الفصل الثالث

عصر الآباء الفلاسفة

«لا شيء مخزٍ، أو شائن، عند الرجل الذي وهبه الله العقل، لكن المسألة ليست على هذا النحو بالنسبة للمرأة التي تجلب الخزي والعار، حتى عندما تفكر في طبيعتها، وماذا عساها أن تكون.»

كلِمِنت السكندري

«أنتِ بوابة الشيطان … أكلتِ من الشجرة المحرمة، وأغريتِ الرجل الذي لم يستطع الشيطان نفسه غوايته على نحوٍ مباشر … أنتِ، أيتها المرأة حطمتِ بسهولةٍ صورةَ الله التي هي الرجل.»

تِرتُوليان

«جسد الأنثى ليس شيئًا جذابًا، بل هو موضوع قذر، وإنجاب الأطفال ليس مدعاة للبهجة والفرح، بل هو علامة على الانهيار والتدهور.»

القديس جيروم

«إن جمال المرأة لهو الشرك الأعظم! ابتعد عن الفتاة الشابة مثلما تبتعد عن النار.»

القديس يوحنا فم الذهب

تمهيد

على الرغم من أن المسيحية لم تأت إلى العالم — في بدايتها — كمذهبٍ نظري أو فلسفة مجردة، بل كديانةٍ منزَّلة قدمها المسيح على أنها ديانة فداء وخلاص ومحبة، وبعث رسله ليعظوا الناس بالخلاص لا ليشغلوا كراسيَّ أساتذة الفلسفة في الجامعات المختلفة. رغم ذلك كله فقد كان عليها أن تشكل لنفسها مجموعةً من الأفكار النظرية لترد على الفلسفات، والمذاهب، والمدارس القديمة، ولا سيما اليونانية.

وصحيحٌ أيضًا أن الرسل والحَواريين أرادوا هداية العالم، وتحويله إلى الديانة المسيحية، وتمهيد «الطريق» أمام الناس للوصول إلى الله، وليجتازوه عمليًّا وليس نظريًّا، فإنه كان عليهم — رغم ذلك — أن يدخلوا في معارك لاهوتية مع اليهود، وفلسفتهم، ومع غيرهم، بل ربما اضطُروا في بعض الأحيان إلى الدخول في مواجهةٍ مع فلاسفة اليونان بالمعنى الأكاديمي لهذا اللفظ. ولقد عبر القديس بولس عن أول مواجهةٍ مع اليهود واليونانيين معًا بقوله: «لأن اليهود يسألون آية، واليونانيين يطلبون حكمة، ولكننا نحن نَكرِز بالمسيح مصلوبًا: لليهود عثرة ولليونانيين جهالة»،١ ثم توالت المعارك.
لقد كانت المسيحية تمد جذورها، وتثبت أقدامها وسط جو من الشك والريبة، بل والعداء أيضًا، لا من اليهود فحسب، بل من السلطات السياسية الرومانية أيضًا، ومن المفكرين والمثقفين الوثنيين كذلك، وتعددت أسباب الهجمات التي شُنَّت على الديانة الوليدة، فبعضها كان نتيجة الشك والريبة — كما قلنا، وبعضها جاء من الخوف من المجهول، وبعضها الثالث من سوء الظن بالدين الجديد. وكان على المسيحية أن تواجه هذه الهجمات إذا أرادت أن تبقى، كما كان عليها أن تستخدم الحجج اللاهوتية والفلسفية في آنٍ واحد، ومن هنا جاءت العناصر الفلسفية في كتابات الآباء الأُول في المسيحية وتسميتهم بالفلاسفة.٢
وهكذا ظهر جيلٌ من المفكرين الأوائل شكلوا ما سمي باسم عصر الآباء الفلاسفة … Patristic Philosophers Period الذي امتد من القرن الأول حتى وصل إلى قمته في القرن الرابع عند القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) St. Augustine الذي يختم عصر الآباء، حيث تبدأ أوروبا بعده في الدخول إلى العصور الوسطى، من القرن الرابع حتى القرن الرابع عشر.٣
والخلاصة أن ظهور الآراء الفلسفية المسيحية كان يرجع في بدايته إلى عناصر خارج المسيحية، هي على وجه التحديد الهجمات المعادية، وهناك — بالطبع — إلى جانب ذلك عنصر مسيحي مستقل عن الهجمات الخارجية وهو شعور المثقفين، والمفكرين المسيحيين، برغبةٍ قوية في النفاذ إلى معطيات الوحي، وتشكيل وجهة نظر شاملة عن العالم والحياة البشرية، على ضوء الإيمان الجديد،٤ بما في ذلك سلوك الإنسان في حياته اليومية وعَلاقته مع الآخرين، ثم عَلاقة الرجل بالمرأة. ومن هنا بدأت النظرة الفلسفية المسيحية عن المرأة تتشكل منذ عصر الآباء؛ فماذا قالوا عن المرأة؟ وما هي الأفكار التي أشاعوها ثم اعتمدتها الكنيسة المسيحية طوال العصر الوسيط، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من التراث المسيحي في تلك الفترة؟

