيث دلالتها ومعناها إلى أصول واحدة. وإذا كان عالَم «المعنى» ينتمي إلى عالم الغيب والملكوت في حين تنتمي العبارات إلى عالم الملك والشهادة، يكون المعنى هو الأساس، وتكون المعاني المدلول عليها في عالم الغيب والملكوت هي الأحق بأن تطلق عليها العبارات الدالة على مثيلتها في عالم الملك والشهادة. وهذا معنى قول الغزالي «إن هذا الاسم لهذا المعنى أحق وعليه أصدق فاسم «الكبريت الأحمر» أحق بأن يطلق على معرفة الله من مثيله في عالم الكيمياء، فالأجدر بالاعتبار قلب القلوب وتحويلها لا قلب الأعيان الفانية الزائلة».
من الطبيعي بعد ذلك كله أن يكون تصنيف الغزالي لعلوم القرآن باستخدام ثنائية القشر واللب أو الصدف والجواهر تصنيفًا حقيقيًّا حرفيًّا من منظوره على الأقل، وأن يكون استخدام صور الكبريت الأحمر واليواقيت والدرر والزبرجد والعنبر والعود والترياق والمسك استخدامًا غير مجازي أو كنائي، فهذه الصور — أو بالأحرى المعاني — تشير إلى حقائق القرآن إشارة مباشرة، في حين أن إشارتها إلى مضمونها الدنيوي المادي هي الإشارة التصويرية غير المباشرة، هي الإشارة المجازية أو الكنائية.
وإذا كان «الكبريت الأحمر» — كما سبقت الإشارة — هو معرفة الله ويتفرع عنه «الياقوت الأحمر» إشارة إلى علم الذات و«الياقوت الأكهب» إشارة إلى علم الصفات، و«الياقوت الأصفر» إشارة إلى علم الأفعال، فإن القسم الثاني من علوم القرآن وهو «تعريف طريق السلوك إلى الله تعالى» يشار إليه باسم «الدر الأزهر»، ويشار إلى القسم الثالث الخاص بتعريف الحال باسم «الزمرد الأخضر». وإذا كانت هذه العلوم الثلاثة هي علوم السوابق والأصول المهمة فمن الطبيعي أن يكون الكبريت الأحمر والياقوت والدر والزبرجد في أعماق أمواج بحر القرآن دون السواحل أو الجزر.
ويمضي الغزالي في الكشف عن أسرار لغته فيكشف عن معنى «الترياق الأكبر» وهو الرمز الذي أشار به إلى علم الكلام، وهو القسم الخامس من أقسام القرآن. وقد سبقت لنا الإشارة إلى أن الغزالي قد حصر مهمة هذا العلم، وبالتالي مهمة الآيات التي تومئ إليه، في حماية العقائد من هجوم الكفار والمبتدعة. لذلك كان استخدام «الترياق الأكبر» شديد الدلالة على مهمة هذا العلم من منظور الغزالي:
وإذا انتقلنا إلى مجال علم الفقه وجدنا أن الغزالي يماثل بينه وبين «المسك الأذفر». ونلاحظ هنا أن الغزالي لم ينظر إلى مهمة العلم ووظيفته بقدر ما نظر إلى ما يكسبه لصاحبه من سمعة ومكانة، فالمسك الأذفر:
وقصص الأمم البائدة وأحوال الجاحدين والناكبين عن الطريق المستقيم يمكن مماثلتها بالعود، من حيث إنها في ذاتها لا يُنْتَفع بها، لكن يُنْتَفع بما فيها من تنبيه واعتبار، وكذلك العود هو في ذاته لا نفع فيه:
«ولكن إذا ألقي على النار حتى احترق في نفسه تصاعد منه دخان منتشر فينتهي إلى المشام فيعظم نفعه وجدواه، ويطيب مورده وملقاه فإن كان في المنافقين وأعداء الله أظلال كالخشب المسندة لا منفعة لها ولكن إذا نزل بها عقاب الله ونكاله من صاعقة وخسف وزلزلة حتى يحترق ويتصاعد منه دخان فينتهي إلى مشام القلوب فيعظم نفعه في الحق على طالب الفردوس الأعلى وجوار الحق سبحانه وتعالى والصرف عن الضلالة والغفلة واتباع الهوى فاسم العود به أحق وأصدق أم لا؟ فاكتف من شرح هذه الرموز بهذا القدر واستنبط الباقي من نفسك وحل الرمز فيه إن أطقت وكنت من أهله:
في هذه المقارنات والمماثلات يصر الغزالي على أن آيات القرآن أحق بهذه الأسماء من مسمياتها الفعلية في عالم الخلق. والمعيار الذي يستند إليه في ذلك أن الروح والمعنى الحقيقي لهذه الألفاظ ينطبق على آيات القرآن وعلى العلوم المستفادة منها. فإذا أضفنا إلى ذلك تصوره لعالم الخلق هذا بأنه عالم من الصور والخيالات والأمثال تكمن حقيقته ومعناه في عالم الغيب والملكوت، أمكن لنا أن نقول إن ما نعتبره نحن علماء الظاهر مجازًا يكون حقيقة في نظر الغزالي، وما هو مجاز عنده يكون حقيقة عندنا، وإذا كانت ألفاظ الياقوت والدر والترياق والعود والعنبر في نظرنا ذات دلالة حقيقية من حيث إشارتها إلى مسمياتها المعروفة، فإنها في الدلالة على هذه المسميات ذاتها تكون في نظر الغزالي ذات دلالة مجازية، والعكس صحيح. ومثل هذا القلب الدلالي — كما سبقت الإشارة — لا يتعارض مع عمليات التحويل والقلب المستمرة التي يقوم بها الغزالي في تصوراته كلها للوجود والحقيقة والنص والدلالة.
