الغموض والوضوح
تُعدُّ جدلية الغموض والوضوح من أهم خصائص النص في الدراسات النقدية الحديثة؛ إذ الفارق بين النص ذي الطبيعة «الإعلامية» الخالصة وبين النَّص الأدبي يَكمن في قدرة النص الأدبي على إبداع نظامِه الدلالي الخاص داخل النظام الدلالي العام في الثقافة التي يَنتمي إليها. وإذا كانت النصوص «الإعلامية» الخالصة تَعتمد «الوضوح» معيارًا للجودة والرداءة، فإنَّ هذا المعيار في النصوص الأدبية يختلف باختلاف طبيعة النصِّ وباختلاف النوع الأدبي الذي ينتمي إليه. إنَّ من أهم خصائص النصوص الأدبية مع ذلك أن يخالف النص نفسه ولا يكتفي بالمخالفة بين نفسه وبين غيره من النصوص:
وفي حالة القرآن فقد سبق أن ناقشنا في «الإعجاز» الكيفية التي يُفارق النص بها غيره من النصوص سواء على مستوى النص أم على مُستوى فعل القراءة عند العلماء. وتتجلَّى الكيفية التي يُخالف بها النص ذاته من خلال مجموعة من المستويات سبق أن ناقَشنا بعضًا منها في الفصول السابقة. تتجلَّى هذه الكيفية من خلال «المكي والمدني» سواء على مستوى المضمون أم على مستوى اللغة والصياغة. وتتجلى أيضًا من خلال «الناسخ والمنسوخ» في اختلاف الأحكام. وإذا كانت قضايا «المكي والمدني» و«الناسخ والمنسوخ» تُشير إلى مخالفة النص لذاته بتأثير علاقته بالواقع وجدله، فإن للنص آلياتٍ أُخرى في مخالفة ذاته لا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بجدله مع الواقع، بل ترتبط أكثر بجدل الواقع معه من خلال فعل «القراءة».
والفارق بين جدل النص مع الواقع وبين جدل الواقع مع النص فارق في الأولية ليس إلا، ففي مرحلة تشكيل النص في الثقافة تكون الثقافة «فاعلًا» والنص «منفعلًا»، وإن كان «انفعال» النص هنا — كما سبقت الإشارة — انفعالًا من خلال آليات اللغة. وفي مرحلة تشكيل النص للثقافة يكون النص «فاعلًا» والثقافة «منفعلًا»؛ فالثقافة هنا لا تشكل النص، بل تُعيد قراءته، وهي من ثم تُعيد تشكيل دلالته ولا تعيد تشكيل معطياته اللغوية. في هذا السياق الجدلي بين «النص» و«الثقافة» تكشَّفت آلية «الغموض والوضوح» بوصفها سمة من سمات النص. ولقد أشار النص ذاته إلى هذه السمة في الآية التي تقول:
ولقد تمَّ فهم «المحكم» على أساس أنَّه الواضح البيِّن الذي لا يحتاج إلى تأويل، كما فهم «المتشابه» على أساس أنه «الغامض» الذي يَحتاج إلى تأويل. وكان القانون الذي اتَّفق عليه العلماء هو ضرورة رد المتشابه إلى المحكم؛ أي تفسير «الغامض» استنادًا إلى «الواضح». ومعنى هذا القانون أن العلماء — على خلافاتهم الأيديولوجية حول هذه القضية وغيرها من القضايا — قد اتَّفقوا على أن النص هو معيار ذاته؛ فالواضح المحكم يعد بمثابة «الدليل» لتفسير الغامض المتشابه وفهمه. إنَّ أجزاء النص يُفسِّر بعضها بعضًا، وليس مطلوبًا من المفسر أن يلجأ إلى معايير خارجية لفض غوامض النص واستجلاء دلالتها. ويمكن التعبير عن هذا القانون بلغة النَّقد الأدبي فنقول إن النص يتضمن أجزاء تُعدُّ بمثابة «مفاتيح» دلالية تُمكِّن القارئ من الولوج إلى عالم النص وكشف أسراره وغوامضه. واحتواء النص على الغموض والوضوح يُعدُّ بمثابة آلية هامة للنص لتحويل فعل القراءة إلى فعل إيجابي يُساهم في إنتاج دلالة النص. وهكذا يكون إنتاج الدلالة فعلًا مشتركًا بين النص والقارئ، ويكون من ثمَّ فعلًا مُتجدِّدًا بتعدد القرَّاء من جهة، ومتجددًا باختلاف «ظروف» القراءة من جهة أخرى.
