تحقيق

دق جرس الباب. انفصل جسداهما في حركةٍ متشنجةٍ بالفزع، وثبا إلى ملابسهما وهو يهمس: قلتِ إنكِ لا تتوقعين قدوم أحد.

فقالت هامسةً أيضًا: لعله الكوَّاء.

وكان يرتدي ملابسه بيديه وقدميه ويقول: يجب أن أستعد للاختفاء ولكن أين؟

– لا أظن أنك ستضطر إلى ذلك، وإذا وقع المُستحيل فادخل تحت السرير.

وغادرت الحجرةَ وهي تحبك الروب حولها، ثم ردَّت الباب. نظر إلى أسفل السرير ولكنه مضى بخفة إلى ما وراء الباب يتنصَّت. سمع صوت الباب وهو يُفتح، ثم وهو يُغلق، ووَقْع قدمَين ثقيلتَين. في لحظاتٍ خاطفةٍ توارى تحت السرير، مَن القادم؟ ليس الزَّوج وإلا لجاء إلى حجرة النَّوم ليخلع ملابسه. ليس الزوج على وجه اليقين فقد اتصلت به تليفونيًّا في الإسكندرية منذ ساعة واحدة. إنه فيما يبدو من المتردِّدين على البيت، بل هو من أهل البيت على نحوٍ ما وإلا ما اقتحمه في هذه الساعة من الليل. لبد في مَكْمنه يمزِّقه القلق والإحساس بالنكد بعد أن ثمل بدفء اللذة. وليصبر فسيذهب عاجلًا، لا يمكن أن تطول الزِّيارة إلى ما لا نهاية، وسينتهي بالتالي عذابه. انقضَّت عليه فكرةٌ كحشرة طائرة، ألا يحتمل أن يدخل القادم حجرة النَّوم فيرى زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة؟ هل يزحف إلى الخارج ليعود بالزجاجة والعلبة؟ لكنه لم يتحرَّك، لم يجد الجرأة الكافية، وأطبقَت عليه التعاسة أكثر فأكثر. ومضى الوقت وطال وثقل. تلهَّى بالنَّظر إلى نقوش السجادة وألوانها، وقد اختلطت وغامت تحت نور الأباجورة الأحمر الخافت، وإلى أرجل المَقاعد والشيفونيرة المغروزة في وبر السجَّادة. وارتعد لسماع صوتٍ طارئ، ثم رأى باب الحجرة وهو يُفتح في هدوء. دخل شخصٌ بلا ریب، ها هو حذاؤه الأبيض ذو السطح البني وطرف بنطلونه. واتجه يسارًا نحو الصوان ففتحه، وقف أمامه دقيقة أو دقيقتَين ولكن أين لطيفة؟ وأغلق الصوان ثم مضى نحو الباب في هدوء كما جاء، ترى ما معنى ذلك؟ ومتى يخرج من زنزانته؟ واشتدَّ به التوتُّر والإرهاق واليأس، خُيِّل إليه أنَّه وقع في شَرَك، وأنَّ يدًا حديديَّةً تمتدُّ للقبض عليه وأنَّ قدمَيه تندسَّان في حذاء أبيض ذي سطح بني، وأنَّ عليه أن يرسم خطةً كاملةً للتملُّص من مأزقه في زنزانته. وقال له صوتٌ باطنيٌّ يضطرم بالرعب والإلهام إن نجاته رهنٌ بقوة خياله، وإنَّها وحدها القادرة على تحويل الكابوس إلى حلم. وهو لن يبقى تحت السرير إلى الأبد في هذا الصمت العميق العجيب. إنه يمدُّ ذراعه لينظر في الساعة، ويُخرج رأسه في حذرٍ كالسلحفاة ليتنفَّس هواءً نقيًّا بعض الشيء ويرهف السمع فيجد هدوءًا مُخيفًا، ولكنَّه يشجع على مغادرة الزنزانة، كأنَّ الموت يربض في الظلام مُجمِّدًا كل حركة مُسكتًا كل صوت، وأرهقه التعب لحد التهوُّر، وتجمَّعت كل قواه المُضمحلَّة في وثبةٍ جنونيةٍ للدفاع عن النفس في مغامرةٍ مرتجلةٍ يائسة.

•••

طلع الصبح دون أن يَغمُض له جفن. سمع دقاتٍ رقيقة على باب حجرته. وجاءه صوتٌ مُحَشْرج هاتفًا: سي عمرو، اصْحَ.

ما أجدر أن يتغيَّب اليوم بعذر ما، ولكنه نبذ الفكرة بلا تردد قائلًا لنفسه: «هو الجنون بعينه»، وصاح: صحيت يا أم سمعة!

ولما جلس إلى المائدة الصغيرة في الصالة رأى طبق المدمس، وقدح الشاي باللبن، والرَّغيف المجمر فمد يده إلى القدح وهو يقول: سأكتفي بالشاي.

فلم يُفصح وجه العجوز عن تعبير، وجه ذو سحنةٍ واحدة، ولكنها قالت: كُلْ لقمةً تسند قلبك.

