المرأة

فإن يكن المعري قد دعا إلى اجتنابها فإنه لهو الذي يهنئ بالزفاف فيقول في الزوجة:

خير أيدي الزمان عند بني الدنـ
ـيا أتت في أوان خير الشهور
سقط ١: ٧١

ويهنئ بالزفاف مرة أخرى فيقول في وصف ساعة الأعراس:

لم يزل الليلُ مقيمًا يرى
ما لا رأتْ عاد ولا جرهمُ
في ساعة هشَّت إلى مثلها
مكةُ وارتاحتْ لها زمزم
سقط ١: ٢٣٩

وأن تظن أن ذلك من شعره قبل التفلسف فإنه في اللزوميات ليعد النعم ومن بينها الإعراس بالفتاة قد عدَّه نعمة بين المطعم والمشرب والملبس وسائر ملاذ الحياة:

طاعمٌ أنت واردٌ عذبَ ماء
مُعرِسٌ بالفتاة حاذٍ وكاسي
فاتقِ الله لا تؤمَّنَّ ما يقـ
ـبح من ريبةٍ ومن شُربِ كاسِ
٢: ٤٧

ويصف الرجل الممتع في الفصول (٤٢٩) فيقول: يكون الرجل كاسيًا بمثل ريش الأخيل، وشبابه كروضة الوسمي وعيشه أوسع من الموماة، وعرسه الصالحة الحسناء … إلخ، كما يصف بعد ذلك الرجل غير الممتع فيقول: ويلبس أخلاق الثياب كلباس الرأل، ويفارق العرس، إما أن يهلك وإما أن تختار سواه، وتكون روضة شبابه هشيمًا … إلخ (ف٤٣٠) فالعرس الصالحة الحسناء عنده متعة وفراقها شقوة.

•••

وهذا الذي جعل النساء أسودًا تُتقى هو الذي جعلهنَّ قوارير يرفق بها:

زجاجٌ إن رفقتَ به وإلا
رأيتَ ضروبه متفصِّمات
١: ١٥٥

والذي جعل المرأة كالعقرب هو الذي أجلَّها وعدَّها مكان الثريا في المكارم ومكان الشمس، إذ يقول:

إذا ما «غضوب» غاضبت كلَّ ريبة
وكانت «لميس» لا تقرُّ على اللمس
فقد حازتَا فضل الحياة وعدَّتا
مكان الثريَّا في المكارم والشمس
٢: ٣٠

والذي جعلهنَّ أذًى وكيدًا وحبل غي، وما إلى ذلك، هو الذي يجعلهنَّ الجنات:

جنانٌ ورضوان الذي هو مالك
لها عنك ينفي مالكًا وجهنَّما
حلمنَ وجُنَّ الحَليُ من فرط لهجة
فوسوس من تحت الثياب وهينَما
٢: ٢٤٣

والذي رأى بدء السعادة أن لم تخلق امرأة، جعل الزوجة جنة هذه الدنيا:

وجنَّتُك الأولى عروسُك وافقت
رضاك فإن أجنتك فاجنِ ثمارَها
١: ٢٩٠

وهو الذي جعل المرأة الحَصان نعمة يُحسَد بين القوم زوجها:

إذا كانت لك امرأةٌ حَصانٌ
فأنت محسَّدٌ بين الفريق
فإن جمعتْ إلى الإحصان عقلًا
فبورك مثمرُ الغُصنِ الوريقِ
٢: ١٢٣

والذي قبح الزواج والزوجة ونهى عن الزواج هو الذي رأى أن النساء لا يصونهنَّ سوى أزواجهن أحد:

وما حفِظ الخريدةَ مثلُ بعل
تكون به من المتحرمات
يحوطُ ذمارَها من كل خطب
ويمنعها مصاعب مقرمات١
١: ١٥٥
ما صانكنَّ سوى الأزواج من أحد
وأول الدهر أعييتُنَّ همَّاما
٢: ٢٤٨

وهو الذي يأمر الرجل بأن يطلب لبنته زوجًا ويخوِّف ابنه من الزواج والنسل:

واطلب لبنتك زوجًا كي يُراعيَها
وخوِّف ابنك من نسلٍ وتزويج
١: ١٧١

وهو يناقض نفسه لا في قولين بعيد وقريب، بل في شطري هذا البيت ويفسد معناهما، فإنه لو كلف كل رجل أن يخوف ابنه من الزواج لما وجد رجل لابنته زوجًا كي يراعيها كما طلب هو!

على أنه وراء ذلك كله قد عاد فأباح الزواج، وقال: تزوَّج إن أردت. واختار للمتزوج فتاة صدق مستترة كمضمر نعم:

تزوَّج إن أردت فتاةَ صدق
كمضمر نعْم دام على الضمير
إذا اطلع الأوانس لم تطلَّعْ
إلى عُرس تمرُّ ولا أمير
١: ٣٢٥

وأقر أنها تكون حياطة لزوجها واعترف بفائدة الزواج والتعاون فيه على الحياة؛ إذ قال:

قد حاطتِ الزوجَ حرَّةٌ سألت
مليكها العونَ في حياطتها
غدت ببُرسٍ إلى مرادنها
أو خيطِ غزلٍ إلى خياطتها
أماطتِ السوءَ عن ضمائرها
فلاقت الخيرَ في إماطتها
١: ١٥٧

