العام والخاص
إذا كانت علوم «الإعجاز» و«المناسبة بين السور والآيات» و«المُحكَم والمتشابه» علومًا تؤكد مفهوم «وحدة» النص في وعي القدماء فإن علم «العام والخاص» يزيد هذا الوعي بالوحدة وضوحًا رغم ارتباطه ارتباطًا وثيقًا بعلم «أسباب النزول». إذ لم يَكتفِ العلماء بالوقوف عند حدود النظرة التجزيئية للنص التي ترى كل آية «نصًّا» مُستقلًّا بمعنى منفصل عن معنى الآيات السابقة لها أو التالية لها، بل بذلوا — كما رأينا — غاية جهدهم لتأكيد أن النص من حيث «النزول» نزل مُجزَّءًا، ولكنه من حيث «التلاوة» نصٌّ واحد. وفي علم «العام والخاص» يُؤكِّد العلماء مرة أخرى أن النصوص أو الآيات وإن نزلت عند سبب خاصٍّ تتجاوَز من حيث دلالتها حدود هذا السبب الخاص. وإذا كان العلماء قد اختلفوا في دلالة النص وتساءلوا: هل العِبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب، فقد كان هذا الخلاف خلافًا فقهيًّا يرتبط بآيات الأحكام دون غيرها من الآيات. ولا شك أن ما ورد في القرآن خاصًّا بالأحكام والتشريعات يُمكن النظر إليه من خلال هذه الثنائية؛ إذ يَرتبط بعضها بسبب النزول ولا يُفارقه، وإن كان بعضها الآخر يتجاوز «الواقعة» الجزئية التي نزل فيها ليدلَّ على حكم عام يصلح أن ينطبق على آلاف الوقائع الشبيهة.
لقد كان اهتمام الفقهاء والأصوليِّين باكتشاف الطرائق التي يُمكن أن يستجيب بها النص لمُتغيرات الواقع في حركته النامية المتطوِّرة عبر التاريخ هو العامل الأكبر وراء التركيز على «عموم اللفظ» دون الوقوف عند «خصوص السبب». لذلك نظر كثير من الفقهاء إلى «الوقائع» الجزئية التي يُمثلها علم «أسباب النزول» بوصفها مجرد نماذج وأمثلة لأحوال اجتماعية وإنسانية. وعلى ذلك فإن دلالة النص لا تَقف عند حدود هذه الوقائع الجزئية، بل تَنسحِب على كل الوقائع الشبيهة:
«ومن الأدلة على اعتبار عموم اللفظ «كون» احتجاج الصحابة وغيرهم في وقائع بعموم آيات نزلت على أسباب خاصة شائعًا ذائعًا بينهم. قال ابن جرير: حدَّثني محمد بن أبي معشر: أخبرنا أبو معشر نجيح، سمعت سعيدًا المقبري يذكر محمَّد بن كعب القرظي، فقال سعيد: إن في بعض كتب الله: إن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرُّ من الصبر، فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية، فقال سعيد: قد عرفت فيمن أنزلت، فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة.
فإن قلت فهذا ابن عباس لم يعتبر عموم قوله: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ الآية، بل قصَرها على ما أُنزلت فيه من قصة أهل الكتاب، قلت: أجيب عن ذلك بأنه لا يَخفى عليه أن اللفظ أعمُّ من السبب، لكنه بيَّن أن المراد باللفظ خاص، ونظيره تفسير النبي ﷺ «الظلم» في قوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ بالشرك من قوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. مع فهم الصحابة العموم في كل لفظ. وقد ورَد عن ابن عباس ما يدلُّ على اعتبار العموم فإنه قال به في آية السرقة مع أنها نزلت في امرأة سرقت. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين نبأنا محمد بن أبي حماد حدثنا أبو ثميلة بن عبد المؤمن عن نجدة الحنفي، قال: سألتُ ابن عباس عن قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا أخاص أم عام؟ قال: بل عام.