وغني عن الإشارة أن الغزالي يتعامل مع اللغة هنا بوصفها رموزًا لا بوصفها نظامًا رمزيًّا، أي بوصفها مجموعة من الألفاظ ذات بُعدين أحدهما حقيقي هو المعنى الروحي الملكوتي والآخر قشرة خارجية أو رمز وهو الدلالة اللغوية المألوفة. في مثل هذا التصور ليس المهم هو طبيعة النص، فأي نص يمكن أن يكون قابلًا للتأويل الرمزي وفي المقابل يمكن استخدام الألفاظ لا للإشارة إلى مدلولها اللغوي المعروف، بل للإشارة إلى معناها الملكوتي مباشرة. وهذا ما يفعله الغزالي حين يقسم آيات القرآن إلى جواهر ودرر وزمرد إلخ. إن الغزالي هنا لا يَصُكُّ لغته الخاصة التي تحتاج إلى الشرح والتوضيح وعمل ما يشبه المعجم الخاص لها — كما هو واضح في كتابه — بل الأحرى القول إنه يحاول أن يحاكي لغة القرآن من حيث تصوره لطبيعتها الرمزية. لذلك يقرن الغزالي بين شرحه للمفردات التي يستخدمها في التعبير عن أقسام القرآن وبين طريقة التعبير في القرآن.
(٧) العامة والخاصة (الظاهر والباطن)
وقد كان من المستحيل على الغزالي أن يجمع بين هذين النسقين الفكريين إلا من خلال ثنائية الخاصة والعامة حيث يكون في العقائد الأشعرية غُنْيةٌ للعوام تكفي لتحقيق خلاصهم الأخروي، بينما يستطيع الخاصة تجاوز هذا الأفق — أفق السلامة من العذاب والرضا بالنعيم المادي — إلى آفاق الفوز بالنعيم الحقيقي، نعيم المعرفة والفناء في المطلق.
وإذا كان هذان الطريقان هما طريقا الخلاص الوحيدان في نظر الغزالي فمن الطبيعي أن يكون نصيب كل الفرق من معتزلة وشيعة وخوارج، بالإضافة إلى الفلاسفة، هو الهلاك المُحقَّق. وهذا فارق هام بين الغزالي وابن عربي الذي يرى أن لكل اجتهاد وجهًا إلى الحقيقة به يتحقق خلاص صاحبه. في نظر الغزالي عليك إما أن تكتفي بعقيدة العوام أو تسلك طريق التصوف، وهو طريق لا يستطيع الوفاء بمتطلباته إلا أقل القليل من البشر وهم الخاصة. فإذا سلكت مسلك أهل العقل من معتزلة أو فلاسفة لفهم الواقع والوجود والشريعة فأنت هالك لا محالة. هنا نجد الغزالي المتمسك بالتفسير الحرفي لظواهر آيات القيامة والحساب والنشر والثواب والعقاب — من منظور أشعري — يدين الفلاسفة لوقوفهم عند ظواهر هذه الآيات والأحاديث، وهو وقوف انتهى بهم — فيما يرى الغزالي — إلى الكفر والإلحاد والهلاك المحقق.
إن هذين الطريقين المتاحين أمام البشر للخلاص يؤدي كل منهما إلى نمط من الخلاص مغاير للآخر وإن اتفقا في «الاسم». كلاهما يؤدي إلى «الجنة»، لكن للجنة بوصفها لفظًا لغويًّا ظاهرًا وباطنًا، الظاهر هو الدلالة العرفية اللغوية المألوفة، وهي الدلالة المجازية من منظور الغزالي، وهي الجنة التي وُصِفَت في القرآن بصفات مادية بكل ما فيها من لذات مادية. والمعنى الملكوتي الباطن — المعنى الحقيقي — هو «المعرفة». يقول الغزالي في معرض حديثه عن سورة «الفاتحة» ودلالتها على ثمانية أنماط من علوم القرآن.
فتنبَّهْ لهذا النمط من التصرف في قوارع القرآن وما يتلوه عليك ليغزر علمك وينفتح فكرك فترى العجائب والآيات وتنشرح في جنة المعارف وهي الجنة التي لا نهاية لأطرافها إذ معرفة جلال الله وأفعاله لا نهاية لها، فالجنة التي تعرفها خلقت من أجسام فهي وإن اتسعت أكنافها فمتناهية إذ ليس في الإمكان خلق جسم بلا نهاية فإنه محال. وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البُله وإن كنت من أهل الجنة.
إن غاية ما يطمح إليه المسلم العادي إذن هو الوصول إلى «الجنة» الحسية بكل ما تمتلئ به من لذائذ حسية من مأكل ومشرب ونكاح، على حين يجتاز الصوفي العارف هذه الآفاق إلى لذائذ ومُتَع أخرى لا تكاد تقاس إليها لذائذ الجنة الحسية ومتعها، إنه يتنعم في جنان العرفان ويتمتع بمداومة النظر إلى وجه الله ومعاينة الحقيقة. وشتان بين لذة ولذة، وبين جنة وجنة. إن العارف في جنة معرفته ينظر إلى تلذذ العوام بالجنة الحسية نظرة الرجل العاقل إلى الصبيان اللاهين. ويكاد الغزالي أن يكرر بعبارات أخرى ما قالته رابعة العدوية حيث سمعت قارئًا للقرآن يقرأ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ فتعجبت من شغلهم عن الله بلذائذ الجنة. يقول الغزالي:
«واعلم أنه لو خُلِق فيك شوق إلى لقاء الله وشهوة إلى معرفة جلاله أصدق وأقوى من شهوتك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة. واعلم أن هذه الشهوة خُلقت للعارفين ولم تُخلق لك، كما خُلقت شهوة الجاه «للرجال» ولم تُخلق للصبيان، وإنما للصبيان شهوة اللعب فقط. فأنت تتعجب من الصبيان في عكوفهم على لذة اللعب وخلوهم عن لذة الرئاسة. والعارف يتعجب منك في عكوفك على لذة الجاه والرئاسة فإن الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب. ولما خلقت هذه الشهوة للعارفين كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم. ولا نسبة لتلك اللذة إلى لذة الشهوات الحسية فإنها لذة لا يعتريها الزوال، ولا يُغيِّرها الملال، بل لا تزال تتضاعف وتترادف وتزداد بزيادة المعرفة والأشواق فيها بخلاف سائر الشهوات إلا أن هذه الشهوة لا تُخْلَق في الإنسان إلا بعد البلوغ أعني البلوغ إلى حد الرجال. ومن لم تخلق فيه فهو إما صبي لم تكمل فطرته لقبول هذه الشهوات، أو عنين أفسدت كدورات الدنيا وشهواتها فطرته الأصلية. فالعارفون لما رزقوا شهوة المعرفة ولذة النظر إلى جلال الله فهم في مطالعتهم جمال حضرة الربوبية في جنة عرضها السموات والأرض بل أكثر وهي جنة عالية قطوفها دانية فإن فواكهها صفة ذاتهم وليست مقطوعة ولا ممنوعة إذ لا مضايقة للعارف.