أولًا: كلِمِنت السكندري (١٥٠–٢٢٣م) Clement of Alexandria

أبٌ من آباء الكنيسة، ومن أوائل الفلاسفة المسيحيين في نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، يُعتبر مع تلميذه أوريجين من أهم فلاسفة الإسكندرية. والقدر الضئيل الذي نعرفه عن حياته نستخلصه إما من كتبه، وإما من كتب المؤرخين من أمثال يوزبيوس Eusebius، وفوتيوس Photius.

(١) حياته

وُلد حوالَي عام ١٥٠ ميلادية، ربما كان الأرجح أن نقول إنه وُلد في أثينا لا في الإسكندرية (رغم أن هناك من يقول إنه وُلد في الإسكندرية). كان والداه من الوثنيين المثقفين، وربما كانا ميسورَي الحال مما سهَّل له السفر والتنقل بين عدة مدن قبل أن يحط رحاله في مدينة الإسكندرية ويستقر بها.٥
تلقى تعليمه المبكر في أثينا حيث كان مغرمًا بالفلسفة اليونانية والآداب الكلاسيكية، وربما رجع تحوله إلى المسيحية إلى تأثير المعلمين فيه، فقد سافر إلى الإسكندرية، بعد اعتناقه الديانة المسيحية، وهناك تلقى دروسه على يد بانتينوس Pantaenus رئيس المدرسة التي كانت تسمى مدرسة السؤال والجواب … Catechetical، ثم خَلَف أستاذه رئيسًا لهذه المدرسة ربما حوالي عام ٢٠٠م، ويذهب بعض الباحثين إلى أن الفيلسوف «أوريجين» Origen كان واحدًا من تلاميذه. ثم رُسِّم كلِمِنت قِسيسًا في هذه الفترة، ولقد كتب معظم كتاباته — في الأعم الأغلب — في أثناء إقامته في مدينة الإسكندرية، ثم فر منها في أثناء اضطهاد الإمبراطور الروماني «سبتيميوس سفيروس» Septimius Severus حوالَي ٢٠٢-٢٠٣م،٦ ولا نعرف شيئًا عن السنوات المتبقية من حياته، وربما قضاها واعظًا في أورشليم وأنطاكية، ومات حوالَي عام ٢٢٣م.

وفي الإسكندرية كتب كتابًا في «التربية»، وفي هذا الكتاب يقوم «كلِمِنت» بإرشاد الرجل المسيحي في جميع شئون حياته العامة والخاصة مبينًا له كيف ينبغي عليه أن يسلك في أدق التفصيلات، بل ربما كانت أمورًا غاية في البساطة، أو حتى أشياء لا قيمة لها — على الأقل من وجهة نظر المفكر الجاد. فهو مثلًا لا يرى غضاضةً في الحديث عما يجب على المسيحي أن يفعله أثناء تناوله الطعام، فيطلعه على آداب المائدة، ثم يعرِّفه ثانيًا بأنواع الطعام والشراب التي ينبغي عليه تناولها، وعدد الساعات التي يجب أن ينامها، ونوع الملابس التي يجب أن يرتديها! ثم كيف ينبغي عليه أن يسلك داخل الكنيسة.