المنظر المُرعب لا يبرح مخيلته، يُعذِّبه ويُطارده. فَرَّ بقوةٍ تركبه وتدفعه بلا حذر، نَسي زُجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، فلم يذكرهما إلا في ظلام حجرته. ارتدى ملابسَه وغادر الشقة، حمل الأرض فوق رأسه، ابتاع جريدة الصباح وهو يخترق شارع القبة بالجيزة، ولكنه قال لنفسه: «لم يُكتشف شيءٌ بعد.» وأخيرًا وجد نفسه جالسًا إلى مكتبه بالإدارة، وجاء الرَّئيس في أعقابه وامتلأت المكاتب إلا واحدًا، ونظر إلى المكتب الخالي بعينٍ مُتلصصة، وهو يقع فيما أمامه على الجانب الآخر للحجرة، وشرع في العمل وهو يختلس إليه النظر، إذا تمَّت له النجاة فسيحزن عليها طويلًا، أمَّا الآن فلا وقت لديه للحزن، وتساءل الرئيس: ست لطيفة لم تحضر، ألم تعتذر؟

ولمَّا لم يسمع جوابًا عاد يقول: الموظفات أعذارهن لا تنتهي.

وأثار قوله ضحكاتٍ على سبيل التشفِّي أو الملق. لم يشترك في الضحك، تساءل فيما بينه وبين نفسه: ترى ألم يُلاحظ أحدٌ شيئًا مما كان يُتبادل في صمتٍ بينه وبين المكتب الخالي؟ رُبَّما أدلى شاهدٌ بملاحظةٍ عابرةٍ تقلب دنياه رأسًا على عقب، أو يكون آخرُ رآهما في أحد منعطفات شارع الهرم، ثم إنَّه نسيَ هناك زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، أي أسرارٍ يمكن أن تبوح بها الزجاجة والعلبة؟ إن كل شيء ينطق أمام شياطين المُحققين ويخلق الأساطير، وغير بعيدٍ أن يكون قد نسي أشياء أخرى، وبصماته انطبعت بلا حسابٍ ولا حذر، ورُبَّما وقع المحققون في الشرك وأغمضوا العين عن القاتل الحقيقي.

وجاءه صوت الرئيس، وهو يقول بصوتٍ آمر رنَّان: يا سيد عمرو، سأحوِّل إليك الأوراق العاجلة الداخلة في اختصاص ست لطيفة …

لماذا اختاره هو بالذات؟ رُبَّما لأنه أحدث الموظفين عهدًا بالوظيفة، أم تراه يعني شيئًا وراء ذلك؟ إنَّه قصيرٌ ماكرٌ ذو نظرةٍ تحتانية، فهل يعني شيئًا آخر حقًّا؟! واسترق نظرةً من الوجوه ليرى أثر الأمر الإداري، ولكنه لم يقرأ شيئًا. كل شيءٍ هادئ وعادي، والقاتل مجهول فما معنى الخوف؟ وكان يُصارع التشتت والتمزق عندما سمع صوتًا غريبًا يسأل بأدب: هل الست لطيفة موظفة في هذه الإدارة؟

فأجابه موظف: أجل ولكنها لم تحضر اليوم.

نظر إلى القادم باهتمامٍ فرأى شابًّا طويلًا نحيلًا، غامق السمرة، يرتدي قميصًا أزرق وبنطلونًا رماديًّا، سرعان ما غادر الحجرة على أثر الإجابة التي تلقاها، لم يسأله أحدٌ عن هُويَّته، ولم يُعلن هو عنها، ونُسِي تمامًا بمجرد اختفائه. فكَّر فيه طويلًا وساورَتْه مخاوف شتى، وتجسدت لمُخَيِّلته الجثة رُبَّما للمرة الألف، وتذكر كيف انهزم لدى رؤيتها ففرَّ كالمجنون. غرق في أفكاره ثم صحا بعد وقتٍ لا يمكن تحديده على حديث يدور حول حذاء أبيض، ارتعد قلبه، ماذا يقولون؟ أحدهم يقول: إنَّ الأحذية البيضاء باتت نادرة الاستعمال، فقال آخر إن الحذاء يُعجبه. فعاد الأول يقول إنه يتسخ لأوهى الأسباب، ويَصْعُب تنظيفه وتلميعه بسبب سطحه البني. اشتدت به الرِّعدة فتساءل: ما حكاية الحذاء؟

فأجابه الموظف الأول: حذاء أبيض ذو سطح بني من النوع الكلاسيكي، رأيناه في قدمَي الشاب الذي جاء يسأل عن لطيفة.

– لا!

– ندَّت عنه بعصبيةٍ مُلفتةٍ للانتباه، وهو يتهاوى في انهيارٍ كامل، ولما شعر بالأعين المحدقة فيه قال: آسف، الظاهر أني أصبت بالأنفلونزا!

وضحك ضحكةً عاليةً لا تناسب المقام، ولم يستطع صبرًا فسأل الموظف الآخر: أكان الشاب ينتعل حذاء أبيض ذا سطح بني؟

– أجل، وهو يُعجبني، هذه هي المسألة.

واستأذن في الذهاب إلى دورة المياه، ولكنه اندفع في الطرقة الموصلة إلى الباب الخارجي، ودار دورة عشوائية حول مبنى الوزارة، ولكنه لم يعثر للشاب على أثر، ولبث مذهولًا وهو يقول لنفسه: هكذا تقع الأحداث التي نسمع عنها من بعيدٍ دون مبالاة.