إن تجاوز «السبب الخاص» في دلالة النص إلى مستوى «العموم» لا بد أن يستند إلى دوالَّ في النص ذاته تسمح بهذا التجاوز والانتقال. ومن طبيعة اللغة ذاتها أنها تُعبر عن الوقائع تعبيرًا رمزيًّا، فالوجود الفيزيقي للأشياء يتحوَّل في اللغة إلى رموز صوتية، وهذا التحول لا يتم إلا عبر المرور من الوجود المادي إلى الوجود الذهني في المفاهيم والتصورات المشتركة. هذا على مستوى دلالة الألفاظ على مدلولاتها، فإذا انتقلنا من دلالة الألفاظ إلى دلالة التراكيب كان تعبير اللغة عن الوقائع تعبيرًا من خلال علاقات لُغوية لها خصوصيتها. إن عبارة «مات السائق» مثلًا أسندت الفعل «مات» إلى الفاعل «السائق»، ولكن هذا إسناد لُغوي لا يتطابق مع الحدث الخارجي ولا يحاكيه؛ ففي الحدث الخارجي الذي تُعبِّر عنه الجملة لم يفعل السائق الموت بنفسه. وفي عبارة أخرى مثل «أعجبني العَرْضُ» نجد أن علاقات الفاعلية والمفعولية لا تشير إلى وقائع خارجية، بل تشير إلى علاقات لغوية. هذا من حيث علاقة اللغة بما تدلُّ عليه في الواقع الخارجي؛ إذ للغة آليات خاصة بها تحول الواقع إلى وجود رمزي صوتي أو كتابي.
لكن أهم آليات اللغة في التعبير عن الوقائع أن أي عبارة من العبارتين السابقتين تصلح للتعبير عن ملايين الوقائع الشبيهة التي يموت فيها السائقون أو التي يستأثر فيها عرض بإعجاب مُتكلِّم. ولو استُخْدِمَت بعض أدوات التخصيص في أيٍّ من الجملتين كأن نقول مثلًا: «مات السائق حين اصطدمت السيارة التي كان يقودها بالقطار» فإن الجملة تظلُّ رغم ذلك صالحة للتعبير عن آلاف الوقائع التي يموت فيها سائقون حين تصطدم سياراتهم بقطارات. وحتى في حالة استبدال اسم علم بكلمة «سائق» ونعت كلمة «السيارة» ببعض النعوت التي تميزها عن غيرها من السيارات، فلن تفلح كل هذه الوسائل اللغوية في جعل العبارة اللغوية «خاصة» بالحادثة الجزئية. هكذا تَعتمِد اللغة في تعبيرها الرمزي عن العالم على طاقتَي التجريد والتعميم.
إنَّ الأصل في آليات اللغة إذن التعميم، لذلك حرص العلماء على تأكيد العموم في كثير من الأحكام التي شرعها النص. ولكن هذا الحرص على «العموم» لا يُقلل من أهمية علم «أسباب النزول» الذي يتوقف عليه في كثير من الأحيان اكتشاف دلالة النصوص. إن الآيات:
قد أشكلت على مروان بن الحكم فسأل ابن عباس:
وليس معنى قول ابن عباس: إن الآية نزلت في أهل الكتاب أنه يجعل دلالتها دلالة خاصة، بل القصد من وراء ذكر «السبب» اكتشاف دلالة النص بالعودة به إلى سياقه الأكبر. والدلالة التي يمكن الوصول إليها أن الذم واقع على الجمع بين الفرح بما يجنيه الإنسان من الباطل وبين حب الحمد على هذا الباطل أيضًا. لقد كذب اليهود على محمد، وحققوا من وراء هذا الكذب غايتين: الفرح بخداع محمد، واكتساب الحمد على شيء لم يفعلوه في الحقيقة. وهذه الدلالة تحتاج لا شك إلى معرفة سبب النزول، ولكنها تظل دلالة عامة غير خاصة بالسبب الذي نزلت من أجله:
إن معنى التخصيص الذي يفهم من كلام ابن عباس تحديد مدلول النص لا تخصيص الحكم بقصره على الواقعة الجزئية الخاصة التي هي سبب النزول، إنه تحديد المقصود بالفرح وحب الحمد فليس كل من يفرح بما أوتي ويحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا وإلا عُذِّب الناس جميعًا كما توهم مروان بن الحكم. إن دلالة النص التي أمكن الوصول إليها من «سبب النزول» تحصره في «فرح» خاص بفائدة يجنيها الإنسان من باطل، ويجتمع مع هذا الفرح حب الحمد على هذا الباطل الموهم. لكن هذه الدلالة عامة في كل من تحققت فيه هذه الشروط.
(١) آليات العموم
يَعدُّ الأصوليون الوسائل اللغوية التي يستفاد منها معنى العموم ويحصرونها في الوسائل الآتية:
-
(١)
«كل» سواء بدئ بها الكلام أو جاءت في التوابع.
-
(٢)
أسماء الموصول.
-
(٣)
«أي» و«ما» و«مَنْ» سواء جاءت شرطية أم استفهامية أم موصولة.
-
(٤)
الجمع المُعرَّف سواء كان التعريف بالألف واللام أم كان بالإضافة.
-
(٥)
اسم الجنس المُعرَّف سواء بالإضافة أو بالألف واللام.
-
(٦)
النكرة في سياق النهي والنفي والشرط، وفي سياق الامتنان.