إن المفهوم «الطبقي» واضح هنا في استخدام لفظ «التسخير» فالعمال مسخرون في خدمة الملوك لإقامة ملك الدنيا، و«أهل الدنيا» مسخرون لخدمة «أهل الآخرة» لكي يستقيم لهم سلوك الطريق. وفي هذا المفهوم يبدو حرص الغزالي على المحافظة على النسق الاجتماعي القائم ما دام هو النسق الوحيد القادر على ضمان الخلاص لأهل الآخرة. ولذلك أيضًا نفهم حرصه على الجمع بين نظامين من العقائد وبين طريقين للتأويل.
(٨) تفاوت مستويات النص
وإذا كان تفضيل بعض أجزاء النص على بعض أمرًا مرفوضًا في إطار الثقافة الإسلامية بشكل عام تتفق عليه كل الفرق والاتجاهات، فإن للغزالي منظورًا آخر يختلف عن هذا الإجماع. يرى الغزالي أن آيات القرآن وسوره تتفاضل من حيث يتفاوت مضمونها. وإذا كان علماء الإسلام على تباين اتجاهاتهم لم يستطيعوا أن يزجوا بثنائية اللفظ والمعنى في مناقشتهم لإعجاز القرآن، رغم انطلاقهم من هذه الثنائية في مناقشاتهم النقدية كافة وفي تصوراتهم النظرية أيضًا، فإن ثنائية القشر واللب في تصور الغزالي — وهي عبارة أخرى عن ثنائية اللفظ والمعنى — لا تكف عن ممارسة فعاليتها.
وإذا قلنا للغزالي إن هذه الأخبار حتى مع افتراض صحتها من حيث السند وسلامتها من حيث المتن — وهو أمر مشكوك فيه — لا يراد من ألفاظها — أفضل وسيدة وقلب وثلث — معناها الحرفي الذي يتبادر إلى الذهن، بل هي ألفاظ استخدمت استخدامًا مجازيًّا للترغيب في التلاوة ومداومة القراءة، فإن مفهومه للحقيقة والمجاز القائم على العكس والقلب كما سبق أن أشرنا كفيل بأن يجعله يسحب الأرض من تحت أقدامنا. ويساعده على ذلك ويعضد موقفه إن القائل هو الرسول الذي يستخدم الألفاظ استخدامًا دقيقًا، ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه الألفاظ قد وردت على لسانه بحكم الاتفاق.
إن الغزالي يفهم ألفاظ هذه الأخبار فهمًا حرفيًّا، فليس الثلث في تقييم سورة الإخلاص إلا تقديرًا لقيمتها الحقيقية بالنسبة لآيات القرآن التي تزيد على الستمائة آية، وذلك رغم أن آيات السورة أربع آيات فقط. وإذا كان التقدير قائمًا على أساس القيمة والكيف فإن الاعتماد على المعيار الكمي — في نظر الغزالي — دليل على الغفلة وقلة المعرفة. إن المعيار الكمي هو نهج أهل الدنيا وأهل الظاهر، والمعيار الكيفي القيمي هو المعيار الضروري لقياس مستويات النص وإدراك تفاوتها. ويخاطب الغزالي من يحتكم إلى الكم قائلًا:
وواضح في هذا النص أن ثنائية القشر واللب لا تنطبق على البناء الكلي للنص فقط من حيث تقسيمه إلى لفظ ومعنى، بل يمكن أن تنطبق أيضًا على التقسيم الداخلي للنص، فليست العبرة بطول الآية أو قصرها، وليست العبرة بعدد الآيات كثرة وقلة، بل العبرة بالمحتوى الذي تُعبِّر عنه الآيات، فكثير من الآيات تطول، وكثير من السور تكثر آياتها، لكن ما هو أقل في عدد الآيات، وما هو أقصر من حيث الطول قد يكون أكثر قيمة من حيث المحتوى. وليس المحتوى الذي تقاس على أساسه قيمة الآيات والسور إلا العلوم التي سبق أن أسهبنا في شرح ترتيبها عند الغزالي. بناءً على ذلك التقسيم والترتيب تعدل سورة الإخلاص «ثلث» القرآن حقًّا وفعلًا لا مجازًا وتصويرًا.
لقد كان من الضروري للغزالي لكي يجعل من كلمة «ثلث» حقيقة قطعية أن يقوم بالاستناد إلى تقسيم لآيات القرآن إلى ستة أنواع يختص كل نوع منها بعلم خاص. ولم ينتبه إلى أنه في هذا الاستناد يستند إلى تصور «تأويلي» سبق له صياغته، فهو لا يستند إلى حقائق فعلية متفق عليها، حقائق يمكن أن تكون قابلة للاستيعاب والإدراك من كل البشر بحيث يمكن لنا أن نتفق معه على فهمه «الحقيقي» لكلمة «الثلث».
وعلى ذلك لم يلتفت الغزالي إلى تأويله «المجازي» للفظ «الثلث» — ولو تنبه إليه لأنكره ربما — وهو يقول إن سورة الإخلاص «تعدل ثلث الأصول من القرآن كما قال عليه السلام» والرسول لم يقل إنها تعدل «ثلث الأصول من القرآن» بل قال — فيما يروي الغزالي — «ثلث القرآن»، وفارق كبير بين أن تعدل السورة «ثلث القرآن» وبين أن تعدل «ثلث الأصول من القرآن». لم ينتبه الغزالي إلى أنه بإضافة كلمة «أصول» إلى المفهوم من الحديث قام بعملية تأويل «مجازية» تتعارض مع ما سبق أن زعمه لنا من أن هذه الألفاظ يراد معناها الحرفي الحقيقي.
ويمضي الغزالي في شرح الألفاظ الأخرى. وإذا كانت سورة الفاتحة قد وُصِفَت بأنها «أفضل القرآن» فما ذلك إلا لأنها تتضمن ثمانية مناهج — أو علوم — رغم إيجازها وقصر آياتها. وعلينا أن نلاحظ أن تقسيم الغزالي لآيات القرآن وللعلوم التي تستنبط منها إلى ستة يتحتم أن يتسع هنا — بالتفريع والاشتقاق — إلى عشرة أقسام، وذلك حتى يمكن استيعاب «الثمانية» التي تتضمنها سورة الفاتحة.