(١) المنطوق والمفهوم (ندرة النصوص)
يكاد القدماء في مناقشة العلاقة بين المنطوق اللفظي للنص وبين المفهوم الذهني الناتج عن هذا المنطوق يُبلورون مفهومًا للنص يقرن بينه وبين الوضوح؛ بحيث يُصبح «النص» هو التركيب اللغوي الذي يتطابق فيه المنطوق مع المفهوم تطابقًا تامًّا. ولكنَّهم يدركون أيضًا أن النصوص التي ينطبق عليها هذا المفهوم نادرة جدًّا وذلك بحكم الطبيعة الرمزية للغة التي تَعتمِد على طاقتي التجريد والتعميم. وعلى ذلك يقسمون التركيب اللغوي إلى أربعة أنماط؛ وذلك طبقًا لآليات العلاقة بين المنطوق اللفظي والمفهوم الذهني. النوع الأول هو «النص» وهو الدالُّ بمنطوقه على معنى لا يَحتمل غيره. والنوع الثاني هو «الظاهر» وهو الدال بمنطوقه على معنيَين، المعنى الظاهر منهما هو المعنى الراجح من المنطوق. والنوع الثالث هو «التأويل» وهو الذي يدلُّ بمنطوقه على معنيَين يكون المعنى الراجح منهما هو المعنى غير الظاهر؛ وذلك على عكس النوع الثاني. والنوع الرابع هو النوع «الغامض» الذي يحتمل معنيَين سواء على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز ويصعب تحديد المعنى المراد من المنطوق، وهذا الغامض يُطلقون عليه أحيانًا اسم «المُجْمَل». وهذه الأقسام الأربعة كلها خاصة بالعلاقة بين منطوق التركيب اللغوي وبين المعنى أو الدلالة:
لكن العلاقة بين المنطوق اللفظي والدلالة لا تقف عند حدود هذا التقسيم الرباعي؛ فالمنطوق اللفظي قد لا يدل وحده ويَحتاج إلى إضمار، وقد يتجاوز المنطوق دلالته المباشرة إلى دلالة «ضمنية». وتزداد المسألة تعقيدًا حين نَنظر إلى دلالة المفهوم، وهي الدلالة الناتجة عن دلالة المنطوق. إنَّ المنطوق يؤدِّي إلى مفهوم بدلالة الألفاظ، ولكن المفهوم من الألفاظ قد يدلُّ على معنى آخر وراءه، وتتمُّ هذه الدلالة إما بالموافقة وإما بالمخالفة. مثال دلالة الموافقة قوله تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ فالمنطوق هنا يدلُّ على النَّهي عن قول «أف» للوالدَين، وهذه الدلالة تدلُّ «بفَحوى الخطاب» على تحريم ضربهما؛ ذلك لأنَّ النهي عن الضيق منهما بالكلام «أف» يتطلَّب بطريق الأَوْلى النهي عن إيذائهما. وهذه الدلالة الثانية ليسَت ناتجة عن منطوق الكلام، ولكنها ناتجة عن دلالة هذا المنطوق أو عن «المفهوم». ومثال آخر هو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا فالمنطوق يدلُّ على حكم مَن يأكل مال اليتيم ظلمًا، وهذه الدلالة الناتجة عن المنطوق تدلُّ «بلحن الخطاب» على تحريم الإحراق لأنه مُساوٍ للأكل في الإتلاف.
