ما قبل ظهور المسيحية
«ليس للنساء ولاية الأعمال … بل لا بد من جعلهن تحت الوصاية، حتى إن بلغن سن الأهلية، لطيشان عقولهن …»
«من ذا الذي يستطيع أن يعثر على امرأةٍ فاضلة؟ إن ثمنها يفوق ثمن اللآلئ والياقوت …!»
تمهيد
(تلك التي سبق أن عرضنا لها في شيءٍ من التفصيل في العدد السابق من هذه السلسلة) وحاولوا من خلال أرسطو تحديد العَلاقة بين كلٍّ من الذكر والأنثى تحديدًا هيراركيًّا تصاعديًّا، بحيث يكون الذكر هو الأعلى؛ لأنه: الصورة، والماهية، والفكر، والعقل، في حين أن الأنثى هي: المادة، والجسد، والانفعال، والعاطفة.
ولقد سبق أن رأينا كيف أن الجنين عند أرسطو يتخلق من الحيوانات المنوية للذكر وحده، فهو العامل الفعال والمؤثر في التلقيح، ولا يتعدى دور المرأة تقديم المادة المتمثلة في دماء الطمث، وضم الجنين إلى رحمها، وإمداده بالغذاء: كالدم، وبقية العناصر المفيدة للجسم. ولما كان الذكر هو الأساس في عملية التكوين، فإن الأصل في الجنين أن يكون ذكرًا لكنه يتحول إلى أنثى إذا ما طغت المواد الأنثوية السفلية على المواد العلوية التي يقذفها الذكر، وهكذا تكون الأنثى ذكرًا ناقص التكوين … ولقد أفاض القديس توما الأكويني في شرح هذه الفكرة الأرسطية على نحو ما سنعرف خلال هذا البحث.
على أن أهم ما أضافته المسيحية (ولا سيما مسيحية بولس) لإعلاء قيمة الذكور والغض من مكانة الإناث هي حقيقة التثليث والخلاص: فالمخلِّص المنقذ للبشرية هو ابن الرب، الذي جاد بنفسه على الصليب لينتزع العالم من براثن الشرور التي أوقعته فيها خطيئة البشر الأزلية، بعد أن عصت المرأة (حواء) أوامر الرب، وأغوت الرجل (آدم) على التمرد، مستجيبة ومستسلمة للشيطان (الحية).
ومن الطبيعي أن تكون النتيجة المباشرة لتلك العقيدة هي: إعلاء مكانة الرجل المسكين الذي أضلته الأنثى! أما منزلة المرأة فقد ازدادت انحطاطًا عما كانت عليه من قبل!
القسم الأول: الخلفية المدنية الرومانية:
- الأولى: المواطنين الرومان الأحرار، وهم أصحاب الحقوق والامتيازات الكاملة.
- الثانية: الأجانب، وهم رعايا بغير حقوق ولا امتيازات.
- الثالثة: العبيد الذين يُنظر إليهم على أنهم ملكية خاصة لسادتهم.
أولًا: المرأة في روما القديمة:
وسوف نسوق كلمةً عن كل طبقة.
(أ) المواطنة الرومانية الحرة
(١) ليس للنساء ولاية الأعمال العامة.
(٣) رأى القدماء جعل النساء تحت الوصاية، ولو بلغن سن الأهلية، لطيشان عقولهن.
(١١) على النساء الخضوع لأزواجهن.
(١٢) على المرأة أن تتبع زوجها ما لم يكن أفَّاقًا.
(١٤) الرجال قوَّامون على نسائهم.
(١٦) المرأة دون الرجل في كثيرٍ من أحكام القوانين.
(١٧) تجوز المقايضة على المهر أثناء قيام الزوجية متى كان هذا في صالح المرأة.
(١٨) من صالح الجمهورية احتفاظ النساء بمهورهن؛ ليكون ذلك عونًا لهن على التزوج مرة أخرى.
