أسباب النزول
يُعتبر علم «أسباب النزول» من أهم العلوم الدالة والكاشفة عن علاقة النَّص بالواقع وجدله معه. وإذا كان النُّقاد العرب قد نظروا لعلاقة النصوص الأدبية بالواقع من خلال مفهوم «المحاكاة» أو «المماثلة» و«التشبيه» و«الوصف» فإن علم أسباب النزول يمكن أن يطرح لنا مفهومًا مغايرًا لعلاقة النص بالواقع. وإذا كانت مفاهيم النقد العربي عن «المحاكاة» قد تأثَّرت — في صياغاتها الفلسفية — خطى التراث اليوناني بعد أن أعادت «تأويله» ليلائم واقع النصوص العربية، فإن علم أسباب النزول يُزوِّدنا من خلال الحقائق التي يَطرحها علينا بمادة جديدة ترى النص استجابة للواقع تأييدًا أو رفضًا، وتؤكد علاقة «الحوار» و«الجدل» بين النص والواقع.
إنَّ الحقائق الإمبريقية المُعطاة عن النص تؤكد أنه نزل منجمًا على بضع وعشرين سنة، وتؤكد أيضًا أن كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها، وأن الآيات التي نزَلَت ابتداءً — أي دون علة خارجية — قليلة جدًّا. وقد أدرَك علماء القرآن أن السبب أو المناسبة المعينة هي التي تحدد الإطار الواقعي الذي يُمكن فهم الآية أو الآيات من خلاله. أو بعبارة أخرى أدرك علماء القرآن أن قدرة المفسِّر على فهم دلالة النص لا بد أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه النصوص.
ولم يقف علماء القرآن عند مستوى هذا الربط الميكانيكي بين النص والواقع، وإلا ظلُّوا في إطار مفهوم فج للمحاكاة، وإنما أدركوا أن للنص — من حيث هو نصٌّ لغوي — فعالياته الخاصة التي يتجاوَز بها حدود الوقائع الجزئية التي كان استجابة لها، وهو ما ناقَشُوه تفصيلًا في قضية «العام والخاص» وهي قضية سنتعرَّض لها في الباب الثاني الخاص بآليات النص. وبالإضافة إلى ذلك فقد أدرك العلماء أيضًا أن النص وإن كان من حيث «النزول» — أي من حيث ترتيب نزول أجزائه — مُرتبطًا بالوقائع والأسباب فإنه من حيث «التلاوة» — أي من حيث ترتيبه الآن في المصحف — يتجاوز هذا الارتباط بالوقائع ليُقيم روابط أخرى ناقشها العلماء أيضًا في علم «المناسبة بين الآيات» وهو علم سنتعرَّض له أيضًا في الباب الثاني من هذه الدراسة.
(١) علة التنجيم
كان السؤال عن علة التنجيم والترتيب في نزول النص سؤالًا بديهيًّا في الثقافة بشكل عام وعند علماء القرآن بشكلٍ خاص. ولقد كان السؤال مطروحًا — على سبيل الاعتراض — من مُشركي مكة، الذين سألوا محمدًا أن يُنزِّل عليهم كتابًا من السماء إلى جانب ما سألُوه من معجزات أخرى. ويُمكن أن يكون هذا السؤال من جانب المشركين نابعًا من تصورهم لإنزال الكتب السابقة على أنبياء اليهود وأنها نزلت كتبًا كاملة مدونة كما نزلت الألواح على موسى، لذلك كان اعتراضهم على التنجيم نوعًا من التشكيك في مصدر النص.
ولا شك أن «تثبيت الفؤاد» المُشار إليه في الآية يشير إلى مراعاة حال «المتلقي الأول» من حيث صعوبة عملية الاتصال بالوحي عليه على الأقل في بدايتها كما يقول ابن خلدون، ومن حيثُ أن الثقافة ثقافة شفاهية يستحيل فيها استيعاب نص على هذا الطول. وعلى ذلك فإن مُراعاة حال المتلقِّي الأول ليست مجرد مراعاة لعوامل شخصية ذاتية بقدر ما هي مراعاة لحالة عامة يدخل فيها المتلقِّي الأول جنبًا إلى جنب مع المخاطبين بالنص. لكن علماء القرآن لم يدركوا من هذا الجانب لعلة «التنجيم» سوى موقف المتلقي الأول للنص ومراعاة حالته وتثبيت فؤاده وتقوية قلبه:
«فإنَّ الوحي إذا كان يتجدَّد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز، فحدَث له من السرور ما تقصر عنه العبارة.
