التفسير والتأويل
إذا صح افتراضنا في مفتتح هذه الدراسة أن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة النص يصح أيضًا أن نقول إنها حضارة «التأويل»، وذلك أن التأويل هو الوجه الآخر للنص. وإذا كان مصطلح «التأويل» في الفكر الديني الرسمي قد تحول إلى مصطلح «مکروه» لحساب مصطلح «التفسير» فإن وراء مثل هذا التحويل محاولة مصادرة كل اتجاهات الفكر الديني «المعارضة» سواء على مستوى التراث أم على مستوى الجدل الراهن في الثقافة. إن وصم الفكر السائد للفكر النقيض بأنه فكر «تأويلي» يستهدف تصنيف أصحاب هذا الفكر في دائرة الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ. ويتجاوب مثل هذا التصنيف تجاوبًا تامًّا مع الخطاب السياسي المباشر الذي يصم كل تحركات المعارضة أو الاحتجاج السياسي ضد قرارات السلطة التنفيذية بأنها تحركات تستهدف إثارة «الفتنة». وفي مقابل ذلك يكون وصف «تأويلات» هذا الفكر الرسمي بأنها «تفسير» وصفًا يستهدف إضفاء صفة «الموضوعية» و«الصدق» المطلق على هذه التأويلات. وكأن الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري كان يعاني من أمثال هؤلاء من علماء السلطة والسلطان حين قال:
وليس هذا المسلك في الفكر الديني الرسمي في حقيقته مغايرًا لمسلك الاتجاهات الرجعية في التراث التي وصمت بدورها كل التأويلات المناقضة لتأويلاتها بأنها تأويلات «فاسدة» أو «مستكرهة» وأنها في أحسن الأحوال «تفسير بالرأي» المذموم والمنهي عنه من الرسول والصحابة. وقد تم تصنيف أصحاب هذه التأويلات بأنهم من أهل «البدع» وذلك في مقابلة «أهل السنة» والجماعة، وهو تصنيف يستهدف مصادرة الفكر النقيض ومحاصرته وحبسه في دائرة «الكفر» في مقابل «الصدق» و«الإيمان» الذي يومئ إليه مفهوم «أهل السنة». وقد تم حصر هذا الفكر النقيض في اتجاهين: هما المعتزلة والمتصوفة. ويرجع خطأ المعتزلة في تأويل القرآن عند «أهل السنة» إلى خطأ في جانبي الدليل والمدلول، بينما يرجع خطأ الصوفية إلى خطأ في الدليل دون المدلول، بمعنى أن المعتزلة أخطئوا في الدلالات التي حملوا عليها ألفاظ القرآن فكان خطأهم نابعًا من خطأ المعاني ومن الخطأ في حمل ألفاظ القرآن عليها. ويرتد خطأ المتصوفة إلى حمل ألفاظ القرآن على معانٍ هي في ذاتها صحيحة ولكن الألفاظ لا تدل عليها، فهو خطأ في المدلول دون الدليل. وإذا كان الأشاعرة — وهم خصوم المعتزلة — يذهبون إلى تأويل آيات الصفات فإنهم يشاركون المعتزلة في «بدعتهم» التأويلية، وإن كانوا أقرب إلى أهل السنة لاتفاقهم معهم فيما سوى ذلك. إن معيار التفسير الصحيح عند من يطلقون على أنفسهم اسم «أهل السنة» سواء في التراث أم في الفكر الديني الرسمي المعاصر هو ما ورد عن الرسول أو عن الصحابة الذين شهدوا نزول الوحي، وكانوا أقرب من ثم إلى فهم دلالته، فالتفسير عندهم لا بد أن يستند إلى «النقل» لأن الاستدلال يؤدي دائمًا إلى الخطأ في زعمهم:
«وأما ما يُعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يُذكَر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين … (إحداهما) قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها (والثاني) قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلِّم بالقرآن والمنزَّل عليه والمخاطب به، فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يراد به من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيرًا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة كما يغلط في ذلك الذين قبلهم، كما أن الأولين كثيرًا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.
والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يُرَد به. وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلًا، فيكون خطأهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقًّا فيكون خطأهم في الدليل لا في المدلول. فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجُبَّائي وعبد الجبار والرُّمَّاني والزمخشري وأمثالهم. ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة يدرس البدع في كلامه وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشَّاف ونحوه حتى أنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثيرٌ من تفاسيرهم الباطلة.
وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة وأسلم من البدعة، ولو ذَكر كلامَ السلف المأثور عنهم على وجه لكان أحسن فإنه كثيرًا ما ينقل عن تفسير ابن جرير الطبري — وهو من أَجَلِّ التفاسير وأعظمها قدرًا — ثم إنه يدع ما ينقله ابن جرير عن السلف ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة، لكن ينبغي أن يُعطى كل ذي حق حقه، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين صار مشاركًا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا. وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك بل مبتدعًا لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله.
إن التفسير الصحيح — عند من يطلقون على أنفسهم اسم «أهل السنة» — قديمًا وحديثًا — هو التفسير الذي يعتمد على سلطة القدماء. وبصرف النظر عن هذا التقسيم الشكلي إلى دليل ومدلول فإن خلاف القدماء حول تفسير النص يحتاج إلى نوع من «التأويل» حتى يصح الاستناد إلى سلطتهم في فهم النص.