ومن هذه القصة نتبين أن كورنيليا تزوجت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها، أي مجرد طفلة لا تعي شيئًا، فليس غريبًا إذن أن يذهب المشرِّع إلى طيشان العقل أو خفته عند النساء! بل ربما تحدد مصير الفتاة وهي لا تزال في المهد، عندما كانت تُعقد اتفاقات الزواج بين الآباء الذين يرغبون في توسيع رقعة تحالفهم، أو في تأمين الدعم المطلوب لعملهم أو وظائفهم.
ولعل نظام الوصاية يوضح أيضًا وضع المرأة التي كانت تخضع لعبودية الرجل، وهي فتاة في منزل والدها، ثم لعبودية الرجل، وهي زوجة في منزل زوجها: فهي هنا تصبح بمثابة بنت من بناته، فتنقطع عَلاقاتها بأسرتها انقطاعًا تامًّا، ويحل زوجها محل أبيها.
ومع اعترافنا بذلك كله إلا أن الزوجة الرومانية كانت أيضًا تخضع خضوعًا كاملًا لسيطرة زوجها، وإن بدأت هذه السيطرة تضعف بالتدريج نتيجة لعوامل متعددة ومؤثرات كثيرة سوف نتحدث عن بعضها بعد قليل، فالفكر الروماني يجعل من الأب مُستبدًّا له سلطة الحياة والموت على أولاده الذين لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا دون موافقته، وتلك هي الحال أيضًا بالنسبة للأطفال الذكور، حتى بعد أن يبلغوا سن النضج. ولقد كانت النساء عند الرومان القدامى — بصفةٍ عامة — أطفالًا يحتجن طوال حياتهن إلى توجيهٍ، ورعاية، وحماية، ويستحيل أن يتحررن من قبضة الرجل المستبد.
وكثيرًا ما كانت الفتاة تفضل الزواج بوضع اليد الذي تنتقل فيه من سلطة والدها إلى يد زوجها، وفي هذه الحالة كانت تشغل نفس المنزلة التي تشغلها ابنة الزوج، أعني: أن تصبح خاضعة للزوج وتحت رحمته.
- أولًا: تشير السجلات الرومانية إلى
أنه كان من الخطأ أن يستهين الرجال
بمشاعر النساء الرومانيات، فقد
أثبتن أن لهن شخصية قادرة على
اتخاذ القرار وتنفيذه كالرجال سواء
بسواء، وفي استطاعتهن الإقدام على
خطواتٍ هامة وجريئة دون الاكتراث
بالنتائج، في محاولةٍ للبرهنة على
أنهن إذا ما عوملن برقة، وبألفاظٍ
مهذبة كن أفضل الزوجات.
أما إذا استخدم الأزواج سلطانهم التقليدي، واندفعوا بحماقةٍ نحو السيطرة الكاملة عليهن، فإن النساء قد تقاوم بل وتتحدى في شجاعةٍ وإقدام. ولعل القصة الآتية تكون أبلغ رد على كل من يتساءل: لماذا لم نسمع عن محاولةٍ للرد من النساء؟ ولماذا استسلمن في خشوعٍ وجبن حتى ظهر من الرجال من يدعو إلى تحريرهن؟ ولماذا لم نسمع عن ثورة النساء في روما كما سمعنا عن ثورة العبيد؟ لماذا لا تحاول المرأة النهوض للدفاع عن كرامتها وعن حقوقها؟ ويجيب التاريخ الروماني عن هذه الأسئلة عندما يلقي الضوء على هذا الجانب من شخصية المرأة مبينًا أنها كثيرًا ما تلجأ إلى الانتقام العنيف عندما يتمادى الأزواج في سيطرتهم واستبدادهم وغطرستهم، وإليك هذه القصة:١٨