كما أدركوا أيضًا الطبيعة الشفاهية للثقافة وإن ظلُّوا يدورون في إطار شخصية الرسول وحده:
وإذا كان النص في نظر علماء القرآن يَستجيب لأحوال المرسَل إليه والمتلقي الأول للوحي، وهو مجرد وسيط «مبلغ» كما سبقت الإشارة، فلا شك أن استجابته لأحوال المخاطَبين بالنَّص تكون هي الأساس. والفصل بين المتلقي الأول وبين المُخاطبين فصل لا مبرِّر له على أيَّة حال. إنَّ النص هنا يستجيب لواقع ثقافي له شروطه الموضوعية الخاصة وأهمها «الشفاهية». وإذا كان القرآن يُشير إلى كتب سابقة نزلت على الأنبياء السابقين، ويشير إلى ألواح موسى التي كُتب له فيها من كل شيء، فإن تصور الثقافة أن الأنبياء السابقين كانوا قارئين كاتبين — وهو تصوُّر ثقافي لا حقيقة تاريخية — فهم هذا فهمًا حرفيًّا. ولذلك كان تبرير التنجيم في حالة القرآن مُقترنًا بتصور النزول الكامل للكتب السابقة، وهو ما جعل المشركين يعترضون — كما سلفت الإشارة — على تنجيم نزول القرآن.
لكن فهم علماء القرآن لعلَّة التنجيم يتجاوز إطار مراعاة حال المتلقي الأول إلى مقاربة الإحساس بجدلية العلاقة بين النص والواقع. إن السؤال الذي يَتبادَر إلى الذهن من منظور ديني هو: لماذا كان التنجيم مُراعاة للوقائع والأسباب، والله سبحانه وتعالى عالم بالوقائع كلها جملتها وتفاصيلها قبل أن تقع؟ ولا شك أن مثل هذا السؤال يتجاهَل حقيقة أن الفعل الإلهي في العالم فعلٌ في الزمان والمكان؛ أي فعل من خلال قوانين العالم ذاته، سواء كان عالمًا طبيعيًّا أم عالمًا اجتماعيًّا. وإذا كانت هذه القوانين ذاتها من منظور ديني من صُنعِ الله، فإن السؤال نفسه يفقد مبرر طرحه. لكن الذي برَّر طرح هذا السؤال عند علماء المسلمين هو تصوُّرهم أن مُراعاة قوانين الزمان والمكان في الفعل الإلهي يتضمَّن تهوينًا من شأن «القدرة الإلهية» المُطلقة. وقد جاءت إجابة علماء القرآن على هذه الأسئلة كاشفة عن وعي لم يُتح له للأسف أن يمتد إلى كل علوم القرآن. كان السؤال الذي طُرح هو: ألم يكن في قُدرة الله المطلقة أن ينزل القرآن جملة واحدة، وأن يُقدِر النبيَّ ﷺ على حفظِه دفعة واحدة وكان الجواب:
إنَّ هذا الفهم من جانب علماء القرآن ظلَّ للأسف فهمًا جزئيًّا؛ ومن ثم لم يُتح له أن يظلَّ حيًّا على المستوى الحقيقي في ثقافتنا، وإن ظلَّ له على المستوى النظري نوع من الاعتراف، ولكنه اعتراف يتبدَّد في إعطاء الأولوية في التفسير للقائل على الواقع. وإذا كانت أسباب هذا الفصل بين النص والواقع في تراثنا الديني أسبابًا يُمكن تلمسها في سيطرة الاتجاهات الرجعية على مجمل التراث ومُساندتها للقوى المسيطرة على الواقع الاجتماعي والسياسي، فإن هذا الفصل في ثقافتنا المعاصرة، وفي الخطاب الديني الرسمي على وجه الخصوص، يرتد إلى أسباب مشابهة وإن اختلفت الظروف الموضوعية؛ إذ بالإضافة إلى سيطرة قوى التخلف على الواقع ومساندة الخطاب الديني لهذه القوى، يستند الفصل بين النص والواقع إلى الاتجاهات الفكرية التي سيطرت على التراث مُعطيًا لأيديولوجيتِه مشروعية تاريخية، ومضيفًا عليها قداسة تَحرِم الآخرين من حق مناقشتها ومواجهتها.
(٢) كيفية التنجيم
ويُمكن أن نتلمَّس الانحراف الذي أصاب هذا الفهم لعلاقة النص بالواقع — على مستوى الفِكر الديني — في مُناقشة علماء القرآن لقضية كلامية محورها آيتان من القرآن ذاته هما:
«واختُلِف في كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال: أحدها أنه نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر جُملةً واحدةً، ثم نزل بعد ذلك منجَّمًا في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين سنة أو خمس وعشرين سنة، على حسب الاختلاف في مدة إقامته بمكة بعد النبوة.
والقول الثاني: أنه نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين ليلةً قدر من ثلاث وعشرين سنة، وقيل: في خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة، في كل ليلة ما يُقَدِّر الله سبحانه إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجمًا في جميع السنة على رسول الله ﷺ.
والقول الثالث: إنه ابتُدئ إنزالُه في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك مُنجمًا في أوقات مختلفة من سائر الأوقات.
