المتلقي الأول للنص
لقد كان محمد — المستقبل الأول للنص ومبلغه — جزءًا من الواقع والمجتمع. كان ابن المجتمع ونتاجه، نشأ في مكة يتيمًا، وتربى في بني سعد كما كان يَتربَّى أترابه في البادية. تاجر كما كان يُتاجر أهل مكة، سافر معهم وشاركهم حياتهم وهمومهم. وحين أراد بعض الأعراب أن يُعاملوه معاملة الملوك بعد البعثة رفض. وحين رأى أعرابيًّا ترتعد فرائصه وهو يستعدُّ للقائه هدَّأ روعه وقال قولته المشهورة: «إنما أنا ابن امرأة كانت تأكُل القديد بمكة.» هذا ما يَحكيه التاريخ عن الرجل والإنسان الذي شاء الفكر الدِّيني السائد — قديمًا وحديثًا — أن يُحوِّله إلى حقيقة مثالية ذهنية مفارقة للواقع والتاريخ، حقيقة لها وجود سابق على وجودها الإنساني العياني المادي. وشاء هذا الفكر في أشد مزاعمه إنسانية أن يجعل منه إنسانًا مغمض العينَين معزولًا عن المجتمع والواقع، يعيش همومًا مفارقة مثالية ذهنية، حتى حوَّله هذا الفكر إلى إنسان خالٍ من كل شروط الإنسانية.
إنَّ هذا التحويل الذي حدث في شخصية النبي كان موازيًا لتحويل آخر حدث في تصور النص في الثقافة والفكر؛ حيث تم تحويل النص من توجُّهه إلى المخاطب والمُخاطبين لكي يكون نصًّا دالًّا على المتكلِّم. وكان من الضروري لكي يستقيم مثل هذا التصور أن يُحوَّل المخاطب الأول إلى راهب مُتبتِّل منقطع يتلقَّى رسالة خاصة. وصارت مهمة المخاطبين بالنص — في مثل هذا التصور — محاولة الوصول إلى المتكلِّم من خلال النص من جهة، ومن خلال سلوك طريق التبتُّل والانقطاع عن العالم والدنيا — تقليدًا للمُخاطب الأول — من جهة أخرى. وصارَت الرسالة في النص ذاته مُزدوجة الدلالة ذات ظاهر وباطن، ثم صارَت ذات دلالة مركبة معقَّدة، وتحول الخطاب اللغوي إلى شفرة سرية لا يَفكُّ رموزها إلا أقل القليلين.
إنَّ تصور النبي معزولًا عن المجتمع والواقع، منفردًا دائمًا، يَتناقض مع ما اشتهر به من وصف «الأمين»؛ إذ لا يشتهر بمثل هذه الصفة إلا من عامل الناس وانغمس في شئونهم واختلط بهم اختلاطًا يسمح لهم بالحكم عليه. وكيف كان يُمكن أن تخطبه إلى نفسها كريمة من كريمات العرب، ذات مالٍ وجمال وحسب، مرغوب فيها لا مرغوب عنها؟ ولو كان محمد دائم الاعتزال للناس في شعاب الجبال والأودية، فكيف نال هذه الشهرة؟
إنَّ الواقع الذي ينتمي إليه محمد ليس بالضرورة هو الواقع السائد المُسيطر؛ فالواقع — أيُّ واقع كان — يحتوي في داخله وفي بنائه الثقافي نمطَين من القِيَم: النمط السائد المسيطر، ونمط القيم النقيض الذي يكون ضعيفًا خافت الصوت، لكنه يسعى لمناهضة نمط القيم السائد. وليس هذان النمطان من القيم إلا تعبيرًا عن قوى اجتماعية وعن صراعات اقتصادية واجتماعية. لم يكن محمَّد يَنتمي في هذا الواقع إلى الواقع المسيطر بنمطِ القيَم السائد فيه، لذلك يَصدُق عليه وصف السيدة خديجة حين كانت تُهدِّئ من روعه بعد التجربة الأولى لعملية الاتصال/الوحي، وما تلاها من خشيته على نفسه أن يكون به مرض أو مسٌّ من الشيطان:
إنَّ هذه الأوصاف كلَّها أوصاف للأخلاق المُتعدية للغير؛ أي لأخلاق التعامل مع البشر في الواقع اليومي. إنَّ حب الخلاء والتحنُّث في غار حراء لم يكن انعزالًا عن حركة الناس في الواقع، وإنما كان طقسًا يُمارسه آخرون إلى جانب محمد وقَبْله. هؤلاء الآخرون هم الأحناف الذين تحصرهم السيرة في «ورقة بن نوفل» و«عبد الله بن جحش» و«عثمان بن الحويرث» و«زيد بن عمرو بن نفيل»، وتروي أنهم التقوا ذات يوم:
وإذا كانوا قد تنصَّروا جميعًا بعد ذلك فإن «زيد بن عمرو بن نفيل» لم يدخل في يهودية ولا نصرانية.