ومعنى ذلك أن دلالة المنطوق اللغوي للنصوص لا تَتراوح بين الوضوح والغموض فحسب، ولكنَّها تَختلِف من حيث طرق الدلالة أيضًا؛ فقد تكون الدلالة مباشرة وهي ما يُطلق عليه القدماء «دلالة المنطوق»، وقد تكون الدلالة دلالة «اقتضاء» كما في حالة الإضمار، وقد تكون دلالة «إشارة» مثل استنتاج صحة صيام من أصبح جُنُبًا من قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ. والدلالة الرابعة هي دلالة «المفهوم» التي تَنقسِم إلى دلالة مُوافقة وإلى دلالة مخالفة.
إنَّ هذا التعدُّد في طرائق الدلالة اللغوية يَعكِس إحساس القدماء أن طرائق الدلالة اللغوية تُخالف طرائق الدلالة الأخرى مُخالفة اللغة لغيرها من أنواع الدلالات. من هنا نفهم حصرهم مفهوم «النص» في التركيب اللغوي الدال بمنطوقه على مفهومه دلالة مباشرة واضحة ليس فيها لبس أو احتمال، وإدراكهم في نفس الوقت أنَّ هذا النمط من الدلالة نادر جدًّا، وهو ما عبَّروا عنه بقولهم بندرة النصوص:
(٢) المجمل
وقد أشار القدماء إلى بعض الألفاظ «الغريبة» التي غمض معناها على الجيل الأول من المسلمين:
«فأخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سُئِل عن قوله: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: أي سماء تُظلُّني وأي أرض تُقلُّني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وأخرج عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: وَفَاكِهَةً وَأَبًّا فقال: هذه الفاكهة قد عرَفْناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إنَّ هذا لهو الكلف يا عمر.
وأخرج من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنتُ لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول أنا ابتدأتها.
وأخرج ابن جريح عن سعيد بن جبير أنه سُئِل عن قوله وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يجب فيها شيئًا. وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: والله ما أدري ما حنانًا وأخرج الفرياني حدثنا إسرائيل حدثنا سمَّاك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمُه إلا أربعًا: غسلين وحنانًا وأوَّاه والرقيم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ حتى سمعت قول بنت ذي يزن: تعالَ أُفاتحك، تُريد أخاصمك.
ولم تكن ظاهرة «الغموض» بالنسبة للجيل الأول من المسلمين قاصرة على «الألفاظ» الغريبة، بل كانت تتجاوز ذلك إلى مستوى التركيب، ولذلك احتاج النص في هذه المرحلة المبكرة إلى التفسير في بعض أجزائه:
لقد كان المبدأ الذي طرحه المُفسِّرون أن هذا الغموض الراجع إلى «الإجمال» يُمكن الوصول إلى دلالته بالعودة إلى النص ذاته في مكان آخر؛ فالمُجمَل في موضع له بيان في موضع آخر. إنَّ تفسير الرسول للظلم بالشرك كان تفسيرًا للنص بالنَّص ذاته، فالنص من خلال نظامه اللغوي والدلالي يُؤسس مُعجمه الخاص ويضع أساس تفسير الغامض في بعض أجزائه:
وليس أدلَّ على أن النص يُؤسس لغته الخاصة من «المشكلة الشرعية» التي أضفاها النص على كثير من ألفاظ اللغة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، بل إن ألفاظ «الإسلام» و«القرآن» و«الوحي» و«الشرع» و«السنة» تدخل في إطار الألفاظ التي أضفى عليها النص دلالات لم تكن لها في اللغة، وهذا هو الفارق بين «الدلالة الشرعية» و«الدلالة الوضعية» لهذه الألفاظ. لقد بلغ من الإحساس بهذا النَّقل الدلالي الذي قام النص بتحقيقه في بعض ألفاظ اللغة أن اعتبر بعض العلماء أن هذه الألفاظ من «المجمل» الذي يحتاج للبيان:
إن بيان «المجمل» والكشف عن دلالة الغامض بالعودة إلى سياق النص في أجزاء أخرى أمر هام دون شكٍّ خاصة في مجال استثمار الأحكام الشرعية الفقهية من النصوص، لكن كثيرًا من أجزاء النص أيضًا تظلُّ تحتمل تعدُّد القراءات؛ ومن ثمَّ تعدُّد التأويلات خاصة على مستوى التركيب والأسلوب، ومع اختلاف «المنظور» الذي يَنطلِق منه القارئ والمفسر، وآية «آل عمران» خير دليل على ذلك.