العام لفظ يستغرق الصالح من غير حصر. وصيغة «كل» مبتدأة نحو: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، أو تابعة نحو: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، و«الذي» و«التي» وتثنيتهما وجمعهما نحو: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، والَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ. لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ واللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ … الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا … الآية، وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا.
و«أي» و«ما» و«من» شرطا واستفهامًا وموصولًا، نحو: أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
والجمع المضاف نحو يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ والمُعرَّف بأل نحو: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ واقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ.
واسم الجنس المضاف نحو: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي كل أمر الله، والمُعرَّف بأل نحو: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ أي كل بيع، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ أي كلَّ إنسان بدليل إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.
«وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ، أُخْرِج في صورة الخطاب لما أريد العموم، للقصد إلى تفظيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها، فلا تخص بها رؤية راء، بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب، لقوله تعالى:
إن كثيرًا من الآيات التي يُوردها العلماء في مجال الأحكام للدلالة على أن «عموم اللفظ» هو الأحق بالاعتبار من «خصوص» السبب آيات تستخدم فيها الأسماء الموصولة. من هذه الآيات مثلًا قوله تعالى:
وهي آيات نزلت في شأن «سلمة بن صخر»، وعلينا أن نلاحظ كيف أن النص يبدأ بالخاص «الواقعة الجزئية» وهي شكوى المرأة من زوجها، ثم ينتقل إلى العام باستخدام الأسماء الموصولة. والمثال الثاني هو آيات اللعان، وهو قوله تعالى:
وهي آيات نزلت في شأن «هلال بن أمية»، والآية الثالثة نزلت في حق من قذفوا عائشة، وهي قوله تعالى:
إن استخدام اسم الموصول بما يرتبط به من جملة الصلة يؤدي إلى خلق مفهوم عام في «الوهم والخيال» على حد تعبير عبد القاهر. وهذا المفهوم العام ينقل الدلالة اللغوية من مستوى الواقعة الجزئية لتعبر عن مفهوم عام:
«وليس شيء أغلب على هذا الضرب الموهوم من «الذي» فإنه يجيء كثيرًا على أنك تقدر شيئًا في وهمك، ثم تعبر عنه بالذي، ومثال ذلك قوله:
وقول الآخر:
وإذا كانت دلالة اسم الموصول على العموم ناتجة عن حاجته لجملة الصلة التي تحوله إلى مفهوم عام، فإن ظاهرة حذف المفعول تؤدي إلى العموم من حيث تحويلها لدلالة الفعل من التعدي إلى اللزوم على المستوى النحوي، ومن حيث قابلية التركيب لاحتمالات دلالية متعددة على مستوى «التأويل». لذلك يصف عبد القاهر هذه الظاهرة — ظاهرة الحذف — بقوله:
ويتوقَّف عبد القاهر أمام شاهدَين شعريَّين كاشفًا عن دلالة الحذف، يتوقف أمام قول البحتري:
وكذلك أمام بيت عمرو بن معد يكرب:
ویری أن حذف المفعول للفعل «يرى» وللفعل «يسمع» في البيت الأول، وحذفه للفعل «أجرَّ» في البيت الثاني، حذف ليس الغرض منه الاختصار فحسب، وهو الاختصار الذي يعبر عنه النحاة بقولهم: «حذف ما يعلم جائز»، بل هو حذف يستهدف نقل دلالة الأبيات من إطار التجربة الخاصة إلى مجال التجربة العامة. إن الحذف هنا يقوم بوظيفة نقل الدلالة من «الخاص» إلى «العام» لا بالمعنى الفقهي الذي ناقشناه قبل ذلك، بل بالمعنى النقدي.
ولا شك أن المفعولات المحذوفة يمكن تقديرها اعتمادًا على السياق من منظور نحوي تقليدي كما يفعل عبد القاهر حين يشرح البيت الأول قائلًا:
ويكون معنى البيت الثاني اعتمادًا على تقدير المحذوف أيضًا:
لكن هذا المعنى الذي يعتمد على تقدير المحذوف هو «المعنى الأصلي» «أو» «الغرض» عند عبد القاهر، وليس هو المعنى الناتج عن هذا النظم الخاص وما يتضمنه من حذف. إن معنى النظم ودلالة الحذف يتجاوز الحدث الجزئي الذي كان البيت تعبيرًا عنه «قصدًا»، أي يتجاوز الدافع الأول للنص وهو المديح في البيت الأول والاعتذار في البيت الثاني. إنه ينقل التجربة من مجال الخاص إلى مجال العام. وعلى ذلك تكون الدلالة في البيت الأول:
وتكون دلالة النظم في البيت الثاني:
وهذا المبدأ الهام الذي يطرحه عبد القاهر من أن الحذف — حذف المفعول — قد يحول المعنى والدلالة من مجال الخاص إلى مجال العام مبدأ يمكن تطبيقه على كثير من النصوص الأدبية. وعلى ذلك تصبح الدلالة في أبيات طُفَيْل الغنوي التي قالها مادحًا جعفر بن كلاب، وهي:
«إن من له حكم مثله في كل أم أن تمل وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم به، مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد، وذلك أنه وإن قال «أُمَّنا» فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها. ولو قلت «لملَّتنا» لم يحتمل ذلك لأنه يجري مجرى أن تقول: لو لقيت أمنا ذلك لدخلها ما يملها منا. وإذا قلت ما يملها منا فقيدت لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن.