•••

احتلت الحادثة مكانها في صفحة الحوادث، قرأ بعنايةٍ وانتباهٍ كامل؛ بدأت بملاحظةٍ عابرةٍ من البواب لباب شقة المقاول حسنين جودة الذي لم يكن مُغلقًا كعادته، وانتهت باكتشاف جثة زوجة المقاول الموظفة، اتصل بشرطة النجدة، تبيَّن أنَّ المرأة خُنقت بَيْنا كان زوجها في رحلة تجارية بالإسكندرية. لم تكتشف سرقة، عُثر على زجاجة كونياك وعلبة شيكولاطة، وطبعًا التحقيق ماضٍ في طريقه إلى الكشف عن أسرار الجريمة والقبض على القاتل. ووجد الموظفين واجمين والجو مشحونًا بأخبار الجريمة وتأويلاتها، ثمة حسرة ورثاء وتساؤل عن بواعث الجريمة، وعن معنى وجود الكونياك والشيكولاطة في غياب الزوج. وقال أحدهم: كل شيءٍ مفهوم ولكن لِم قتلها؟

أجل لِم قتلها؟ وقعت الواقعة في مجال تنفسه وهو لا يفقه لها معنى، ليس الواقع كما يتصورون، وسوف يندفعون جميعًا كالسكارى في طريق الضلال؛ ليرتكبوا جريمة أخرى. وقد جاءهم صاحب الحذاء بقدمَيه ولكنهم يتساءلون عن صاحب الخمر والشيكولاطة، هو وحده يتشوق لمعرفته وكشف سِرِّه المُغلق فلعله يعثر عليه في الجنازة، بل يجبُ أن يعثر عليه في الجنازة كما يقضي به المنطق، وذهب مُمْتلئًا بالتصميم بقدر ما هو ممتلئ بالشجن، وتفحَّص بعين ثاقبة أهل الفقيدة من المستقبلين. رأى الزوج الذي يُوشك أن يصرعه المرض، ورأى آخرين، ولكنه لم يعثر لضالَّته الماكرة على أثر، وسار وراء النَّعش وهو يختلس إليه النظر بقلب منقبض، وكاد إلى حين ينسى مخاوفه تحت موجة الحزن التي غمرته، وتذكَّر قصة حبه القصيرة العميقة التي مضت في عناء، ولم تخلف إلا التعاسة والرعب.

•••

من هو صاحب الحذاء الأبيض؟ هل رآه البواب ليلة الجريمة وهل يعرفه؟ أمَّا هو فقد رآه البواب، ولما سأله عن مقصده أخبره أنه ذاهب إلى طبيب الأسنان بالدور الثالث، وإلى العيادة ذهب فعلًا للكشف والتنظيف تنفيذًا لتدبير حكيم اتفق عليه مع الفقيدة، فمن تلك الناحية لا خوف عليه.

وقال موظف بالإدارة بعد أن فرغ من قراءة الجريدة: الأمور تتضح؛ فالزَّوج مريض جدًّا، وله مُطلقة أنجب منها شابًّا وشابة جامعيَّين، والعلاقة بينه وبين أسرته الأولى سيئة جدًّا.

فقال ثانٍ: وإذن فيهمُّ أسرته الأصلية التخلص من الزَّوجة الجديدة قبل أن تستولي على أموال أبيهم …

وتساءل ثالث: هل من علاقة بين ابن المُقاول وبين الخمر والشيكولاطة؟

فقال الأول: لن يفوت المُحقق شيء من ذلك.

فقال رابع: سيصلون إليه عن طريق الزجاجة والعلبة …

فقال عمرو وهو يداري حنقه: توجد آلاف الزُّجاجات وآلاف العلب!

– ولكن العلبة تدلُّ على الدُّكان، والدكان تدل على الشاري، وقد يعثرون على لفافة الزُّجاجة فيعرف المخزن أو المحل …

– ثم يعرض الشاب أو المتهم على عمال المحل والمخزن.

جميع الأدلة مُتوفِّرة إذا تركزت الشبهات في الزجاجة والعلبة، فكر في ذلك طويلًا وقلبه يغوص في أعماقٍ من الكآبة، وعاد الموظف الأول يقول: الأمر واضح، ابن المقاول أنشأ علاقةً مع المرحومة ثم قتلها.

لعل ذلك كذلك، أو لعلَّ القاتل هو صاحب الحذاء الأبيض، أو لعل ابن المقاول هو صاحب الحذاء الأبيض، إنْ صحَّ احتمال من تلك الاحتمالات فقد نجا هو من كل سوء كما ينبغي له، أمَّا إذا أصر المُحقق على تتبع أثر صاحب الخمر والشيكولاطة فلن يعجز عن الوصول إلى مصدريهما، وهو — عمرو — معروف بشخصه دون هويته لدى صاحب محل «الزهرة» كما هو معروف عند فتاة حلواني «ألف ليلة»، وغير بعيد أنَّ أوصافه تتردد في هذه اللحظة على الشفاه بين جدران حجرة التحقيق.

•••

ونُشرت صور لطيفة، وحسنين زوجها، ومحمد ابنه لأول مرة في الجريدة، وتبيَّن لعمرو أنَّ ابن المقاول شخص آخر غير الشاب صاحب الحذاء الأبيض، وتابع تعليقات الموظفين بالإدارة باهتمام وتركيز: تقول الجريدة إنَّ الشرطة عثرت على خيوط يمكن أن تؤدي إلى القاتل …

– لعلها تقصد الشاب ابن المقاول؟

– أو الزجاجة والعلبة؟

– سر الجريمة كامنٌ في الزجاجة.

ورفع الرئيس رأسه عن رسالةٍ كان يقرؤها بإمعان ثم قال: يا جماعة، نحن مطلوبون جميعًا لسماع أقوالنا.