(١) محمد والحنيفية
وممَّا له دلالته في هذا الصدد أن بعض الروايات تروي لقاءً حدث بين النبي وبين زيد بن عمرو، وهي رواية يَرويها البخاري عن عبد الله بن عمر:
وإذا كانت هذه الرواية لا تُريد إلا أن تؤكِّد أن «زيد بن عمرو» كان حريصًا على اعتزال قومه ومعارضة عاداتهم ومعتقداتهم ومقاطعة أطعمتهم، فإن الخطاب الديني المعاصِر يجد فيها إشكالية يحاول أن يحلها. والحقيقة أن الإشكالية التي يسعى الخطاب الديني لحلها في هذه الرواية هي إشكالية مِن صُنْعِه هو، تطرحها عليه تصوراته عن «النبوة»، تلك التصورات التي تعزل الظاهرة عن سياقها التاريخي وتعزل النبي عن ظروف واقعه الموضوعية. وتكون الإشكالية هي:
إن المشكلة لا تحلُّها هذه الافتراضات الكثيرة لأنه ليست هناك مشكلة أصلًا. لقد كان «زید بن عمرو» مُبالغًا في مفارقة قومه والبحث عن دين إبراهيم، ومحمد وإن كان باحثًا أيضًا عن دين إبراهيم — دين الحنيفية — لم يكن على مثل تشدُّد «زيد» وإدانته لواقعه ومجتمعه. كان محمد فيما تطرحه السيرة عن شخصيته قبل البعثة وبعدها رجلًا سمحًا سهل المعاشرة ودودًا، ولم يكن رفضه لقيَم الواقع وأعرافه ينعكس على سلوكه الشخصي إزاء الأفراد. وهل كان يُمكن لقريش حين اختلفوا حول من يَنال شرف وضع الحجر الأسود مكانه عند بناء الكعبة أن تقبل تحكيم رجل مثل «زيد بن عمرو» الذي عاب آلهتهم وسبَّهم وفارق حياتهم مفارقة شبه تامة حتى صار أشبه بالراهب وإن لم يعتنق المسيحية؟ وها هو الشيخ وقد طعن في السن يُسند ظهره إلى الكعبة صارخًا في وجه قريش:
هل كان هذا الشيخ، الصارخ في البرية داعيًا إلى دين إبراهيم، صوتًا في فلاة، أم كان تجسيدًا لنزوعٍ ما لاتجاه جديد في رؤية العالم في هذه الثقافة؟ وهل كان محمد الإنسان ابن واقعِه ومجتمعه إلا جزءًا من هذا الاتجاه الجديد النقيض للاتجاه السائد في المجتمع والفكر على السواء؟
(٢) دين إبراهيم
لكن لماذا العودة إلى دين إبراهيم؟ ولماذا لم يكن في اليهودية والمسيحية ما يكفي للإجابة عن هذه الأسئلة الحائرة التي كانت تُعذب هؤلاء الأفراد من العرب؟ الحقيقة أن هذه الأسئلة لم تكن مجرد صرخات «صوفية» لمعانقة المطلق، بل كانت تعبيرًا عن الإحساس بأزمة الواقع وبضرورة تغييره، وكانت هذه الأسئلة بمثابة البحث عن «أيديولوجية» للتغيير. ولم يكن لهذا البحث أن يتجاوَز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهي آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة.