وإن جمعت الأقسام مع شعبها المقصودة في سلك واحد أَلِفْتَها عشرة أنواع: ذكر الذات، وذكر الصفات، وذكر الأفعال (وهي تعريفات القسم الأول الخاص بمعرفة الله).
ويشرح الغزالي آيات السورة على الوجه التالي (انظر الرسم البياني):
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نبأ عن الذات. وقوله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نبأ عن صفة من صفات خاصة، وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما، ثم تتعلق بالخلق وهم المرحومون تعلقًا يؤنسهم به ويشوقهم إليه ويرغبهم في طاعته لا كوصف الغضب لو ذكره بدلًا من الرحمن فإن ذلك يُحزن ويُخوِّف ويقبض القلب ولا يشرحه.
وقوله: الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يشتمل على شيئين: أحدهما أصل الحمد وهو الشكر وذلك أول الصراط المستقيم وكأنه شطره فإن الإيمان العملي نصفان: نصف صبر، ونصف شكر …
وقوله تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ إشارة إلى الأفعال كلها وإضافتها إليه وأوجزُ لفظٍ وأتمُّه إحاطة بأصناف الأفعال لفظ رب العالمين. وأفضل نسبة للفعل إليه نسبة الربوبية فإن ذلك أتم وأكمل في التعظيم من قولك أعلى العالمين وخالق العالمين.
«فأما قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فإشارة إلى الآخرة في المعاد، وهو أحد الأقسام من الأصول مع الإشارة إلى معنى الملك وذلك من صفات الجلال.
وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ يشتمل على ركنين عظيمين، أحدهما: العبادة مع الإخلاص بالإضافة إليه خاصة وذلك هو روح الصراط المستقيم … والثاني: اعتقاد أنه لا يستحق العبادة سواه وهو لباب عقيدة التوحيد، وذلك بالتبري من الحول والقوة ومعرفة أن الله منفرد بالأفعال كلها وأن العبد لا يستقل بنفسه دون معونته فقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ إشارة إلى تحلية النفس بالعبادة والإخلاص.
وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إشارة إلى تزكيتها عن الشرك والالتفات إلى الحول والقوة. وقد ذكرنا أن مدار سلوك الصراط المستقيم على قسمين: أحدهما: التزكية بنفي ما لا ينبغي، والثانية: التحلية بتحصيل ما ينبغي، وقد اشتمل عليها كلمتان من جملة الفاتحة.
وقوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ سؤال ودعاء وهو مخ العبادة، … وهو تنبيه على حاجة الإنسان إلى التضرع والابتهال إلى الله تعالى وهو روح العبودية، وتنبيه على أن أهم حاجاته الهداية إلى الصراط المستقيم إذ به السلوك إلى الله تعالى كما سبق ذكره.
وهكذا نرى أن الغزالي كان عليه في سبيل تحقيق المعنى الحرفي لكون سورة الفاتحة أفضل القرآن ألا يكتفي بتوسيع الأقسام الستة للقرآن بحيث تصبح عشرة فقط، بل كان عليه أيضًا أن يقوم بتأويل دلالات الآيات بحيث تتسع كل منها للإشارة إلى أحد هذه الأنواع العشرة. ومن اللافت للانتباه أن يجعل الغزالي «الحمد» أصل الصراط المستقيم وذلك بناءً على تصوره الصوفي للإيمان العملي بأنه يقوم على ساقين: أحدهما الصبر والثاني الشكر. وكذلك من اللافت أن يتحول الدعاء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ إلى التعبير عن الصراط المستقيم أيضًا بجانبيه من التزكية والتحلية، ثم يجعل اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دعاء هو مخ العبادة، وكان الأقرب إلى السياق أن تعبر إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عن العبادة بالمعنى الشامل وأن يكون اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دالة على ما تنص عليه لفظًا. ثم يكون تأويله للآية الأخيرة من السورة مفاجئًا حيث يجعلها دالة على القصص القرآني لمجرد ذكر الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وذكر الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. ولا شك أن إدخال البسملة في مجال السورة هو الذي جعل الغزالي يتوقف عند الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في صلب السورة محاولًا ربطها بالآية السابقة والآية اللاحقة، ولو فصل الغزالي «البسملة» لكانت الآية في صلب السورة دالة على الصفات.
إن غاية الغزالي من كل هذه العمليات التأويلية جذب السورة وتوسيع دلالاتها وإشاراتها لكي تكون «أفضل القرآن» بالمعنى الحرفي للأفضلية وهو الجمع لفنون كثيرة من أنواع العلوم التي يمكن أن تستنبط من القرآن.
ونفس المسلك يطبقه الغزالي على آية الكرسي ليثبت أنها «سيدة القرآن» بالمعنى الحرفي للسيادة. يقول:
إن السيادة هنا تعني أن مضمون آية الكرسي يتركز على علم العلوم، أرقى العلوم من حيث القيمة، وهو العلم الأول في تصنيف الغزالي، وهو علم معرفة الله. وإذا كان العلم ينقسم إلى ثلاثة فروع هي علم الذات وعلم الصفات وعلم الأفعال فإن آية الكرسي تضم هذه الفروع الثلاثة. وإذا كانت سورة الإخلاص، قد عدلت «ثلث» القرآن مع أن مضمونها قد اختص بعلم «الذات» فقط، فما أحرى آية الكرسي التي اتسع مضمونها للذات والصفات والأفعال أن تكون «سيدة القرآن».
وقد ذكرنا لك أن معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته هي المقصد الأقصى من علوم القرآن وأن سائر الأقسام مرادة له، وهو مراد لنفسه لا لغيره فهو المتبوع وما عداه التابع. وهي سيدة الاسم المقدم الذي يتوجه إليه وجوه الأتباع وقلوبهم فيحذون حذوه وينحون نحوه ومقصده، وآية الكرسي تشمل على ذكر الذات والصفات والأفعال ليس فيها غيرها:
«قوله اللهُ إشارة إلى الذات.
وقوله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إشارة إلى توحيد الذات.
وقوله الْحَيُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى صفة الذات وجلاله.