•••

شهد كل موظفٍ بما يعلمه ولم يكن ذا بال، مثل تاريخ التحاق لطيفة بالعمل منذ عشرة أعوام، وزواجها منذ عامين. وشهد لها الرئيس بحسن السير والسلوك والمُعَاملة، وبأنها كانت موظفةً ممتازة، ولكن الفَرَّاش — عم سليمان — أدلى بواقعةٍ مُهمة فقال: إنه رآها مرةً بصحبة شاب قُبيل زواجها هو نفس الشاب الذي جاء الإدارة صباح الجريمة سائلًا عنها. وأكد الجميع واقعة الزيارة الصباحية، وأعطوا أوصافًا تقريبية للشخص، واهتم المحقق بالواقعة بطبيعة الحال. ولما دُعي عمرو لأخذ أقواله عن الشخص المجهول، وصفه بدقةٍ ملحوظة، طوله وحجمه ولونه وملابسه حتى الحذاء، فقال له المحقق: يبدو أنك تفحَّصته بعناية!

فتضايق عمرو من الملاحظة ولكنه قال بثبات: كان يقف أمامي مباشرة.

وكان يشعر طيلة الوقت بضيق وتوتر فزادته الملاحظة ضيقًا وتوترًا، وضاعف من هَمِّه ما ذاع في حجرة المحقق من أنه ثبت أنَّ ابن المقاول كان في رحلةٍ جماعيةٍ ليلة الجريمة، وأنَّ الشبهات تبدَّدت — بالتالي — من حوله.

•••

تَقمَّص دماغ المُحقق فطارد نفسه بنفسه، مَن الشاب الذي رآه عم سُليمان مع الفقيدة، ولِمَ زارَ مكتبها صباح ارتكاب الجريمة؟ مُحْتمل أن يكون صاحب الخمر والشيكولاطة، أو يكون شخصًا آخر لا علاقة له بالجريمة. السِّر قابعٌ وراء الزُّجاجة والعلبة، فلنتخيَّل القصة من بدايتها عندما بدأت بغرام، انتهز العاشقان فرصة سفر الزوج فتواعدا في بيت الزوجية، وفي الموعد المضروب تَسلَّل الشابُّ إلى العمارة، يسيرٌ التسلل إلى عمارةٍ ضخمةٍ بها أكثر من عيادة طبية، وها هو يُجالسها كما يفعل العشاق، كيف ومتى سيطرت فكرة القتل؟ إنها لا تخلق بغتةً وبلا مُقَدِّمات، رُبَّما جاء بها جاهزة معه، وغير بعيدٍ أن تنشأ عقب خلاف طارئ أو إثر ميل من المرأة نحو إنهاء العلاقة. لعله شاب غرٌّ ومحب حتى الجنون، وقع في هوى امرأة طموح لا حد لطموحها، فتزوجت من المقاول، وأبقت على علاقة الشاب بها لتستحوذ على المال والجاه والحب فكرهها بقدر ما أحَبَّها، ولما قالت له بدلال وهي تُلاطفه «اخنقني» طوَّق عنقها بقبضتَيه، وشدَّ بكل عنفٍ فلم يتركها إلا جثة هامدة. ارتكب جريمتَه ثم هرب ولكنه نسي وراءه الزُّجاجة والعلبة، سيظل مُهَدَّدًا بأن تراه فتاة حلواني دمشق أو صاحب محل «الزَّهرة» أو يُساق إليهما في ظرف ما فيتعرفان عليه. ويتضح أنَّه زميلٌ للفقيدة في إدارةٍ واحدة؛ فتقوى الشبهة وتتوطد، وإذا اعترف بأنَّه صاحب الزجاجة والعلبة، وبأنَّه كان عشيق المرأة، فأي قوة يُمكن أن تدفع عنه التهمة، أو تُنقذه من حبل المشنقة مهما أنكر وأصر على الإنكار؟!

•••

من الحكمة أن يُكمل علاجه عند طبيب الأسنان، ها هو الطريق مرة أخرى وها هي العمارة، ترى أما زال حسنين جودة يشغل العمارة؟ وجد البواب فوق الأريكة وراء الباب مباشرة، إنه صعيدي فيما يبدو، ويلف سيجارة، ومضى إلى الدَّاخل فقام الرجل وتبعه، دخل المصعد وراءه فقال باقتضاب: الدكتور نصر طبيب الأسنان.

وهو يُغادِرُ المِصْعد في الدور الثالث حانَت منه نظرة إلى الأرض فرأى حذاء البواب فارتعدت مفاصله، حذاء أبيض ذو سطح بني! مضى إلى العيادة بذهن مُشتت، أيكون البوابُ هو القاتل؟ ولكنه يذكر تمامًا أنه رأى الحذاء تحت طرفي بنطلون لا جلباب، أم يكون البصر قد خدعه؟! وغرق في ذهوله حتى دُعي إلى حجرة الكشف، جلس وهو يتساءل: هل ينتهي التنظيف في هذه الجلسة؟

فقال الطبيب: أراك نافد الصبر.

فسأله: ما أخبار الجريمة؟

– آه … تلك المرأة! كنتُ أعرفها جيدًا؛ فقد حضرت مع زوجها عند تركيب ضرسين له!

– حَقًّا؟!

وندم على ثرثرته أمَّا الطبيب فقال: عم خليل التمرجي اعتقد أنه رأى القاتل.

– حقًّا؟

– إنه يسكُن في حجرة فوق السطح، وكان يَمُرُّ أمام شقة القتيلة عندما رأى رجلًا يُغادرها.