في عام (٣٣١ق.م.) انتشر في روما مرضٌ غريب لم يسمع عنه أحدٌ من قبل، وقد هاجم هذا المرض مجموعةً كبيرة من المواطنين، من بينهم عدد كبير من النبلاء والأشراف الرومان، وكانت أعراض المرض المجهول واحدة عند الجميع تقريبًا، كما كانت النتيجة واحدة أيضًا: الموت، ومن ثَم هلاك الجميع! وأحاط الغموض بهذه القضية التي تحدثت عنها روما كلها، وظل فترةً طويلة سرًّا مجهولًا لا يعرفه أحد، إلى أن ذهبت خادمة إلى الشرطة الرومانية ذات صباح، وقالت إنها تستطيع أن تفسر أصل هذا المرض المنتشر، فهي تعرف أسبابه، لكنها لن تفعل ذلك ما لم يضمن لها أولو الأمر الحماية الضرورية، ويضمنوا أنها لن تعاني ألمًا أو ضربًا أو تعذيبًا نتيجة إفشاء السر، ولما عُرض الأمر على القنصل، ومستشار مجلس الشيوخ، أصدر المجلس قرارًا بحماية الخادمة، عندئذٍ كشفت الخادمة عن سر هذا الوباء الذي اجتاح روما وهو: أن الزوجات في لحظة تمرد ضد أزواجهن مزجن الخمر بنوعٍ معين من أنواع السموم وهذا هو السبب في هذه النسبة العالية من الوفَيَات؛ إنها نتيجة التسمم، واستطاعت الخادمة أن تصحب معها بعض المسئولين ليذهبوا خلسة لرؤية إحدى ربات البيوت وهي تقوم بعملية مزج الخمر بالسموم، واستطاعت هذه اللجنة أن تكشف أمر أكثر من عشرين سيدة من ربات البيوت تقوم بتحضير هذا السائل الغريب. ومن الطريف أن الزوجات بعد أن افتضح أمرهن، تداولن الأمر فيما بينهن، وتقدمْنَ في جرأةٍ وثبات وتجرَّعن كَمياتٍ كبيرة من هذا السم أودت بحياتهن في الحال! وبعد ذلك عقد مجلس الشيوخ «جلسة» يبحث هذا الموضوع على نطاقٍ واسع، وكان من نتيجة ذلك أن اكتشف أن هناك أكثر من ١٧٠ سيدة مذنبة!
الغريب أن الرجال فسروا هذه الحادثة على أنها ضربٌ من الجنون والخبل النسائي، وإن كان من المؤكد أنهم على علمٍ تام بالأسباب التي جعلت النساء تلجأ إلى مثل هذه الإجراءات العنيفة. والخلاصة: أن الزوجات الرومانيات لم يستسلمن أو يخضعن لطغيان الأزواج بلا مقاومة، أو دون أن يبذلن الجهد لوضع نهاية لهذا الطغيان بطريقةٍ أو بأخرى.١٩ - ثانيًا: من ناحيةٍ أخرى فقد وقعت حادثة مشابهة عام ١٨٠ق.م. لكن الطاعون — في هذه المرة — كان حقيقيًّا، واستمر ثلاث سنوات يهدد إيطاليا كلها. وكان الخلاف قد نشب بين الرجال والنساء فيما يتعلق بالأسرار الباخوسية؛٢٠ إذ اتخذ الرجال ضدهن إجراءات مشددة عندما حل الطاعون بالبلاد، فشعرت النساء كما لو أن انتشار المرض قد أتاح لهن الفرصة المناسبة لاستخدام السم، ويرى ليفي Livy «المؤرخ» أنه في هذا العام مات البريطور Praetor،٢١ والقنصل Consul،٢٢ وعدد كبير آخر من رجالات روما البارزين، وعُيِّن أحد القضاة للبحث في أسباب هذه الوفَيَات، وبصفةٍ خاصة: لدراسة حالات التسمم، ولا يروي المؤرخون ما أسفرت عنه هذه التحقيقات، لكن ما نعرفه هو أن زوجة القنصل تمت محاكمتها وأُدينت، وحُكم عليها بالموت.
- ثالثًا: بعد هذه الحادثة بست وثلاثين
سنة قُتل شخصان في مرتبة القنصل
بطريقةٍ واحدة، وهي نفس الطريقة
السابقة (أعني أن تضع الزوجة السم
لزوجها في الشراب)، حتى لقد أصبح
السم في عصورٍ تالية أمرًا شائعًا،
ولا سيما في السنوات الأولى من
الإمبراطورية الرومانية، واتُّهمت
فيها ربات البيوت، ومن الطريف أن
النساء أعلنَّ أمام المحكمة أنهن
سيواصلْنَ دس السم للرجال للتخلص
منهم، سواء أكانوا أزواجًا أو
أبناء، أو حتى من يرتبط بهم من
الرجال، بمن فيهم الأجانب
أيضًا.
