كراهته الحياة

فليس أبو العلاء فيها أثبت رأيًا، فهذا البرم بالحياة الذي يرى البقاء شقاء يقول ناثرًا في الفصول (٤٤):

أنا تحت حب الدنيا محب — بارك — أثقلني فأنا مكب، كما يقول (٣٤٨): أزويت عني الدنيا فأسفت، وأشفقت لذلك وخفت، وأحببت لها وشنفت — أبغضت — ولو أنصفت لعفت ما استوبله، فما نثفت — أصبت — إلى غير ذلك، والذي يعد البقاء طول شقاء يقول: الموت ربذ — سريع — فأين أنتبذ ليس منه وزر ولا حام (ف٢٤٢).

والذي عدَّ حب الدنيا غرورًا وأسًى لإمامة الجهل و… إلخ. هو الذي عدَّ حبها طبعًا قد مُني منه بقرن غلاب:

وحبها غريزة فينا فلا يترك ولو جر المهالك:

وحبها كحب ليلى ولبنى وكل ابن ملوح وابن ذريح:

وكلنا دنف بحبها فوق ما يجب:

وهي المنتهى وهي المشتهى ومع السها منها أماني:

وكأن عشقها وصية المهيمن:

والنفس تدمع عند فراق الدنيا؛ إذ ليست خلة أعز منها:

حتى الراهب المسجون لفرط العبادة مُدلَّه بحبها:

معشوقة مشقية والعشق أبدًا شقاء:

ولا ينسى أبو العلاء أن يكذب المتحدثين بكرهها بعدما يقرر تولهه بها، وعدم استطاعة نسيانها حتى حين يقول غير ذلك:

ولن يخرج هو من الدهر ومن فيه!

•••

وأبو العلاء يحدثنا بأصرح من ذلك عن حبه هو لها خاصة بعدما قرر من تأصل ذلك في الناس وغريزيته، فيقول:

ورغم خداعها قد أشرب حبها لا ينفيه عن جسده إلا الثرى يتشرَّبه:

وأحبها حبًّا خالصًا كحب غيره، وقد صادته رغم الحذر:

وهي ربة دل لم يتسل عنها وإن ظن التسلي:

إلى كثير كهذا.

•••

وهذا الذي انتظر أن تفك المنية إساره، وأن يعبر الجسر إلى الأخرى، و… هو الذي يقول: «… قلتني دنياي فما قليتها، قد كرهت المنية وأبيتها.» (ف٢٣٣) كما يقول في شعره:

ويضاعف همه أن يموت قبل تحقق أمنيته:

وهذا الذي سمعناه وقد فكر في الانتحار بالإضراب عن الطعام والشراب هو الذي ذكر الموت وألا مهرب له منه، فقال: ولو شاء الله لجعل عباده مخلدين (ف٢٤٢) بل كاد يتمنى الخلود في قوله:

وقال: إن طول العيش يُحمَد على ضد طول القول:

وهو في كل حال قد أكثر من ذكر أنه جاء الحياة كارهًا ويفارقها كارهًا، والله شاهد على ذلك:

وأبو العلاء يعد أشد خطب يُتقى هو فراق الروح للجسد:

أفيلقب أبو العلاء بعد ذلك «كاره الحياة»، ويقال: إن أبا العلاء كان للدنيا قاليًا؟!

وأما …