الإعجاز
إنَّ البحث في قضية الإعجاز ليس في حقيقته إلا بحثًا عن السمات الخاصة للنص والتي تُميِّزه عن النصوص الأخرى في الثقافة وتجعله يعلو عليها ويتفوَّق. ولا شك أن النص في علاقته بالنصوص الأخرى يتضمَّن داخله دوال تؤكد مشابهته لها، ولكنَّه يتضمَّن أيضًا دوالَّ أخرى تُؤكِّد مخالفته لها. وقد سبق أن أشرنا إشارة سريعة إلى مشابهة فواصلِ الآي لظاهرة السجع، ولكن العلماء المسلمين كانوا حريصين أشد الحرص على نفي أي مُشابهة بين النص وبين غيره من النصوص. لقد فهم النص في مجرى الثقافة بوصفِه «معجزة» خارقة للعادة تُساوي المعجزات الأخرى التي حدثت على أيدي الأنبياء مثل إحياء الموتى، بل اعتُبِر القرآن مُعجزة أعظم من كل المعجزات السابقة:
إن ما يقوله ابن خلدون هنا عن «اتحاد الدليل والمدلول» يُمكن التعبير عنه بطريقة أخرى بالقول إن صدق الوحي لا يحتاج إلى دليل آخر خارجه، بل الوحي ذاته يتضمن الدليل على صدقه. وإذا كانت الدعوات والرسالات السابقة احتاجت إلى دليل يُؤكِّد صدق الوحي، دليل خارجي يتمثَّل في وقوع فعل خارق للعادة على يد النبي، فإن الدعوة والرسالة في حالة الإسلام لم تكن بحاجة لمِثل هذا الدليل الخارجي. ولا شكَّ أن مفهوم «الصدق الذاتي الداخلي» للوحي مفهوم أضفته الثقافة على النص بعد أن تقبَّلته وحولته إلى أن يكون «النص» بألف ولام العهد. ومن المؤكَّد أن اتحاد الدليل والمدلول في مفهوم الوحي مفهومٌ يحتاج بدوره إلى تفسير، فلماذا كان الوحي الإسلامي بهذه المثابة خلافًا لحالات الوحي السابقة التي انفصل فيها الدليل عن المدلول، واحتاج الوحي فيها من ثمَّ إلى دليل خارجي يؤكد صدقه؟
وفي الإجابة عن هذا السؤال نعود مرة أخرى لعلاقة النص بالثقافة لا في حالة الإسلام فقط، بل في حالات الوحي السابقة أيضًا. إن المعجزة — التي هي دليل الوحي — لا يجب أن تفارق حدود الإطار الذي تتميَّز به الثقافة التي يَنزل فيها الوحي، لذلك كانت معجزة عيسى إبراء المرضى وإحياء الموتى، ما دامت ثقافته كانت تتميَّز بالتفوق في علم الطب. ولأنَّ قوم موسى كانوا مُتفوقين في السحر كانت مُعجزته من جنس ما تفوَّقوا فيه. والعرب الذين نزل فيهم القرآن كان «الشعر» مجال تفوُّقهم لذلك كانت المعجزة نصًّا لغويًّا هو ذاته نص الوحي، وهكذا اتحد الدليل بالمدلول:
لكن مُحاولة علماء القرآن فصل النص عن غيره من النصوص داخل الثقافة كانت نابعة من مُعطيات النص ذاته بعد أن أعيد تفسيرها تفسيرًا جديدًا في سياق تطور حركة الواقع ذاته. والحقيقة أن العرب المُعاصرين لتشكيل النص لم يكونوا قادِرين على استيعاب «التغاير» و«المخالفة» بين النص والنصوص التي لديهم، ولذلك كانوا حريصين أشد الحرص على جذب النص «الجديد» إلى أُفقِ النصوص المعتادة، فقالوا عن النبي شاعرًا وقالوا عنه كاهنًا. ولا شك أن هذه الأوصاف قامَت — عندهم — على أساس من إدراك «المماثلة» بين نصِّ القرآن ونصوص الشعراء والكُهان. وإذا كان مفهوم «الوحي» ذاته قد ارتبط — کما سلفت الإشارة — بمفهوم الاتِّصال في ظاهرتي الشعر والكهانة فقد كان من الطبيعي أن تترابَط النصوص الناتجة عن الاتصال/الوحي في ذهن الجماعة.