– أرآه جيدًا؟

– لا أدري.

– كان يجب أن يدليَ بشهادته.

– وقد فعل.

من الذي رآه التمرجي؟ ولأي درجةٍ تمكَّن من رؤيته؟ هل ساوره شك من ناحيته؟!

•••

وكان يُغادر باب الوزارة عندما شعر بشخصٍ يُلاحقه فالتفت وراءه، فرأى عم سُليمان الفرَّاش. نظر إليه مُتسائلًا فقال الرجل: عمرو بك، الحق أَنِّي لم أشهد في التحقيق بكل ما أعرف!

فرمقه في دهشةٍ فقال الرجل: كتمت شهادةً لو سمعها المُحقق لأتعب الأبرياء بلا موجب.

– ماذا تعني؟

فقال الرجل وهو يبالغ في الأدب: رأيت حضرتك يومًا وأنت تُقبِّل المرحومة في المصعد!

فهتف: ماذا تقول؟

– رأيتك وأنت تُقبِّلها.

خذلته أعضاؤه في الواقع، ولكنه تماسك بقوة فوق طاقة البشر. وقال: أنت أعمى بلا شك.

– كتمتها خشية أن تدفع بك إلى موطن الشبهات!

فهتف: أنت أعمى!

فتراجع الرجل قائلًا: لا مؤاخذة يا بك، ما قصدت سوءًا قط.

فتراجع بدوره قائلًا: إنك على أي حالٍ تستحق الشكر.

فقال الرجل وهو يمضي: الشكر لله.

إنه يتمزَّق إربًا، لا أمان ولا سلام، ولا قدرة على تحمُّل مزيدٍ من العذاب.

•••

قال عمرو: لا خبر عن الجريمة في الجرائد.

فقال موظف: أكبر الأحداث يشغل الصحف أيامًا ثم يختفي كأن لم يكن.

وقال آخر: في رأيي أنَّ النيابة هي التي منعت النشر.

فسأل عمرو: لماذا؟

– هكذا يتصرفون إذا اكتشفوا حقائق يجب إخفاؤها عن القاتل.

وشعر بنظرات تلسع وجهه، فالتفت بالغريزة ناحيتها، فالتقت عيناه بعينَي عم سُليمان، وهو يحمل القهوة للرئيس، جُنَّ بالقهر دقيقة ثم تساءل متى وكيف يشرع في ابتزاز أمواله؟! ثلاثة تمنى أن يتخلص منهم؛ فتاة الحلواني، وصاحب محل الزهرة، وعم سُليمان، تمنَّى أن يتخلص منهم ليتغلب على الأرق الذي احتلَّ لياليه المضنية، وتتابعت المُعجزات فصدمت سيارة نقل الفتاة الجميلة، وقُتل صاحب محل الزهرة في معركةٍ غادرةٍ مع أحد العُمَّال، أمَّا عم سُليمان فقد مات فجأة وهو يعمل في المَقْصِف.

ولم يكد يتذوَّق قطرةً من الرَّاحة حتى دهمه صوت الرئيس وهو يقول: متى تبدأ العمل يا سيد عمرو؟!

•••

وهبطت عليه فكرةٌ من السماء، أوحَت إليه بأنَّ البوَّاب ليس بالمالك المُناسب للحذاء الأبيض، الحذاء لا يناسبه لا من الناحية الذَّوقية، ولا من النَّاحية الاقتصادية، الأرجح أن يكون قد تلقاه هدية، فمن هو المُهدي ومتى أهداه إليه؟ لعلها فكرة لا تقوم على واقع ولكنها جديرة بالاختبار، ومضى لتوه قاصدًا عيادة الأسنان. وفي المصعد قال للبواب: حذاؤك جميل!

نظر إليه الرَّجل نظرة جامدة، ولم يُعلق فعاد يسأله: جاهز أم تفصيل؟

أجاب الرجل: ممكن تفصل حذاء مثله عند أمين علي بممرِّ الديلمي.

هي إجابة وتخلُّص من الإجابة معًا، قوَّى سوء الظن به، وكان ممر الديلمي قريبًا، ودكان الإسكافي في مطلعه على اليمين، حيَّا الرجل وقال: أُريد تفصيل حذاء أبيض ذي سطح بني.

فأجلسه الرَّجل على كرسي من القش المَجْدُول، وراح يسجل مقاسات قدميه، وفي أثناء ذلك قال له: رأيت حذاء مثله في قدمي بواب العمارة رقم ١١ بشارع ٢٦ يوليو فأعجبني، وهو الذي دلَّني عليك.

فقال الرجل بهدوء: ليس بين زبائني بواب!

فخفق قلب عمرو سرورًا بسلامة تفكيره وقال: لعله أخذه هبة من أحد زبائنك.

– يمكن.

– هل الطلب كثير على هذا النوع؟

– من النادر أن يطلبه أحدٌ، وطلبك هذا هو الثالث من نوعه في العامَين الأخيرَين.

فسأله باهتمام مُتصاعد: والآخران من أي طبقة؟

– أحدهما قارئ والآخر …

وتردَّد تردُّد من خانته الذَّاكرة فانحنى فوق دفتر مُتهرئ، وفر صفحاته بسرعة، وعمرو ينظر من فوق كتفه، وقال الإسكافي: حسام فيظي … غالبًا موظف … لا يوجد في الدفتر إلا العنوان.