(٢) كلمنت … والمرأة

وهو بالطبع لا يفوته أن يتحدث عن واجبات النساء، لكنا ها هنا نراه يرفض استخدام ألفاظ «مهذبة» أو رقيقة (حتى وهو يتحدث عن أشياء بغيضة على حد تعبيره)، فهو يريد أن يكون صريحًا، وصادقًا؛ لأن الشدة إما أن تكون شدة وإما أن تتحول إلى رياءٍ وكذب ونفاق. وهو يرى أن الله خلق الرجل والمرأة كما خلق كل عضوٍ عندهما: «ومن ثم فلا ينبغي أن يخجل أحدٌ من تسمية ما لم يخجل الله من خلقه!»، فها هنا يكون التخفي والمداراة عملًا يدل على عدم احترام الخالق.

وفضلًا عن ذلك فقد رأى أنه من الأهمية بمكانٍ أن تُوجَّه تفصيلات الحياة المسيحية طبقًا لتعليمات العقل الإلهي، ومن ثم فسوف يُعتبر إهمالًا وتقصيرًا في واجبه إن لم يناقش كل ما يتعلق بشئون المرأة، صغيرة أو كبيرة، ووظيفتها، ودورها، وأعمالها! غير أن آداب الحديث في عصرنا الحاضر تميل إلى استخدام ألفاظ مهذبة رقيقة وتحرِّم الالتجاء إلى ما يسمى «بالأدب المكشوف»! ومن هذا المنظور فإن المترجم الإنجليزي يقول مثلًا: «عندما قررنا ترجمة مؤلفات كلِمِنت السكندري إلى الإنجليزية، وجدنا أقسامًا منها لا تتفق على الإطلاق مع الآداب العامة، والأفكار الحديثة عن الاحتشام، والتهذيب، واللياقة، فرأينا أنه ربما كان من الأفضل الإبقاء عليها في صياغتها اللاتينية بدلًا من ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية …»٧
ولم يكن كلِمِنت السكندري بِدعًا في ذلك، فإننا نستطيع أن نقول الشيء نفسه عن كتابٍ آخر هو «مأدبة العذارى العشر»، بقلم القديس ميثوديوس (٨٢٧–٨٦٩م) Methodius، وفيها يصور الأب المبجل «مأدبة» على غرار مأدبة أفلاطون الشهيرة، لكنا بدلًا من أن نجد سقراط وأجاثون وغيرهما من المفكرين والأدباء في محاورة الفيلسوف اليوناني، نجد هنا عشر فتيات عذارى يمتدحن العذرية والبكورة، وتكشف الفتيات العذارى عن معرفةٍ دقيقة بتشريح المرأة، وفسيولوجية الأنثى، فضلًا عن انحرافات النساء.
والملاحظ أن اللاهوتيين، ورجال الدين عمومًا، مغرمون بالحديث عن المسائل الجنسية بطريقةٍ فجة ومفتعلة بحجة المصارحة والصدق والأخلاق، ومن باب أنه لا حياء في الدين! «ولا يعتقدون أن في حديثهم فُحشًا من أي نوع. أيكون ذلك لأنه عندما يدخلون في معركةٍ مع شهوات الجسد لا ينتصرون فيها إلا ظاهريًّا فحسب في حين تظل الغلبة لهذه الشهوات؟ وإلا فكيف نفسر تلك المأساة التي وقعت في مدينة الإسكندرية أيضًا — بعد ذلك بقرنين من الزمان — عندما قامت مجموعةٌ من الرهبان باعتراض طريق «هيباتيا» فيلسوفة الإسكندرية وأنزلوها من عربتها، وقام بطرس قارئ الصلوات بذبحها بعد أن جردها الرهبان «أنقياء القلب» من ملابسها قبل اغتيالها.»٨ أيكون تجريدها من ملابسها قد تم حتى يتمكن الرهبان «أنقياء القلب» من «معاينة» جسد العذراء الجميلة وهو عارٍ تمامًا قبل الذبح، ألا يعني ذلك أن شهوات الجسد كانت لا تزال طاغية فأرادوا أن يمتعوا «القلب النقي» بمشهد الجسد العاري؟! أسئلةٌ حائرة لكنها هامة تخطر على ذهني كلما وجدت «الحديث الفاحش» عن الجنس من اللاهوتيين ورجال الدين!٩
ولقد دافع بعض الكتاب والباحثين عما كتبه كلِمِنت السكندري وذهبوا إلى أنه: «في حالة كلمنت فلا أحد يشك في صفاء ذهنه، وبساطته، وما كتبه — رغم أن بعض علماء اللاهوت يتبرءون منه — يخلو تمامًا من أي نوعٍ من أنواع الشبق. وإذا كان هناك قدر من «العهر» في كتاب «مأدبة العذارى العشر» الذي كتبه القديس مثيوديوس، فإن عبارات كلمنت ولغته تستهدف الطهارة، واختلافنا معه يرجع إلى أن عواطفنا ومشاعرنا الحديثة قد تغيرت، أكثر مما يرجع إلى وضاعة الشخصية التي كتبتها.»١٠