وأبو العلاء لم ينسَ الخيرات من النساء ولم ييأس من خيرهنَّ. لقد وصف هؤلاء الخيرات الغازلات غير العازفات ولا المغنيات ولا شاربات الخمور، ولم تخلُ الدنيا في رأيه منهنَّ وهو يجيبهنَّ ويحيي رجالهنَّ الذين يمضي عمرُهم في الجد فيقول:

رعى الله قومًا مضى دهرُهم
وما فيهمو أحد يهزلُ
تُضاهي العناكبَ نسوانُهم
فتنسجُ للنفعِ أو تغزِلُ
وما عرفتْ مزهرًا في الحيا
ة ولا الدنُّ يُفتَح أو يُبزَل
جهلنَ الغناءَ وصوتًا يقا
لُ غنَّاه دحمان أو زلزلُ
٢: ١٧٦

وهو يدعو الله بالمغفرة لهؤلاء النساء المجاهدات العاملات ويقول:

والله يغفر في الحساب لنسوة
جاهدْنَ إذ، فُقد الحيا بمغازلِ
فكسبْنَ منها ما يقوم بأنفس
والصبرُ يبدنُ في الزمان الهازل
أتصدَّقت بالخيط ثم هوت إلى الـ
ـحمراء فاعتصمت بخيط الغازل
وأنالتِ المسكينَ أُكلةَ جائعٍ
فغدت كرضوى في المقام الآزل٢
٢: ٢٠٣

وأبو العلاء يقدِّر للمرأة فضلها الكبير بوظيفتها الإنسانية الكريمة، وظيفة الأمومة التي تُسدي بها الفضل لكل مولود، ويراها أولى بالإكرام حين يعد فضل الوالدين:

العيشُ ماضٍ فأكرم والدَيك به
والأمُّ أولى بإكرام وإحسان
وحسبُها الحملُ والإرضاع تدمنُه
أمرانِ بالفضل نالَا كلَّ إنسانِ
٣: ٣١٤

كما يقول:

وأعطِ أباك النصفَ حيًّا وميتًا
وفضِّل عليه من كرامتها الأُمَّا
٢: ٢٤٠

وبين فضلها في النسل:

أقلَّك خِفًّا إذ أقلَّتك مُثقلًا
وأرضعتِ الحولين واحتملت تمَّا
وألقتكَ عن جهد وألقاك لذَّةً
وضمَّت وشمَّت مثلما ضمَّ أو شمَّا
٢: ٢٤٠

وأبو العلاء آمل خير في المرأة، حين يكتب الكتب الخاصة في وعظها؛ ككتاب تاج الحرة في عظات النساء نحو أربعمائة كراسة.

•••

ولا ندع الحديث عن المرأة وآراء أبي العلاء فيها قبل أن ننظر في أمره بزجر الغريزة المسيئة والكف عن الزواج، فإنه ليقول في الغفران ما قدَّمناه من أنه لا سبيل للتغلب على الفطرة ولا معدى عن الجبلة، ويكمل ذلك بما نصه: وقول القائل اللهم اجعل وصعي — طائر أصغر من العصفور — بازيًا، يكون للسفه موازيًا:

لقد علمت ولا أنهاك عن خلق
ألا يكون امرؤ إلا كما خُلقَا٣

وصاحبنا قد أحسَّ سلطان الغريزة على الإنسان في أشياء كثيرة، وله الكثير الجم من التشهي لا نستوفيه هنا ولا يسمح المقام به، وحسبنا من ذلك كلمة متحرقة في الفصول (٣١٦) إذ يقول: إنما أنا كرجل بُليَ بالصدى (العطش)، لا يجد وِردًا ولا موردًا، فهو ظمآن أبدًا، إن ورد عزوفًا (بئر يؤخذ منها باليد)، وجده مضفوفًا (كثر وارده)، وإن صادف نزوعًا (بئر تنتزع منها الماء)، أعوزته الآلة والمعين، فبينا هو كذلك هجم على رجل ينزع بغرب، فشكا إليه فرط الكرب، فقال: ريُّك إن شاء الله قريب، فأعنِّي على انتزاع المُروية، فلما كان الغرب بحيث يريان، غدرت الوذم (عرى الدلو أو السيور)، وخان العناج (الحبل يشد على خشب الدلو، أو يشد من تحته ليقويه).

وحسبنا من قوله عن المرأة قولته المكشوفة التي يقر فيها أن:

أركان دنيانا غرائز أربع
جعلت لمن هو فوقنا أركانا
والمرء ليس بزاهد في غادة
لكنه يترقب الإمكانا
١: ٣٠١

ولنا إلى هذه المسألة بخاصتها عود قريب. فشأن أبي العلاء في المسألة الجنسية يستحق القول المفرد.

وفي كل حال فما سمعنا من أقوال لأبي العلاء يجعلنا نسأل: أكان رأي أبي العلاء في المرأة قبيحًا؟ أله في المرأة رأيٌ ثابت يوصف بذلك؟ فكِّر أيها القارئ وقدِّر.

هذا ما عنده في المرأة، وأما …

١  المقرم الفحل المكرم.
٢  الآزل الضيق.
٣  الغفران، ص١٨٢، ط هندية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