(٣) الاختلاف الذي يُوهم التناقض
في كثير من أجزاء النص يحدث نوع من الاختلاف الذي يَبرز من خلال «التكرار»، ولكنه تكرار لا يُعيد نفس الشيء، بل تكرار يطرح جديدًا. وحين قارن القدماء هذه النصوص «المُكررة» ولاحظوا «الاختلاف» بينها حاولوا أن يكشفوا أن هذا «الاختلاف» لا يؤدي إلى غموض أو تناقُض في دلالة النص، بل الأحرى القول إنه اختلاف دالٌّ على «الإعجاز» من حيث دلالته على قُدرة النص على التصرُّف دون الوقوع في التكرار الحرفي. إنَّ القصص القرآني مثلًا يتكرَّر في السور المُختلفة، لكن هذا التكرار يُضيف دائمًا شيئًا جديدًا؛ فقصة موسى مع أهله حين رأى النار في طريق عودته إلى مصر تأتي في كل سورة بأسلوب مختلف وبإضافة جديدة. فالقصة تحكي في سورة «النمل» أن موسى:
ولا يَكتفي القدماء بهذا «التعليل» لوجود ظاهرة الاختلاف بين أجزاء النص، بل يُحاولون تفسير هذا الاختلاف؛ وذلك اعتمادًا على مبدأ هام هو نفي الاختلاف الذي يوهم التناقض. ونفي الاختلاف الذي يُوهم التناقض ليس نفيًا للاختلاف في ذاته، بل هو نفي للتناقض الذي يُمكن أن يوهمه هذا الاختلاف. إن النص ذاته ينفي عن نفسه «الاختلاف» الموهم بالتناقض:
إنَّ الاختلاف — في تأويل الغزالي — ظاهرة أحدثها النص بين الناس؛ فقد اختلف الناس في النص وفي تفسيره وتأويله، ولكن النص نفسه لا اختلاف فيه لا على مُستوى النَّظم والأسلوب ولا على مستوى المضمون والدلالة. لكن مثل هذا التأويل يتجاهَل أن اختلاف الناس حول النص «تأويلًا» استند إلى أجزاء مُختلفة في النص. إن استشهاد الغزالي بقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا هو في حقيقته استشهاد يَعتمد على «تأويل» يأخذ الآية على ظاهرها بوصفها آية «محكمة» تدلُّ بظاهرها. وهو استشهاد لا يوافقه عليه أي مُفكِّر معتزلي يضع الآية في نطاق «المتشابه» الذي يحتاج إلى التأويل الذي يتباعد بها عن دلالتها الظاهرة. ويضع المعتزلي في مُقابلة هذا الاستشهاد بالنص من جانب الأشعري استشهادًا بجزء آخر من النص يراه «محكمًا» دالًّا بظاهره على نقيض معنى النص الذي يستشهد به الأشعري.
إنَّ اختلاف الناس حول النص يرتدُّ في جانب منه إلى «اختلاف» النص ذاته، وهو اختلاف أوهم التناقُض. من هنا يَحرص العلماء على إزالة هذا الوهم، ومن هنا يَنبع الاتِّفاق بين الفرق المختلفة على نفي التناقُض عن القرآن. وليس تأويل «المُتشابه» بردِّه إلى «المحكم» في حقيقته إلا محاولة لإزالة وهم «التناقُض» عن النصوص المختلفة. ومعنى ذلك أن كل الفرق تسلم بطريقة أو بأخرى بوجود نوع من الاختلاف بين أجزاء النص، لكنه اختلاف لا يُؤدِّي إلى التناقض. إنه اختلاف قد يرتد في جزء منه إلى طبيعة اللغة؛ فهو اختلاف طبيعي مردود إلى الطبيعة اللغوية للنص، أو لنقل بلغة معاصرة: اختلاف مردود إلى آلية النص في تحديد طبيعته الخاصة. وهذه الآلية الخاصة كما سبقت الإشارة هي التي تجعل فعل القراءة — والتأويل من ثم — جزءًا من آليات النص. لقد عبر القدماء عن هذا الترابط بين «آلية النص» وبين «فعل القراءة» حين أدركوا أن الاختلاف يَرتد إلى طبيعة اللغة، وأن القراءة تتم من خلال «المعقول» الذي لا يصح أن يتعارض معه المنقول أو النص.