لكن ما هو رأي كلِمِنت السكندري — أول الآباء الفلاسفة — في المرأة، ووظيفتها ودورها، كما يقول؟

من الشذرات المتبقية من كتاباته نستطيع أن نستخلص آراءه على النحو التالي:

يبدأ كلِمِنت بالتفرقة بين الرجل والمرأة على أساس العقل الذي مُنح للرجل، وهو سبب مجده: «لا شيء مخزٍ أو شائن عند الرجل الذي وهبه الله العقل، لكن المسألة ليست على هذا النحو بالنسبة للمرأة التي تجلب الخزي والعار، حتى عندما تفكر في طبيعتها، وماذا عساها أن تكون …»١١

وهكذا نجد كلِمِنت يقول صراحةً إن المرأة موجودٌ أدنى من الرجل بسبب العقل الذي هو تاج الرجل، وهو يحافظ عليه نقيًّا دون أن تشوبه شائبة «العقل أمانة عند الرجال لا يلحقه خطأ ولا يعتريه عيبٌ أو قصور … أما عند المرأة فإننا نجدها بطبيعتها شيئًا مخزيًا ومخجلًا حقًّا …» فكيف يتعامل الرجال إذن، مع هذه المخلوقة؟ أفضل وسيلة هي إسكاتها، وإغلاق الدار عليها، فواجبها أن تبقى في المنزل، وألا تجعل أحدًا يراها في أي مكان، ولا ينبغي لها أن تذهب إلى الموائد؛ ذلك لأن نظراتها سوف تخلق في أذهان الرجال أفكارًا شريرة، ولا سيما أولئك الذين اعتادوا الإسراف في الشراب. ولا ينبغي لها أن تحضر احتفالات الزواج؛ إذ ربما أدت الأحاديث والأغاني في الأفراح إلى شيءٍ من الإباحية. ولا ينبغي لها بالطبع أن تتجول في الشوارع بحثًا عن النظرات الزائغة التي ترشق جسدها، ولا أن تذهب إلى المسرح، ولا الحمَّامات العامة، ولا إلى المباريات الرياضية العامة، وإذا كانت تريد ممارسة الرياضة فإن كلمنت السكندري يقدم للنساء برنامجًا محددًا:

عليهن ممارسة رياضة الغزل والنسج، والإشراف على شئون المطبخ، فتلك أمورٌ ضرورية. ثم يضيف: وفي استطاعة النساء أن يجلبن من المخزن ما يحتجن إليه … وليس من العار عليهن استعمال المطحنة بأنفسهن، فهي رياضة هامة، وليس مما يجلب اللوم للزوجة أن تشغل نفسها بأمور الطبخ، وإعداد الطعام الجيد الذي يكون سائغ المذاق لزوجها. وإذا ما رتبت فراش الزوج، وأحضرت له الماء كلما أحس بالظمأ، وإذا ما أعدت مائدة الطعام بترتيب جيد قدر استطاعتها، فإنها بذلك تكون قد قامت بتمريناتٍ تجعلها صحيحة البدن.١٢ أما في المناسبات التي تترك فيها منزلها لعيادة مريض، أو للذَّهاب إلى الكنيسة، فلا بد أن تضع الخمار على وجهها، بحيث لا يُرى منه شيء قط، وعليها أن تظل محجبة طيلة تواجدها في الكنيسة أيضًا، يقول فيلسوفنا: «لا بد للمرأة أن تغطي جسدها تمامًا، ما لم تكن موجودة في بيتها؛ لأن هذا الطراز من اللبس وقور، وهو يحميها من حملقة العيون في جسدها، وفضلًا عن ذلك فهي حينما تضع الخمار على وجهها لا يمكن أن تدعو غيرها إلى الخطيئة، تلك هي مشيئة الكلمة Logos، منذ أن جاءت لتصلي وهي محجبة.»١٣