لقد كان البحث عن دين إبراهيم في حقيقته بحثًا عن الهوية الخاصة للعرب، وهي هوية كانت تُهدِّدها مخاطر عدة، أهم هذه المخاطر هو الخطر الاقتصادي النابع من ضيق الموارد الاقتصادية، التي تَعتمِد على المطر والعُشب من جهة، وعلى التجارة من جهة أخرى. وقد أوشكت حياة الصراع والتناحُر والحروب بين القبائل — وكلها حروب وصراعات ذات جذور اقتصادية — أن تؤدي إلى القضاء على الحياة ذاتها. وزاد من حدة هذه الأزمة واستعار خطرها أنَّ الجزيرة العربية كانت محاصرة بالقوى الأجنبية من كل جانب، فعلى حدود العراق قامت مملكة الحيرة تحت رعاية الفرس، وكانت مهمَّتها رد الغارات أو الهجرات العربية عن حدود فارس والعراق. وقامت على حدود الشام دولة الغساسنة التي قامت بدور مشابه في خدمة الروم. أما في الجنوب فقد خضعَت اليمن لحكم الأحباش. وحاول هذا الحصار اختراق قلب الجزيرة نفسه، وذلك بحملة أبرهة على الكعبة لهَدمها ونقل مركز الثقل الديني — ومن ثمَّ الاقتصادي — من مكة إلى كنيسة نجران.
إذا كانت هذه هي الأخطار فلا بدَّ أن تكون «الأيديولوجية» التي كان يبحث عنها هؤلاء الأفراد من العرب أيديولوجية تحقق الهدفين: مُواجهة الصراعات الداخلية وعوامل التفتيت والانقسام بكلِّ ما يؤدي إليه ذلك من سيطرة الأقوى، ومواجَهة الخطر الخارجي المُمثل في أعداء العرب من الفرس والروم. ومن الطبيعي ألا تحقق المسيحية — وهي أيديولوجية مطروحة — أحد هذَين الهدفين؛ فقد كانت دينًا غازيًا مُعتديًا، ولم يكن يمكن لليهودية أن تجتذب العرب وقد كان أحبارها يتعالون عليهم وينظرون إليهم بوصفهم بدوًا رعاة، هذا بالإضافة إلى أن اليهودية دين مغلق عنصري لا يتقبَّل الوافدين الجدد. كانت الأيديولوجيتان الدينيتان المطروحتان غير ملائمتَين لتحقيق أهداف ذلك الوعي — أو الإحساس الغامض — الذي كانت تعكسُه صرخات هؤلاء المُتحنِّفين أو المتحنِّثين. لقد رحل زيد بن عمرو باحثًا عن هذه الأيديولوجية في «دين إبراهيم».
كان البحث عن «دين إبراهيم» إذن بحثًا عن دين يُحقِّق للعرب هويتهم من جهة، ويعيد تنظيم حياتهم على أُسس جديدة من جهة أخرى. وكان «الإسلام» هو الدين الذي جاء يحقق هذه الأهداف. وليس من قبيل التأويل الأيديولوجي أن نقول إن الإسلام بهذه المثابة — ومن حيث هو دين يردُّ نفسه للحنيفية ملَّة إبراهيم — كان تجاوبًا مع حاجة الواقع، وهي الحاجة التي عبر عنها الأحناف وكان محمد واحدًا منهم. لكن النص في تجاوبه مع الواقع واستجابته له استجاب له من خلال المتلقِّي الأول. وليس الحديث إذن عن محمد بوصفه المتلقي الأول للنص حديثًا عن متلقٍّ سلبي، بل حديثًا عن إنسان تجسَّدت في داخله أحلام الجماعة البشرية التي يَنتمي إليها، إنسان لا يُمثل ذاتًا مستقلة منفصلة عن حركة الواقع، بل إنسان تجسَّدت في أعماقه أشواق الواقع وأحلام المستقبل.
(٣) الموقف الاتصالي الأول
إنَّ الآيات الأولى التي نزلت من النص في عملية الاتصال الأولى، وهي آيات سورة العلق، تكشف لنا عن طبيعة الأسئلة التي كانت تُحيِّر محمدًا وتُحرِّك أشواقه وتدفعُه إلى الخلوة والتحنُّث — أو التحنف — في غار حراء الليالي أولات العدد قبل أن يعود إلى أهله لكي يتزوَّد لمثلها كما ورد في حديث عائشة. لقد كانت كلها أسئلة تدور حول مصير الإنسان، حول أصله وغايته. وليس من طبائع الأمور هنا أن نتصوَّر محمدًا مفكرًا فلسفيًّا، يطرح أسئلة ذات طبيعة مجردة مُطلقة؛ فالإنسان الذي كان يُثير تساؤلات محمد هو دون شك إنسان مجتمعه. إن محمدًا اليتيم لم يكن يمكن أن يتجاهل الأوضاع الاجتماعية المتردية في واقعِه. لقد ذاق مرارة اليُتم في مجتمع يُعطي لعلاقات العصبية مركز الصدارة، وإذا كانت قد اجتمعَت في ظروف محمد قسوة اليتم والفقر معًا فلا شكَّ أن وعيه قد تشكل بطريقة تُثير أسئلة لا يُسمَح في مثل هذا المجتمع بالإفصاح عنها. لذلك يُمكن أن نتلمَّس هذه الأسئلة في تجاوب الوحي في الآيات الأولى من النص.