(١) القرآن والشعر
إنَّ نفي القرآن عن نفسه صفة «الشعر» ونفيه عن النبي صفه «الشاعر» لا بد أن يُفهم على ضوء الصراع الذي دار بين «الأيديولوجية» الجديدة ومثيلتها القديمة. لقد كان الشعر «ديوان العرب» وهو علم قوم لم يكن لديهم علم غيره على حد تعبير القدماء. ومعنى ذلك أن الشعر كان «النص» بألفِ ولامِ العهد في ثقافة ما قبل الإسلام. وإذا كان النص القرآني قد تشابه مع الشعر من حيث ماهيته؛ أي من حيث كونه اتصالًا، فإنه يخالفه من جوانب شتى. ويتَّضح هذا «الخلاف» في تحديد أطراف عملية الاتصال وعلاقاتها. لقد صارت العلاقة في الوحي الديني علاقة رأسية كما سلَفَت الإشارة وصار النص «تنزيلًا»، على حين أن العلاقة في الوحي الشِّعري كانت علاقة أفقية إذ تَصوَّر العرب أن الجن قبائل تعيش في مناطق خاصة من البادية. ويَختلِف الوحي الديني عن الوحي الشعري من جهة أخرى في تعدُّد الوسائط بين المتكلِّم بالوحي (الله) وبين المتلقِّين له (الناس) في حين أنَّ الاتصال في حالة الشعر يتمُّ بلا وساطة بين الشاعر وقرينِه من الجن.
ويتجاوز الخلاف بين القرآن والشِّعر حدود أطراف عملية الاتصال وعلاقاتها إلى بناء النص ذاته. فالقرآن نص لا يُمكن أن يَندرج تحت نوع «الشعر»، ولا يُمكن أيضًا أن يندرج تحت نوع «النثر» المألوف عند العرب قبل الإسلام، سواء كان خطابة أم سجع كهان أم أمثالًا. إن القرآن — کما عبَّر طه حسين — ليس شعرًا وليس نثرًا ولكنه قرآن. ولذلك حرص المسلمون على التمييز بين المُصطلحات الدالَّة على النص القرآني وبين المصطلحات الدالة على الشعر. فالقافية في الشعر صارت الفاصلة في القرآن، والآية بدلٌ من البيت، والسورة بدل من القصيدة. وحين تمَّ جمع القرآن كان حرص المسلمين أشد على اختيار اسم للكتاب.
إن علاقة القرآن بالشعر تقوم في جانب منها على «التماثل» وتقوم في جانب آخر على «المخالفة»، إنها علاقة جدلية بدأت من المفاهيم والتصوُّرات الأساسية في الثقافة. وإذا كان حرص القرآن على نفي صفة الشعر عن نفسه وعلى نفي صفة الشاعرية عن محمد قد أدَّت إلى القول بتحريم الشعر أو كراهيته على الأقلِّ فإن هذا الاستنتاج ينظر إلى جانب واحد من علاقة القرآن بالشعر ويغفل الجانب الآخر. لقد أراد النص أن يَدفع عن نفسه صفة الشعر لأسباب تَرتبط بتصور العرب لماهية الشعر من حيث المصدر والوظيفة. وبالمثل أراد أن يدفع عن محمَّد صفة الشاعرية؛ لأنَّ وظيفة الشاعر في ذلك المجتمع وظيفة مُغايرة للوظيفة التي نسبها النص لمحمَّد. الشاعر مُعبِّر عن القبيلة ومحمد مُبلِّغ لرسالة، والشعر نص يُحقق مصالح القبيلة في مهاجاة أعدائها ونصرة حلفائها أو في مدح رجالها وزعمائها، والقرآن نص يَستهدف إعادة بناء الواقع وتغييره إلى الأفضل. من هنا كان التشديد على أنَّ محمدًا ليس شاعرًا أو كاهنًا أو ساحرًا، وعلى أن القرآن ليس بشعر.
إنَّ النص في نفيه لصفة الشعر عن نفسه ولصفة الشاعرية عن محمد لا يَدين الشعر من حيث هو كما فُهِمَ الأمر بعد ذلك، بل يدين الشعر الذي أراد معاصرو محمد أن يجذبوا النص إلى آفاقه محاولين بالتالي أن يَجذبوا ظاهرة الوحي كلها للنظام الثقافي المستقر والسائد، والمُعبِّر عن مصالح الأقلية على حساب الأغلبية. ولذلك انحاز النص إلى الشعر الذي يُساعده على تحقيق وظيفته، وانصبَّ هجومه على الشعر الذي يشوش عليه القيام بهذه الوظيفة. ويمكن القول بعبارة أخرى إن موقف الإسلام من الشعر موقف «أيديولوجي» يجب أن يُفْهَم بعيدًا عن مفاهيم الحلال والحرام. لقد فرق القرآن بين الشعر الذي يتَّحد من حيث مصدره بالوحي الديني وبين الشعر الذي يأتي من مصادر أخرى. لذلك كانت أقوال «حسان بن ثابت» و«عبد الله بن رواحة» مُؤيَّدة «بروح القدس» جبريل الذي يوحي بالقرآن. وكان مصدر إلهام الشعر النقيض «الشعر العدو» الشيطان، ولذلك يكون مثل هذا الشعر في قلب المؤمن أسوأ من «القيح»:
ليس ثمة تعارض إذن في موقف الإسلام من الشعر، بل هو الموقف الأيديولوجي الذي يَقبل ما يتَّفق معه ويرفض ما يتناقض مع مبادئه. لقد كانت القضية أخطر من مجرد التحليل والتحريم، كانت محاولة النص فرض هيمنتِه وسلطانه على الواقع والثقافة. ومن الطبيعي هنا أن يرفض النص النصوص التي تُعارضه ويهاجمها. أليس في كل نص في علاقته بالنصوص الأخرى السابقة عليه والمُعاصرة له دوالُّ تؤكد بعض النصوص وتَقبلها وتُناصرها، ودوال أخرى ترفض بعض النصوص وتدينها؟ هكذا كانت علاقة النص بالشعر قائمة على الاختيار وعلى القبول والرفض.
