مقدمة
هذا هو الكتاب الثالث في سلسلة «الفيلسوف … والمرأة»
التي ظهر منها كتابان يتحدثان عن المرأة وعمالقة الفكر
اليوناني: سقراط،
١ وأفلاطون، وأرسطو. وفي كتابنا الحالي نعرض
للعَلاقة بين الفيلسوف المسيحي والمرأة. وإذا كان
فلاسفة اليونان قد عبَّروا، نظريًّا، عن التراث السائد
في مجتمعهم، مصداقًا لقول هيجل: «إن الفلسفة هي عصرها
ملخصًا في الفكر»، فسوف نجد في كتابنا هذا مثالًا جيدًا
لسيطرة العادات والتقاليد وطغيانها على الفكر
الديني!
فعلى الرغم من الأفكار الإنسانية الجديدة التي جاء
بها السيد المسيح بالنسبة للمرأة — ومنها مثلًا: أنه لم
ينظر إليها على أنها «جسد»، وعلى أن صورتها «عورة»، كما
أنه لم يرفض الاختلاط بين الجنسين، وعالج المرأة كما
عالج الرجل سواءً بسواء … إلى آخر هذه المواقف الجميلة
التي سنتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد — فقد توارت كلها
ليحل محلها التراث «اليهودي-الروماني»، الذي كان قائمًا
في ذلك الوقت، والذي كان يمثل الأرض التي عملت عليها
المسيحية عندما ظهرت. ومن المعروف أن التراث الروماني
كان امتدادًا طبيعيًّا للتراث اليوناني بما يحمله
للمرأة من كراهيةٍ ونظرة دونية، فضلًا عن أن التراث
اليهودي كان يتبنى النظرة نفسها مع إضفاء صبغة دينية
عليها، محاولًا أن يجعلها «إلهية» أو «مقدسة»، حتى
استسلمت لها المرأة اليهودية في نهاية الأمر، واعتبرتها
قضاء الله الذي لا راد لقضائه!
وهكذا نتبين أن الخلفية التي عملت عليها المسيحية منذ
ظهورها لم تختلف قط عن تراث التاريخ الماضي، وهو تراث
كان يعبِّر عن مصلحة الرجل ومنفعته في مجتمعٍ أبوي
«ذكوري» يعمد إلى السيطرة على المرأة واعتبارها في
مرتبةٍ أدنى، أما إذا كانت زوجة فقد أراد لها أن تبتعد
عن كل إثارة، حتى يضمن سلالة من الأبناء من صُلبه نقية
«خالصة» ليس فيها دماء غريبة، حتى ترث ما يملك!
فإذا صحَّ ما قاله عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي
«لويس هنري مورجان» L. H.
Morgan (١٨١٨–١٨٨١م) من وجود رابطة
قوية بين المِلكية الخاصة ووضع المرأة (والزوجة بصفةٍ
خاصة) لكان في ذلك تفسير بالغ الوضوح لعزلة المرأة
(الزوجة أو من تصلح أن تكون زوجة) و«تعقيمها» ولفها في
ثيابٍ كثيفة، حتى لا يظهر من جسدها شيء فيكون مدعاة
للإثارة والفتنة وجذب الرجال! فالمرأة هنا هي «وعاء
الذرية» الذي لا بد أن يظل نقيًّا خالصًا من الشوائب،
ومن هنا كان لا بد من حجبها عن الأنظار، حتى تضمن سلالة
من صلب الزوج صاحب هذه الملكية (سواء أكانت ملكية مادية
أم معنوية: كالمرتبة، أو الوضع الخاص في المجتمع، أو
امتيازاتٍ خاصة يورِّثها الآباء إلى أبنائهم على نحو ما
كانت عليه الحال عند اليونان والرومان).
ومعنى ذلك أن هذه القيود التي فرضها المجتمع الأبوي
على المرأة من أجل توريث الملكية الخاصة لم تكن معروفة
في المجتمعات التي سادها شيوع الملكية، فكان كل شيء
فيها مَشاعًا بين أفراد القبيلة، ومن ثَم قيل: إن هذه
المجتمعات نفسها سادتها الشيوعية الجنسية أيضًا: فلا
أهمية للحجاب، ولا لتغطية الجسد كله، أو بعضه … إلخ.