لقد كان موقف الاتصال الأول موقفًا معقَّدًا، فبينما محمد يتأمل فاجأه الملك آمرًا بالقراءة وكانت الاستجابة الأولى من جانب محمد هي الرفض «ما أنا بقارئ» الذي تكرَّر ثلاث مرات في كل مرة يغطُّه الملك حتى يبلغ منه الجهد، ثم استسلم أخيرًا وقال «ما أقرأ؟» ومن الضروري هنا قبل أن نَمضي في تحليل النص أن نتوقَّف عند مسألتين هامتين:
المسألة الأولى أنَّ الأمر بالقراءة هنا أمر بالترديد، و«اقرأ» معناها «ردِّد»؛ وذلك على خلاف الفهم الشائع حتى الآن والمُستقِر نتيجة تطوُّر دلالة الفعل «اقرأ» مع تطوُّر مماثل في إطار الثقافة أدَّى إلى تحويلها من الشفاهية إلى التدوين. ويَنبني على هذا الفهم — وهذه هي المسألة الثانية — أن قول النبي «ما أنا بقارئ» لا تَعني الإقرار بالعجز عن القراءة، فهذا الفهم يصحُّ في حالة الخطأ في فهم معنى الفعل «اقرأ»، بل المعنى «لن أقرأ»، والعبارة تُجسِّد حالة الخوف التي انتابت النبي حين فاجأه الملك، فأخذ يُكرِّر «ما أنا بقارئ» ثلاث مرات، وفي كل مرة يحاول الملك تهدئة روعه. ويؤكد هذا الفهم من جانبنا أن النبي بعد تحقيق فعل القراءة — استجابةً لإلحاح الملك وخشية من غطة رابعة — أسرع إلى خديجة «ترجُف بوادره» وقد سيطر عليه الخوف والفزع.
لقد كان هذا التوقُّف ضروريًّا؛ إذ فُهِم الموقف كله في مرحلة متأخِّرة بطريقة أخرى، ففُهِم قول النبي «ما أنا بقارئ» على أساس أنه إقرار بالعجز عن القراءة نتيجةً للأمية، كأنَّ جبريل المبعوث من الله لا يدري هذه الحقيقة. وبناءً على هذا الفهم كان لا بدَّ أن يتضمَّن الموقف كله نوعًا من المعجزة حيث استطاع النبي «الأمي» أن يَقرأ بفعل معجزة «الغطِّ» من جانب جبريل. ولكن مثل هذا التأويل للموقف كله لا يستطيع أن يُجيب عن سؤال بسيط فحواه: إذا كان ثمة معجزة قد تحقَّقت في هذا الموقف، فلماذا كان النبي يستعين بمَن يقرأ له الرسائل ويكتبها له؟ أم إن المعجزة كانت معجزة مؤقَّتة زال أثرها بانتهاء هذا الموقف الخاص؟ ولكي تكتمل جوانب التصوُّر تم إضافة بعض العبارات إلى الرواية الأولى التي تصف الموقف؛ وذلك من مثل أن جبريل أتاه بنمط — أو بنمط من ديباج — وقال له «اقرأ»:
ولا شكَّ أن هذه الزيادات والإضافات قد ساهمت مع ما سبَقَت الإشارة إليه من تصور وجودٍ خطِّيٍّ سابق للنص في اللوح المحفوظ — كل حرفٍ بقدر جبل قاف — في تكريس تصوُّر للنص يتباعَد به عن الواقع الذي أنتجه والثقافة التي تشكل من خلالها. إنَّ هذا التصور يجعل النص مُعطى سابقًا كاملًا مكتملًا فُرِض على الواقع بقوة إلهية لا قِبَل للبشر بها. وكان من شأن هذا التصور أن يُؤدِّي إلى عزل النص عن حركة الواقع تدريجيًّا؛ وذلك بتحويله من نصٍّ لُغوي دالٍّ إلى مجرَّد شيء مقدس، إلى مصحف يستمدُّ قداستَه من مجرَّد وجوده تمثيلًا لأصله القديم الماثل في عالم الأرواح والمثل.