لكن هذا «التأويل» لخلاف القدماء لا يحل كثيرًا من الإشكاليات الموجودة في التفسير المأثور، سواء في ذلك ما يُنسب إلى النبي ﷺ أم ما يُنسب إلى الصحابة، خاصة ما يُنسب إلى ابن عباس. إن فيما يروى من هذه التفاسير أن «الرعد» ملك يسوق السحاب، وهو تفسير يُروى من طرق عدة:
«وأخرج أحمد والترمذي وصححه النسائي عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: ملك من ملائكة الله مُوَكَّل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله، قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: صوته.
وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن نجاد الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: «الرعد ملك يزجر السحاب والبرق طرف ملك يقال له روفيل.»
والتمسك بهذا التفسير بوصفه التفسير الوحيد الصحيح استنادًا إلى سلطة القدماء يؤدي إلى ربط دلالة النص بالأفق العقلي والإطار الثقافي لعصر الجيل الأول من المسلمين. وهذا الربط يتعارض تعارضًا جذريًّا مع المفهوم المستقر في الثقافة من أن دلالة النص تتجاوز حدود الزمان والمكان. إن الاكتفاء بتفسير الأجيال الأولى للنص — وقصر دور المفسر الحديث على الرواية عن القدماء — يؤدي إلى نتيجة أخطر من ذلك في حياة المجتمع، فإما أن يتمسك الناس بحرفية هذه التفاسير ويحولونها إلى «عقيدة»، وتكون نتيجة ذلك الاكتفاء بهذه «الحقائق الأزلية» بوصفها حقائق نهائية، والتخلي عن منهج «التجريب» في درس الظواهر الطبيعية والإنسانية، وإما أن يتحول «العلم» إلى «دين» ويتحول الدين من ثم إلى خرافات وخزعبلات وبقية من بقايا الماضي. وكلا الموقفين له وجود في واقعنا الثقافي نلمس آثاره في جدل «العلمانيين» و«رجال الدين».
إن تفسير «الرعد» بأنه ملك يسوق السحاب بسوطه يمكن أن يكون تفسيرًا يرتد إلى خطأ في الدليل والمدلول معًا إن شئنا أن نستخدم منهج «أهل السنة» في النقد، ولكنا مع ذلك نرى أن هذا التفسير تفسير مشروع في إطاره الزماني والثقافي. والمفسر الحديث حين يدافع عن هذا التفسير يجد نفسه في صدام مباشر مع حقائق العلم فيلجأ للالتفاف «التأويلي». وذلك حين يذهب مثلًا إلى أن التفسير العلمي لظاهرة «الرعد» لا يتناقض مع كون الملائكة «جنود الله» التي لا يعلم عددها إلا هو، فلعل هناك ملكًا موكلًا بإحداث الرعد حين تتوفر أسبابه وشروطه. وحين يود أن يضفي على تفسيره صفة «العقلانية» يلجأ إلى نقد سند الرواية التي ورد فيها هذا التفسير دون أن يَعِيَ أن نفي نسبتها إلى ابن عباس أو إلى غيره من الصحابة لا ينفي نسبتها إلى العصر ذاته.
إن التفرقة بين «التفسير» و«التأويل» ورفع مكانة «التفسير» على حساب «التأويل» تعد جزءًا من هذا الخطأ في فهم «أهل السنة» وفي موقفهم الفكري قديمًا وحديثًا، ولذلك يتعين علينا أن نحدد الفرق بين المفهومين ونحدد مجالات استخدام كل منهما.
(١) بين التفسير والتأويل (الدلالة اللغوية)
هناك خلاف بين اللغويين حول الأصل الاشتقاقي لكلمة «تفسير» هل هي من «فسر» أم من «سفر». وإذا كان «الفسر» كما ورد في اللسان «نَظَرُ الطبيب إلى الماء و«التفسرة» هي «البول الذي يُستدَل به على المرض، وينظر فيه الأطباء يستدلون بلونه على علة العليل» فنحن إزاء أمرين: المادة التي ينظر فيها الطبيب للكشف عن العلة وهي «التفسرة»، وفعل عن النظر نفسه من جانب الطبيب، وهو الفعل الذي يُمَكِّنُه من فحص المادة واكتشاف «العلة». إن المادة التي ينظر فيها الطبيب تمثل «الوسيط» الذي يستطيع الطبيب من خلال «النظر» فيه أن يكتشف العلة. ومعنى ذلك أن «التفسير» — وهو اكتشاف علة المريض — يتطلب المادة (الموضوع) والنظر (الذات)، ولا يمكن لأي إنسان أن يقوم بعملية التفسير هذه، بل لا بد أن يكون «المفسر» طبيبًا، أي إنسانًا لديه معرفة ما بالعلل ومظاهرها وذلك حتى يتمكن من اكتشاف العلة من المادة، أي حتى يتمكن من القيام بعملية التفسير. إن الطبيب الذي يفسر المادة لا يفسرها من فراغ، بل يفسرها من خلال معرفة مسبقة تسمح بالتفسير، وبدون هذه المعرفة المسبقة تتحول المادة إلى شيء لا دلالة له على الإطلاق.
وفي مادة «سفر» تقابلنا دلالات عديدة مركزها الانتقال والارتحال، ويتفرع عن هذه الدلالة دلالة الكشف والظهور «وسُمِّيَ المسافر مسافرًا لكشفه قناع الكن عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه، وبروزه إلى الأرض الفضاء، وسُمِّي السَّفَر سفرًا لأنه يُسْفِر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافيًا منها». وبارتحال الليل يظهر الصبح فيقال: «سَفَر الصبح وأسفر: أضاء. وأسفر القوم: أصبحوا. وأسفر: أضاء قبل الطلوع. وسَفَر وجهُه حسنًا وأسفر: أشرق. وفي التنزيل العزيز: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، قال الفراء: أي مشرقة مضيئة. وقد أسفر الوجه وأسفر الصبح. قال: وإذا ألقت المرأة نقابها قيل: سفرت فهي سافر».