وسواء أكانت هذه القصص حقيقية أم من نسج الخيال، فإن الأمر المهم حقًّا هو أن الرومان كانوا يعتقدون بصحتها، ويجسدون «بروايتها» الإيمان الروماني بما تستطيع المرأة أن تفعله، أو ما نسميه نحن الآن «كيد النساء»، ولكنها على كل حال بالنسبة لنا مجرد إشاراتٍ إلى ما كانت تشعر به ربة المنزل الرومانية في كثيرٍ من الأحيان نحو أولئك الذين كانوا يعاملونها معاملةً سيئة، وهي دعوة إلى التمرد، فلا ينبغي عليهن تحمل هذه المعاملة السيئة، وعليهن المقاومة، والانتقام بشتى السبل، بما في ذلك: دس السم!
(ب) المرأة الأجنبية
إذا كانت روما قد اهتمت بالمرأة الرومانية، وأولت رعاية خاصة لطهارتها وعفتها، حتى تنجب ذرية رومانية ترث ما للرجل الروماني من ممتلكات بالمعنى الواسع للكلمة الذي يشمل الأرض والمال والعقار، كما يشمل الامتيازات والحقوق السياسية التي لا تُمنح لأحدٍ غيره، وجعلت هدف الزواج نفسه إنتاج «جنس من المواطنين» ينتمي فيه الأب والأم إلى فئة «المواطن الروماني» صاحب الحقوق والامتيازات؛ فإنها لم تكن تهتم أدنى اهتمام بسلوك الرجل الروماني، فهو من حقه أن يمارس الجنس مع المرأة الأجنبية (وكذلك الجارية)، لكن ذريته من هذه المرأة غير معترف بها، فهي لا ترث شيئًا لأنها لا تُعَد من المواطنين الرومانيين، ومن ثم فإن الدولة لا تكترث على الإطلاق بالعَلاقات التي تنشأ بين المواطن الروماني والنساء الأجنبيات أو الجواري، كما أن المجتمع بدوره لا يقيم لها وزنًا.
(ج) الجارية
ثانيًا: الرجل
- الأولى: تدور حول فتاةٍ تدعى «هوراشيا» Horatia، كانت مخطوبة لشابٍّ من عائلة كيرياتي Curiatii، ثم وقع شجارٌ وصراع بين أشقائها وبين الكيرياتيين، فقتل الأشقاء ثلاثة منهم — كان بينهم خطيب هوراشيا — كما قُتل في المعركة اثنان من أشقاء الفتاة. وحزنت هوراشيا حزنًا شديدًا على مصرع خطيبها، غير أن شقيقَي الفتاة اللذين ظلا على قيد الحياة ضايقهما أشدَّ الضيق حزنُ الفتاة على خطيبها، فقام أحدهما بطعنها بخنجرٍ وهو يقول: «هكذا لا بد أن تموت كل امرأةٍ رومانية تحزن على عدو». وعلى الرغم من أن هذا الشقيق أُجبر على تقديم كفارة يعبر بها عن ندمه على سلوكه الطائش، إلا أن الأب عبَّر عن رضاه التام عن سلوك ابنه مؤكدًا أنه لو لم يكن ابنه قد أقدم على قتلها لقتلها هو بنفسه بالسلطة المخولة له (بوصفه والدها)!٣٣
- الثانية: أما القصة الثانية فتقول:
كان أبيوس كلوديوس
Appius
Claudius واحدًا
من نبلاء روما الذين تصدروا الحملة
لإصدار قانون يحرم زواج النبلاء من
العامة، لكن ما كاد القانون يصدر
حتى وقع هو نفسه في غرام فتاة
جميلة من العامة اسمها فرجينيا
Verginia،
وحاول أن يجعل منها عشيقة له حتى
لا ينتهك القانون، لكن الفتاة رفضت
في البداية، وبذل والدها جهودًا
شتى ليمنع سقوط ابنته في حبائل
أبيوس، غير أن فتاة صغيرة وفقيرة
لم تكن قادرة على حماية نفسها
طويلًا من نبيلٍ عظيم مثل أبيوس،
ومن ثم فقد خشي الوالد سقوطها في