٢ يشهد على ذلك أيضًا حق الليلة الأولى
Jus Primae Noct.
٣
وحق الليلة الأولى «كان حقًّا مكفولًا يستمتع به
الرجل الإقطاعي — طوال عهود الإقطاع — (بالنسبة للجواري
فقط!)، في مقابل أن يترك إحدى جواريه تخرج عن إساره
وتتزوج!»
كما تشهد عليه أيضًا عادة تقديم الزوجات إلى الضيوف،
وهي عادة شهيرة مارستها شعوبٌ بُدائية كثيرة مثل
الإسكيمو، وهي عادة كان لدى العرب عادة شبيهة بها في
الجاهلية تحت اسم «الاستبضاع»: عندما يريد الرجل أن
يكون له ولد نجيب أو شجاع، يطلب من زوجته أن تذهب إلى
من اشتهرت عنه هذه الصفة (النباهة – الفحولة – جمال
الجسم … إلخ) لتستبضع منه، فإذا ولدَت نُسب الولد إلى
زوجها، وهي عادة عُرفت أيضًا في إسبرطة، حيث كان
مشرِّعهم الأكبر ليكورجوس
Lycurgus يسخر من
الغَيرة ومن احتكار الأزواج لزوجاتهم، ويقول: «إن من
أسخف الأشياء أن يُعنى الناس بكلابهم وخيلهم، فيبذلون
جهدهم ومالهم ليحصلوا منها على سلالةٍ جيدة، ثم نراهم
يُبقُون زوجاتهم في معزلٍ ليختصوا بهن»!
وقل مثل ذلك في «المخادنة»، وقد ذهب الجغرافي الشهير
… «سترابو»
Strabon إلى
أن هذا النوع من النكاح كان يجري عند العرب في الجاهلية
بين الإخوة: «يشتركون في المال وفي المرأة، فلهم زوجة
واحدة، فإذا أراد أحدهم الاتصال بها وضع عصاه على باب
الخيمة، لتكون علامة على أن أحدهم بالداخل، وأما في
الليل فتكون من نصيب الأخ الأكبر.»
٤
وباختصارٍ، فإننا نستطيع أن نقول مع سيمون دي بفوار:
«إن اضطهاد المرأة يرجع إلى الرغبة في تخليد الأسرة،
والمحافظة على الملكية الخاصة. وبمقدار ما تتحرر المرأة
من الأسرة فإنها تُحرَّر من التبعية، فإذا حرَّم مجتمعٌ
ما الملكية الخاصة … فإن وضع المرأة يتحسن تحسنًا
كبيرًا …»
٥
لكن الغريب حقًّا ألَّا تستطيع الأديان — رغم سماحتها
وتقديرها للمرأة كموجودٍ بشري — أن تتغلب على هذه
الظاهرة: طغيان الرجل وسيطرته، بل وملكيته للمرأة.
٦ وهكذا يضيع إنصافها للمرأة وسط خضَمِّ
العادات والتقاليد الذي تتوارى معه الأفكار الإنسانية
الجديدة، لتعاود أفكار التراث القديم الظهور مرة
أخرى.
وفي هذا الكتاب مثالٌ جيد لما نقول: فالتراث القديم
الذي كان سائدًا فيما قبل ظهور المسيحية — وهو التراث
«اليوناني-الروماني» من ناحية، واليهودي من ناحيةٍ أخرى
— يحجب أفكار السيد المسيح الجديدة عن المرأة، حتى إن
بولس الرسول اليهودي الذي عاش في بيئةٍ يونانية-رومانية
يأتي ليدعم التراث القديم، ويثبِّت أفكاره، ويضع حجر
الأساس في بناء النظرية المسيحية عن المرأة التي سادت
عصر الآباء الفلاسفة، كما رددها فلاسفة العصر الوسيط
أيضًا!