ومن هذه المادة «السفير» وهو «الرسول والمصلح بين القوم، والجمع سفراء». ولعل هذه الدلالة ترتبط بمعنى الانتقال والحركة «سفرت بين القوم إذا سعيت بينهم في الإصلاح»، لكن دلالة «السِّفر» بمعنى الكتاب و«السَّفَرة» بمعنى الكتبة، وهما استعمالان وردا في القرآن، حيث ورد الثاني في قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ وورد الأول في قوله: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا يمكن شرحهما على النحو التالي: «قال ابن عرفة: سُمِّيت الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله وبين أنبيائه، قال أبو بكر: سُمُّوا سفرة لأنهم ينزلون بوحي الله وبإذنه وما يقع به الصلاح بين الناس، فشبهوا بالسفراء الذين يصلحون بين الرجلين فيصلح شأنهما. وفي الحديث: مَثَلُ الماهر بالقرآن مَثَلُ السَّفَرة، هم الملائكة جمع سافر، والسافر في الأصل الكاتب، سُمِّيَ به لأنه يبين الشيء ويوضحه». وبناءً على هذا الشرح يكون معنى «السفرة» مرتبطًا بدلالة الكشف والبيان إلى جانب ارتباطه بالحركة والانتقال. وعلى ذلك يكون «السِّفْر» هو الكتاب، وتكون الكلمتان «سِفْر» و«سافر» بمعنى كتاب وكاتب، ويرتد كلاهما إلى معنى الكشف والبيان «قال الزجَّاج: قيل للكاتب سافر، وللكتاب سفر، لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه». وإذا كان السفرة هم الملائكة الذين ينزلون بالوحي على الأنبياء، فمن الطبيعي أن ترتبط دلالة «السِّفْر» بالتوراة.
ولكن ما الذي يكشفه ويوضحه السِّفْر أو الكتاب؟ لا شك أن دلالة الكتاب مثل دلالة الكلام من حيث إنها تكشف عما كان مخبوءًا أو مجهولًا، وهو ما يشير إليه القدماء دائمًا بقول الشاعر:
وعلى ذلك يستوي أن يكون التفسير مشتقًّا من «الفَسْر» أو من «السَّفْر» فدلالة المادتين واحدة في النهاية وهي الكشف عن شيء مختبئ من خلال وسيط، يعد بمثابة علاقة دالة للمفسر من خلالها يتوصل إلى هذا الخبيء الغامض. لذلك ذهب ابن فارس إلى أن:
ويربط الزركشي بين دلالة «المعنى» على الإظهار وبين دلالة «التفسير» عليه أيضًا:
وليس «تأويل الأحاديث» إلا تأويل الأحلام، وهذا واضح من استبدال كلمة «أحلام» بكلمة «أحاديث» في آية أخرى حين طلب الملك من حاشيته أن يفسروا له حلمًا رآه وأقلقه:
وإطلاق لفظ «حديث» على الحلم في سياق التأويل يرجع إلى أن المفسر أو المؤول لا يقوم بتأويل الحلم ذاته، بل يقوم بتأويل «الحديث» الذي يقصه صاحب الحلم عن حلمه، بمعنى أنه يقوم بتأويل العبارات اللغوية التي يصوغ بها صاحب الحلم الصور التي رآها في النوم، فيكون التأويل هنا منصبًا على الصور من خلال وسيط هو «الحديث». ولعل ذلك يشرح لنا ما ترويه السيرة من إصرار ربيعة بن مضر على عدم حكاية رؤياه بنفسه قائلًا:
لذلك نجد في سياق قصة يوسف إضافة التأويل إلى الأحلام وإلى الأحاديث وإلى الرؤيا بدلالات متقاربة جدًّا، يستوي في ذلك أن يكون المتحدث يعقوب كما في الآية السادسة، أو يكون المتحدث حاشية الملك كما في الآية السابقة، أو يكون «المتكلم» بالنص كما في الآية:
وحين يشير يوسف إلى «حلمه» هو بعد تحققه يشير إليه باسم «الرؤيا»:
لكن مفهوم التأويل في الاستخدام القرآني ليس قاصرًا على «الأحاديث» المرتبطة بالرؤى والأحلام، فإن يوسف يقول لرفقائه في السجن بعد أن أخبراه بما رأياه في النوم:
ومعنى «التأويل» في هذا السياق الإخبار عن «حدوث» أمر قبل وقوعه بالفعل، ويوسف هنا يؤكد لزملائه في السجن قدراته التأويلية التي لا تقتصر على تأويل الأحلام والأحاديث بل تتجاوز ذلك إلى الإخبار عن الأشياء قبل حدوثها. هل يمكن أن نستنتج من هذا الاستخدام أن تأويل الأحاديث يعتمد على وسيط أو «تفسرة» من خلالها يقوم المؤول باكتشاف الدلالة الخفية، وأن هناك نمطًا آخر من التأويل لا يحتاج للوسيط أو «التفسرة»، بل يصل إلى دلالة «الحدث» وصولًا مباشرًا ويتنبأ به قبل وقوعه؟ أليس في إصرار ربيعة بن مضر على عدم حكاية حلمه، وعدم «الحديث» عنه، وفي طلبه للمؤول القادر على تأويله تأويلا مباشرًا، ما يجعل هذا الاستنتاج استنتاجًا مشروعًا؟