إنَّ علاقة النص بالواقع وجدليته معه قبولًا ورفضًا بدأت من المفاهيم والتصوُّرات ومن تحديد علاقته بالنصوص الأخرى؛ وذلك في مرحلة مبكرة جدًّا هي مرحلة تُشكِّل النص في الثقافة. ولقد كان العرب الجاهليون فيما يبدو أقرب فهمًا لطبيعة النص ولوظيفته وغايته من كثير من رجال الدين المعاصِرين الذين يُجزِّئون النص؛ فقد كانت الحرب التي شنَّها العرب ضد النص في حقيقتها حربًا ضد الواقع الجديد الذي خلقه النص في بنائه اللغوي أولًا، ثم حقَّقه بالإنسان في الواقع ثانيًا. وحين وصف العرب محمدًا بالشاعرية والسحر والكهانة فإنما كانوا يُحاولون رد النص إلى إطار النصوص المألوفة من جهة، وكانوا يُحاولون «احتواء» الدعوة والرسالة في إطار الوظائف الاجتماعية للكهانة والسحر والشِّعر في الواقع من جهة أخرى. وهذا يُفسر لنا أن الاعتراض على الوحي لم يكن اعتراضًا على عملية الاتصال ذاتها بين إنسان وملك، بل كان اعتراضًا إما على مضمون الوحي أو على شخص الموحى إليه.
ولقد أدرك المسلمون الأوائل أن النصَّ غير مُنعزل عن الواقع؛ ومن ثم لم يجدوا حرجًا في فهم النص على ضوء النصوص الأخرى خاصة الشعر. وكان المبدأ منذ المحاولات الأولى للتفسير: «إذا تعاجم عليكم شيء من القرآن فعليكم بالشعر فإنَّ الشعر ديوان العرب» وهو المبدأ الذي طرحه ابن عباس.
وهكذا تحوَّل الشعر إلى أن يكون إطارًا مرجعيًّا لتفسير القرآن. وليس معنى ذلك إلا أن علاقة القرآن بالشعر لا يجب النظر إليها من زاوية واحدة، بل يجب النظر إليها من زاوية علاقة النصوص داخل الثقافة. إن فهم النص في ضوء النصوص الأخرى السابقة عليه يدل على وعي القدماء بعلاقة «التماثل» بين النصوص، وعلى إدراك علاقة «المخالفة» كذلك.
هذا التغيُّر في اتجاه الثقافة من الشِّعر إلى القرآن وتحويل الشِّعر إلى نصٍّ مُستأنَس ظلَّ سائدًا في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كان الشِّعر قد عاد إلى الازدهار في العصر الأموي نتيجة عوامل كثيرة أهمها الانقسام الاجتماعي الذي أدَّى إلى الصراع الاجتماعي والسياسي فإن الشعر لم يستَعِد مكانته الأولى أبدًا على حساب القرآن، فقد ظلَّ القرآن على المستوى الثقافي والحضاري هو النص المُسيطِر، وظل الشعر يقوم بدور هامش الشرح والتفسير إلى جانب وظائفه الأخرى بالطبع.
(٢) القرآن والسجع
لا شكَّ أن من أهم الفروق الأسلوبية بين القرآن المكي والقُرآن المدني هو مراعاة الفاصلة بين الآيات وهي مراعاة تؤكد تماثل النص مع النصوص الأخرى في الثقافة. وكما ناقَشَ القدماء علاقة القرآن بالشعر من منظور التحليل والتحريم ناقَشُوا علاقته بالسجع من منظور التحليل والتحريم كذلك. وإذا كان القاضي الباقلاني يَسهل عليه أن يُنكر التماثل بين القرآن والشعر فإن إنكاره للتماثُل بين القرآن والسجع لا يَعتمِد على تحليل لمعطيات النص من حيث الشَّكل كما فعل في حالة الشعر، بل يَعتمِد على مجموعة من الحُجج المنطقية:
إنَّ مُحاولة الباقلاني لإثبات إعجاز القرآن تَعتمِد على مفهوم انفصاله انفصالًا تامًّا عن النصوص الأخرى داخل الثقافة، سواء في ذلك الشعر أو النثر. وفي سبيل ذلك يُحاول قدر جهده أن يَطعن في بلاغة الشعر الجاهلي بالتعرُّض بالهدم لأهمِّ قصائدِه وبيان تهافُتها وضعف بنائها وركاكة أسلوبها. وحين يَلجأ إلى إثبات خلو القرآن من السجع يضع تعريفًا للسجع من شأنه أن يُقلل من قيمته، فيرى أن:
إنَّ محاولة القدماء سلب صفة السجع عن القرآن كانت تستهدف التَّفرقة بين الكلام الإلهي والكلام الإنساني. وهي تَفرقة سعى الأشاعرة إلى تأصيلها والتأكيد عليها من منظور تصوُّرهم للكلام بوصفه صفة من صفات الذات الإلهية لا بوصفه فعلًا من أفعاله کما تصور المعتزلة. ومِن هذا التصور كان الحرص على الفصل بين القرآن وغيره من النصوص، وإذا كان هذا الفصل التام قد أدَّى في النهاية إلى تحويل النص إلى شيء مقدَّس في ذاته كما سنُناقش في الباب الثالث من هذه الدراسة فإن الذي يُهمنا هنا أن نُؤكِّد عليه أن الحرص على «المخالفة» بين الاصطلاحات الدالَّة على النص وبين الاصطلاحات الدالة على غيره من النصوص داخل الثقافة يرتدُّ إلى الجذور الفِكرية والثقافية نفسها.