ويُمكن لمثل هذا التصور أن يمتدَّ إلى ما شاء الله؛ ذلك أنه يُدخلنا في متاهة من الافتراضات دخل فيها علماء القرآن بالفعل، وذلك إذا تساءلنا مثلًا — كما تساءلوا — ما السرُّ في إنزاله جملة إلى السماء؟ وفي أي زمان نزل على وجه التحقيق؟ وهل كان ضمن ما نزل من القرآن قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بصيغة الماضي التي تتعارَض مع وجودها في النص قبل نزوله؟ وإذا قلنا إنها أضيفت إلى النص — بعد نزوله — أليس معنى ذلك أنها ليسَت من القرآن الأزلي القديم الذي هو صفة الذات الإلهية، وهذا يُؤدي إلى القضاء على مفهوم «الصفة الأزلية» للكلام الإلهي، ويهدم كل هذه التصورات من أساسها؟ ومع ذلك كله فإن النقاش يمتد، والافتراضات الذهنية تتزايد:
«فإن قيل: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء؟ قيل: فيه تفخيم لأمره، وأمر من نزل عليه؛ وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، ولقد صرَّفناه إليهم لينزله عليهم. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضَت نُزوله منجمًا بسبب الوقائع لأهبطه إلى الأرض جملة.
فإن قيل: في أي زمان نزَل جملة إلى سماء الدنيا، بعد ظهور نبوة محمد ﷺ أم قبلها؟ قلت: قال الشيخ أبو شامة: الظاهر أنه قبلها، وكلاهما محتمل، فإن كان بعدها فوجه التفخيم منه ما ذكرناه، وإن كان قبلها ففائدته أظهر وأكثر.
وليسَت هذه الافتراضات والتمحُّلات كلها إلا لتجنُّب اتخاذ أي موقف نَقدي من الروايات القديمة كما سبقت الإشارة. والحقيقة أنه لم يكن ثمَّة نزول مُجمَل للنص من مكان إلى آخر وراء عالم الأرض، عالم الوقائع والجزئيات؛ ذلك أن مثل هذا التصور لا تُعارضه الآية محور النقاش فقط، بل يُعارضه «النَّسخ» وإزالة حكم النص ومنطوقه. وصيغة الماضي الواردة في الآية محور النقاش صيغة دالة بحقيقتِها من حيث ابتداء النزول أولًا ومن حيث الموقف الاتِّصالي — حال الاتِّصال كما ورد في الفصل السابق — ثانيًا. لقد كان موقف الفقهاء والأصوليِّين من «أسباب النزول» هو الموقف الأكثر نضجًا كما يتجلَّى ذلك من مناقشتهم للحكمة من وراء التنجيم وأهميته بالنسبة لاكتشاف دلالة النص.
(٣) الدلالة بين عموم اللفظ وخصوص السبب
إن معرفة أسباب النزول ليست مجرَّد ولع برصد الحقائق التاريخية التي أحاطَت بتشكُّل النص، بل تستهدف هذه المعرفة فهم النص واستخراج دلالتِه، فإنَّ العلم بالسبب يورث العلم بالمُسبَّب كما يقولون. هذا إلى جانب أن دراسة الأسباب والوقائع تُؤدي إلى فهم «حكمة التشريع» خاصة في آيات الأحكام، ومن شأن فهم «الحكمة» أو «العلة» أن يُساعد الفقيه على نقل الحكم من الواقعة الجزئية — أو السبب الخاص — وتعميمه على ما يشابهها من الوقائع والحالات «بالقياس». لكن علينا أن نُدرك أن هذا النقل من السبب إلى «صورة السبب»، أو من الواقعة الخاصة إلى ما يُشبهها لا بدَّ أن يستند إلى «دوال» في بنية النَّص ذاته تساعد على نقل الدلالة من «الخاص» والجزئي إلى «العام» والكلي. وإذا كانت قضية «العموم والخصوص» ستُناقَش في الباب الثاني الخاص بآليات النص في إنتاج الدلالة، فمن الطبيعي أن نكتفي هنا بمُناقشة مفهوم القدماء لعلاقة الارتباط بين المعنى و«أسباب النزول».
زعم زاعم أنه لا طائل تحت هذا الفن لجريانه مجرى التاريخ وأخطأ في ذلك بل له فوائد: منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. ومنها تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. ومنها أن اللفظ قد يكون عامًّا ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قُصِرَ التخصيص على ما عدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع، كما حكى الإجماع عليه القاضي أبو بكر في التقريب ولا التفات إلى مَن شذَّ فجوَّز ذلك. ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال، قال الواحدي: لا يُمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها. وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
إن الذي يجمع بين هذه الفوائد ويضمُّها في إهاب واحد هو سعي المُفسِّر والفقيه إلى اكتشاف دلالة النص ومعناه. وإذا كان اهتمام الفقهاء قد انصب أساسًا على النصوص الخاصة بالأحكام دون ما عداها من النصوص فإن طرائقهم في تحليل النصوص لاستقطار دلالتها طرائق هامة، فيما يرتبط بمنهج التحليل اللغوي للنصوص بشكل عام. ويُعلِّمنا هذا المنهج أن السعي لاكتشاف دلالة النص لا يجب أن يَفصل بين النص وبين الوقائع التي يُعبر عنها، ولكنه لا يصح أن يقف عند حدود هذه الوقائع دون أن يدرك خصوصية الأداء اللغوي في النص وقُدرتها على تجاوز الوقائع الجزئية. إن درس «أسباب النزول» يُزوِّد الفقيه بالعلة من وراء أحكام النصوص. ومن خلال اكتشاف هذه العلة يستطيع الفقيه أن يُعمِّم الحكم على وقائع أخرى شبيهة.