براثنه، وحلًّا للمشكلة لم يجد
والدها أمامه سوى أن يذبحها معلنًا
أنه إذا كانت ابنته لن تستطيع
الحياة بشرفها فإنه يقتلها لكي
يقدم لها، على أقل تقدير، ميتة
شريفة، رغم أنها مؤسفة.٣٤وأثار الحادث ضجةً كبرى في البلاد أدت إلى إلغاء القانون الذي يجرم زواج النبلاء والأشراف من عامة الشعب. وهكذا يصدُق ما قاله بلوتارك من أن المرأة الرومانية لم يكن لها ملجأ تأوي إليه سوى الرجل، وهو في النهاية صاحب التصرف في أمرها: زوجًا أو أبًا٣٥
القسم الثاني: الخلفية الدينية اليهودية
منذ العدد الأول من هذه السلسلة — أعني «أفلاطون … والمرأة» ونحن نحاول إبراز أهمية العامل الاقتصادي — الثروة أو الملكية الخاصة — في تحديد وضع المرأة في المجتمع، فكلما هيمن الرجل على الثروة وأصبحت له، ساد النظام الأبوي، ونشأت الأسرة البطريركية، وانحدر النسب عن طريق الأب، وتمتع هذا الأخير بسلطة كبيرة داخل الأسرة، وتركزت أنظاره على الوعاء الذي ينجب الذرية، وحاول عزله بعيدًا في مكان مظلم من الدار، حتى لا يراه أحد، ويظل نقيًّا فلا ينجب نسلًا تخالطه دماء غريبة.
ولقد كانت الحال على هذا النحو عند بني إسرائيل، فلم تخرج أنظمتهم عن الأنظمة السائدة لدى قبائل الرعي، وفي مقدمتها: النظام الأبوي؛ فالولد يُنسب إلى أبيه ويلتحق بعشيرة الأب، وهكذا استأثر الرجال من بني إسرائيل بحق الانتساب إلى اليهودية، فهم وحدهم اليهود. أما النساء فهن بنات اليهود أي «تابعات لهم» رغم أن اليهودي هو المولود من أمٍّ يهودية؛ ولهذا يحتفي القوم لبلوغ أولادهم — دون فتياتهم — سن الحُلُم، وينظمون بهذه المناسبة احتفالًا دينيًّا هامًّا.
ويحرم على الرجال التشبه بالنساء في الملبس والمسلك، والعكس صحيحٌ أيضًا، جاء في سِفر التثنية: «لا يكون متاع رجل على امرأة، ولا يلبس رجل ثوب امرأة؛ لأن كل من يعمل ذلك مكروه لدى الرب إلهك» (الإصحاح الثاني والعشرون: ٥).
وكانت الزوجة الفاضلة عند اليهود قريبة الشبه من ربة الدار عند أرسطو: فالزوجة الكاملة هي المسئولة عن رخاء الأسرة، وهي المسئولة عن حاجاتها المباشرة. وفضلًا عن ذلك، فإنه من الحكمة ألا تشارك الزوجة الفاضلة في حياة المجتمع العقلية والرُّوحية.
وتعبِّر أغاني الزواج عن هذه الفكرة نفسها — وهي الأغاني المعروفة باسم أناشيد أو أغاني سليمان أو «نشيد الأنشاد» — التي كُتبت تقريبًا في القرن التاسع قبل الميلاد، ففي الإصحاح الحادي والثلاثين يتساءل المؤلف: «من ذا الذي يستطيع أن يعثر على امرأةٍ فاضلة؟ إن ثمنها يفوق ثمن اللآلئ والياقوت» (سِفر الأمثال، إصحاح ٣١: ١٠)، ثم يستمر ليضع مواصفات الزوجة الفاضلة النادرة: «التي يثق فيها قلب زوجها بأمان، فلا يحتاج إلى أسلاب وغنائم. تصنع له الخير، ولا تصنع له الشر طوال حياتها. تطلب الصوف والكتان، وتشتغل بيدين راضيتين. سراجها لا ينطفئ طوال الليل تمد يديها إلى المِغزل، وتمسك كفاها بفَلْكة المِغزل» (أمثال ٣١: ١١–١٩).