وإذا كان عبد القاهر في تحليلاته لا يكاد يغادر دلالة البيت أو جزء البيت للكشف عن دلالة «نص» متكامل، فذلك راجع إلى أن البحث عن آلية الانتقال من الخاص إلى العام بدأ كما رأينا في دائرة البحث الفقهي لاستثمار الأحكام من النصوص، ثم انتقل بعد ذلك إلى مجال الدراسات الأدبية واللغوية. ويكفي عبد القاهر قدرته على هذا الربط بين المجالين دون أن يظل مبحث «العام والخاص» في إطار المفاهيم العامة للمجاز كما هو الأمر عند ابن قتيبة والباقلاني وغيرهم. ومع ذلك فإن في كثير من تحليلات عبد القاهر لبعض النصوص ما يكشف عن وعي باهر بقدرة بعض الوسائل اللغوية — خاصة حذف المفعول — على نقل الدلالة من مجال «الخاص» إلى مجال «العام». يقول تعليقًا على قول الشاعر:
«قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني، وإن قربت مني شفتني، إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ويوجب اطراحه، وذلك لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه وكأنه كالطبيعة فيه، وكذلك حال الشفاء مع القرب حتى كأنه قال: أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني. وما قربها؟ هو الشفاء والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة إلا بحذف المفعول البتة فاعرفه.
إن الانتقال من الخاص إلى العام انتقال دلالي يتحقق باستخدام بعض آليات اللغة، ولكنه انتقال لا ينفي علاقة النص بالواقع ولا يتصادم معها. وعلى مستوى النص القرآني يكون فهم سبب النزول هامًّا لإدراك المعنى واكتشاف الدلالة، لكن المعنى والدلالة لا يقفان عند حدود الوقائع، بل تكون النصوص قابلة للتعبير عن وقائع شبيهة، وتكون من ثم قابلة لإعادة القراءة والتفسير والتأويل.
(٢) آليات الخصوص
إذا كانت آليات العموم تعتمد على بعض الوسائل اللغوية فإن ثمة وسائل لغوية أخرى تحول العموم إلى خصوص، أي تخصص الدلالة العامة للنصوص، ويعد اكتشاف هذه الأدوات أمرًا هامًّا بالنسبة لعلماء أصول الفقه، ولا يقل في أهميته عن اكتشاف أدوات العموم وآلياته. لكن هذا «الخصوص» الذي تحققه بعض الوسائل اللغوية ليس خصوص «المناسبة»، بمعنى أنه لا يعني قصر مفهوم النص على الحدث الجزئي الذي كان النص استجابة له. إن معنى «الخصوص» اللغوي ينحصر في أحد أمرين كما يقول الفقهاء: أن يكون اللفظ عامًّا في صيغته وتكون دلالته غير شاملة لجميع الأفراد الذين يشير إليهم، بل تكون دلالته خاصة. وهذه الدلالة الخاصة تكون مفهومة من السياق التركيبي للنص وهو ما يطلق عليه الفقهاء «العام المراد به الخصوص». والمعنى الثاني للخصوص اللغوي أن يكون اللفظ عامًّا في صيغته ودلالته، ولكن الحكم الوارد في النص لا ينطبق على مدلول عموم الألفاظ. ويعتمد التخصيص في هذا النمط من النصوص على دوال لغوية قد تكون متصلة بالنص المذكور، أو على نصوص أخرى منفصلة عن النص المَعْني. وهذا النوع الثاني يطلق عليه الفقهاء «العام المخصوص». وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذا النوع الثاني هو الغالب على النصوص الخاصة بالأحكام الشرعية:
ولكن السيوطي يجد في آيات الأحكام نصًّا واحدًا لا خصوص فيه:
إن الفارق بين «العام المراد به الخصوص» وبين «العام المخصوص» فارق دلالي في الأساس، الأول يتحدد من خلال عدة زوايا: الزاوية الأولى هي التي أشرنا إليها قبل ذلك، وهي أن دلالة اللفظ في النمط الأول لا تكون دلالة شاملة تستغرق كل الأفراد الداخلة في مفهوم اللفظ، في حين أن دلالة اللفظ في النمط الثاني تكون شاملة. الزاوية الثانية من حيث الحكم المُتَضَمَّن، فالحكم في النمط الأول لا ينطبق إلا على دلالة اللفظ الخاصة، في حين أن الحكم في النمط الثاني لا يتطابق مع دلالة اللفظ، فاللفظ عام ولكن الحكم خاص. الزاوية الثالثة: إن دلالة اللفظ في النمط الأول مجازية في حين أن دلالة اللفظ في النمط الثاني دلالة حقيقية. الزاوية الرابعة أن قرينة التخصيص في النمط الأول قرينة عقلية، في حين أن القرينة في النمط الثاني قرينة لفظية. الزاوية الخامسة: أن القرينة العقلية في النمط الأول متصلة بالخطاب، أما القرينة اللفظية في النمط الثاني فقد تكون متصلة وقد تكون منفصلة. ويمكن أن نضع هذه الزوايا الفارقة بين النمطين دلاليًّا على النحو التالي:
العام المراد به الخصوص | العام المخصوص | |
---|---|---|
(١) الدلالة اللفظية | خاصة | عامة |
(٢) طبيعة الدلالة | مجازية | حقيقية |
(٣) أداة التخصيص | عقلية متصلة | لفظية متصلة/أو منفصلة |
(٤) الحكم | خاص | خاص |
إن المثال الذي يطرحه العلماء للنمط الأول وهو «العام المراد به الخصوص» مثال سبق أن ناقشناه في حديثنا عن «الخصوص» في «أسباب النزول»، وهو قوله تعالى:
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا.
والحقيقة أن الحدود الفاصلة بين النمطين حدود شكلية خاصة إذا تبدَّد وهم مجازية الدلالة في النمط الأول. ومن المهم هنا أن نناقش الأدوات التي حصرها القدماء للقرائن اللفظية المتصلة والمنفصلة في النوع الثاني لأنها تدخلنا في مناقشة بعض الظواهر اللغوية التي تنكشف من خلالها آليات النص في إنتاج الدلالة. يحصر القدماء القرائن اللفظية المتصلة في خمس ظواهر لغوية هي: «الاستثناء» و«الوصف» و«الشرط» و«الغاية» و«بدل البعض من الكل».
«الاستثناء» نحو وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا، وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ … إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الآية، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا إلى قوله: إِلَّا مَنْ تَابَ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
الثاني «الوصف» نحو: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
الثالث «الشرط» نحو: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا، كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ.
الرابع «الغاية» نحو: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ الآية.
ولا شك أن هذه الأدوات اللغوية تعد بمثابة محددات دلالية داخل التركيب اللغوي، محددات دلالية تعيد صياغة دلالة بعض الألفاظ فتحولها من دلالتها العامة إلى أن تدل دلالة خاصة. إن هذه الأدوات تعمل وفق مفهوم التفاعل السياقي الذي عبر عنه عبد القاهر بطرائق شتى في نظريته عن النظم. ومن اللافت للانتباه أن مفهوم التفاعل السياقي قد ناقشه عبد القاهر وهو بصدد الحديث عن «الفصل والوصل» في تحليل بعض آيات القرآن من سورة البقرة وهي قوله تعالى:
ويفسر عبد القاهر الفصل في الآيات على أساس أنه دال يفرق بين الحكاية — حكاية قول المنافقين — وبين خبر الله عنهم بأنهم هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ، وأنهم هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وأن الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. ولأن الآية الأولى وردت كلها مورد الحكاية لم تكن ثم حاجة إلى الفصل وذلك على عكس الآيات التالية التي تراوح الأسلوب فيها بين الحكاية والخبر:
ويمكن أن نناقش عبد القاهر في هذا التحليل فنقول: إن الفصل ليس هو الدال الوحيد للتفرقة بين الحكاية والخبر في النص، بل ثم دال آخر هو اختلاف الضمائر من التكلم إلى الغياب، ففي الحكاية يكون الحضور مدلولًا عليه بضمير المتكلمين «نا»، بينما يستخدم الخبر ضمير الغياب «هم»، وهذا الاختلاف دال آخر يتضافر مع دال «الفصل» للكشف عن الدلالة. وفي الآية الأولى تدل «الواو» العاطفة على أن أسلوب الخبر هو الأساس في دلالتها وذلك رغم وجود ظاهرة اختلاف الضمائر، وهذا يدل على أن النص يعتمد على تفاعل الدوال في إنتاج دلالته ولا يكتفي بدال واحد. لكن وقوف عبد القاهر عند «الفصل» وحده مُبَرَّرٌ بطبيعة أن موضوع التحليل كان مبحث «الفصل والوصل».