وسوف نلاحظ طوال هذا البحث أن نظرة اللاهوتيين
والفلاسفة المسيحيين — كعادة رجال الدين دائمًا — تركز
على «الجنس»؛ فالمرأة لا هي إنسانة، ولا صديقة، ولا
زميلة … إلخ، ولكنها مجرد «وعاء للتناسل» كما سيقول
القديس «أوغسطين» الذي مارس الزنى مع كثيرٍ من الغواني
في شبابه، حتى اختص نفسه في النهاية «بغانية» أنجب منها
ابنًا سماه «ابن خطيئتي»! ثم ندم على حياته الماضية
ندمًا شديدًا حتى وَدَّ لو كان «خَصيًّا»! يقول: «… آه!
لو أني ارتضيت أن أكون خَصيًّا — حبًّا في مملكة السماء
— لكنت الآن أوفر سعادة»!
أما أورجين السكندري
Orgien (١٨٥–٢٥٤م)،
فقد نفَّذ هذه الأمنية بالفعل عندما نذر نفسه للعفة
الدائمة؛ فقام ببتر أعضائه الجنسية فخصى نفسه! لأنه لم
يكن جامدًا بليدَ الإحساس بحيث يصمد أمام مغريات الجسد
على حد تعبيره …!
٧
وسوف يلاحظ القارئ طوال هذا البحث أمرين: كراهية
الجسد، وهي التي كانت فلسفية عند أفلاطون، وقد أصبحت
دينية عند الفيلسوف المسيحي، كما لو كان الجسد شيئًا
منفصلًا عن الإنسان! وهو موضوع فصَّلت فيه الفلسفة
الوجودية المعاصرة، وأجادت لفت الأنظار إلى أهميته.
والأمر الثاني هو: الماضي «الملوَّث» لكثيرٍ من
القديسين الذين تركوا الحبل «على الغارب» في فترة
الشباب، ثم عادوا في شيخوختهم إلى الندم والبحث عن «كبش
فداء» يُلقُون عليه باللائمة، فتكون «المرأة»: تلك
الشيطانة الجميلة التي دعتني فلبَّيت!
ومنهم من واصل النزوات حتى قام أهل الفتاة بقطع
أعضائه الجنسية وهو نائم! على نحو ما حدث للفيلسوف
اللاهوتي الفرنسي بطرس أبيلارد P.
Abelard (١٠٧٩–١١٤٢م) الذي كان
أعظم أستاذ للاهوت في عصره، وأعظم بطل للحب أيضًا …!
فقد أحب تلميذته الصغيرة «هلويز»
Heloise وكان ذلك
عام ١١١٨م وهو في سن التاسعة والثلاثين، وكانت هي في
السابعة عشرة من عمرها (ولدت عام ١١٠١م، وتوفيت سنة
١١٦٤م)، وكانت بنت أخي فولبرت
Fulbert كاهن كنيسة
نوتردام، وكانت العَلاقة في البداية سرية … إلى أن حملت
الفتاة، ثم ولدت ابنًا سُمي «أسترولاب»
Astrolabe، عندئذٍ
قرر العم الانتقام من أبيلارد، فكانت المؤامرة وهو
نائم! فقرر «أبيلارد» الاعتزال في «دير سان دني»
Saint-Denis في
ضواحي باريس، واندرجت حبيبته «هلويز» في دير «أرجنتي»
Argentenil …!
وسوف يجد القارئ أمثلة كثيرة يمكن أن تفسر الكراهية
«غير العادية» للجنس بردها إلى عوامل نفسية وشخصية قد
تجد تأويلاتها عند «فرويد» S.
Freud (١٨٥٦–١٩٣٩م)
ومدرسته!
وإني لآمل أن أكون بهذه السلسلة عمومًا، وهذا الكتاب
على وجه الخصوص، قد أسهمت مساهمةً متواضعة في تحرير
«الجنس الآخر»، وفي تشغيل «الرئة المعطلة»، حتى تتنفس
كبقية خلق الله من الرجال …
والله نسأل أن يهدينا جميعًا سبيل الرشاد …
الكويت في يونيو ١٩٩٥م
إمام عبد الفتاح إمام