إن الوقائع لا نهاية لها، والواقع في حالة حركة مُستمرة سيالة، ولكن النصوص من جهة أخرى محدودة وإن كانت قادرة على استيعاب تلك الوقائع بحكم قدرة اللغة على التعميم والتجريد. إنَّ استيعاب النصوص للوقائع الجديدة لا بد أن يستند إلى «دوال» إما في بِنية النص وإما في السياق الاجتماعي لخطابه؛ أي في أسباب النزول. وقد أدرك عمر بن الخطاب حكمة التشريع الذي يُعطي للمُؤلَّفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة لا من بنية النص ذاته، بل من السياق العام للنص، فأدرك أن حكمة هذا «التأليف» تقوية الإسلام الذي كان ضعيفًا. ومع قوة الإسلام وسيطرته على الجزيرة العربية وامتداده إلى ما وراءها لم يَعُد ثمَّة «حكمة» في إعطاء جزء من الزكاة لمن لا يستحقها. وداخل هذا الفهم يستقر فهم آخر للحكمة من فرض الزكاة على الأغنياء والقادِرين وإعطائها للفقراء والمحتاجين. وبنفس الفهم من جانب عمر لحكمة فرض «حد» السرقة لم يَقُم هذا «الحد» على العبدين اللذَين سرَقا من سيدهما الذي كان يُجيعهما، وهدَّد ابن الخطاب السيد نفسه بقطع يده لو عاد العبدان للسرقة مرة أخرى.
-
(١)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.
-
(٢)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
-
(٣)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.١١
ومثل هذا التدرُّج في التشريع هام جدًّا فيما نلحُّ عليه من جدلية العلاقة بين النص والواقع. لقد كانت الآية الأولى إجابة عن سؤال كما هو واضح من نصها «يسألونك»، ورغم إشارة الآية إلى أن الإثم أكبر من النفع فقد كان الناس حريصين على التمسك بمنافعها. إن قوة الواقع هنا جعَلَت النصَّ يكتفي بالإشارة إلى ما فيها من إثم دون أن يُغامر بالتحريم الذي لم يتهيَّأ له البشر بعدُ. وكانت المرحلة الثانية النَّهي عن الصلاة حالة السكر بما يتضمَّنه من نهي عن شرب الخمر قبل مواقيت الصلاة. وبعملية حسابية بسيطة من السهل أن نُدرك أن هذا النهي كان بمثابة علاج تدريجي لحالة «الإدمان» الاجتماعية. إن النهي عن الشرب قبل الصلاة — عن طريق النهي عن الصلاة حالة السُّكر — لا يترك للإنسان سوى بضع ساعات من الليل يمارس فيها الشراب الذي صار مُحرَّمًا تقريبًا طوال اليوم مع تعاقب أوقات الصلاة الخمسة، إضافة إلى مشاغل السَّعي في طلب الرزق. إن مثل هذا التدرج في التشريع لا يُؤكد جدَلية الوحي والواقع فقط، بل يكشف عن منهج النص في تغيير الواقع وعلاج عيوبه.
هل مِن المنطقي بعد ذلك أن يتمسَّك العلماء «بعموم اللفظ» دون مُراعاة لخصوص السبب؟ إذا كان عموم اللفظ هو الأساس في اكتشاف دلالة النصوص لأمكن أن يتمسَّك البعض بالآية الأولى أو بالآية الثانية، ولأدى ذلك في النهاية إلى القضاء على التشريعات والأحكام كلها. وليس هذا مجرَّد افتراض؛ فقد وقَع الفقهاء في شيء شبيه بهذا أمام آية من القرآن تمسَّكوا فيها بعموم اللفظ وأهدروا خصوص السبب، هذه الآية هي قوله تعالى:
وقد ذهب الإمام «مالك» إلى أن هذه الآية تحصر المحرَّمات استنادًا إلى بنائها وتركيبها اللغوي المُعتمِد على القَصر بالنفي والاستثناء، لكن الإمام «الشافعي» استنادًا إلى «أسباب النزول» ذهب إلى أنها ليسَت نصًّا في حصر المحرَّمات، بل دلالتها إثبات تحريم ما ورَد فيها دون أن يستتبع ذلك أن خلاف ما ذُكِر فيها مُحلَّل.