لكن الأساس الثاني في تحليل عبد القاهر لظاهرة الفصل في الآيات السابقة إلى جانب الفصل بين الحكاية والخبر هو الأساس الذي يهمنا هنا أكثر، إن الفصل والوصل ليس مجرد ظاهرة لغوية تقترن بالعطف أو ترك العطف، بل هي ظاهرة دلالية هامة من ظواهر آليات النصوص، لذلك يرى عبد القاهر أنه من أغمض أبواب البلاغة وأصعبها:
وعلى ذلك فليس «العطف» — الوصل — مجرد ربط ميكانيكي بين العبارات والجمل، بل هو أداة هامة لتحقيق التفاعل السياقي بين أجزاء النص. والعطف يأتي فيما يقول عبد القاهر على ضربين: أحدهما الربط بين جملتين أو لفظين يتصور وجود كل واحد منهما دون الآخر، وهو يدل هنا على «كمال الانفصال» مثل أن تقول: «إن تأتني أكرمك وأعطك وأكسك»، فكل واحد من الأفعال الثلاثة المعطوفة لا يتعلق بالآخر، ولذلك دل العطف هنا على «الانفصال». والضرب الثاني من ضروب العطف هو الواقع في جملة الشرط، وهو:
إن العطف في المثال الذي يطرحه عبد القاهر عطف مغاير للضرب الأول الدال على «كمال الانفصال»، إنه دال على «كمال الاتصال»، ولكنه اتصال قائم على التفاعل لا على مجرد «الوصل». إن التفاعل هنا يتم على أساس من فاعلية علاقات الشرط ذاتها التي تربط جملتين مثل «إذا عاد الأمير استأذنته» فإذا عطفنا على جملة «استأذنت» جملة أخرى مثل «وخرجت»، فإن الواو هنا لا تعطف الجملة الأخيرة على جملة جواب الشرط معزولة عن سياقها في جملة الشرط، بل العطف هنا يكون على مجمل التفاعل السياقي لجملة الشرط كلها، فيكون الخروج معطوفًا على الاستئذان المشروط بعودة الأمير. وعلى ذلك تكون دلالة النص محصلة لا لتراكم عدد الجمل المكونة له، بل لتفاعل دلالتها في السياق. وتتضح هذه المسألة في فكر عبد القاهر بصورة أوضح وهو يكشف عن ذلك التفاعل الدلالي في أبيات المتنبي:
إن جملة «فكان مسير عيسهم ذميلًا» في البيت الثاني ليست معطوفة على الجملة السابقة لها «ففاجأني اغتيالًا» بل هي معطوفة على الجملة الأولى «تولوا بغتة»، وليس معنى ذلك أنها معطوفة عليها معزولة عن الجمل التالية لها «فكأن بينا تهيبني ففاجأني اغتيالًا» بل هي معطوفة على مجمل السياق الناتج عن التفاعل الدلالي بين الجمل الثلاث الموجودة في البيت الأول:
«ألا ترى أن المعنى «تولوا بغتة» فتوهمت أن «بَيْنًا تهيبني»، ولا شك أن هذا التوهم كان بسبب أن كان التولي بغتة. وإذا كان كذلك كانت مع الأولى كالشيء الواحد، وكانت منزلتها منها منزلة المفعول والظرف وسائر ما يجيء بعد تمام الجملة من معمولات الفعل مما لا يمكن إفراده عن الجملة، وأن يعتد كلامًا على حدته. وههنا شيء آخر دقيق، وهو أنك إذا نظرت إلى قوله: «فكان مسير عيسهم ذميلًا» وجدته لم يعطف هو وحده على ما عطف عليه، ولكن تجد العطف قد تناول جملة البيت مربوطًا آخره بأوله، ألا ترى أن الغرض من هذا الكلام أن يجعل توليهم بغتة وعلى الوجه الذي توهم من أجله أن البَينْ تهيَّبه مستدعيًا بكاءه وموجبًا أن ينهمل دمعه، فلم يَعنِه أن يذكر ذملان العيس إلا ليذكر هملان الدمع وأن يوفق بينهما.