إنَّ الخطاب الأول من النص متوجِّه في الأساس الأول إلى محمد مجيبًا عن تساؤلاته. بدأ هذا الخطاب بالتعريف، التعريف بالمُرسل وتحديد علاقته بالمتلقي الأول من جهة، وبالناس — الإنسان موضوع استفهام محمد — من جهة أخرى. إن المتحدِّث إلى محمد بالوحي ليس غريبًا عنه. وإذا كان محمد قد نشأ يتيمًا بلا أب فإن ثمَّة من يُربِّيه ويكون ربًّا له اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وإسناد «رب» إلى ضمير المخاطب — ضمير محمد — يُومئ إلى معنى التربية بكلِّ ما فيها من أُلفة. ويؤكد هذه الدلالة الكلام عن «التعليم» بعد ذلك. وحتى لا يكون «ربك» مجرد مُربٍّ عادي يضيف النص الَّذِي خَلَقَ. ولا شك أن إحساس محمد — الذي تتوجَّه إليه هذه الرسالة — بأن ربه هو الذي خلق يتصاعد بذاته وبقيمته وأهميته، ويداوي إحساس اليُتم والفقر المُستقِر في أعماقه. ولأن محمدًا لا يعزل نفسه عن الواقع وعن إنسان مجتمعه فإن النص يكرر الفعل «خلق» كاشفًا لمحمَّد عن تساؤلاته عن الإنسان، فربُّ محمد الذي خلق، خلق الإنسان من علَق. وإذا كان الرب هو الخالق للإنسان فإنه ليس مجرَّد ربٍّ عادي، بل هو أكرم الأرباب. وعلينا ألا نتخلَّى هنا عن الدلالة اللغوية لكلمة «رب»، وكذلك عن الدلالة اللغوية للفظ «أكرم».
إنَّ كون رب محمد هو الخالق للإنسان وهو الأكرم بمعنى — الشرف والأصالة لا بمعنى كرم العطاء — من شأنه أن يُكسب محمدًا ثِقة بنفسه وبقيمته في المجتمع والواقع. إنَّ قصة امتناع المراضع عن أخذ محمد بسبب يُتمِه قصة أشهر من أن نُكرِّرها، ولم تأخذه «حليمة» إلا لأنها لم تجد سواه. إن «اليتيم» في مثل هذا المجتمع القائم على العصبية كان يُعاني — دون شك — إحساسًا طاغيًا بالإهمال والضياع. وعلى ذلك فالوصف — وصف الرب — بالأكرم يَهدف إلى تطييب نفس محمد؛ ذلك أنه ينتسب — رغم يُتمِه — إلى ربٍّ هو أكرم من كل الآباء والأرباب الذين يفخر بهم الأبناء. إنه ربٌّ خالق. وهو بالإضافة إلى خلق الإنسان من علَق علَّم بالقلم. وليسَت الإشارة إلى التعليم بالقلم في النص إلا تجاوزًا من النص للواقع؛ فالتعليم في الواقع تعليم شفاهيٌّ لا يكاد يُستخدَم فيه «القلم»، لكن رب محمد يُعلِّم بالقلم، يُعلِّم الإنسان ما لم يعلم.
إذا صحَّ هذا الفهم من جانبنا للآيات الأولى من الوحي من حيث دلالتها على المتلقي الأول، فإننا يمكن أن نلاحظ أن النص ببنائه وتركيبه يتجاوز هذا المستوى الدلالي إلى أفق أبعد. ويتبدى هذا التجاوز في النص من خلال التبادل بين ألفاظ تَنتسِب إلى مجالين دلاليَّين مختلفين، فنلاحظ مثلًا أن الآية الأولى تجمع بين هذين المجالين، فتستخدم اللفظ «رب» وتصفه «الذي خلق» فاللفظة الأولى تنتمي إلى مجال الأوصاف الإنسانية في اللغة كما نرى في قولهم «لئن يربَّني رجل من قريش خير إليَّ من حُمر النعم» أو في قول عبد المطلب لأبرهة حيث تعجَّب من سؤاله عن إبله دون الكعبة «أنا ربُّ الإبل وللبيت ربٌّ يحميه»، ولكن جملة الصلة «خلق»، تنقل المتلقي إلى مجال دلالي آخر. ويعود النص في الآية الثالثة «اقرأ وربك الأكرم» إلى المجال الدلالي الأول. وبكلمات أخرى نُلاحظ أن مفردات «رب» و«كريم» مُفردات تنتمي لمجال دلالي واحد، هو مجال الصفات الإنسانية، لكن وصف الرب بأنه «الذي خلق» ثم التأكيد بالتكرار لفعل الخلق «خلق الإنسان من علق» ينقل هذه المُفردات السابقة من مجالها الدلالي المألوف في الصفات الإنسانية إلى مجالٍ دلالي «جديد» بالنسبة لمحمد وبالنسبة للثقافة. وهذه النقلة بين المجالين تتأكَّد من خلال تكرار الفعل «خلق»؛ إذ يمكن أن ينتمي في الآية الأولى إلى مجال «الفعل الإنساني»، حيث الخلق بمعنى تقدير الشيء وتصميمه قبل تحقيقه وتنفيذه، كما نجده مُستخدَمًا في قول الشاعر:
ولكن الآية الثانية بتركيبها «خلق الإنسان من علق» تنقُل الفعل من المجال «الإنساني» إلى مجال دلالي جديد.