وهذا الفهم من جانب الإمام الشافعي إلى جانب استناده إلى «أسباب النزول» يتوافَق مع ترتيب نزول آيات التحريم الخاصة بالأطعمة، فالآية التي تحصر المحرَّمات هي الآية الثالثة من سورة المائدة، في حين أن آية سورة الأنعام هي الآية الأولى نزولًا، وبينهما نصوص أخرى في سورة النحل: الآيتان ١١٥-١١٦، وفي سورة البقرة: الآيتان ١٧٢، ١٧٣، وذلك طبقًا لما يَرويه السيوطي:
إن مناقشة دلالة النصوص من خلال ثنائية «عموم اللفظ» و«خصوص السبب» أمر يتعارَض مع طبيعة العلاقة بين النص اللغوي وبين الواقع الذي ينتج هذا النص؛ ذلك أن إنتاج النص يتمُّ من خلال وسيط له قوانين لها قدر من الاستقلال هو الفكر والثقافة، وتنتمي دوال النص وعلاماته إلى النظام اللغوي الذي يعدُّ نظامًا خاصًّا داخل نظام الثقافة وإن كان هو النظام المركزي. وفي النصوص تتفاعَل نظم دلالية ثانوية داخل النظام العام للنص، فنجد دوالَّ تتجاوَز إطار الوقائع الجزئية، ونجد دوالَّ أخرى تُشير إلى الوقائع الجزئية ولا تتجاوزها. في النصوص الأدبية مثلًا دوال يُمكن أن نقول إنها خاصة أو محلية، دوال تُشير إلى حياة المؤلف وإلى ثقافته، ولكن النصوص الممتازة — دون النصوص ذات المستوى الأدنى — تتضمَّن أيضًا دوال ذات طبيعة عامة، وهي الدوال التي تُمكِّن العصور المختلفة من قراءة النصوص واكتشاف دلالات مُغايرة فيها. إن نصوص شكسبير مثلًا تتضمَّن إشارات إلى أساطير تدلُّ على معتقدات العصر، وهي دوال تسقط عادةً في القراءات المعاصرة لحساب الدلالات العامة، ونفس الأمر يَنطبق على نصوص امرئ القيس أو المعرِّي مثلًا.
من هنا يكون الوقوف عند أحد جانبي الدلالة في النص خطرًا على مُستوى النصوص الدينية من حيث إنه يُؤدِّي إلى خلق تعارُضات داخل النص لا يُمكن حلها، وهي تعارضات ناشئة عن إهدار «الخصوص» لحساب «العموم». إنَّ قضية العموم والخصوص لا يَنبغي أن تهدِر «خصوص السبب»؛ ذلك أن اللغة رغم قُدرتها الهائلة على التجريد والتعميم تظلُّ نظامًا ثقافيًّا خاصًّا. ولذلك يُمكن أن يكون اللفظ عامًّا وتكون دلالته خاصة. وقد اختلف علماء أصول الفقه حول هذه القضية وإن كانوا طرحوها بلغة عصرهم ومن منظور عِلمهم، فتساءلوا هل حمل العام على الخاص — أو تأويل المطلق بالمقيد من النصوص — يكون بالقياس أو بوضع اللغة؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك يكون باللغة ذلك أن:
وذهب الإمام الشافعي إلى أن عموم الألفاظ لا يُستدل منها دائمًا على التعميم؛ فقد يكون اللفظ عامًّا، والمراد التخصيص، فقال:
ومعنى رأي الشافعي أن قضية العموم والخصوص قضية لغوية، وليس من الضروري أن يكون اللفظ دالًّا على عموم ما يَندرج تحت مفهومه من أفراد. وهو رأي يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى بأنَّ دلالة اللغة ليست دلالة منطقية؛ فالألفاظ في علاقاتها التركيبية والسياقية تكتسب دلالتها. وعلى ذلك يجب أن يكون المعيار هو «النص» ذاته بما ينتظم مفهوم النص من عناية بأسباب النزول.