في هذا التحليل يكشف عبد القاهر عن وعيه بآليات النصوص في إنتاج الدلالة، فالعطف ظاهرة تتجاوز الربط بين الجمل المتجاورة لتكشف عن تفاعل دلالات الجمل داخل السياق. وفي البيتين السابقين تم مستويان للتفاعل الدلالي: المستوى الأول يتجلى من خلال التفاعل بين الجمل الثلاث في البيت الأول وبين جملتي البيت الثاني، والمستوى الثاني يتجلى من خلال التفاعل بين البيتين، أي من خلال التفاعل بين مجمل سياق البيت الأول وبين مجمل سياق البيت الثاني، وهو تفاعل يمكن وضعه على النحو التالي:
وعلينا أن نلاحظ التقابل بين «التولي» و«البَيْن» وبين «المباغتة» و«التهيب» في الجملتين الأولى والثانية في البيت الأول، ونلاحظ التقابل بين «المباغتة» وبين «المفاجأة» و«الاغتيال» في الجملتين الأولى والثالثة. والتقابل يرتد هنا إلى أن هذه الألفاظ تنتمي إلى مجال دلالي واحد. وفي البيت الثاني علينا أن ندرك التقابل — أو التوازن — بين «مسير العيس» و«سير الدمع» وبين «الذملان» و«الانهمال»، والتوازن الذي يحققانه مع «التولي» وما نتج عنه من «تهيب» و«مفاجأة» و«اغتيال»، وبذلك تتوازن استجابة «الذات» مع فعل «الجماعة». إن العطف بالفاء داخل جمل البيت الأول وبين البيت الأول والثاني يحقق السرعة التي تتضافر مع دلالات الأفعال والأحوال من جهة ومع سرعة العيس من جهة أخرى. والعطف بالواو بين جملتي البيت الثاني يحقق التوازن بين استجابة الذات وبين فعل الجماعة، وهو توازن يتحقق كذلك عن طريق التقابل في التركيب اللغوي للجملتين.
إن ما يقوله عبد القاهر عن التفاعل الدلالي على مستوى الجمل المكونة لكل بيت من جهة وعلى مستوى البيتين من جهة أخرى هام جدًّا بالنسبة لآليات النصوص في إنتاج الدلالة بصفة عامة. وهو هام بصفة خاصة بالنسبة لتأويله لآيات سورة البقرة التي مرَّ الحديث عنها خاصة الآية الأخيرة منها:
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
حيث يرى عبد القاهر أن استهزاء الله بهم ومده لهم في طغيانهم إنما هو جزاء على مجموع قولهم «آمنا» وعلى استهزائهم بالمؤمنين حين يخلون إلى شياطينهم، أي أنه جزاء مترتب على حكم الشرطين المعطوفين بالواو، ولا يتعلق بالشرط الثاني منهما فقط کما قد يوهم العطف بينه وبين «الله يستهزئ بهم» لو كانت الآية وردت مورد العطف. ومعنى ذلك أن «العطف» كان يمكن أن يؤدي إلى خلل دلالي في تعلق الحكم بالفعل، و«الفصل» يمنع هذا الخلل الدلالي ويحقق للنص دقته الدلالية. إن المعنى في حالة العطف كان يمكن أن يكون:
وإذا كان هذا التحليل يعود بنا إلى ما قاله الفقهاء من أن «الشرط» أحد أساليب تخصيص العام في الأحكام الفقهية والشرعية، فذلك لأن الجزاء الذي يتحدث عنه عبد القاهر هنا بمثابة «العقاب» الذي يستحق على الفعل. ولكن تحليل أسلوب الشرط وما يندرج فيه من العطف وصولًا للدلالة عند عبد القاهر يتجاوز الموقف الفقهي إلى آفاق أعمق في اكتشاف آليات النصوص. ولا يقف عبد القاهر في تحليله للنص القرآني السابق عند حدود تحليله من منظور الفصل والوصل، بل يمضي في تعليل «الفصل» إلى اكتشاف اعتماد النص على استخدام الفعل «قال» بطريقة لافتة وهو استخدام يقترب من أسلوب السرد القصصي الذي عبر عنه عبد القاهر باسم «الحكاية». ويلاحظ عبد القاهر أن هذا الأسلوب من شأنه أن يشرك المتلقي في النص وذلك عن طريق إثارة فضوله لمتابعة تطور حدث النص. من هنا يجد عبد القاهر تعليلًا آخر للفصل يطرحه على النحو التالي:
وهذا تأويل آخر يقوم على أساس تقدير محذوف يشرك المتلقين في جدلية «الأصوات» التي يتضمنها النص، صوت المنافقين، صوت المؤمنين المعبر عنه في بناء الفعل للمجهول «وإذا قيل لهم»، وصوت المتكلم أو الراوي. وإذا كان النص يتضمن هذه الأصوات فإن العلاقة بين صوت المنافقين وبين صوت المؤمنين علاقة شرطية، ولكن العلاقة بين هذين الصوتين وبين الصوت الثالث (صوت المتكلم أو الراوي) هي علاقة «التعليق» على الحدث، وهي علاقة تتحقق على المستوى النحوي بالفصل. إن الفصل هنا يقوم بوظيفة دلالية هامة هي التفرقة بين الأصوات، أو بين الحكاية والخبر على حد تعبير عبد القاهر. وتأويل عبد القاهر الأخير يضيف للآيات صوتًا رابعًا هو صوت المستمعين، وهو صوت يؤكد ضرورة الفصل حتى لا تتداخل الأصوات داخل النص. هل يمكن أن نضيف هنا أن ظاهرة «الفصل» في النص تتجاوز حدود دلالة النص لتؤكد «الفصل» الوجودي بين المتكلم وبين من سواه وما سواه، وهو فصل يحرص عليه النص ذاته؟! لكن هذه قضية أخرى ليس هنا مجال مناقشتها.