فإن معنى القيوم هو الذي يقوم بنفسه ويقوم به غيره فلا يتعلق قوامه بشيء، ويتعلق به قوام كل شيء، وذلك غاية الجلال والعظمة.
قوله لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ تنزيه وتقديس له عما يستحيل عليه من أوصاف الحوادث، والتقديس عما يستحيل أحد أقسام المعرفة، بل هو أوضح أقسامها.
وقوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى الأفعال كلها وأن جميعها منه مصدره وإليه مرجعه.
وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر وأن من يملك الشفاعة فإنما يملك بتشريفه إياه والإذن فيه، وهذا نفي للشركة عنه في الملك والأمر.
وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ إشارة إلى صفة العلم وتفصيل بعض المعلومات والانفراد بالعلم حتى لا علم لغيره من ذاته. وإن كان لغيره علم فهو من عطائه وهبته على قدر إرادته ومشيئته.
وقوله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته، وفيه سر لا يحتمل الحال كشفه، فإن معرفة الكرسي ومعرفة صفاته واتساع السموات والأرض معرفة شريفة غامضة، ويرتبط بها علوم كثيرة.
وقوله: وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا إشارة إلى صفات القدرة وكمالها وتنزيهها عن الضعف والنقصان.
وقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ إشارة إلى أصلين عظيمين في الصفات، وشرح هذين الوصفين يطول.
في هذه المقارنات التي يعقدها الغزالي بين آية الكرسي وبين بعض الآيات والسور نجده يُلِحُّ دائمًا على قيمة المضمون الذي تدل عليه الآية، أو تشير إليه بالتأويل الصوفي. وإذا كانت آية الكرسي قد جمعت بين الإشارة إلى الذات والصفات والأفعال وبين التوحيد والتقديس، كما أنها تضمنت الاسم الأعظم فلا شك أنها تستحق أن تتبوأ مكان السيادة على آيات القرآن. ويبقى بعد ذلك سؤال ملح: لماذا هذا الإصرار على أن لبعض السور والآيات مكانة خاصة تتفوق بها على ما سواها من السور والآيات؟
وللإجابة على هذا السؤال لا بد أن نستحضر كل تصورات الغزالي للوجود والحياة ولغاية الدين وللنص ولوظيفته. وقد سبقت لنا الإشارة إلى أن مفهوم الغزالي للنص قد حوَّله إلى شفرة خاصة لا يستطيع مقاربة فك رموزها إلا الصوفي العارف المتحقِّق. ونتيجة لذلك لم يبق للإنسان العادي — المسلم العامي — إلا أن يقنع بالتلاوة وفهم المستوى الظاهر من دلالة النص، وهو المستوى النقلي أو ما عرف بالتفسير بالمأثور. وأصبح على الصوفي العارف أن يُزوِّد هذا الإنسان العادي ببعض جواهر النص القليلة لعله بالنظر إليها — دون امتلاكها بالوعي والفهم والتأويل — يلمح بعض بريقها، ولعل هذا البريق الخاطف يجذبه إلى سلوك الطريق الصوفي، طريق الخلاص والنجاة والفوز الحقيقيين. لذلك يحرص الغزالي بعد هذا البيان لبعض الآيات والسور ذات المكانة الخاصة في النص أن يسرد الآيات الجواهر الدالة على معرفة الله في سلك واحد، ثم يضم في سلك آخر الآيات الدرر الدالة على الطريق المستقيم. ويشرح لنا اقتصاره على هذين النمطين بقوله.
وهكذا يفتت النص إلى مهم وإلى أقل أهمية، إلى أصول وزيادات وتكميلات. ويكفي أن حصر الغزالي للجواهر والدرر من آي القرآن قد أدى إلى استبعاد ست عشرة سورة كاملة، تعد — في ظل هذا التصور — من الزيادات التي لا تحتوي على الأصول ولو بالإشارة. ومن جهة أخرى لا تصل نسبة الآيات الدالة على الأصول المهمة في القرآن إلى ربع مجموع آيات القرآن.
ولا شك أن مكمن الخلل في هذا التصور راجع إلى مشروع الغزالي كله، وهو مشروع قلب — كما سلفت الإشارة — كل شيء بدءًا من الوجود وانتهاء إلى النص. ويكفي أنه مشروع حوَّل النص إلى مجموعة من الأسرار الغامضة تتفاوت في أهميتها وفي قيمتها. ويكفي أن تصورات الغزالي كلها — رغم ما لقيته بعد ذلك من شيوع وانتشار — تعارض المقاصد الأولية للوحي وللشريعة معًا. إن ما لقيه فكر الغزالي من ذيوع وقابلية في الأجيال التالية له حتى صار نسقه الفكري مهيمنًا على الخطاب الديني المسيطر هيمنة شبه تامة، أمر يحتاج إلى التحليل والتفسير. ويكفينا هنا أن نقول إن جانبًا من هذا الذيوع يمكن تفسيره بثنائية النسق الفكري الذي يطرحه الغزالي حيث قدَّم للعامة وسيلة للخلاص بسلوك طريق الآخرة، وقدَّم للطبقات المسيطرة — للحكام والسلاطين — أيديولوجية النسق الأشعري بكل ما ينتظم في هذا النسق من تبريرية وتلفيقية ليس هنا مجال مناقشتها. لم يكن يمكن للنسق الغزالي أن يهيمن ويسيطر إلا والواقع الاجتماعي السياسي للعالم الإسلامي يعاني التفسخ الداخلي بين طبقات الأمة، وهو تفسخ لم يحسمه صراع حقيقي اجتماعي أو فكري، لأن هذا التفسخ قد زامنته سيطرة المستعمر وتحالفه مع قوى الاستغلال الداخلية في الأوطان الإسلامية. في ظل هذه الأزمة المركبة ما زال فكر الغزالي يُقدِّم الغذاء والدواء، بتبرير الواقع وتأجيل الحل والخلاص إلى ما بعد الموت.