وإذا كان «الاختلاف» حين يُقرَأ من خلال «المعقول» يُزيل توهم «التناقض» فإن الاختلاف يصبح نوعًا من التنوع لا يتعارض مع الإيمان بوحدة «النص» ووحدة مصدره. وإذا كانت الآراء والأيديولوجيات تختلف، فإن «المعقول» الذي لا يتعارَض معه النص يختلف من جماعة إلى جماعة داخل العصر الواحد في المجتمع الواحد، ويختلف من مجتمع إلى مجتمع في العصر الواحد، وهو أشد اختلافًا بتغاير العصر وتقدم الزمان وتطور المجتمعات. ويظلُّ النص من خلال آليات الاختلاف نصًّا قابلًا للقراءة والتفسير والتأويل.
إنَّ النص بهذا الاختلاف لا يُحدد هويته فقط ويميز نفسه عن غيره من النصوص، بل يتجاوز ذلك لكي يجعل من نفسه محورًا في الثقافة عن طريق قابليته للتفسيرات والتأويلات المختلفة في المكان والزمان على السواء. إنَّ النصوص المحددة الدلالة هي النصوص ذات الوظيفة الإعلامية الخالصة، والتي تنتهي مهمتها بفك شفرة الرسالة ووصول المتلقِّي إلى مضمونها ومحتواها وصولًا كاملًا نهائيًّا، ومن شأن هذه النصوص أن تكون خاضعة خضوعًا شبه تامٍّ لمعطيات اللغة العادية؛ فهي نصوص لا تُبدع لغتها الخاصة؛ وذلك على خلاف النصوص الممتازة. وفي القرآن نجد مستويات لغوية مختلفة تتراوح بين «الإعلام» الخالص وهي نصوص قليلة جدًّا وبين اللغة «الأدبية» المكثَّفة الدلالة المبدعة لآلياتها الخاصة.
(٤) الحروف المقطعة في أوائل السور
إذا كان «المجمل» يجد تفسيره في جزء آخر من النص، وإذا كان «المختلف» يُفسر فيه «المتشابه» على ضوء «المُحكَم»، فإن الحروف المقطَّعة في أوائل السور لا تدخل تحت أيٍّ من هذين النمطين، ناهيك أن تدخل تحت أي وجه من وجوه الدلالة التي ناقشناها في المنطوق والمفهوم. إن المنطوق في حالة الحروف المقطعة غير دالٍّ؛ أي ليس له مفهوم مباشر أو غير مباشر. ولا شكَّ أن هذا هو الذي دفع بالبعض إلى جعل هذه الحروف من «المتشابه» الذي لا يعلمه إلا الله، وقرأ الآية — بناءً على هذا التأويل لمعنى «المتشابه» — على الاستئناف دون العطف.
وقد وُضِع تحت هذا الوجه الذي لا يعلمه إلا الله كثير من أجزاء النص تدلُّ بمنطوقها على اختصاص العلم الإلهي ببعض الجوانب التي لا يعلمها البشر مثل الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام والروح.
وإذا كانت النصوص المشار إليها عن الساعة والغيث وما في الأرحام وعن الرُّوح نصوصًا دالَّة بمنطوقها على استئثار علم الله بهذه الأشياء فإنها نصوص ليس لها تأويل وراء منطوقها. إنها نُصوص دالَّة أدخل في باب «المحكم» ولا علاقة لها بالتشابُه أو الغموض. ومعنى ذلك أن الحروف المقطعة والآيات «المتشابهات» فقط هي التي استأثر الله بعلمها وليس لإنسان تأويلها.