وغادر الدكان وهو يحفظ العنوان عن ظهر قلب!

•••

انبعث إلهامٌ في صدره بأنه سيرى القاتل، وأنه سيجد فيه نفس الشخص الذي اقتحم الإدارة صباح ليلة الجريمة، وما عليه بعد ذلك إلا أن يُقابل المحقق ليعترف بين يديه بكل شيء، أو الأفضل أن يُحرر رسالة مُتضمنة لكافة التفاصيل، وكان البيت يقعُ في شارع المتولي بمنشية البكري، وهو شارع سكني نصف مساكنه عمارات حديثة، والنصف الآخر بيوت قديمة من دورٍ ودورَين، وليس به من محال عامة سوى فرن وكوَّاء، فهو شارع يشعر الغريب الطارئ بغربته، مَرَّ أمام البيت عصرًا، فرأى في شرفته فتاةً فوق العشرين ودون الخامسة والعشرين، أخذ منظرها بلبه فحلم بسعادة الحياة الزَّوجية واستقرارها الهانئ، قديمًا أسرَتْه لطيفة بحيويتها وعذوبتها الجنسية، وتعلُّقها الجنوني به لدوافع قدرية مجهولة، أمَّا هذه الفتاة فمثال كامل للرزانة والحياء والصبر والخلق المتين، وهي زوجة القاتل ولعلها أخته، ولاحظ أنَّ في دكان الكواء امرأة قميئة عوراء تتابعه باهتمام، واستنتج من سلوكها أنَّها صاحبة الدكان، فأقبل نحوها — اكتسابًا للوقت — وسألها عن بيت حسام فيظي فأشارت إلى البيت، وهي تتفحصه بخبث بعينها اليُسرى، وقالت: وتلك أخته التي تجلس في الشرفة.

لعلها ظنَّت أنَّه يحوم حول الفتاة فشكرها، وهمَّ بالذهاب فقالت المرأة: أسرة طيبة.

فوافق بإحناءة من رأسه فسألته: هل تعرفهم؟

فأجاب بالنفي، واقتنع في ذات الوقت بأنَّ المرأة تقوم بدور الخاطبة، وحدَّثَته عن حسام ودولت، وأبدَت استعدادًا طيبًا لتقديم أي خدمة شريفة، وقالت له بغتة وهي تغمز بعينها: ها هو حسام ذاهبًا إلى المقهى.

التفت عمرو وقلبه يدق بعنف.

ولكنه رأى رجلًا لم تسبق له رؤيته، مضى بدينًا أنيقًا فاقع البياض غزير الشارب لا يمتُّ بصلة للرجل الذي يبحث عنه، انهارت تقديراته وخاب مسعاه، وأدرك أنَّ البواب ما دلَّه على عم أمين إلا باعتباره أقرب إسكافي، أمَّا سرُّ حذائه هو فما زال سرًّا، وما زال احتمال أن يكون هدية قائمًا، وغير مُستحيل في النهاية أن يكون صاحبه.

ورجع إلى النقطة التي منها بدأ.

•••

لو تنكشف تلك الغُمَّة؛ فيملأ رئتَيه بالهواء النقي بعمق وتوبة، ويعزم جادًّا على إكمال نصف دينه بالاقتران من دَوْلت فيظي! لقد تجنَّب الاقتراب من شوارع برمتها، كما يتجنَّب عينَي عم سُليمان، وثمة نسيان جاحد يسدل أهدابه على لطيفة ومأساتها، وهو الوحيد الذي يحترق في خفاء بذكرياتها. وفكر ثم فكر، وكتب رسالةً مطولة للمُحقق استهلَّها بقوله: «أنا صاحب الخَمر والشيكولاطة، وإليك الشهادة الوحيدة التي تنفعك.» كتبها بعنايةٍ وحشدها بالتفاصيل، ولكنه لم يوقِّع عليها بإمضائه، ولم يُرسلها، أَجَّل ذلك حتى يستوفي التفكير في كافة وجوهها واحتمالاتها، وقال لنفسه: إنَّه لن يذوق للراحة طعمًا حتى يُلقى القبض على القاتل. وتساءل أي بواعث یا ترى دفعته إلى قتلها بعدما ثبت من التحقيق أنَّه لم تُكتشف سرقة وراء الجريمة؟ أما كان الأجدر أن يقتلها هو — عمرو — وقد توفرت لديه لذلك أسباب وأسباب؟ كان يمقتها بقدر ما كان يُحِبُّها، ولم يغفر لها نهمها الجنوني للمال والسُّلطان، وتضحيتها به في سبيل ذلك، وكان يشد عليها بقوة وهي بين ذراعيه رغبة وحنقًا، على أي حال فلا يجوز له أن يمنِّي النفس بحياة زوجية سعيدة مع دولت فيظي حتى تنكشف الغُمَّة تمامًا، وتهدأ أعاصير الوجود. وذهب من فوره إلى العِمَارة المشئومة ليكمل علاج أسنانه، وانتهز فرصة هبوط المصعد فصعد إلى الدور الرَّابع بقوة لا تقاوم، وجد المصباح فوق باب شقة المقاول مُضاءً، فُتح الباب فظهر المقاول وهو يوسع لضيف فتوارى عمرو في نهاية الطرقة، وسمع حوارًا بينهما فقال المقاول: لا تنس عيد الأضحى.

فأجاب الرجل.

– كل عام وحضرتكم بخير.

فقال المقاول: سنذبح هذا العام بقرة.