ولا شك أن استخدام الغزالي لمفردات الجواهر والدرر واليواقيت للدلالة على أقسام القرآن يمكن أن تعد من منظور هذا التحليل وسائل وأدوات تعويضية لأهل الآخرة من جانب ولعوام المسلمين من جانب آخر. ولا شك أن هذا كان مقدمة للتعامل مع النص المكتوب — المصحف — بوصفه «شيئًا» ثمينًا في ذاته بصرف النظر عن القدرة على قراءته ناهيك عن فهمه. هكذا تحول النص تدريجيًّا إلى «شيء» ثمين في ذاته، وتم «تشييئه» في الثقافة فصار حلية للنساء ورقية للأطفال وزينة تُعَلَّق على الحوائط وتُعرض إلى جانب الفضيات والذهبيات.
اسم السورة | الآيات الجواهر | عددها | ملاحظات | الآيات الدرر | عددها | ملاحظات |
---|---|---|---|---|---|---|
(١) الفاتحة | ١-٧ | ٧ | ||||
(٢) البقرة | ٢٢، ٢٩، ٣٣، ١٠٧، ١١٥–١١٧، ١٣٧-١٣٨، ١٦٣-١٦٤، ١٨٦، ٢٥٥-٢٥٦ | ١٤ | ١–٥، ٢١، ٤٠–٤٥، ٧٤-٧٥، ٨٣، ١١٢، ١٥٢–١٥٧، ١٦٨-١٦٩، ١٧٧، ١٩٤-١٩٥، ٢١٨، ٢٣٥، ٢٦١-٢٦٢، ٣٧٨–٣٨١، ٣٨٤–٣٨٦ | ٣٨ |
ص١٠٩ عدد الآيات ٤٦ |
|
(٣) آل عمران | ١–٦، ١٨-١٩، ٢٦-٢٧، ٧٣-٧٤، ١٨٩–١٩٢ | ١٦ |
ص٥٤ عدد الآيات ١٣ |
٧–٩، ١٤–١٧، ٢٨، ٣١-٣٢، ٨٣، ٩٢، ١٠٢–١٠٤، ١١٣–١١٧، ١٣٣–١٣٦، ١٢٨-١٢٩، ١٤٥، ١٥٩، ١٨٠، ١٨٨، ٢٠٠ | ٣١ |
ص١١٢ عدد الآيات ٣٤ |
(٤) النساء | ١٧١-١٧٢ | ٢ | ١، ٢٦–٢٨، ٣١-٣٢، ٣٦–٤١، ٤٨–٤٩، ٥٨-٥٩، ٦٤-٦٥، ٦٩-٧٠، ٧٩–٨٣، ٨٥–٨٧، ٩٤–٩٦، ١٠٣–١٠٧، ١١٠–١١٦، ١٢٥-١٢٦، ١٢٩، ١٤٦–١٤٩، ١٦٢، ١٧٠-١٧١ | ٥٣ |
ص١١٦ عدد الآيات ٥٩ |
|
(٥) المائدة | ١٧، ٤٠، ٩٧–٩٩، ١١٦–١٢٠ | ١٠ | ٢-٣، ٨-٩، ٣٥، ٤٩-٥٠، ٨٣–٨٥، ٩٣، ١٠٥ | ١٢ | ||
(٦) الأنعام | ١–٣، ١٣–١٨، ٣٨، ٤٦–٤٧، ٥٩–٦٥، ٧٣–٧٩، ٩٥–١٠٤، ١١٥، ١٣٣، ١٤١-١٤٢، ١٦٢–١٦٥ | ٤٤ |
ص٥٦ عدد الآيات ٤٥ |
٣٢، ٤٤-٤٥، ٥٢–٥٤، ٦٨-٦٩، ٨٢، ١٢٠، ١٢٥–١٢٧، ١٥١–١٥٣، ١٦٠ | ١٧ | |
(٧) الأعراف | ١٠-١١، ٤٣، ٥٤–٥٨، ١٤٣، ١٨٥ | ١٠ | ٢٩، ٣١، ٩٦، ١٦٥، ٢٠٣–٢٠٦ | ٨ | ||
(٨) الأنفال | ١–٤، ٢٤–٢٨، ٥٣ | ١٠ |
ص١٢٦ عدد الآيات ١١ |
|||
(٩) التوبة | ٣١–٣٣، ١١٦ | ٤ | ١٧، ٣٣، ٣٧، ٧١، ٩٩، ١٠٣-١٠٤، ١١٠-١١١، ١٢١، ١٢٧-١٢٨ | ١٢ | ||
(١٠) يونس | ٣–٦، ٣١-٣٢، ٦١، ٦٧-٦٨ | ١٨ | ٧–١٠، ٢٢–٢٦، ٥٥–٥٨، ٦٢–٦٥ | ١٧ |
ص١٢٨ عدد الآيات ١٨ |
|
(١١) هود | ٤–٦، ٣٤، ٥٦-٥٧، ١١٨–١٢٣ | ١٢ |
ص٦٤ عدد الآيات ١١ |
١–٣، ٩–١١، ١٤–١٦، ٦١، ٨٤–٨٧، ١١٠–١١٥ | ٢٠ | |
(١٢) الرعد | ١–٤، ٨–١٠، ١١–١٨، ٣٨–٤٣ | ٢١ |
ص٦٥ عدد الآيات ١٩ |
١٧–٢٢، ٢٦–٢٩ | ١٠ |
ص١٣٢ عدد الآيات ٨ |
(١٣) إبراهيم | ١-٢، ٣٢–٣٤، ٤٨–٥٢ | ١٠ | ٢٤–٢٧، ٣٨–٤١ | ٨ |
ص١٣٣ عدد الآيات ٦ |
|
(١٤) الحجر | ١٩–٢٧ | ٩ | ٨٥–٨٩، ٩٧–٩٩ | ٨ |
ص١٣٣ عدد الآيات ٦ |
|
(١٥) النحل | ١–٣٣، ٤٨–٥٥، ٦٥–٧٢، ٧٧–٨١، ٩٣ | ٤٥ |
ص٦٩ عدد الآيات ٤٩ |
٦١، ٦٤، ٨٩–٩١، ٩٦–١٠٠، ١٢٥–١٢٨ | ١٤ | |
(١٦) بني إسرائيل (الإسراء) | ١٢–١٥، ٤٢–٤٤، ٧٠، ١١١ | ٩ | ٢٣–٣٩، ٧٨–٨٥، ١٠٧–١١٠ | ٢٩ | ||
(١٧) الكهف | ٢٨، ٣٢–٤٦، ١٠٧–١١٠ | ٢٠ |
ص١٣٧ عدد الآيات ١٩ |
|||
(١٨) مريم | ٩٣–٩٥ | ٣ | ٣٩–٤٠، ٧٦، ٩٦–٩٨، ٥٨–٦٠ | ٩ | ||
(١٩) طه | ١–٨، ٤٩–٥٦، ١٠٨–١١١ | ٢٠ |
ص٧٤ عدد الآيات ٩ |