وليس معنى أن «أسباب النزول» هامَّة وأساسية لاكتشاف المعنى والدلالة أن تظلَّ حدود الدلالة واقفة عند المستوى الإشاري الخالص للواقعة الجزئية الخاصة؛ ففي مثل هذا القُصور ما فيه من إهدار لكون اللغة والنصوص من ثمَّ لها آلياتها الخاصة في التعبير عن الواقع والثقافة. وإذا كنا هنا حاوَلنا أن نُؤكِّد على بُعد «الخصوصية» الذي تكشف عنه في دلالة النصوص «أسباب النزول»؛ فذلك لأن الاتجاه الغالب في الفكر الديني إهدار هذا البُعد لحساب بُعد «عموم اللفظ». هذا بالإضافة إلى أننا في الباب التالي سنُناقش قضية العموم من زاوية إنتاج الدلالة في النصوص. إنَّ دلالة النصوص ليسَت إلا محصِّلة لعملية التفاعل في عملية تشكيل النصوص وصنعها من جانبَي اللغة والواقع، وكلا الجانبَين هامٌّ لاكتشاف دلالة النصوص. وإذا كانت «أسباب النزول» على هذه الدرجة من الأهمية، فما معيار تحديد أن هذه الواقعة أو تلك هي «سبب نزول» نص بعينه، خاصة إذا تضاربت الروايات، وتعدد فيها ذكر «وقائع» مختلفة ومُتباعدة بوصفها سبب نزول نص بعينه؟
(٤) تحديد سبب النزول
ولكن ماذا نفعل حين لا نستطيع تحديد أسباب النزول تحديدًا حاسمًا جازمًا؟ في الإجابة عن هذا السؤال وقع علماء القرآن أيضًا في مُشكلة كيفية الترجيح بين الروايات المختلفة، ووضعوا مجموعة من المعايير والشروط. والعلة وراء ذلك أنهم تصوَّروا أن العلم بأسباب النزول لا سبيل إليه إلا بالنقل والرواية، ولا مجال فيه للاجتهاد والاستنباط، وبذلك حصروا مجال الاستنباط والاجتهاد في مقابلة الروايات والترجيح بينها. ذهب الواحدي إلى أنه:
وإذا كانت رواية الصحابة لأسباب النزول على هذه الدرجة من الثِّقة والصحة حتى ارتفعت إلى مستوى الأحاديث المسندة، فإن أحدًا لم يَتنبه لأن رواية أسباب النزول نشأت في عصر تالٍ هو عصر التابعين؛ إذ لم يكن ثمَّة حاجة في عصر الصحابة للحرص على رواية الوقائع التي نزلت بسببها الآيات آيةً آيةً أو واقعة واقعة، فلم يكن الواقع العمَلي يُحتِّم على مُعاصري الوحي وشهوده رواية الوقائع والأسباب بالتفصيل. وما ورَد عن الصحابة في هذا الشأن إنما كان استجابةً لتساؤلات عصر تالٍ هو عصر التابعين الذين أشكلَت عليهم بعض دلالات النص، فأرادوا معرفة أسباب النزول لكشف هذه الدلالات. هذا بالإضافة إلى أنَّ عامل الزمن وما يتبعه من نسيانٍ كان له أثره دون شكٍّ في معرفة الصحابي — أو بالأحرى في تذكره — لسبب النزول، بمعنى الواقعة المحدَّدة التي أعقبها نزول الآية أو الآيات. ولم يكن كل الصحابة يَقينًا مُعاينين لنزول كل الآيات في الأوقات المختلفة. لذلك يتنبه ابن تيمية إلى أننا يجب أن نُفرِّق في روايات الصحابة بين ما يُحدد سبب نزول الآية وبين ما يُشير إلى حُكمها، فقال:
وإذا كانت هذه الملاحظة الدقيقة من جانب ابن تيمية تُفرِّق بين ما يدلُّ على سبب النزول وبين ما يشير إلى المعنى والحكم من أقوال الصحابة ومروياتهم فإنها لا تحلُّ لنا مشكلة أن تختلف روايتان عن صحابيَّين في تحديد سبب النزول. وإذا كانت «معرفة أسباب النزول أمرًا يَحصل للصحابة بقرائن تحتف بالقضايا» كما يقول القُدماء، فإن فهم هذه القرائن وتأويلها يختلف من صحابي إلى صحابي. وقد يَسمع الصحابي الآية لأول مرة عند قرينة بعينِها، فيربط بين القرينة والآية ويظنُّ القرينة الخاصة التي عايَنها هي سبب النزول. لذلك يجب أن نُحذر بعض التأكيدات الجازمة من مثل قول ابن مسعود:
فلكَي نفهم قول ابن مسعود علينا أن نبحث عن «السبب» أو «القرينة» التي احتفَت بقوله هذا وتأكيده القاطع الجازم أنه يعلم أسباب النزول وأماكنه لجميع آيات القرآن. وإذا كان العلماء قد أعطَوا أولوية مُطلقة لمرويات الصحابة خاصةً إذا ورَد فيها ذكر السبب واضحًا دون ذكر الحكم أو الدلالة، فإنهم اعتبروا مثل هذا النمط من المرويات من مرتبة الأحاديث المسندة. وما ورَد عن التابعي فهو بمثابة الحديث المرفوع يُقبَل إذا صح المسند إليه وكان من أئمة التفسير الآخِذين عن الصحابة كمُجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير. وهكذا صار معيار تحديد «سبب النزول» الثِّقة بالرواة، وأُدخِلت مرويات أسباب النزول منطقة الأحاديث النبوية؛ وذلك دون إدراك لمعضلات النقل والرواية ودوافعها. وإذا أضَفنا إلى ذلك أن عصر التابعين كان عصر الخلافات السياسية والفكرية أدركنا أن تحديد «أهل الثقة» من الرواة تم على أساس «أيديولوجي» انتهى إلى إعطاء سلطة دينية مطلقة في مجال هذه المرويات لبعض التابعين دون بعض.