ويتجاوب مع هذا الاستخدام الذي يكون موضوع التأويل فيه «حَدَثًا» لم يقع بعد، تأويلُ «الأفعال» في سورة «الكهف» ذلك أن الأفعال التي قام بها العبد الصالح من «خرق السفينة» و«قتل الغلام» و«إقامة الجدار» بدت أفعالًا غير ذات دلالة في نظر «موسى»، بل بدت أفعالًا تتناقض مع ما يبدو على الرجل الصالح من مظاهر العلم والصلاح والتقوى، فكان اعتراض «موسى» عند كل فعل وما تبعه من تذكير العبد الصالح له بأن شرط المصاحبة بينهما ألا يسأل عن شيء حتى يتطوع هو بتفسيره له. وأخيرًا يكون الفراق لعدم قدرة موسى على الصبر:
إن معنى التأويل إذن هو العودة إلى أصل الشيء، سواء كان فعلًا أو حديثًا، وذلك لاكتشاف دلالته ومغزاه. هكذا «أوَّل» العبد الصالح أفعاله بالكشف عن أسبابها وعِلَلها الحقيقية، وهكذا يستطيع يوسف أن يكشف عن «أصل» الطعام ومصدره قبل أن يأتي، وهكذا أيضًا يستطيع مُؤوِّل الحلم أن يكشف عن «الأصل» الحقيقي الذي يختفي وراء الصور التي يراها النائم. إن لكل حدثٍ أو فعلٍ أو حديثٍ «ظاهرًا وباطنًا»، والباطن لا ينكشف إلا «بالتأويل» الذي يَرُدُّ «الظاهر» إلى أصوله وأسبابه الحقيقية.
لكن كلمة «تأويل» كما تعني الرجوع إلى الأصل تعني أيضًا الوصول إلى هدف وغاية، وإذا كان الرجوع إلى الأصل حركة عكسية، فإن الوصول إلى هدف وغاية حركة متطورة نامية، وعلى ذلك المعنى جاء «التأول» في بيت الأعشى:
ومن المهم أن نلاحظ هنا أن كلمة «تأويل» منقطعة عن الإضافة لا بسبب موقعها الإعرابي فحسب، بل بسبب استخدامها الدلالي أيضًا، وذلك على عكس سياق استخدامها في الآيات الأخرى حيث تأتي دائمًا مضافة إما إلى اسم ظاهر أو إلى ضمير.
ولكن إذا كانت الكلمة تعني «الرجوع إلى الأصل» وتعني أيضًا «الوصول إلى الغاية» والعاقبة فإن الذي يجمع بين الدلالتين هو دلالة الصيغة الصرفية «تفعيل» على الحركة، وهي دلالة أغفلها اللغويون في تحليلهم المعجمي، لذلك يمكن لنا القول إن «التأويل» حركة بالشيء أو الظاهرة إما في اتجاه «الأصل» بالرجوع أو في اتجاه الغاية «والعاقبة» بالرعاية والسياسة. لكن هذه الحركة ليست حركة مادية، بل هي حركة ذهنية عقلية في إدراك الظواهر. والدليل على ذلك أن كل الاستخدامات التي ناقشناها حتى الآن تضيف «التأويل» إلى «الأحاديث» أو إلى «الأحلام» أو «الرؤية» أو إلى «الحب» أو «الفعل»، والتأويل المضاف إلى كل هذه الألفاظ يعني حركة «ذهنية» لاكتشاف الأصل «بالرجوع» أو للوصول إلى الغاية «بالسياسة».
وإذا كان التأويل حركة ذهنية لإدراك الظواهر، أمكن لنا أن نفهم الآية المشكلة في الفكر الديني وهي آية المحكم والمتشابه، وهي قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.
وإذا كانت كلمة «التأويل» في الآية السابقة وردت مضافة إلى «الهاء» الدالة على «المتشابه» فلعل هذه الإضافة هي التي جعلت المفسرين يقصرون معنى التأويل على «التفسير»، ويفهمون من الآية أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله، وأن «التأويل» منهي عنه بفحوى الخطاب أي بدلالة الوصف فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. إن فهم «التأويل» بوصفه حركة ذهنية في مواجهة ظاهرة هو الفهم الأقرب إلى الاستخدام القرآني، سواء أضيفت الكلمة إلى «المتشابه» أم إلى «الكتاب» أو إلى أي كلمة أخرى من الكلمات التي سبقت الإشارة إليها. إن التأويل حركة تستهدف العلم والمعرفة كما يتبين من سياق النص التالي:
وإذا كان بعض المفسرين يذهب إلى أن المقصود بالتأويل «ما يَئول إليه أمرهم في التكذيب به من العقوبة» وذلك بدلالة فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي بدلالة السياق، فإن «الهاء» في «علمه» وفي «تأويله» تعود لا شك إلى «الكتاب» أو «القرآن». وعلى ذلك يمكن أن يكون التأويل في الآية بمعنى «العاقبة» استنادًا إلى نهاية الآية، ويمكن أن يكون بمعنى التفسير وذلك استنادًا إلى علاقة الآية بالآيات السابقة عليها. ولا تعارض بين الدلالتين ما دامت دلالة «التأويل» حركة ذهنية لاكتشاف ظاهرة ما. والآية تؤكد هذه الدلالة بالمقابلة بين «عدم الإحاطة بعلم» الموضوع وبين «عدم إتيان تأويله» فأضافت نفس الضمير إلى «العلم» مرة وإلى «التأويل» مرة أخرى. وسواء كان الموضوعُ «الكتابَ» أم «اليوم الآخر» فإن الدلالة واحدة للتأويل، وهي محاولة الوصول إلى «العلم» بظاهرة من الظواهر عن طريق حركة «النظر» أو الفكر الإنساني. وهذا الفهم لدلالة «التأويل» يجعل من «التأويل» عملية أوسع من «التفسير». ولكن قبل أن ننتقل لمناقشة مغزى هذا الاتساع من الضروري أن نتوقف عند الدلالات الاصطلاحية للكلمتين.