١٣–١٧، ٧٢–٧٥، ١٢٤–١٣٢ | ١٨ |
ص١٣٩ عدد الآيات ١٩ |
(٢٠) الأنبياء | ١٦–٣٥ | ٢٠ |
ص٧٥ عدد الآيات ٢١ |
١–٣، ١٠٥–١١٢ | ١١ |
ص١٤١ عدد الآيات ١٠ |
(٢١) الحج | ٥–٧، ١٨، ٦١–٦٦، ٧٠، ٧٣–٧٦ | ١٥ |
ص٧٦ عدد الآيات ١٦ |
١١–١٤، ٣٢–٣٥، ٣٧-٣٨، ٤١، ٥٤، ٧٧-٧٨ | ١٤ |
ص١٤١ عدد الآيات ١٥ |
(٢٢) المؤمنون | ١٢–٢٢، ٧٨–٩٢، ١١٥–١١٨ | ٣٠ |
ص٧٨ عدد الآيات ٢٩ |
١–١١، ٥١–٦١ | ٢٢ | |
(٢٣) النور | ٣٥–٣٧، ٤١–٤٥، ٦٤ | ٩ | ١٩–٢٢، ٣٦–٤٠، ٥١-٥٢ | ١١ |
ص١٤٤ عدد الآيات ١٢ |
|
(٢٤) الفرقان | ١-٢، ٤٥–٤٩، ٥٣-٥٤، ٥٨–٦٢ | ١٤ | ٦٣–٧٧ | ١٥ | ||
(٢٥) الشعراء | ٢٨–٣٩ | ١٢ | ٢١٣–٢٢٧ | ١٥ |
ص١٤٦ عدد الآيات ١٤ |
|
(٢٦) النمل | ٢٥-٢٦، ٦٠–٦٥، ٧٣–٧٥، ٧٨-٧٩ | ١٣ | ١–٦، ٨٩–٩٣ | ١١ | ||
(٢٧) القصص | ٦٨–٧٣، ٨٨ | ٧ | ٦٠-٦١، ٧٧، ٨٣-٨٤ | ٥ | ||
(٢٨) العنكبوت | ١٩–٢٢، ٦٠–٦٤ | ٩ | ٤١–٤٥، ٥٦-٥٧ | ٧ | ||
(٢٩) الروم | ١٧–٢٧، ٤٠، ٤٦، ٤٨–٥٠، ٥٤ | ١٧ | ٣٠-٣١، ٣٦–٣٨ | ٥ | ||
(٣٠) لقمان | ١٠، ٢٠، ٢٦–٣١ | ٨ | ١٦–١٩، ١٢، ٣٣-٣٤ | ٧ |
ص١٤٩ عدد الآيات ٩ |
|
(٣١) السجدة | ٤–٩، ٢٧ | ٧ | ١٥–١٩ | ٥ | ||
(٣٢) الأحزاب | ٢٣-٢٤، ٣٥-٣٦، ٤١–٤٤، ٧٠–٧٢ | ١١ |
ص١٥٠ عدد الآيات ١٠ |
|||
(٣٣) سبأ | ١–٣، ٩، ٣٦ | ٥ | ٣٧ | ١ | ||
(٣٤) فاطر | ١–٣، ٩–١٣، ٢٧-٢٨، ٤١، ٤٤-٤٥ | ١٣ | ٥-٦، ١٥–١٨، ٢٩-٣٠ | ٨ |
ص١٥١ عدد الآيات ٧ |
|
(٣٥) يس | ٣٣–٤٤، ٧١–٨٣ | ٢٥ | ||||
(٣٦) الصافات | ١–١١، ١٨٠–١٨٢ | ١٤ | ٩٩–١٠٦ | |||
(٣٧) ص | ٦٥–٦٨ | ٤ | ٢٦–٢٩، ٨٦–٨٨ | ٧ |
ص١٥٢ عدد الآيات ٦ |
|
(٣٨) الزمر | ٤–٦، ٢١-٢٢، ٣٦–٣٨، ٤٢، ٤٦، ٦٧–٧٠، ٧٤–٧٥ | ١٦ | ٩–١١، ٢٣، ٥٣–٥٥ | ٧ | ||
(٣٩) (غافر) المؤمن | ١–٣، ٧، ١٣–١٧، ٦١–٦٥، ٦٧-٦٨، ٧٩–٨١ | ١٩ | ٣٩-٤٠ | ٢ | ||
(٤٠) فصلت | ٩–١٢، ٢٧–٢٩، ٤٥–٤٧، ٥٣-٥٤ | ١٢ | ٣٣–٣٦ | ٤ | ||
(٤١) الشورى | ١–٥، ١١-١٢، ٢٨-٢٩، ٣٢-٣٣، ٤٩–٥٣ | ١٦ | ٢٠، ٢٥–٢٧، ٣٦–٤٠ | ٩ | ||
(٤٢) الزخرف | ٩–١٤، ٨٠–٨٩ | ١٦ | ٣٢–٣٦ | ٥ | ||
(٤٣) الدخان | ٧-٨، ٣٨-٣٩ | ٤ | ||||
(٤٤) الجاثية | ١–٥، ١٢-١٣، ٢٦-٢٧ | ٩ | ٢١–٢٣، ٣٣–٣٥ | ٦ | ||
(٤٥) الأحقاف | ١–٣، ٣٣ | ٤ | ١٤/٣٥ | ٢ |
ص٥٦ عدد الآيات |
|
(٤٦) محمد | ٢٤–٢٦، ٣٦–٣٨ | ٦ | ||||
(٤٧) الفتح | ١٤ | ١ | ٢٨-٢٩ | ٢ | ||
(٤٨) الحجرات | ١٢-١٣، ١٥–١٨ | ٦ | ||||
(٤٩) ق | ٦–١١، ١٦ | ٧ | ٣٩–٤٠ | ٢ | ||
(٥٠) الذاريات | ٢٠–٢٣، ٤٧–٤٩ | ٧ | ٥٦–٥٨ | ٣ | ||
(٥١) الطور | ٤٨-٤٩ | ٢ | ||||
(٥٢) النجم | ٤٢–٤٩ | ٨ | ||||
(٥٣) القمر | ٤٩–٥٥ | ٧ | ||||
(٥٤) الرحمن | ١–٢٧ | ٢٧ | ||||
(٥٥) الواقعة | ٥٨–٧٤ | ١٧ | ||||
(٥٦) الحديد | ١–٦ | ٦ | ١٠، ١٨–٢٤ | ٨ | ||
(٥٧) المجادلة | ٧ | ١ | ||||
(٥٨) الحشر | ٢١–٢٤ | ٤ | ١٨-١٩ | ٢ | ||
(٥٩) الصف | ١٠-١١ | ٢ | ||||
(٦٠) الجمعة | ١–٤ | ٤ | ٨–١١ | ٤ | ||
(٦١) المنافقون | ٩–١١ | ٣ |
ص١٦٠ عدد الآيات |
|||
(٦٢) التغابن | ١–٤ | ٤ | ١١–١٨ | ٨ | ||
(٦٣) الطلاق | ١٢ | ١ | ٢-٣، ٤-٥ | ٤ | ||
(٦٤) التحريم | ٧ | ١ | ||||
(٦٥) الملك | ١–٥، ١٣–١٥، ١٩، ٢٣-٢٤، ٢٨-٢٩ | ١٣ | ||||
(٦٦) المعارج | ١٨–٣٤ | ١٧ | ||||