إنَّ رفض الإسلام للكهانة ولكلِّ ما ارتبط بها من طقوس وممارسات بما في ذلك السجع لا ينفي أن الكهانة ذاتها كانت أداةً ثقافية هامة للتنبؤ بالوحي، فإن:
(٣) الإعجاز خارج النص
إذا كان تفسير ظاهرة «الإعجاز» قد انتهَى كما سبقت الإشارة إلى القول باتحاد الدال بالمدلول في حالة القرآن خلافًا للوحي في الأديان السابقة على الإسلام فإنَّ ثمَّة تفسيرات أخرى رأت انفصال الدلالة عن المدلول في إعجاز الوحي في الإسلام. وقد ذهب أصحاب هذا التفسير إلى أنَّ المعجزة الدالة على صدق الوحي ترتبط بالقرآن، ولكنَّها لا تنبع من طبيعته الخاصة بوصفه نصًّا لغويًّا، بل تنبع من «عجز» العرب المُعاصِرين للنص عن الإتيان بمثله كما تحدَّاهم النص ذاته. وكان هذا العجز أمرًا طارئًا بحكم تدخل الإرادة الإلهية ومنع الشعراء والخُطباء من قبول التحدِّي والإتيان بمثله. وقد اشتهر بهذا الرأي إبراهيم بن سيار المعروف بالنظَّام من المُعتزلة. وقد ذهب كما يَروي عنه أصحاب كتب المقالات إلى أن إعجاز القرآن يقَع من جهة:
وإذا كان خصوم المعتزلة والنظَّام خاصة يتجاهَلون عادة ربطه للإعجاز بإخبار النص عن الأمور الماضية وتنبؤه بأمور تحدث في المستقبل، فإنهم يفعلون ذلك من أجل الوثب إلى نتيجة فحواها أن النظام ومدرسته يُنكرون إعجاز القرآن. والحقيقة أن هذا الرأي لا يُنكر «الإعجاز» من قريب أو من بعيد. وإذا توقفنا قليلًا عند مفهوم «الصَّرْفة»، وهو المُصطلَح الذي شاع بعد ذلك وصفًا لتفسير النظام، قلنا إن النظَّام يجعل المعجزة أمرًا واقعًا خارج النص ويرتبط بصفة من صفات قائل النص وهو الله. وانطلاقًا من مبدأ التوحيد الذي حرص المعتزلة على تأكيده حرصًا شديدًا يُمكن أن نقول إن تصور النظَّام والمعتزلة للنص بأنه كلام، وبأنه فعل من أفعال الله التي تَرتبِط بوجود العالم، وما ترتَّب على ذلك من قولهم بحدوثه، كان من شأنه أن يُؤدي إلى الفَصل والتمييز بين الكلام الإلهي والكلام البشري، لكن تصوُّرهم للكلام ذاته جعل التمييز بين الكلامين من جهة المتكلِّمين لا من جهة الكلام ذاته، ولذلك كان من الضروري أن تنتقل قضية الإعجاز من مجال العدل — مجال الأفعال — إلى مجال التوحيد، ومفارقة الصفات الإلهية لصفات البشر من كل جانب. وإذا كانت قُدرة الله تعالى لا تُغالبها قُدرة البشر ولا تستطيع الوقوف إزاءها، فإنَّ «العجز» الذي يُشير إليه النص في تحدِّيه للعرب أن يأتوا بمثله كان عجزًا ناتجًا عن تدخل القدرة الإلهية لمنع العرب من قبول التحدي ومن محاولته. وليس في هذا الرأي إنكار للإعجاز، بل هو تفسير له خارج إطار علاقة النص بغيره من النصوص الأخرى. إنه «العجز» البشري الذي سبَّبته قُدرة الله وليس «الإعجاز» أو التفوُّق القائم في بنية النص من حيث مقارنته بالنصوص الأخرى.