إنَّ اختلاف الروايات عن ابن عباس جعَل أنصار التأويل يَستندُون إلى مروياتٍ أخرى عنه تُعارض وجود شيء في القرآن لا يصل الإنسان إلى فهمه وتأويله:
«ألا ترى أن ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم، ويقول عند قراءة قوله في أصحاب الكهف: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ: أنا من أولئك القليل.
والحقيقة أن تفسير الحروف المقطَّعة ومحاولة الوصول إلى سرِّها يرجع إلى زمن نزول النص، وإلى جدل اليهود مع النبي حول الإسلام والقرآن. وسواء كانت هذه الرواية هي سبب نزول آية آل عمران أم كانت مجرَّد «واقعة» لا تعلُّق لها بنزول الآية فإن مغزاها بالنسبة لتفسير الحروف المقطَّعة يظلُّ هامًّا. لقد حاول اليهود تفسير هذه الحروف تفسيرًا عدديًّا ظنًّا منهم أنها يُمكن أن تكشف لهم عن مدة سيادة «الإسلام» وسيطرته سياسيًّا. قال ابن إسحاق راويًا عن ابن عباس:
ولقد كان هذا التأويل أساسًا فيما يبدو اعتمد عليه كثير من السلف في محاولة كشف أمدِ الدنيا ومدة العالم، ومن هؤلاء الذي اعتمدوا عليه السهيلي في كتابه فيما يقول ابن خلدون:
وينتهي ابن خلدون إلى رفض مثل هذا التأويل؛ وذلك استنادًا إلى أمرَين: الأول أن دلالة الحروف على «الأرقام» ليست دلالة طبيعية أو عقلية، بل هي دلالة عرفية وضعية اعتباطية. والأمر الثاني أن اليهود الذين وضعوا هذه الدلالة هم أقرب إلى البداوة والأمية بالمعنى الثقافي والحضاري؛ ومن ثم لا يصح التعويل على آرائهم واجتهاداتهم في مثل هذه المسائل. يقول:
وإذا كان اليهود قد حاوَلُوا تفسير هذه الحروف تفسيرًا حسابيًّا، فإنَّ ابن عباس قد حاول أن يردَّ هذه الحروف إلى أسماء الله وصفاته، فكلُّ حرف منها يدل على اسم أو صفة دلالة الجزء على الكل. وفي هذه الحالة يُمكن أن يدلَّ الحرف الواحد على أكثر من اسم وأكثر من صفة:
ويُمكن أيضًا أن يكون مفتتح كل سورة دالًّا على عبارة كاملة على سبيل الاختصار، فتكون الدلالة:
ولا شك أن هذا التأويل المنسوب إلى ابن عباس قد تطوَّر فيما بعد، عند كل من الشيعة والمتصوفة، إلى علم قائم بذاته. اكتسبت فيه الحروف بصفة عامة وحروف أوائل السور بصورة خاصة أبعادًا ودلالات شتى سواء على الأئمَّة عند الشيعة على اختلاف فرقهم أم على حقائق الوجود والنص عند المتصوفة. وكان ذلك كله تعميقًا للاتجاهات «الغنوصية» في تفسير النص وتأويله.