(٣) المطلق والمقيد
إن جدلية العموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد تكشف عن تعامل الفقهاء مع النص القرآني بوصفه نصًّا واحدًا. وإذا كانت الآيات ترتبط من حيث النزول بوقائع ومناسبات تكشف عن معناها ودلالتها، فإن استثمار الأحكام من النص يتعامل مع النص بوصفه وحدة دلالية واحدة. ولقد امتدت هذه النظرة لوحدة النص إلى مجال الآيات التي لا علاقة لها بالأحكام الشرعية الفقهية، ولذلك يجمع علماء القرآن بين النصوص الخاصة بالأحكام وبين غيرها من النصوص عند حديثهم عن ظاهرة الإطلاق والتقييد:
وإذا كان المسلمون جميعًا على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية قد أجمعوا على أن قدرة الله قاهرة غالبة لا ينتقص منها شيء، فإن معنى ذلك أن كل شيء يقع في العالم إنما يقع بمشيئة الله وذلك باستثناء الفعل الإنساني الذي اختلفوا حوله خلافًا معروفًا شائعًا. وعلى ذلك فقد اعتبر العلماء هذه المشيئة الإلهية «نصًّا» يقيد كل ما ورد في القرآن من الوعود المطلقة التي لا تتحقق عادة مع توفر شروطها، وهي الوعود التي وعد الله بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا:
«وقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا فإنه لو قيل: نحن نرى من يطلب الدنيا طلبًا حثيثًا ولا يحصل له منها شيء قلنا: قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ، فعلق ما يريد بالمشيئة والإرادة.
ويذهب إلى أن الآية مطلقة في إباحة أكل كل شيء وشرب كل شيء، وهذا تعلُّقٌ لا معنى له؛ فالآية:
«لم ترد مُبَيِّنَة لذلك، بل مبينة لحكم جواز الأكل والشرب والمباشرة إلى الفجر دفعًا لما كان الناس عليه من حظر ذلك على من نام، فبين في الآية إباحة ما كان محظورًا، ثم أطلق لفظ الأكل والشرب والمباشرة لا على معنى إبانة الحكم فيما يحل من ذلك وما يحرم. ألا ترى أنه لا يدخل فيه شرب الخمر والدم وأكل الميتة ولا المباشرة فيما لا يُبتَغى منه الولد، ومثله في القرآن كثير. وهذا يدل على أن النظر في العموم إلى المعاني لا لإطلاق اللفظ.»
إن الآية واضحة في دلالتها على أنها ليست نصًّا في بيان الحلال والحرام في المطعم والمشرب، بل محور اهتمامها نفي ما كان شائعًا عند المسلمين من تحريم الأكل والشرب والمباشرة بعد النوم. لكن المهم أن «عموم» اللفظ هنا أو إطلاقه ليس هو معيار الدلالة، فالدلالة محصلة تفاعل علاقات السياق، وهي التي تحدد الخاص والعام أو المطلق والمقيد.
ومع ذلك فمن المهم دائمًا العودة إلى ترتيب النزول عند وجود «تعارض» بين النصوص. وفي ذلك يضع الأصوليون مجموعة من القواعد لتحديد العام والخاص عند توهم التعارض. وفي هذه القواعد يتسع مفهوم النص ليضم إلى جانب «القرآن» السنة النبوية والإجماع.
قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني:
وإذا كانت إزالة التعارض المتوهَّم بين أجزاء النص القرآني أو بين القرآن والسنة تحتاج إلى عقل «الفقيه» و«المفسر» فمعنى ذلك أن آليات النص كلها سواء على مستوى «العام والخاص» أم على مستوى «الغموض والوضوح» تقودنا إلى مناقشة دور القارئ في اكتشاف دلالة النص وفي سبر أغواره. وقد مر بنا في فصلي «الإعجاز» و«المناسبة بين السور والآيات» بعض هذه الجهود الإنسانية لاكتشاف تفوق النص ووحدته. وفي الفصل التالي نناقش «التفسير والتأويل» من خلال مواجهة القارئ للنص لاكتشاف دلالته ومغزاه.