فقال الرجل: ونصنع من جلدها حذاء كلاسِيكيًّا.

فخفق قلب عمرو، وشعر بأنَّه قريب من النَّصر أكثر مما يتصور، وخرج الضيفُ، فأفلتت من عمرو صيحة فوز، رأى أمامه غريمه دون سواه، القاتل المجهول المحوط بالأسرار، وانقضَّ عليه كالوحش وقبض على ذراعيه وهو يصيحُ: أنت القاتل!

وذُعِرَ الرجل واختفى المُقاول مُغلقًا الباب، فضاعف ذلك من وحدة الرَّجل الغريب وهتف: أي قاتل!

فلطمه بقوة هدامة وصاح به: اعترف!

فتمتم الآخر بصوت كالأنين: رحماك!

– أنت الذي قتلت دولت فيظي!

وفَطِنَ إلى هفوة لسانه أمَّا الآخر فلم يفطن، وانهار تمامًا فقال: أعترف … ولكن لا تضربني.

فدفعه أمامه وهو قابض على ذراعيه بوحشية.

•••

وفكر طويلًا في موضوع الرسالة دون حسم، وهداه تفكيره إلى وجوب كتابتها على آلة كاتبة ما دام مُصِرًّا على إخفاء إمضائه — وبالتالي شخصه — إذ ليس من حُسن الفطن أن يُرسل خطه إلى المُحقق، واقتنع بذلك لحد أنه عزم على شراء آلة كاتبة صونًا للسرية اللازمة، وكان يتخبَّط في فراغ مخيف بين صمت الصحف، وعينَي عم سُليمان حتى اعتقد أن بقاءه في المدينة حُمق ما بعده حُمق ولكن أين المفر؟! وقال له عم سُليمان مرة وهو يقدِّم له القهوة: لست على ما يُرام يا أستاذ عمرو.

فغلى دمه لظَنِّه أنه يطبق عليه الحصار، ولكنه قال ببرود، وهو يكبح انفعالاته المتطايرة: بخير والحمد لله.

واشترى في ذات اليوم الآلة الكاتبة — وهو آسف — لارتفاع ثمنها. ما أجدره بالتوفير! لا بالتبذير ما دامت فكرة الزَّواج من دولت تغزو خياله بسحرها، ونظر إلى حذائه الأبيض ذي السطح البني وابتسم فهو لا ينسى أنه كان المُناسبة التي هيَّأت له التعرف بحسام فيظي، وبالتالي بمنية القلب دولت، فما كاد الرجل يُغادر دكان عم أمين علي حتى قال له عمرو: فَصِّل لي حذاء مثل حذائه.

فابتسم الرجل وقال: ندر في أيامنا الإقبال على هذا الصنف رغم فخامته.

فتردد عمرو قليلًا ثم سأله: من الرجل؟

– حسام فيظي، موظف، لا أدري في أي وزارة رغم أنه زبون قديم مثل حضرتك!

– ومن الفتاة؟

– أخته، اسمها دولت.

– لعلك تعرف عنوانه؟

فضحك وقال: ١٤ شارع المتولي بمنشية البكري.

فحق له أن يأسف لشراء آلة كاتبة، ولكنه اشتراها على أي حال، وكتب عليها رسالته المُثيرة، ثم عنونها، ثم أودعها صندوق البريد.

عند ذلك شعر بشيء من الرَّاحة لأول مرة.

•••

وكان عاكفًا على عمله بالإدارة عندما طرق أذنَيه صوت وهو يسأل قائلًا: أين الست لطيفة؟

رفع رأسه بِقُوَّة وفزع فرأى أمامه الشاب المجهول، الذي اقتحم الإدارة غداة ليلة الجريمة، وأحدث ظهوره المُفاجئ دهشة عامة أما سؤاله فأذهلهم، وتكهرب عمرو من الرأس إلى القدم، ها هو الشيطان الخفي، حتى الحذاء لم يغيره، أين كان، ولماذا جاء، وماذا يعني بسؤاله؟ وفي لحظات أغلق عم سُليمان باب الحجرة ووقف وراءه مُتحفزًا أمَّا الرئيس فسأل القادم: من أنت؟

فتجاهل سؤاله وعاد يسأل: أين الست لطيفة؟

– ولِمَ تسأل عنها؟

– ذاك أمر يعنيها وحدها.

– ولكن من أنت؟

فأجاب بحياء: لا أهمية لذلك.

– ألم تَسْمَع بما وقع للست لطيفة؟

– خير إن شاء الله!

– لِم لَم تزرها في بيتها؟

– لا علم لي بمكانه!

– ألم تعرف بأنها قُتلت منذ عشرة أيام؟

فارتسم الذهول في وجهه وتمتم: قتلت؟!

– ألم تقرأ الصحف؟

– أنا لا أقرأ الصحف!

– على أي حال فالمُحقق يرغب في مقابلتك.

– أنا؟ لماذا؟

– طبيعي أن يرغب في استجواب جميع من كانت لهم علاقة بالفقيدة.

صمت الرَّجل مَليًّا حتى أفاق بعض الشيء من وقع الخبر ثم قال بهدوء: إني على تمام الاستعداد للقائه.