ويقول صاحب سِفر الجامعة: «وجدت أمرَّ من الموت: المرأة، التي هي شباك، وقلبها شِراك، ويداها قيود. الصالح قدام الله ينجو منها، أما الخاطئ فيؤخذ بها …» (الإصحاح السابع: ٢٦).
والواقع أن الكتاب المقدس في عهده القديم يحوي أمورًا كثيرة تهز مشاعر المرأة الحديثة التي اعتادت أن تظن نفسها — إلى حدٍّ ما — شخصية مستقلة قائمة بذاتها؛ إذ فيه تظهر النساء مستعبدات بوصفهن موجودات دنيا. وعلى الرغم من أن الزوجة اليهودية لم تكن في مستوى الرقيق فإن وضعها المتدني كان يحتم عليها أن تخاطب زوجها كما يخاطب العبد سيده أو الرعيَّةُ مَلِيكها. بل إن الشريعة اليهودية ضيقت الخناق حول المرأة لإذلالها وإبقائها قاعدة في قعر بيتها، فأكرهتها على إجابة دعوة زوجها إلى فراشه حتى ولو لم يكن لديها ميل لذلك، فإذا ما أعرضت عن فراشه، أو رفضت العمل في خدمته أو في داره، عُدَّت ناشزًا ويطبَّق عليها أحكام المرأة الناشز.
وفرضت الشريعة اليهودية على الزوجة أن تغطي شعرها علامة على ملكية الزوج لها وعلى خضوعها وانقيادها وانكسار شوكتها، وذهب بعضهم إلى حد إرغامها على ستر جسدها كله بملاءةٍ عدا ثقبًا واحدًا تنظر من خلاله لترى الطريق.
كما استحدث اليهود الحجاب الساتر في المعابد للفصل بين الرجال والنساء، وحرموا مصافحتهن، وجعلوا لهن مدخلًا خاصًّا إلى المعبد، وألزموهن الصمت في دور العبادة توقيرًا لجماعة الرجال — على أساس أن صوت المرأة عورة — كما منعوهن من ارتقاء المنصة خلال الصلاة لتلاوة التوراة بصوتٍ مرتفع. وتعلَّلوا لحجب النساء بأن شعر المرأة مدعاة للفتنة، ومصدر للغواية؛ لأن النساء مواضع قضاء شهوة الرجال وهن ضعيفات الحول لا يسلمن من الطيش، وخفة العقل، وهن مائلات بفطرتهن إلى الشر!
ولإحكام السيطرة على النساء وضمان مسلكهن وضعتْهُنَّ الشريعة اليهودية تحت ولاية الذكور من أهلهن: فالفتاة في مطلع حياتها ملك أبيها، يحق له إنكاحها لمن شاء لقاء أن يقوم العريس بخدمته، وقد خدم يعقوب عند خاله «لابان» سبع سنوات ليتزوج من ابنته الكبرى ليئة (رغم أنه كان يحب الصغرى) ثم سبع سنوات أخرى ليتزوج من حبيبة قلبه راحيل (تكوين ١٩: ١٥–٢٠). وللأب أن يزوج ابنته لمن يشاء ولأي رجل، ربما مكافأة له على بسالته وجرأته «مَن يَضرب قريةَ سَفَر ويأخذُها أُعطيه عَكْسةَ ابنتي امرأةً» (يشوع ١٥: ١٦)، دون أن يكون على الأب في جميع الحالات أن يعرف رأي الفتاة، وللأب أيضًا أن يهبها لمن يشاء أو يبيعها أَمة، لكن «إذا باع رجلٌ ابنته أَمة، فلا تخرج كما يخرج العبيد» (خروج ٢١: ٧)، وإذا كان يمكن للأب أن يبيع ابنته كما جاء في سِفر الخروج، فإن عليه أن يهتم «بالبكارة» لأن ثمن البكر ضِعف ثمن الثيب. ومن هنا فقد حرص اليهود حرصًا تامًّا على عذرية بناتهم، واشتدوا في معاقبة زنى النساء دون الرجال، فالمرأة هي موضع التعاقد في النكاح وليس أحد طرفيه، حتى إذا انتقلت إلى دار زوجها آلت ولايتها إليه، وصارت في عداد ممتلكاته: كالدار، والعبد، والمال.