وفي مُقابل هذا الاتجاه التأويلي السرِّي نجد اتجاهًا آخر يتعامل مع هذه الحروف من حقيقة أنها حروف غير دالة في ذاتها، بل هي جزء من النظام اللغوي الذي يَعتمِد عليه النص، ووجودها في النص هكذا مفرَّقة له دلالة عامة هي «تأكيد» أن هذا «النص» المعجز في نظمه مؤلَّف من نفس الحروف التي يُؤلِّفون منها نصوصهم التي لا ترقى في مستواها إلى آفاق هذا النص. ومعنى ذلك أن الاشتراك بين النص وغيره من نصوص الثقافة هو اشتراك في النظام الصوتي؛ وذلك معنى من معاني الإعجاز عند الباقلاني:
وهذه الحروف الأربعة عشر المذكورة في أوائل السور إلى جانب أنها من حيث العدد نصف حروف اللغة تُمثِّل من جهة أخرى كل الظواهر الصوتية الموجودة في اللغة، فهي تُمثل ظواهر «الهمس» و«الجهر» و«الشدة» و«الرخاوة» و«الانفتاح» و«الإطباق». وهي من جهة ثالثة تمثل تقسيم الحروف من حيث «المخرج» إلى حلقية وغير حلقية. ومعنى ذلك أن اختيار هذه الحروف لبدء السور بها لم يكن اختيارًا عشوائيًّا قائمًا على المصادفة والارتجال، بل هو اختيار له دلالته من حيث إنَّ هذه الحروف تُمثِّل الظواهر الصوتية الموجودة في حروف اللغة. فمن الحروف المهموسة فيها: الصاد والكاف والقاف والسين والحاء والطاء، ومن الحروف المجهورة: الألف واللام والميم والراء والهاء والعين والياء والنون، ومن الشديدة الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة: الصاد والطاء، ومن المُنفتحة: الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون. وبالإضافة إلى ذلك ففيها من حروف القلقلة القاف والطاء. ومن حروف الحلق الحاء والهاء والعين:
وكذلك مما يُقسِّمون إليه الحروف يقولون إنها على ضربين: أحدهما حروف الحلق وهي ستة أحرف العين والحاء والهمزة (؟) والهاء والخاء (؟) والغين (؟) والنصف من هذه الحروف مذكور في جملة الحُروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور. وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.
وكذلك تَنقسِم هذه الحروف إلى قسمين آخرين: أحدهما حروف غير شديدة، وإلى الحروف الشديدة وهي التي تمنع الصوت أن يجري فيه وهي الهمزة والقاف والكاف والجيم (؟) والظاء والذال والطاء والياء، وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضًا هي مذكورة في جملة تلك الحُروف التي بُنيت عليها تلك السور. ومن ذلك الحروف المطبقة وهي أربعة أحرف وما سواها مُنفتحة فالمطبقة الطاء والظاء والضاد والصاد. وقد علمنا أن نصف هذه الحروف في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.
ثمَّة تأويلات أخرى تحاول إضفاء دلالة على هذه الحروف، منها مثلًا اعتبار هذه الحروف بمثابة أسماء للسور التي وردت فيها، ولكن هذا التأويل يُضعِف من مشروعيته كثرة السور التي تبدأ بحروف متشابهة مثل «الم» التي تبدأ بها سور «البقرة» و«آل عمران» و«العنكبوت» و«الروم» و«لقمان» و«السجدة»، ومثل «الر» التي تبدأ بها سور «يونس» و«هود» و«يوسف» و«الرعد» و«إبراهيم» و«الحجر»، هذا علاوة على الطواسين والحواميم. ويبدو دفاع علماء القرآن عن مثل هذا التأويل دفاعًا مُتهافتًا؛ ذلك أنهم يذهبون إلى أنه:
ويطول بنا الأمر إذا ناقشنا كل التأويلات التي طُرحت لوجود هذه الحروف والتي أسهب علماء القرآن في تعدادها حتى وصلت إلى ثلاثة عشر تأويلًا، وانتهى الأمر ببعض العلماء إلى التسليم بها جميعًا وجعلها بمثابة تأويل واحد:
ولا شك أن كل هذه التأويلات تؤكد بطريقة أو بأخرى إحساس القدماء بأن «غموض» دلالة هذه الحروف يشكل جانبًا من جوانب خصوصية النص، فهو غموض يُؤكِّد «الاختلاف»، بين القرآن وبين غيره من النصوص. من هنا تختلف الحروف المُقطَّعة عن غيرها من ظواهر الغموض التي ناقَشْناها في الفقرات السابقة، من حيث إن هذه الأخيرة ظواهر غموض دلالية تُبَيِّنها وتكشف عنها أجزاء أخرى من النص، وهي من ثم ظواهر غموض تبرز اختلاف النص داخليًّا. وهكذا يكون النص قد خالف بين ذاته وبين غيره من النصوص من جهة، وخالف بين أجزائه من جهة أخرى. ولم تكن هذه المخالفة إلا آلية من آليات النص حقَّق بها تميُّزه وحقق بها من ثم قدرته على التفاعل مع الثقافة في المكان والزمان.