وإذا كانت الآيتان الثالثة والرابعة تعودان بمُفرداتهما إلى المجال الدلالي الإنساني، فإن الآية الأخيرة في النص تَنقُل الفعل «علَّم» من هذا المجال إلى المجال الجديد. ويتمُّ ذلك عن طريق التكرار أولًا، وبجعل «الإنسان» بألف ولام الجنس هو المفعول الأول، «وما» مع صلتها المنفية التي تُفيد الاستغراق هي المفعول الثاني. إن التكرار هنا أداة هامة جدًّا من حيث إنه يَنقل الدلالة في النص من مجال إلى مجال، وهو نقل يُمكن أن نُمثله على النحو التالي:
والنص على مُستوى آخر — مجال أزمنة الأفعال — يجعل من فعل الأمر «اقرأ» فاصلًا بين مُستويَين في النص، المستوى الأول: مستوى الحضور والخطاب، ويكون هذا المستوى مُعبَّرًا عنه بصيغة المضارع في الفعل من جهة، وبضمير المُخاطب في «ربك» في الآيتَين الأولى والثالثة. والمستوى الثاني مستوى الغياب المُعبَّر عنه بالأفعال الماضية من جهة: «خلق» «علَّم»، وبضمائر الغائب على المستوى النحوي من جهة أخرى. ويؤدِّي تكرار الفعل «اقرأ» إلى فصل آخر بين «صفة الخلق» و«صفة التعليم»، وهو فصل تؤكِّده الفواصل، وهي القاف في الآيتَين الأولى والثانية، والميم في الآيات الثالثة والرابعة والخامسة.
إنَّ النص هنا وإن كان يتشكَّل من خلال تجاوبه مع الواقع مُمثَّلًا في شخص محمد، يتجاوز ببنائه وتركيبه وآلياته اللغوية تلك المناسبة الجزئية. إن النصوص وإن تشكَّلت من خلال الواقع والثقافة تستطيع بآلياتها أن تُعيد بناء الواقع ولا تكتفي بمجرد تسجيله أو عكسه عكسًا آليًّا مرآويًّا بسيطًا. ونحن هنا بالطبع نقصد النصوص الممتازة في الثقافة؛ فالنصوص الرديئة هي التي تكتفي بتسجيل الواقع. إن جدلية النص والواقع ليست جدلية بسيطة، فالواقع يتحول في اللغة إلى ألفاظ تدخل في علاقات تركيبية بناءً على قوانين خاصة هي قوانين اللغة. من هنا يكون للغة نوع من الاستقلال النِّسبي عن الثقافة التي تعبر عنها وعن الواقع الذي يفرزهما، ومن هذا الاستقلال تكتسب قدرتها على إعادة بناء الواقع. وقد رأينا هنا كيف أن النص الذي يخاطب محمدًا ويستجيب لهمومه — التي هي هموم الواقع — يتجاوز موقف الاستجابة السلبي إلى محاولة صياغة واقع جديد، صياغة الأيديولوجية التي طال البحث عنها في «دين إبراهيم».