وكما كان اليونان — والرومان من بعدهم — ينظرون إلى المرأة على أنها ملكية خاصة للرجل، فقد نظر اليهود إلى المرأة على أنها جزءٌ من ممتلكات الرجل، ومن هنا فإننا نجد زوجة الرجل اليهودي تُصنَّف في الوصايا العشر بين ممتلكاته: «لا تشته بيت قريبك، ولا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئًا مما لقريبك» (سِفر الخروج: ١١٧).
وفي تثنية الاشتراع: «لا تشته امرأة قريبك، ولا تشته بيت قريبك، ولا حقله، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا كلَّ ما لقريبك» (إصحاح ٥: ٢١).
وعلى حين أن من حق زوجها أن يطلقها — لأن ذلك امتياز للزوج وحده — كما أن من حقه أن يرفض الاعتراف بها إذا كانت مقترفةً إثمًا، فله أن يفارقها في أي وقت يشاء وبدون إبداء الأسباب. وله أن يطردها من بيته؛ لأن الدار داره وهي مملوكة له في هذا البيت، فليس للزوجة أيٌّ من هذه الحقوق، فهي لا تستطيع أن ترفض الطلاق. وإذا انحرف سلوك الزوجة، أو أتت ما يَشين، فإنها تُعاقَب بقسوة، في حين أن خيانة الزوج، أو عدم إخلاص الرجل بصفةٍ عامة، يعاقب عليه إذا كان يعني انتهاكًا لحقوق رجلٍ آخر: كأن يمارس الزنى مع امرأةٍ متزوجة، أو يتخذ منها خليلة.
وفي استطاعة الرجل أن يبيع ابنته — كما سبق أن ذكرنا — كما يبيع عبيده سواء بسواء، وإذا لم ينجب الزوجان أطفالًا فإن المسئولية في هذه الحالة تقع على عاتق الزوجة، إذ لا بد أن يكون بها عيب ما، وباختصار: في استطاعتنا أن نقول إن نساء العِبرانيين كن محترمات كأمهات، وفي هذه الحالة يعامَلن معاملةً رقيقة في الأعم الأغلب، ومع ذلك فإن وضع المرأة بصفةٍ عامة من الناحية الاجتماعية والقانونية كان وضعًا مُهينًا، فهي لا استقلال لها على الإطلاق، بل هي تابعة للرجل. ومن هنا فإن الرجل اليهودي يصلي لله — كما سبق أن ذكرنا — ويشكره لأنه خلقه رجلًا وليس امرأة.
•••
تلك كانت الأرض التي عملت عليها المسيحية عند ظهورها: التراث الروماني الذي هو استمرار للتراث اليوناني والذي يحمل نفس الكراهية للمرأة من ناحية، والتراث اليهودي الذي يضفي على هذه النظرة صبغة دينية من ناحيةٍ أخرى. وهما نظرتان تعبران في الواقع عن منفعة الرجل، ومصلحته، وتَطلُّعه للسيطرة على المرأة — ولا سيما زوجته — حتى يضمن سلالةً نقية ليس فيها دماء غريبة ترث ما يملك من ثروة.
ومن العجيب حقًّا أن يطغى هذا التراث الروماني-اليهودي على الفكر المسيحي ويسيطر عليه، حتى تختفي مواقف السيد المسيح تمامًا، وتعود النظرة الدونية للمرأة للظهور من جديد، ابتداءً من أقوال القديس بولس، حتى يقوم فلاسفة المسيحية بتنظيرها والبرهنة على صحتها، مستخدمين «العقل» ومستعينين بآيات الكتاب المقدس، ولا سيما العهد القديم، دون أن يذكر أحد مواقف السيد المسيح، وكلماته، ونظرته الجديدة المنصفة للمرأة، وهي التي كان يمكن — كما قال أحد الباحثين — أن تُحدِث ثورة في وضع المرأة!