•••

ها هو ذا الشبح، ها هو الحلم، جاء يسعى على حذائه الأبيض، أي قاتل، وأي مناورة يلعَب بها! وقد استُدْعِي عم سُليمان للمواجهة، وعن عم سُليمان علمت الإدارة بأنباء الرَّجل، علمت بأنَّه يُدعى محمود الغر وأنه سواق تاكس، وقد تعاقدت الفقيدة معه — قبل زواجها بعام — لاستغلال تاکس تملكه، وحرصت من بادئ الأمر على سرية الموضوع لكونها موظفة من ناحية، ولأنها أخفت صفقة التاكس عن أهلها حتى لا تُسأل عن مصدر المال الذي ابتاعته به، فكانت تلقى السائق في الجراج. وظل الرَّجل على جهله بمسكنها ولكنها دلَّته على مكان عملها ليهتدي إليها في الطوارئ، ولمَّا وقع الطارئ ذهب للقائها في الإدارة صباح ليلة الجريمة، فلمَّا لم يجدها اضطر للتصرف بمفرده فسافر بأسرةٍ عربيةٍ إلى الإسكندرية، ولبث في خدمتها هناك حوالي الأسبوع أو أكثر، وانتظرها في ميعاد اللقاء المُعتاد، ولكنها لم تحضر فذهب إلى الإدارة مرة أخرى لمُقابلتها، وتم التحقق من أقواله واختبرت بصماته ثم أفرج عنه!

دار رأس عمرو، ها هي الأمور تتعقد كما لم تدُر له في حسبان، وها هو ينحدر في تيه، وشد ما ندم على كتابة رسالته المذهلة، ولكن واقعة التاكس حقيقة لا شك فيها، استيقظت في وجدانه الآلام الغافية، ألم يقل لها بصراحة: «إني أحتقر تصرفاتك؟» وكيف استجابت؟ … قالت برزانة مُرعبة: ليكن رأيك ما يكون ولكنك تحبني!

فقال بحنق: تبيعين نفسك لوحش بسيارة!

– ولكنك تحبني؟

فصمت صمتًا ذا مغزى لا يخفى فضحكت وقالت: لا تغتم بتصرفاتي ولا بزواجي نفسه ما دام قلبي لك وحدك.

وقال لنفسه بأنه قضى على قلبه بأن ينقسم إلى قسمين، تلك العذابات الجهنمية، التي لم تقتلع من وجدانه تمامًا حتى وهما يذوبان في ضوء الأباجورة الأحمر، واستقر حذاء أبيض ذو سطح بُنِّي على السجادة بين الصوان والخوان الحامل للزجاجة والعلبة، وتموجت تهاويل غشاء الجدران الورقي، وتفشَّت في الجو هينمات منسالة من كون مجهول، وتخطَّت الذروة عندما راحت تُغَازل يديه بنشوة جنونية، وتقول له بدلال «اخنقني».

•••

ودخلت أم سمعة الشُّرفة وهو وحيد يستجدي نسمةً من ليل الصيف وقالت له: ضيوف على الباب.

فسألها: تعرفينهم؟

– كلا، قالوا افتحي فجئت لأخبرك.

فتح شراعة الباب فرأى وجهًا لم يره من قبل فغاص قلبه، فتح الباب مُستسلمًا فدخل الرَّجل وتبعه ثلاثة.

اندفع الثلاثة يُفتشون وقال له الرجل: معذرة، تفتيش لا بد منه، هاك أمر النيابة!

فسأله بصوتٍ ضعيف: عمَّ تفتشون؟

– آلة كاتبة.

وجيء بالآلة فتفحَّصها الضابط وقال: هي التي كتبت عليها الرِّسالة.

وبسط أمام عينَيه الرِّسالة التي تطوَّع بإرسالها وسأله: رسالتك؟

فقال يائسًا: لا علم لي بشيء مما تتحدث عنه.

– متى اشتريت هذه الآلة؟

– اشتريتها ولم أسرقها، ولست مُطالبًا بتفسير سلوكي!

– ستعرض أنت على عُمَّال المحلَّين اللذين اشتريت منهما زجاجة الكونياك وعلبة الشيكولاطة، فهل أنت مُصِرٌّ على الإنكار؟ ولِمَ تُصِر على الإنكار ما دمت بريئًا؟

وفي سيارة الشرطة سأل الضابط عما جعله يشك في أمره، فيفتش مسكنه؟! ولكن الرجل ابتسم ولم يُجِب. وفطن عمرو إلى الخطأ الذي ارتكبه بإرسال الرِّسالة، فإن كتابتها على الآلة الكاتبة تشي بخوف كاتبها من الاهتداء إليه بمعرفة خطه، مما يرجح معه أن خطه غير بعيد عن متناول التحقيق، وما يُثير — بالتالي — الشبهات حول المتصلين بالفقيدة ومن بينهم زملاؤها في الإدارة. هكذا استوجب خطؤه تفتيش مسكنه — ضمن مساكن الآخرين — وهكذا تم العثور على الآلة الكاتبة، وعُرف صاحب الرسالة والزُّجاجة والعلبة.

وقال: ولكني بريء وكل كلمة في الرسالة صادقة.

فقال الضابط ببرود: علمنا من بادئ الأمر بعلاقتك بالقتيلة!

فاعترضت مُخيلته المُمَزقة صورة عم سُليمان، ولكنه قال: اعترفت بذلك في الرسالة ولكني بريء.

فقال الضابط بغموض: وأعجبني خيالك!

فقال دون أن يتمعن معنى قوله: وأطلقتم المجرم الحقيقي!

– جميع من اشتبهت بهم أبرياء.

فتساءل بإنكار: فمن القاتل إذن؟

فأجاب الرجل بهدوءٍ وثقة: لم يبقَ إلا أنت!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