(٤) التوجه للواقع بالبلاغ
سبقَت لنا الإشارة إلى ما ذهب إليه علماء القرآن من أن «سورة العلق» أول ما نزل في شأن «النبوة»، وأن «سورة المدثر» هي أول ما نزل في شأن «الرسالة». ويبدو أن الخلاف حول أول ما نزل من القرآن كان حول هاتين السورتَين، أو بالأحرى الآيات الأولى منهما، وهذا الخلاف نجدُه مذكورًا على النحو التالي:
وإذا كانت هذه الرواية كما يبدو في منطوقها تُشير إلى أنَّ النبي سبقت له رؤية الملك حيث أشار إليه بضمير الغياب «فإذا هو على العرش في الهواء» فمعنى ذلك أنها لا يُمكن إلا أن تكون المرة الثانية، وتكون المرة الأولى هي التي نزَلَت فيها آيات سورة «العلق». من هذا المنطلق لا تستقيم الرواية الأخرى التي يُوردها المفسرون والتي تجعل نزول آيات سورة «المدثر» بعد إعلان الرسالة والدعوة، وهي رواية تَرِدُ في السيرة على النحو التالي:
والأقرب إلى سياق تجاوب النص مع حالة المُتلقِّي الأول تلك الرواية التي يَرويها الزمخشري عن الزهري:
كان محمد إذن حائرًا بعد تجربة الاتِّصال الأُولى لا يدري ماذا أصابه. كان يُريد أن يَقَرَّ له قرار، ويتشوَّف إلى ما يُطمئنه على صحة قواه العقلية ربما. ولعلَّه كان شاكًّا في أنَّ ما أتاه في المرة الأولى كان وحيًا من ربه الذي طال تشوُّقه إلى معرفته. ولا شكَّ أنه تحت وطأة هذا الشعور أصابتْه الرعشة، وأحسَّ بالبرودة تسري في أطرافه شأن من أصابته الحُمى، فهُرع إلى زوجته خديجة التي راحت تُلقي عليه الأغطية محاولة أن تخفِّف من آلامه الجِسمية وأن تُبدد مخاوفه. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تُصيبه فيها هذه الحالة، فقد عاد إلى خديجة بعد تجربة الاتِّصال الأولى ترتجف بوادره فطمأنتْه بكلماتها أولًا، ثم صحبتْه إلى «ورقة بن نوفل» — أحد المتحنِّفين الذين اختارُوا النصرانية — ثانيًا. بل لقد حاولت خديجة — متأثِّرة دون شك بحالة محمد — أن تَختبر هذا الذي يأتيه ويتراءى له في كل مكان هل هو ملَك أم شيطان؟
لقد كانت التجربة الأولى محيِّرة، فماذا يُريد منه هذا الملك، وماذا يُريد منه ربه؟ وما حقيقة هذا الوحي؟ ولا شكَّ أن كل هذه الحيرة التي انتابت محمدًا، والتي دفعتْه إلى أن يعلو شواهقَ الجبال يأسًا يمكن أن تُؤكِّد لنا حقيقة هامة هي أن محمدًا لم يكن مختلقًا أو كاذبًا. كان الوحي بالنسبة له — وبالنسبة للثقافة كما حلَّلنا في الفصل السابق — حقيقة لا شك فيها. ومن شأن هذه الحقيقة أن تُفسِّر فعالية النص في الواقع والثقافة معًا. لقد ظهر بعد محمد من زعمُوا أنهم يوحى إليهم، لكن الاختبار — وصراع القوى — كشَفا عن اختلاقاتهم. من هذا المنطلق يصح أن نفهم كل هذه المحاولات التي بذَلها محمد — وبذلتْها معه خديجة — للتأكُّد من حقيقة هذا النداء المُلحِّ، ومن حقيقة الملَك ومن حقيقة الوحي ذاته كذلك.
والحقيقة أن الحذف هنا يُحقِّق غايتَين: أولاهما أن يحافظ النص على فاصلة الراء وهي حرف مُكرَّر يُحدِث رنينًا يتجاوَب مع أمر القيام لذلك المُتدثِّر الذي يخلد إلى النوم والراحة من جهة، ويتجاوَب مع دلالة «الإنذار» من جهة أخرى، أما الغاية الثانية التي يُحقِّقها الحذف — حذف مفعولي أنذر — فهي غاية تجاوُب النص مع المتلقي الأول ذاته، من حيث إنه يعلم من ينذر ويعلم أسباب الإنذار. إنَّ النص هنا يتجنب «الإطناب» في موقف لا يَستدعيه ولا يحتاجه.