(٢) الدلالة الاصطلاحية
لاحظنا في التفرقة اللغوية بين «التفسير» و«التأويل» أن ثمة فارقًا هامًّا بينهما يتمثل في أن عملية «التفسير» تحتاج دائمًا إلى «التفسرة» وهي الوسيط الذي ينظر فيه المفسر فيصل إلى اكتشاف ما يريد، في حين أن «التأويل» عملية لا تحتاج دائمًا هذا الوسيط، بل تعتمد أحيانًا على حركة الذهن في اكتشاف «أصل» الظاهرة، أو في تتبع «عاقبتها». وبكلمات أخرى يمكن أن يقوم «التأويل» على نوع من العلاقة المباشرة بين «الذات» و«الموضوع»، في حين أن هذه العلاقة في عملية «التفسير» لا تكون علاقة مباشرة، بل تكون من خلال وسيط قد يكون نصًّا لغويًّا، وقد يكون «شيئًا» دالًّا، وفي كلتا الحالتين لا بد من وسيط يمثل «علامة» من خلالها تتم عملية فهم الموضوع من جانب الذات.
وفي تفرقة العلماء بين التفسير والتأويل اصطلاحيًّا يمكن أن نتلمس بعض جوانب هذه التفرقة اللغوية. من هذه الجوانب أنهم يقصرون التفسير أحيانًا على الجوانب المختلفة الخارجية للنص دون النص ذاته، فيكون التفسير:
«هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيِّها ومدنيِّها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها. وزاد فيها قوم: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعِبَرِها وأمثالها، وهذا الذي منع فيه القول بالرأي.
إن التفسير هنا يبدو خاصًّا بالجوانب العامة الخارجية للنص، مثل العلم بأسباب النزول والقصص والمكي والمدني والناسخ والمنسوخ، وهي كلها علوم نقلية تعتمد على الرواية عند القدماء، ولا مجال فيها للاجتهاد سوى الترجيح بين الروايات أو محاولة الجمع بينها كما رأينا في الفصول السابقة. وليست الإشارة إلى العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمفسر هنا إشارة إلى جوانب دلالية اجتهادية للمفسر دور تحديدها، بل إشارة إلى «العلم» بما قاله القدماء حول هذه القضايا. ونفس الأمر ينطبق على علم الحلال والحرام والوعد والوعيد والأمر والنهي والعِبَر والأمثال. إن علم التفسير يبدو من خلال هذا الحصر علمًا يجمع كل العلوم المُمَهِّدة للتأويل الذي يمثل في التعريف السابق جهد المؤوِّل في «صرف» الآية إلى ما تحتمله من المعاني. وعلى ذلك يكون «التفسير» جزءًا من عملية «التأويل»، وتكون العلاقة بينهما علاقة الخاص بالعام من جهة، أو علاقة «النقل» بالاجتهاد من جهة أخرى، وهي العلاقة التي يعبر عنها القدماء بأسماء «الرواية» و«الدراية»:
«والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة، أو في وجيز مُبَيَّن بشرح كقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وإما في كلام مضمن بقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها، كقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ، وقوله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عامًّا، ومرة خاصًّا، نحو «الكفر» يستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود البارئ خاصة، و«الإيمان» المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفي تصديق الحق تارة. وإما في لفظ مشترك بين معانٍ مختلفة. وقيل: التأويل كشف ما انغلق من المعنى، ولهذا قال البجلي: التفسير يتعلق بالرواية، والتأويل يتعلق بالدراية، … قال أبو نصر القشيري: ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع، وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل …
إن «التأويل» يرتبط بالاستنباط في حين يغلب على التفسير النقل والرواية. وفي هذا الفرق يكمن بُعدٌ أصيل من أبعاد عملية التأويل، وهو دور القارئ في مواجهة النص والكشف عن دلالته. وليس دور القارئ أو المؤوِّل هنا دورًا مطلقًا يتحول بالتأويل إلى أن يكون إخضاعًا للنص لأهواء الذات، بل لا بد أن يعتمد «التأويل» على معرفة ببعض العلوم الضرورية المتعلقة بالنص والتي تندرج تحت مفهوم «التفسير». إن المؤوِّل لا بد أن يكون على علم بالتفسير يُمَكِّنُه من «التأويل» المقبول للنص، وهو التأويل الذي لا يُخْضِع النص لأهواء الذات وميول المؤوِّل الشخصية والأيديولوجية وهو ما يعتبره القدماء تأويلًا محظورًا مخالفًا لمنطوق النص ومفهومه.