(٦٧) نوح | ١١–٢٠ | ١٠ | ||||
(٦٨) الجن | ٣، ٢٥–٢٨ | ٥ | ١٦–٢٣ | ٨ | ||
(٦٩) المزمل | ١–١٠ | ١٠ |
ص١٦٣ عدد الآيات |
|||
(٧٠) المدثر | ١–٧ | ٧ | ||||
(٧١) القيامة | ٣٦–٤٠ | ٥ |
ص١٠٦ عدد الآيات ٤ |
|||
(٧٢) الإنسان | ١–٣ | ٣ | ٢٣–٣١ | ٩ |
ص١٦٣ عدد الآيات |
|
(٧٣) المرسلات | ٢٠–٢٧ | ٨ | ||||
(٧٤) النبأ | ١–١٦ | ١٦ | ||||
(٧٥) النازعات | ٢٥–٣١ | ٧ | ||||
(٧٦) عبس | ١٧–٣٢ | ١٦ | ||||
(٧٧) الانفطار | ٦–٨ | ٣ | ||||
(٧٨) الانشقاق | ٦–٩ | ٤ |
ص١٦٤ عدد الآيات |
|||
(٧٩) البروج | ١٢–١٦ | ٥ | ||||
(٨٠) الطارق | ٥–١٠ | ٦ | ||||
(٨١) الأعلى | ١–٥ | ٥ | ١٤–١٩ | ٦ | ||
(٨٢) الغاشية | ١٧–٢٠ | ٤ | ||||
(٨٣) الفجر | ١٥–٢٠ | ٦ | ||||
(٨٤) البلد | ٨–١٠ | ٣ | ١١–٢٠ | ١٠ |
ص١٦٤ عدد الآيات |
|
(٨٥) الشمس | ٧–١٠ | ٤ | ||||
(٨٦) الليل | ٤–١٤ | ١١ |
ص١٦٥ عدد الآيات |
|||
(٨٧) الضحى | ٩–١١ | ٣ | ||||
(٨٨) العلق | ١–٨ | ٨ | ١–٨ | ٨ |
ص١٦٥ عدد الآيات ٧ |
|
(٨٩) الزلزلة | ٧-٨ | ٢ | ||||
(٩٠) العاديات | ٦–١١ | ٦ | ||||
(٩١) التكاثر | ١–٨ | ٨ | ||||
(٩٢) العصر | ١–٣ | ٣ | ||||
(٩٣) الهمزة | ١–٣ | ٣ | ||||
(٩٤) الماعون | ١–٧ | ٧ | ||||
(٩٥) النصر | ١–٣ | ٣ | ||||
(٩٦) الإخلاص | ١–٤ | ٤ | ||||
(٩٧) الفلق | ١–٥ | ٥ | ||||
(٩٨) الناس | ١–٦ | ٦ | ||||
المجموع | ٧٨٠ | ٧٣٨ |
المجموع الكلي = ٧٨٠ + ٧٣٨ = ١٥١٨
عدد آيات القرآن = ٦٢٦٦
النسبة العامة = ٢٤٫٢٢٥٪
نسبة الآيات الجواهر = ١٢٫٤٤٨٪
نسبة الآيات الدرر = ١١٫٧٧٧٪
عدد سور القرآن = ١١٤
النسبة = ٨٥٫٩٦٪
إن تسخير العلم في خدمة الأهداف السياسية للحاكم أمر تورط فيه الغزالي في هذا الكتاب تورطًا لا يستطيع أحد تجاهله. فالغزالي الذي يُفَنِّد الفكر الشيعي استنادًا إلى أسس عقلية مكينة يتجاهل هذه الأسس تجاهلًا شبه تام في الباب التاسع من الكتاب «في إقامة البرهان الفقهي الشرعي على أن الإمام الحق في عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله» حيث يكاد يخلع على الخليفة العباسي كل الصفات التي يخلعها الشيعة على «الإمام» من حيث العِلْم والعصمة والاتصال بمشكاة النبوة، وهي الصفات التي يردُّها الغزالي على الشيعة على طول فصول الكتاب. ولا شك أن إدراك الغزالي بعد ذلك لحقيقة الدور الذي قام به من تسخير فكره لأهداف الحكام والسلاطين كان وراء أزمته الروحية التي وصلت إلى حد «حبسة» اللسان عن النطق، وهي أزمة يصفها على النحو التالي:
«فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. في هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ قفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا تطييبًا لقلوب المختلفة وكان لا ينطق لساني بكلمة ولا أستطيعها البتة. ثم أَوْرَثتْ هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب بطل معه قوة الهضم وقرم الطعام والشراب فكان لا تنساغ لي شربة ولا تنهضم لي لقمة. وتعدى ذلك إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء «طمعهم في العلاج»» (انظر: المنقذ من الضلال، ص٦٤).