إنَّ الدلالة على صدق النبي في نظر المعتزلة هي وقوع المعجز على يدَيه، يستوي في ذلك المعجز الأفعال الخارقة للعادة والطبيعة أو الأفعال العادية الطبيعية المَقدُورة للبشر إذا قارنها عجز البشر في الحال عن إتيان ما اعتادُوه من الأفعال ولم يكن مُستعصيًا عليهم من قبل:
وإذا كان المعجز هو القُدرة الإلهية الخارقة التي تدخَّلت لتمنَع العرب من الإتيان بمثلِه فالنص في ذاته — أي من حيث هو نصٌّ لُغوي — كان مقدورًا للبشر الإتيان بمثله لو خُلِّي بينهم وبين قدراتهم العادية. لكن النظام لا يتوقَّف في تفسير الإعجاز عند مفهوم «الصرفة» الذي ركَّز عليه خصوم المعتزلة دائمًا، بل هو يُضيف إلى ذلك ما ورَد في النص من الإخبار عن الغيوب وعن الأمور المُستقبلة.
وإذا كان القول بالصرفة يردُّ الإعجاز إلى صفة القدرة الإلهية، فإنَّ تفسير الإعجاز بإخبار القرآن عن الغيوب والأمور المُستقبلة تفسير يردُّه إلى «مضمون» النص. ولا شك أن «مضمون» النص من منظور المعتزلة وغيرهم من الفِرَق مضمون يُعبر عن صفة «العلم الإلهي». من هذه الزاوية يكون تفسير الإعجاز استنادًا إلى مضمون النص تفسيرًا يَفصل بين النص والنصوص الأخرى لا من حيث البناء اللغوي والتركيب، بل من حيث طبيعة «الرسالة» المتضمَّنة في النص. وتظلُّ العلاقة بين النص والنصوص الأخرى في مثل هذا التفسير علاقة قائمة على مجرَّد الاشتراك في الشفرة اللغوية. ويكون الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول قضايا قِدَم اللغة وحدوثها خلافًا لا حول مضمون النص، بل حول شفرة النص. لكن هذا الخلاف لم يكن مجرَّد خلاف شَكلي على أيَّة حال، فالنظر إلى اللغة من منظور القِدَم والتوقيف الإلهي يُمكن أن يؤدي إلى عزل النص عزلًا كاملًا عن سياق الثقافة التي ينتمي إليها، وهو الموقف الأشعري.
لقد حاول المعتزلة جاهِدين ربط النص بالفهم الإنساني وتقريب الوحي من قُدرة الإنسان على الشرح والتحليل. ويبدو أن فكرة «الإعجاز» بما تتضمَّنه من معنى المعجزة الذي أشرنا إليه فيما سبَق كان يُمكن لو سلَّموا بوجودها في بناء النص اللغوي أن تُؤدي إلى مفارقة الوحي — من حيث هو نصٌّ لغوي — لقُدرة الإنسان، وتُؤدي من ثم إلى تحويل الوحي إلى نصٍّ «مُغلق» مُستعصٍ على الفهم والتحليل. لقد كان التسليم بقُدرة الإنسان على الفعل وعلى فهم الوحي معًا هو الدافع وراء محاولة تفسير «الإعجاز» من خلال مفهوم «التوحيد»، ومن خلال صفتي «القُدرة» و«العلم» بصفة خاصة. إن «عجز» البشر عن الإتيان بمثل الوحي نابع من تدخل إلهي سلَبَهم القُدرة، ونابع من «علم» بالماضي والمستقبل لا يُتاح للإنسان.
لكن هذا الموقف الاعتزالي الذي عبَّر عنه النظام أصابه قدر من التطوُّر بعد ذلك على يد القاضي عبد الجبار. وقد كان هذا التطور أمرًا طبيعيًّا بسبب الجدل المستمر بين الفِرَق حول قضايا النص بصفة عامة، وقضية الإعجاز بصفة خاصة.