في مثل هذا التأويل يتحول النص إلى أن يكون في خدمة أيديولوجية المؤوِّل بصرف النظر عن معطياته اللغوية والمفهومية. وهذا التأويل إلى جانب ذلك يرد النص إلى أن يكون مجرد «رسالة» خاصة لا يتمكن من فك شفرتها إلا «الإمام المعصوم» وحده. وإذا كان المتصوفة قد قاربوا في «تأويلهم» مثل هذه الحدود، فالفارق بينهم وبين الشيعة أن المتصوفة يُدخلون «تأويلهم» في باب «الإشارات» التي يحتملها النص من حيث «المغزى» لا من حيث الدلالة، فليست هذه الإشارات سوى:
«معانٍ ومواجيد يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ: إن المراد النفس، فأُمِرْنا بقتال من يلينا، لأنها أقرب شيء إلينا وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.
إن هذه التفرقة بين «ما تعرفه العرب في كلامها» وبين «ما لا يُعْذَر أحد بجهالته» هي في حقيقتها تفرقة بين مستويات النص من حيث طريقته في إنتاج الدلالة، فهناك قسم تنكشف دلالته للقارئ العادي ولا يحتاج من القارئ سوى أن يكون من أبناء اللغة، وهذا القسم الدال بالنسبة للقارئ العادي «لا يعذر أحد بجهالته». وهناك قسم آخر يحتاج من القارئ أن يكون على معرفة بعلوم اللغة حتى يتمكن من اكتشاف دلالته، وهذا هو القسم الذي «تعرفه العرب في كلامها». ومعنى ذلك أن ثمة مستويات لدلالة النص تتكافأ مع مستويات القراء، وذلك يجعل النص نصًّا عامًّا. ومن الممكن لنا أن نعيد صياغة هذا المفهوم بلغة معاصرة فنقول إن النص «دال» بالنسبة للقارئ العادي، ولكن مستوى دلالته هنا تقف عند حدود «السطح»، ويتجاوز القارئ الممتاز هذا المستوى السطحي إلى مستوى دلالي أعمق إذا كان على علم بقوانين اللغة تمكنه من تحليل معطيات النص تحليلًا لغويًّا. ولكن ثمة مستوى ثالث يتجاوز التحليل اللغوي إلى اكتشاف الأبعاد الدلالية الأعمق للنص. وهذا المستوى هو ما يمثله القسم الرابع الذي «يعلمه العلماء خاصة». والفارق بين هذا القسم وبين القسم «الذي تعرفه العرب من كلامها» هو الفارق بين التأويل والتفسير:
ولا شك أن هذه التفرقة بين مستويات الدلالة التي ينكشف بها النص لأفق القارئ تفرقة تؤكد دور القارئ في كشف دلالة النص. وإذا كانت هذه التفرقة تجعل دور القارئ سلبيًّا «فإن التفرقة بين «التفسير» و«التأويل» وقصر التفسير في «الرواية» وإطلاق التأويل على «الدراية» يعطي للقارئ — أو المؤوِّل — دورًا نشطًا في اكتشاف دلالة النص، وهو دور لا يقتصر على حدود العلم بعلوم القرآن وعلوم اللغة فقط، بل يتجاوزهما إلى الاجتهاد للترجيح الدلالي حين يصل تكثيف الدلالة — فيما يطلق عليه القدماء اسم الاحتمال — إلى مستوى يتجاوز أفق القارئ العادي والمفسر معًا.
(٣) آليات التأويل
إن المفسر يقف عند حدود علوم القرآن وعلوم اللغة، يعتمد في معرفة الأولى على «الرواية» ويعتمد في معرفة الثانية على جهد علماء اللغة المتخصصين. ولذلك يتحتم على المفسر أن يبدأ بهذه العلوم. وإذا كانت علوم القرآن علومًا لصيغة الصلة بالنص من حيث إنها تتناول جوانبه المختلفة، فإن علم اللغة بفروعه المختلفة هام لدراسة النصوص اللغوية كلها، فهو علم يشارك المفسر فيه كثير من العلماء:
لكن تظل في النص أبعاد دلالية أعمق تحتاج إلى حركة «الذهن» أو «العقل»، إزاء النص، إنها الأبعاد التي تحتاج إلى حركة «التأويل» بعد أن يستنفد المفسر بأدواته العلمية كل إمكانيات الدلالة التي يمكن اكتشافها بواسطة هذه العلوم. وهذا يذكرنا بالتفرقة اللغوية بين «التفسير» و«التأويل» من حيث حاجة الأول إلى وسيط أو «تفسرة» ليس من الضروري أن توجد في الثاني. إن «التفسرة» هنا هي العلوم الدينية واللغوية التي يحتاج إليها المفسر للكشف عن دلالة النص، وهي الدلالة التي ينطلق منها «المؤوِّل» للغوص في أعماق النص من خلال حركة «الذهن» أو الاجتهاد. ويظل هناك فارق في مفاهيم التراث بين «الاجتهاد» و«التأويل» حيث يَنْصَبُّ مفهوم «الاجتهاد» على «التأويل» في مجال الفقه واستخراج الأحكام من النص. ومن هذه الزاوية يتأكد أنَّ مجال التأويل يتسع لكل أقسام النص، ولا يقف عند حدود ما هو غامض أو على درجة عالية من الكثافة الدلالية. لقد كان «الاجتهاد» ضرورة عملية اقتضاها تطور الواقع وتعدد المجتمعات الإسلامية واختلافها، وقد كان هذا «الاجتهاد» عاملًا هامًّا من أهم عوامل اختلاف الفقهاء، وهو الاختلاف الذي اعتُبِر رحمة من الله بالعباد، وذلك استنادًا إلى ما يُروى من قول النبي: «اختلاف أمتي رحمة». لقد وصل أمر التسليم بحرية الاختلاف في مجال الفقه أن اعتُبِرَت «التأويلات» المختلفة دلالة على احتمال النص لهذه التأويلات كلها واعتُبِر ذلك من علامات الإعجاز، وهذه نتيجة وصل إليها العلماء بالترتيب التالي:
«وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه … وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:
- أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيُحْمَل عليه.
- الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة. وهذا على ضربين: أحدهما أن تختلف أصل الحقيقة فيهما، فيدور اللفظ بين معنيين، هو في أحدهما حقيقة لغوية، وفي الآخر حقيقة شرعية، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة الحقيقة اللغوية، نحو قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ، وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية، فالعرفية أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم. الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة، بل كلا المعنيين استُعمِل فيهما (اللفظ)، في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء. وهذا أيضًا على ضربين: أحدهما أن يتنافيا اجتماعًا، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد، كالقرء، حقيقة في الحيض والطهر، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه، لأنه نتيجة اجتهاده وما كُلِّف به، فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: يُخَيَّر في الحمل على أيهما شاء، ومنهم من قال: يأخذ بأعظمهما حكمًا. ولا يبعد اطراد وجه ثالث، وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين. والضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعًا، فيجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة، وأحفظ في حق المكلف.»٣٤
إن الاجتهاد في تأويل النص لا يختلف في الفقه ومجال الأحكام عنه في أقسام النص الأخرى من حيث إنه يعتمد على حركة «العقل» للنفاذ إلى أعماق النص. وإذا كان الاختلاف في مجال التأويل الفقهي اختلافًا من قبيل «الرحمة» والتخفيف عن هذه الأمة، فإن اختلاف «التأويل» في أقسام النص الأخرى يجب النظر إليه من نفس المنظور خاصةً إذا اعتمد المؤوِّل على كل أدوات تحليل النص ولم يكن استناده إلى مجرد الهوى أو الرأي الشخصي. إن مقاربة النص واكتشاف أسراره تبدأ بالقراءة الأولى، ثم تُثَنِّي بالقراءة التحليلية فتُكتشَف من خلالها «مفاتيح» النص ومرتكزاته الدلالية، ومن خلال هذه المرتكزات يكتشف المؤوِّل بعض أسرار النص ويظل النص قابلًا للقراءة الجديدة. لكن القراءة «التأويلية» لا بد أن تعتمد على «استغراق» القارئ في عالم النص استغراقًا شبه تام، وبدون هذا الاستغراق تظل القراءة سطحية، وتدور في إطار «التأويل» المكروه. لقد عبر القدماء عن مثل هذا المنظور بلغتهم الخاصة ومن خلال تصوراتهم لضرورة وجود حالة من «التوحد» بين القارئ والنص عبَّروا عنه على النحو التالي:
لا شك بعد هذا كله أن تفرقة الخطاب الديني المعاصر بين «التفسير» و«التأويل» تفرقة صحيحة، ولكن توظيفها للإعلاء من شأن «التفسير» على حساب «التأويل» ليس في حقيقته إلا توجيه أيديولوجي يستند إلى بعض اتجاهات التراث من جهة، ويهدف إلى تثبيت الواقع بتثبيت معنى النص ودلالته عند اجتهاد القدماء من جهة أخرى. إن هذا التوجيه الأيديولوجي لم يتوقف عند مفاهيم «التفسير» و«التأويل»، بل إن سلوك علماء الدين الرسميين في شرح النص يتجاوز إطار «التفسير» إلى مجال «التأويل»، ولكنه التأويل المكروه الذي ينطلق من أهواء ومصالح الأقلية التي يعملون في خدمتها. والإعلام الديني أكبر دليل على ذلك. وإن كانت تلك قضية لا يتسع لها المجال هنا.
ولكن إذا كان «التأويل» يعتمد على حركة ذهن المؤوِّل في مواجهة النص، ألا يفتح ذلك الباب واسعًا على مصراعيه للخلافات التي تؤدي إلى الشقاق بين صفوف الأمة من جهة، ويفتح الباب للتأويلات الأيديولوجية من جهة أخرى؟ والجواب عن الشق الأول من السؤال هو: أن الشقاق بين صفوف الأمة شقاق له جذوره في تعارض المصالح بين المستغِلِّين، بين الطبقات التي تجد مالًا تنفقه وبين المستَغَلِّين من الطبقات التي لا تجد ما تنفقه على حد تعبير طه حسين. ومن شأن هذا الشقاق الاقتصادي الاجتماعي أن يصوغ نفسه على مستوى الفكر السياسي صياغة أيديولوجية. ومعنى ذلك أن خلافات «التأويل» ليست هي التي تبذر بذور الشقاق و«الفتنة» كما يحلو للخطاب الديني الرسمي أن يقول متجاوبًا مع الخطاب السياسي للطبقات المسيطرة تجاوبًا يصل إلى حد التطابق. إن اختلاف «التأويل» نتيجة للشقاق والتعدد الأيديولوجي وليس سببًا. من هذا المنطلق يكتسب هذا الخلاف مشروعيته، ويكون خلافًا «اجتهاديًّا» لا يقل في مشروعيته عن اختلاف الفقهاء في مجال الأحكام الشرعية، وذلك إذا كان «التأويل» مستكملًا للشروط الموضوعية العلمية، وليس مجرد إخضاع النص للأهواء الأيديولوجية.