إنَّ أفعال الأمر تتوالى في هذا النص تواليًا سريعًا بالفاء «فأنذر» «فكبر» «فطهر» «فاهجر»، وليس لذلك من دلالة سوى أنَّ النص الذي لم يُكلِّف محمدًا فيما سبق إلا بالقراءة يُكلفه الآن بمجموعة من الأفعال تستلزم القيام. إنَّ الأمر بالإنذار والأمر بتكبير الرب — وهو الرب الذي كشف عن نفسه في النص السابق — يُمثِّلان محورًا واحدًا، بينما يُمثل المحورَ الثاني الأمرُ بتطهير الثياب والأمرُ بهجر الرجز. إن الأمر بالإنذار يتَّضح فحواه من الأمر بتكبير الرب، ذلك أن تكبير الرب يستلزم تصغير الأرباب الأخرى، وهذا من شأنه أن يكشف دلالة فعل الإنذار من ناحية مضمونه ومحتواه. وفي المحور الثاني يتقابل الأمر بتطهير الثياب — النظافة الشكلية — مع الأمر بهجر الرجز، وهي النظافة المعنوية. ومن اللافت للانتباه هنا أن التعبير عن ذلك بالفعل «فاهجر» يعني هجر كل ما عليه قومه من عادات وأعراف وعبادات من جهة، كما أنه يومئ من جهة أخرى إلى أنَّ محمدًا — قبل البعثة — لم يكن مهاجرًا لقومه مثل زيد بن عمرو بن نفيل. إن الأمر بالهجر هنا يُمثل بداية الانفصال بين الجديد والقديم، وهو أمر يتجاوَب مع الأمر بالإنذار فيَلتقي المِحوران على الوجه التالي:
إنَّ هذه الأوامر المتوالية بدءًا من القيام وانتهاءً إلى هجر الرجز تبدو بالنِّسبة للمُتدثر في غطائه — الطالب للدفء والأمان من مخاوف شتى تعتريه — عبئًا ثقيلًا أُلقيَ على كاهله دفعة واحدة، لذلك يتحوَّل الأمر إلى نهي عن الاستكثار «ولا تمنن تستكثر». وقد أخطأ المفسرون أيضًا حين فهموا المنَّ هنا بمعنى العطاء، ويَعتمِد الزمخشري على قراءة للحسن تُؤكد هذا المعنى:
ويُتابع المفسرون المُحدثون هذا التأويل دون فحص أو إعادة نظر:
إنَّ النَّهي عن المنَّة نهي عن الضعف والتخاذل والاستكثار، استكثار الأوامر واستثقالها، وهذا النهي يُجاوبه الأمر بالصبر «ولربك فاصبر»، ولا يكون الصبر إلا مع الشدة. ورَد في الأساس:
«وهو ضعيف المُنَّة، وليس لقلبِه مُنَّة؛ أي قوة. وهم ضعاف المُنَن، ومَنَّه السَّفَر: أضعفه وذهَب بمُنَّته. قال ابن ميادة:
وإذا كان المفسرون قد جعلوا الصبر صبرًا على عناد قومه، فإن سياق النص بوصفه النص الأول في إعلان الرسالة ينفي ذلك. إن الصبر هنا صبر لأوامر الرب الذي طال حنين محمد إلى معرفته، وطال تشوُّقه إلى الاتصال به. وعلينا أن نُلاحظ أن النص ما زال يُسند «الرب» إلى ضمير المخاطب — ضمير محمد — تأنيسًا وترغيبًا وتشويقًا. وقد دأب أهل مكة فترة طويلة على الحديث عن «ربِّ محمد» وما أَوحى إليه به.
إن النص في عملية الاتصال الثانية ما زال يتجاوب مع حالة المتلقِّي الأول للنص، ويُفصح عن أشواقه ويجيب عن أسئلته، فكان الأمر بالإنذار ردًّا على حيرته فيما يُراد منه، وكانت الأوامر بالتكبير وتطهير الثياب وهجر الرجز تأهيلًا له لكي يقوم بالمهام التي يسندها إليه النص ويكون مُستعدًّا لها. وكانت المرحلة الثالثة في حركة تجاوب النص مع الواقع مع بدء الدعوة وإعلان الرسالة مزيدًا من الجدل والتفاعُل والحوار الذي يتشكَّل من خلاله النص من جهة، ويعيد بآلياته الخاصة بناء واقع جديد من مفردات هذا الواقع من جهة أخرى. إن جدلية النص والواقع تبدو واضحة في صورتها العامة من خلال مبحث «المكي والمدني» في علوم القرآن، وهو موضوع تحليلنا في الفصل التالي.