(٤) الإعجاز في النص (التأليف)
يُحاول الباقلاني أن يؤكد أن إعجاز القرآن كامن داخله، وأنه ليس إعجازًا نابعًا من تدخُّل خارجي لمنع العرب من الإتيان بمثله. وهو وإن كان يَعترف بأن الإخبار عن الغيوب وأمور المستقبل وجه من وجوه إعجاز النص فإنه لا يفسر ظاهرة الإعجاز بناءً على هذا المعيار وحده. ولو كان الإعجاز مردودًا إلى معجزة خارج النص أو مقصورًا على الإنباء عن الغيوب وأمور المُستقبَل لتَساوى النص هنا مع غيره من النصوص الدينية السابقة عليه كالتوراة والإنجيل:
ولكن إذا كان إعجاز النص في نظمه وتأليفه فما هو هذا النظام أو التأليف الذي يُخالف به غيره من النصوص؟ هنا يُفرِّق الباقلاني بين النص القرآني والنصوص الأخرى من جانبَين: الجانب الأول هو الشكل الخارجي العام، البناء الكُلي أو «النوع» الأدبي إذا صحَّ لنا استخدام هذا المُصطلح. ومن المؤكد أن القرآن ليس شعرًا، كما أنه لا يخضع لمعايير النَّثر المعتادة في الكلام العادي. ويُحاول الباقلاني جاهدًا کما سبقت الإشارة نفي السجع عنه. هذا الجانب العام الذي يُفارق فيه القرآن غيره من النصوص هو جانب النَّظم والأسلوب. والمقصود بالنَّظم والأسلوب هنا الشكل الأدبي:
ومِمَّا يَرتبط بسمة «التغاير» العامة بين النص القرآني وغيره من النصوص خصيصة «الحجم» أو «الطول». فالقرآن على خلاف غيره من النصوص يتميَّز بطولٍ غير مألوف في النصوص العربية. ولا يصح لنا هنا أن نعترض على الباقلاني قائلين إن صفة الطول ليست إلا محصِّلة للتنجيم الذي قارَبَ بضعةً وعشرين عامًا تكوَّن النص خلالها؛ فالباقلاني الأشعري يؤمن بالوجود الأزلي السابق للنص بوصفه صفة قديمة ملازمة للذات الإلهية، غير مستقلة عنها. إنَّ التنجيم هنا يرتبط في تصوره بمحاكاة النص للكلام الإلهي القديم، والإعجاز واقع في هذه «المحاكاة» التي تتميَّز بالتغايُر عن النصوص الأخرى من حيث الشكل العام ومن حيث الطول.
وإذا كان القرآن يُمكن أن يُشابه النصوص الأخرى من جوانب أخرى من حيث تضمُّنه لموضوعات مختلفة وأغراض متباينة كالوعظ والقصص والإنذار والوعيد، وهو في هذا يُمكن أن يشبه القصيدة من حيث بدؤها بالنسيب أو الوصف وتضمُّنها للاعتذار أو الهجاء أو المديح أو الفخر، فإن الخصيصة الثانية التي تميز القرآن عن غيره من النصوص هي «النَّظم العجيب» أو «التأليف البديع» الذي لا يتفاوَت ولا يختلف:
الإعجاز واقع إذن في القرآن من حيث مُغايرته للنصوص الأخرى في «الجنس» أو «النوع»، فهو لا يَندرج تحت الشعر أو النثر أو الخطب أو الرسائل أو السجع. وهو واقع ثانيًا في طريقة تأليفِه ونَظمِه بحيث لا نجد تفاوتًا في مستوى تأليفه ونَظمِه رغم طوله وتعدُّد موضوعاته وتباينها. وإذا اعترضنا على الباقلاني بأن هذا الإعجاز مردود إلى أنَّ كلام الله — وهو صفته القديمة — لا يقدر عليه البشر، وأنَّ الإعجاز إنما وقع بهذه الصفة القديمة كان رده علينا:
ولكنَّ الباقلاني لا يُحدد ما يقصده ﺑ «النظم والتأليف» الذي صار به القرآن مُعجزًا تحديدًا دقيقًا، إنه يُعدِّد أنواع البديع في الشعر والقرآن ثم ينتهي إلى أن وجوه البديع لا يُستدَل بها على الإعجاز:
ويُعدِّد أقسام البلاغة ويُعطي أمثلة لها من القرآن والشعر، ثم ينتهي إلى أن:
ومن شأن ذلك كله أن يجعل معيار الإعجاز «العجز» بمعنى عدم إمكانية الوصول إلى فهم سرِّ «الإعجاز». وهنا لا يُفرِّق الباقلاني بين «العجز» عن الإتيان بمثله — بمثل القرآن — وبين «العجز» عن فهم سرِّ «الإعجاز». ورغم أنه يُفرق على مستوى النصوص الأدبية بين الوعي النظري النَّقدي وبين القدرة على الإبداع الأدبي، فإنه في تحديده لمفهوم «النَّظم والتأليف» الذي به صار القرآن معجزًا يكاد يدخلنا في منطقة «اللاأدرية» وعدم التعليل. إنه يُحدِّد مرة أن:
ومن شأن هذا التصور أن يُؤدِّي إلى عجز في التحليل ووقوع في الخطابية من نمطِ قوله مثلًا:
وقد تصوَّر الباقلاني أن توجُّهه بالهدم على قصائد امرئ القيس والبحتري من شأنه أن يُثبت له دعوى «الإعجاز» ومفارقة القرآن لكلام البشر، ولكنه لم يُدرك أن «مفارقة» الإعجاز لا بد أن تستند إلى قوانين يمكن للبشر فهمها حتى تثبت دلالة النص على نبوة النبي، ويثبت من ثم صدق الوحي. ولذلك يكاد الباقلاني يَرتدُّ بقضية الإعجاز كلها — دون أن يدري — إلى «العجز» الذي صاحب التحدِّي، وهو مفهوم لا يكاد يختلف كثيرًا عن مفهوم «الصرفة». إنَّ الاعتماد هنا في إثبات «الإعجاز» لا يستند إلى تحليل لغوي لبناء النص، ولكنه يَعتمد على إثبات «حقيقة» أن العرب أهل اللسان والفصاحة عجَزُوا عن الإتيان بمثله. وهذا الدليل الخارجي — دليل العجز — يظلُّ دليلًا مستمرًّا في العصور التالية؛ لأن العرب الذين كانوا مُعاصرين لتشكيل النص ونزول الوحي كانوا أقدر على الإتيان بمثله بحكم تفوقهم الذي لا وجود له في العصور التالية. إنَّ القرآن — في ظل هذا الفهم — معجز لأن العرب عجزوا عن الإتيان بمثله في الماضي، وهو معجز لأنَّ الأجيال التالية حتى الآن أشد عجزًا بحكم ضعف «الإبداع» مع تأخر العصور:
(٥) الإعجاز في لغة النَّص (النظم)
وقد ذهب أبو هاشم الجبائي إلى أن القرآن ليس معجزًا لاختلافه من حيث الشكل أو النوع أو الجنس عن النصوص الأخرى في الثقافة؛ لأنَّ تغاير الشكل لا يعني تفوقًا أو امتيازًا. إنَّ الفصاحة — التي هي سر الإعجاز عند أبي هاشم — ظاهرة يُمكن تلمسها في التركيب اللغوي سواء كان هذا التركيب في الشِّعر أم في الخطابة أم في الرسائل. ولا بد من حسن المعنى وجزالة اللفظ معًا لاعتبار النص فصيحًا.
لكن القاضي عبد الجبار لا يكتفي بالوقوف عند حدود هذا التعريف العام للفصاحة، والذي يحصرها في حسن المعنى وجزالة اللفظ بصرف النظر عن «الشكل» أو «النوع»، بل يتقدم خطوات هامة في سبيل تحديد الخصائص الفارقة بين النصوص. وإذا كان اشتراط حسن المعنى في مفهوم «الفصاحة» يُمكن أن يؤدي إلى القول بأن فصاحة القرآن ترتدُّ — في جانب منها — إلى «المعاني» التي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فإن القاضي عبد الجبار يستبعد هذا الجانب من مفهوم الفصاحة:
وعلينا هنا أن نفهم ما يَقصده عبد الجبار بالمعاني على أساس أنها «الأغراض» العامة والأفكار كما قال عبد القاهر بعد ذلك. من هنا يَحرص القاضي على جعل المزية والفصاحة في «الألفاظ». ولا يقصد عبد الجبار بالألفاظ المفردات اللغوية؛ فالفصاحة عنده ترتبط بالتركيب، أو بالضم على طريقة مخصوصة:
وإذا كان للألفاظ جهات شتى من حيث علاقتها بالعالم الذي تُشير إليه «المواضعة»؛ ومن حيث علاقتها ببعضِها البعض في التركيب اللغوي، فإنَّ القاضي عبد الجبار يستبعد «المواضَعة» من أن يكون لها دخل في الفصاحة أو في تحديد مزية الكلام. إنَّ المواضعة لا دخل لها في تحديد خصائص الكلام من حيث هو كلام؛ فالكلام كله — فصيحًا كان أم غير فصيح — يَنتمي إلى مجال اللغة، وهي كلها تعتمد على «المواضعة». وإنما تكون المزية في التأليف والتركيب؛ أي نَظم الكلام على طريقة مخصوصة. ويُحدِّد القاضي عبد الجبار مفهومه للتأليف والنَّظم على النحو التالي:
إنَّ عبد الجبار يُحدِّد الفصاحة من خلال ثلاثة أبعاد في التركيب اللغوي هي: الإبدال الذي به تختص الكلمات. والمقصود بالإبدال اختيار كلمة معيَّنة من بين كلمات أخرى يُمكن أن تَصلُح للاستخدام في السياق الخاص. والبُعد الثاني هو «الموقع» الذي يختص بالتقديم والتأخير، والبُعد الثالث هو «الإعراب» الذي يختصُّ بالموقع النحوي للكلمة في عبارة بعينها. ولا شك أن تَفرِقة عبد الجبار بين «الموقع» و«الإعراب» تفرقة هامة هنا من حيث إنَّ للموقع دلالةً مُغايرة لدلالة «الإعراب» وإن كان كلاهما يقع على مستوى العلاقات السياقية. وإذا كان المقصود «بالإبدال» الذي تختصُّ به الكلمات مستوى العلاقات الدلالية أمكن لنا القول إن القاضي عبد الجبار قد وضع بذلك الأساس المكين الذي بنى عليه عبد القاهر نظريته في النَّظم. وليس تفسيرنا «للإبدال» عند عبد الجبار قائمًا على التخمين؛ فهو يُشير إلى هذا البُعد أحيانًا باسم المُواضَعة التي تتناول الضمَّ؛ وذلك حين يقول:
ومن المؤكد أن «المواضعة التي تَتناول الضم» هنا والتي يضعها القاضي جنبًا إلى جنب مع «الإعراب» و«الموقع» ليست المواضعة اللغوية؛ أي المواضعة بوصفها علاقة بين الألفاظ وما تُشير إليه، ذلك أن المواضعة بهذا المعنى لا مدخل لها في الفصاحة على الإطلاق:
إن حصر الفصاحة في الوجوه الثلاثة السابقة ليس إلا محاولة من جانب المعتزلة لحصر الإعجاز في قوانين يُمكن اكتشافها والعلم بها. وهذه القوانين قوانين لغوية يُشارك فيها النص غيره من النصوص من جهة ولكنه يتفوَّق عليها في استثمار نفس القوانين من جهة أخرى. ومن شأن هذا الحصر أن يُؤدِّي إلى نتيجتَين انتهى إليهما كلٌّ من القاضي عبد الجبار وعبد القاهر فعلًا. أما النتيجة الأولى فهي استبعاد التفسيرات الجزئية للإعجاز التي تَحصره مرةً في البلاغة ومرة في البديع وتقع في دائرة التَّفرقة بين أجزاء النص التي يكون فيها الإعجاز لائحًا بينا وبين الأجزاء الأخرى التي لا يتَّضح فيها الإعجاز. وقد وقَع الباقلاني في هذه الدائرة، فنراه مرة يقول:
ولكن هذا التأكيد لا يلبث أن يتبدد عند محاولة اكتشاف إعجاز آيات الأحكام استنادًا إلى مفاهيم البديع والبلاغة، ولذلك يتراجع الباقلاني عن تأكيده السابق فيرى:
لذلك يَحرص القاضي عبد الجبار على جعل الفصاحة في قوانين لغوية تعمُّ الكلام كله بصرفِ النظر عن الموضوع أو الغرض (المعنى) وبصرف النظر عن الشكل أو النوع أو الجنس. لذلك نراه يُؤكِّد أنَّ هذه القوانين التي تفسر الفصاحة ومن ثم الإعجاز لا تتعلَّق بكون الكلام حقيقة أو بكونه مجازًا.
ويرتبط بهذه النتيجة حل مشكلة تحديد مقدار «المعجز» من القرآن؛ فالإعجاز قد يقع في الجملة الواحدة وقوعه في الكثرة من الجُمل، قد يقع في الآية القصيرة وقوعه في الآية الطويلة، طالما أن تلك القوانين اللغوية التي تُفسِّر الفصاحة والإعجاز قوانين لها فعاليتها في الجملة الواحدة، وفي النص الطويل على السواء. وهذا ما أشار إليه عبد الجبار في نصٍّ سابق حين قال:
والنتيجة الثانية التي يَنتهي إليها قَصرُ مفهوم الفصاحة على قوانين اللغة استبعادُ مفهوم «الإيقاع» من تحديد خصائص الكلام. والسبب وراء ذلك أن مفهوم «الوزن» قد ارتبط ارتباطًا شديدًا بالشِّعر في مفاهيم الثقافة. ولما كانت المُغايرة بين «القرآن» و«الشعر» مغايرة هامة وضرورية كان سعي القدماء لاستبعاد هذا البُعد من مفهوم الفصاحة ومن مفهوم الإعجاز كذلك.
ولم يَتنبِه القدماء إلى أن «حسن النغم» ليس إلا خصيصة لُغوية تَرتبِط بالقُدرة على استخدام البعد الصوتي للغة استخدامًا خاصًّا في تناغم مع قوانين اللغة التي حصروا الفصاحة فيها. ولم يَتنبهُوا كذلك إلى أن «الإيقاع» سمة من سمات النصوص الممتازة في الثقافة لا تختلف كثيرًا في النثر عنها في الشعر. إن لغة القرآن من هذه الزاوية لغة لها إيقاعها الذي يُميِّزها داخل إطار النظام اللغوي العربي، ولا شكَّ أنها اكتسبت هذا الإيقاع من الطبيعة الشفاهية للنص سواء في مرحلة تشكُّله أم فيما تلا ذلك من مراحل في تاريخ الثقافة حتى الآن؛ فالنص حتى الآن ما زال يُتلَى بتنغيم خاص وطبقًا لقوانين أدائية مُعيَّنة معروفة في علم «التجويد والقراءات».
لقد كان حرص القدماء على التمييز بين القرآن والشعر أحد الأسباب دون شكٍّ وراء استبعاد «الإيقاع» من خصائص الفصاحة؛ ومن ثم من خصائص الإعجاز. لكن السبب الأهم فيما نظنُّ هو محاولة المعتزلة إيجاد «معيار» للفصاحة يختص بالكلام كله ويركز على قوانين يُمكن للعقل الإنساني استيعابها وفهمها وتطبيقها على النصوص، وقد كان ذلك كله أمام عبد القاهر الأشعري فأفاد منه لا في تفسير الإعجاز فقط بل في تفسير خصائص النصوص المُمتازة بشكل عام.