وليس معنى ذلك أن «التأويل» الموضوعي للنص الديني — أو للنص الأدبي — مطلبٌ عسير التحقیق كما تبالغ بعض اتجاهات فلسفة «التأويل» المعاصر، فنفيُ الموضوعية في حقيقته تكريس للذاتية. إن الموضوعية التي يمكن تحقيقها في «تأويل» النصوص الموضوعية الثقافية المرهونة بالزمان والمكان لا الموضوعية المطلقة التي ثبت أنها مجرد «وهم» من إبداع «أيديولوجية» الغرب الاستعماري. إن هذه الموضوعية الثقافية تتحقق بتحري القارئ استخدام كل طرائق التحليل وأدواته لاكتشاف دلالة النص كما تتحقق من خلال «استغراق» المؤوِّل في أعماق النص سعيًا لسبر أغواره. ولا على المؤول تثريب بعد ذلك أن تتطور أدوات التحليل وطرائقه في عصر تالٍ وتكتشف في النص جوانب لم تكتشف قبل ذلك. إن حركة النص في الزمان والمكان ليست إلا حركة في واقع حي متطور، واكتشاف دلالات جديدة للنصوص لا يعني إسقاط الدلالات التي اكتشفت قبل ذلك من هذه النصوص.
وفي مجال النصوص الدينية بشكل خاص حيث يتحول اختلاف التأويل إلى صراع يخفي أسباب الصراع الحقيقية في الواقع والمجتمع ينبغي أن يتسلح المؤول بكل أسلحة الفقيه الحقيقي. لقد كان الفقهاء على وعي دائم بحركة الواقع وتغيُّره في الزمان والمكان، كما كانوا على وعي بضرورة توسيع دلالات النصوص لتلائم حركة الواقع. وكان هذا التوسيع يتم عبر قناتي «الاجتهاد» و«القياس». وإذا كان الفقهاء القدماء قد وضعوا أمام أعينهم مبدأ «رعاية مصالح الأمة»، فإن المؤول الحديث عليه أن يفهم هذا المبدأ فهمًا علميًّا. وإذا كانت مصالح الأمة الآن يتحتم أن تعني مصالح الأغلبية لا مصالح الأقلية، فإن موقف المؤول الذي يرعى مصالح الأقلية هو الموقف الجدير بالرفض، ويكون تأويله هو التأويل المتعارض مع مقاصد الوحي وأهداف الشريعة.
وفي عصرنا هذا الذي خضع فيه الفكر الديني لأهواء الحكام، وتحول فيه دور الفقيه من رعاية مصالح الأمة إلى تبرير سلوك الحكام ورعاية مصالح الطبقات المستغِلَّة المسيطرة يتعين إعادة النظر في مفهوم «الإجماع» فلا يكون إجماع «أهل الحل والعقد» هو الإجماع الذي يُعمَل به، ذلك أن «أهل الحل والعقد» في عصر سيطرة وسائل الإعلام هم من يملكون هذه الوسائل بحكم سيطرتهم على مقدرات المجتمع، وعلى ذلك يكون الفقهاء الممثِّلين لهم معبرين عن مصالحهم. إن الإجماع الذي يجب أن يُعتدَّ به في «تأويل» النصوص الدينية يجب أن يستند إلى مناخ ديمقراطي شعبي حقيقي بحيث يكون معيار «الإجماع» هو الأغلبية المعبِّرة عن القوى المختلفة، ويكون معيار «مصالح الأمة» هو معيار مصلحة الأغلبية.
وهذا كله من شأنه أن يكون المؤول منتميًا لمصالح الأغلبية معبرًا عنها، وأن يكون على دراية لا بالعلوم النقلية التقليدية فحسب، بل بكل العلوم التي تساعده على فهم الواقع وإدراك حركته، وتحديد ما ينبغي أن يكون عليه موقفه الحقيقي — بوصفه فقيهًا — من هذا الواقع ومن القوى المتصارعة فيه. هذا موقف أوَّلي لا غناء للمؤول عنه إذا أراد أن يتجاوز موقف الخطاب الديني الرسمي المعبر عن مصالح الأقلية من جهة، وإذا أراد أن يتجاوز «التأويل» الأيديولوجي السطحي من جهة أخرى. إن العلوم نقلية كانت أم عقلية، قديمة كانت أم حديثة، مجرد أدوات للتأويل، وهي أدوات لا بد من استيعابها، وأهمُّها أدوات التحليل اللغوي. ويظل «عقل» القارئ أو المؤول ذا دَوْرٍ أساسي في حركة التأويل، لذلك لا بد أن يكون الوعي وعيًا أصيلًا بحركة التاريخ واتجاه المستقبل حتى لا يتحول دور المفكر والمؤول إلى أن يكون مجرد حافظ «غير فقيه». لقد كان عدم الوعي بمصالح الأمة الحقيقية في الماضي هو الذي أدى بكثير من العلماء أن يكونوا في خدمة سلاطين زمانهم. ولا شك أن الخطاب الديني الرسمي في محاولته أن يضفي على ذاته صفة القداسة والإطلاق يجد في اجتهادات أمثال هؤلاء العلماء مرتكزًا لتأويلاته الأيديولوجية المعاصرة. وذلك ما نود أن نكشف عنه في الباب الثالث والأخير من هذه الدراسة.