إنَّ منهج القدماء في الترجيح بين الروايات من الصعب — كما رأينا في مناقَشة قضايا المكي والمدني — أن يُؤدي بنا إلى تحقيق سبب النزول على سبيل القطع. وتظل معرفة «أسباب النزول» مسألة اجتهادية. وعلى ذلك لا بد أن يتمتَّع الباحث المعاصر بحق الاجتهاد والترجيح بين الروايات المختلفة بطرائق أكثر أهمية؛ وذلك استنادًا إلى مجمل العناصر والدوال الخارجية والداخلية المكونة للنص. إنَّ «أسباب النزول» ليست سوى السياق الاجتماعي للنصوص، وهذه الأسباب كما يُمكن الوصول إليها من خارج النص يُمكن كذلك الوصول إليها من داخل النص، سواء في بنيتِه الخاصة، أم في علاقته بالأجزاء الأخرى من النص العام. ولقد كانت مُعضلة القُدماء أنهم لم يجدوا وسيلة للوصول إلى «أسباب النزول» إلا الاستناد إلى الواقع الخارجي والترجيح بين المرويات، ولم يَتنبهُوا إلى أن في النص دائمًا دوالَّ يُمكن أن يكشف تحليلها عمَّا هو خارج النص؛ ومن ثم يُمكن اكتشاف «أسباب النزول» من داخل النص، كما يُمكن اكتشاف دلالة النص بمعرفة سياقه الخارجي. إن تحليل النصوص واكتشاف دلالتها عملية معقَّدة لا يجب أن تسير في اتجاه واحد من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل إلى الخارج، بل يجب أن تسير في حركة «مكوكية» سريعة بين الداخل والخارج.
لقد كان منهج القدماء إما إغفال الداخل تمامًا بالترجيح بين الروايات فقط، أو إغفال الخارج تمامًا بالاعتماد على تحليلٍ شكليٍّ للغة النص أدَّى إلى ما وقع فيه المُتكلِّمون من أخطاء حين اعتمدُوا في «تأويلهم» للنص على مفهوم تحليلي واحد هو «المجاز»، وهو مفهوم تحوَّل بدوره إلى مفهوم «أيديولوجي». لكن منهج الترجيح بين الروايات أدَّى إلى ذات الافتراضات الذهنية التي سبق لنا أن ناقَشْناها في «المكي والمدني». وقد وضع علماء القرآن المعايير التالية لاكتشاف «أسباب النزول» من خلال المرويات؛ وذلك بالإضافة إلى المعايير التي سبَق أن ناقشناها.
-
(١)
إذا اختلفت الروايتان وكانت إحداهما أصح من الأخرى فالمُعتمَد هو الرواية الصحيحة.
-
(٢)
إذا استوى إسناد الروايتَين في الصحة فيُرَجِّع إحداهما أن يكون الراوي حاضرًا القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات. والمثال الذي يَطرحه العلماء لهذا النمط هو خلاف رواية ابن مسعود عن رواية ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وقد سبَقَت لنا مناقشة هذا المثال في المكي والمدني، وبَيَّنا هناك أن الصحيح ليس رواية ابن مسعود، رغم أنه — حسب روايته — حضر نزول الوحي بالآيات. وهو أمر أدَّى إلى افتراض نزول الآية مرتين؛ مرة في مكة ومرة في المدينة.
-
(٣)
إذا تعذَّر الترجيح بين الروايتَين فإن الحل هو افتراض تعدُّد نزول الآية عقب السببَين أو الأسباب المذكورة، وهذا الافتراض يؤدي بنا إلى مناقشة تعدُّد نزول الآية الواحدة عند الأسباب المتعدِّدة، ويُؤدِّي بنا أيضًا إلى مناقشة وجهه المنطقي الآخر، وهو نزول آيات مختلفة عند سبب واحد.
(٥) تكرار نزول الآية، وتعدُّد الآيات عند السبب الواحد
كان من شأن منهج الترجيح بين الروايات أن ينتهي إلى ما انتهى إليه في قضايا المكي والمدني من الدخول في افتراضات ذهنية هدفُها وغايتها الجمع بين الآراء والروايات؛ لصُدورها عن أشخاص أُضفيَت عليهم بعض أوصاف القداسة، سواء كانوا من الصحابة أم كانوا من التابعين. لقد انتهى المَوقِف بمُتأخِّري العلماء إلى محاولة جمع البيض كله في سلَّة واحدة دون فحص أو تحقيق. مثال ذلك:
«ما أخرَجه الشيخان عن المسيب قال: لما حضَر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله ﷺ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال: أي عمِّ قل لا إله إلَّا الله، أحاجُّ لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى قال هو على ملَّة عبد المطلب، فقال النبي ﷺ: «لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنه»، فنزلت مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ … الآية.
وأخرج الترمذي وحسَّنه عن علي قال: سمعتُ رجلًا يستغفر لأبوَيه وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: استغفَرَ إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرتُ ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت.
وإذا كانت الرواية الثانية لا تَحتاج لتعليق طويل لذلك المجهول المُجادِل فيها، فإنَّ الرواية الثالثة التي تجعل سبب نزول الآية محاولة النبي الاستغفار لأمِّه عند قبرها تُثير مجموعة من المعضلات، سواء فيما يخص مشاعر الرسول أم فيما يخصُّ أهلَ «الفَتْرة»، وهم الذين لم يُعاصِروا الوحي وماتوا على جاهليتهم. وإذا كان النبيُّ قال حين سئل عن زيد بن عمرو بن نفيل «إنه يُبعث أمة وحده» إكبارًا لاعتزاله لعادات قومه ومُعاداته لدينهم ومُعتقداتهم، رغم أنه مات قبل أن يتحوَّل إلى الإسلام، فإنَّ إطلاق صفة المُشركين على السيدة آمنة التي ماتَت قبل البعثة من شأنه أن يجرح مشاعر النبي. والأهم من ذلك والأخطر أنه وصف يترتب عليه وعيد وعذاب لا يرى الفقهاء أنه واقع على من ماتوا قبل البعثة. لذلك لا بد من رفض هذه الرواية بوصفها سببًا لنزول الآية.
لقد كان على علماء القرآن بدلًا من الجمع بين الروايات المختلفة والمتناقضة أحيانًا — بافتراض تعدُّد نزول الآية — أن يفصلوا بين كون الآية نزلت عند هذه الواقعة وبين كونها نزلت قبل ذلك عند سبب آخر، ثم حدثت واقعة مُشابهة استدعت «تلاوتها»، ولا تكون التلاوة عند واقعة مشابهة نزولًا، وإلا دخلنا في مفهوم المتصوفة عن «النزول» المتكرِّر للآيات على قدر القارئ وعلى حالته. وقد كان هذا الفارق معروفًا للعلماء، لكنَّهم لم يطبقوه دائمًا، بل اكتفوا بالإشارة إليه قائلين:
وما دام العلماء قد افترضوا تكرار نزول الآيات في مُناسبات ووقائع مختلفة، فقد كان من الطبيعي استكمال الوجه الآخر المنطقي لهذا الافتراض؛ وذلك بافتراض أن ينزل في المناسَبة الواحدة والواقعة المعيَّنة عدة آيات. إنَّ الافتراض الأول يؤدِّي هنا إلى مقابله المنطقي؛ وذلك ما يُعبِّر عنه السيوطي قائلًا:
ولا شكَّ أن تعدُّد هذه الروايات بصيغ مختلفة عن أم سلمة في مُناسبات مختلفة — إن صح — لا يمثل مناسبة واحدة، أو سؤالًا واحدًا. والحقيقة أن إسناد هذه الروايات كلها إلى أم سلمة يُصوِّرها لحسِّنا المعاصر وكأنها كانت تُدافع طول الوقت عن «قضية المرأة» في هذا المجتمع. وغالب الظنِّ أن السؤال ربما يكون قد وقع مرة، إذ إنَّ استخدام القرآن كلمة «رجال» لا يعني دائمًا «الذكور»، بل قد يُشير إلى الذكور والإناث معًا على التغليب. وإذا كنَّا في قواعد اللغة نُغلِّب جمع الذكور على جمع الإناث في حالة وجود «ذكر واحد» في المشار إليهم، فمِن الطبيعي أن يُشير القرآن في كثير من المواضع للجنسَين بكلمة «الرجال». وهذا أمر طبيعي في ثقافة «رجولية» إن صحَّت العبارة؛ أي في ثقافة تتبع المرأة فيها الرجل وتكون جزءًا منه غير مُستقِلٍّ بذاته. لكنَّ القرآن يفرق عند تخصيص الأحكام بين الرجال والنساء.
ليس ثمَّة إذن تعدُّد للنصوص حول واقعة واحدة، وعلينا أن نبحث أي هذه الآيات نزَل أولًا؛ أي علينا أن نُرتِّب الآيات طبقًا لنزولها. لقد كان ثَم سؤال واحد من أم سلمة، ثُم كانت استجابة الوحي لهذا السؤال استجابة دائمة حرصًا على ذكر الجنسَين بألفاظهما الخاصة.
إنَّ افتراض تعدُّد النصوص استجابة لواقعة واحدة — مثله مثل افتراض تكرار نزول الآية الواحدة أو الآيات عند أسباب ووقائع مختلفة، يؤدي — كما سبقت الإشارة — إلى الفصل بين النص ودلالته، ويؤدِّي من ثم إلى القضاء على مفهوم النص ذاته. وإذا كانت علاقة النصوص بالواقع جزءًا أصيلًا من مفهوم النص، فإن قضية الناسخ والمنسوخ — موضوع الفصل التالي — تضَع الخُطوط واللمسات الأخيرة في تأكيد هذا الارتباط الضروري بين النص والواقع؛ ومن ثم بين الإسلام وحركة المجتمع.