ولعل القارئ يلاحظ النظرة الجنسية الصارخة للمرأة، وهي نظرة سوف تستمر عند اللاهوتيين، ورجال الدين عمومًا، الذين لا يعرفون عن المرأة سوى الجنس، فلا هي زميلة، ولا زوجة، ولا صديقة، ولا أم، ولا معلمة، ولا طبيبة … إلخ، لا شيء سوى الجنس؛ ولهذا فلا يجوز لها أن تتزين على أي وجهٍ «فليس جيدًا عند الله، أن تتزين المرأة المسيحية المؤمنة … وهدف تغطية الجسد هو الدفاع عن هذا الجسد، وصيانته من الإفراط في البرودة أو شدة الحرارة.»

ولما كان تزين المرأة المسيحية ليس عملًا جيدًا أمام الله، فإن عليها — لهذا السبب — أن تودع حرائر الهند، والملابس المطرزة بالذهب، فتلك أمورٌ ممنوعة بتاتًا، فالمرأة محرمٌ عليها ارتداء الزينة الذهبية أيًّا كان نوعها، كما أن عليها أن تتجنب الملابس المصبوغة؛ لأن الصبغة ضارة بالصحة، كما أنها تثير العيون النهمة، فضلًا عن أنها مصطنعة وكاذبة، ولو أن الله أراد أن تكون ملابس الصوف أرجوانية لخلق الخراف أرجوانية اللون، ولا بد لنا من أن نُدين بقوةٍ أيةَ محاولة لخداع النفس، يقول كلِمِنت:

«التزين في غطاء الرأس، وتنوع هذا الغطاء، وزركشة الضفائر، والنماذج التي لا نهاية لها من زي الرأس، والمرآة الباهظة الثمن التي يرتبن بها هندامهن — تلك خصائص الأفعال التي تقوم بها النساء اللائي فقدن كل حياء …» وإذا كان فيلسوفنا يُدين زينة الجسد الطبيعي على هذا النحو، فإن الوسائل الصناعية، والحيل المصطنعة التي لا حد لها، والتي تستخدمها السيدات اليونانيات والرومانيات هي كلها مكروهة، بل هي في الواقع ممقوتة من وجهة نظره: «وليس في استطاعتكِ أن ترَي الله ما دامت عيونكِ ملونة، فهي ليست هي العيون التي خلقها، بل العيون التي أفسدها الشيطان … لقد اتبعتِه فقلدتِ العيون الحمراء عند الأفعى، وتزينتِ بزي العدو؛ ولهذا فسوف تُدفنين بجواره …»، ويلخص الخطاب الذي يوجهه إلى العذراء: «فلتبقَ هيئتكِ كما هي بغير فساد، وعنقكِ بلا زينة، وشكلكِ بسيطًا، ولا تخرِمي أذنيكِ أو تؤذيهما بالجروح، ولا تجعلي السلاسل الثمينة، ولا السِّوار أو العِقد النفيس يطوق ذراعكِ أو عنقكِ. حرري قدمكِ من القيود الذهبية، ولا تلطخي شعركِ بالأصباغ، هذا تصبح عيناكِ جديرتين بالنظر إلى الله.»

ويروي كلِمِنت السكندري قصصًا مرعبة عن بعض العذارى: «لهذا السبب فإن الكنيسة كثيرًا ما تتجمع في عَذاراها، وهي لهذا تئن عندما تسمع بقصصهن الفاحشة المقززة، وهكذا تذبل زهرة العذارى وتَذوي، وهكذا يضيع شرف العفة والاحتشام، ويتدنس مجد الكنيسة وكرامتها، ومن هنا تجيء الدعوة إلى ضبط النفس، والمثابرة على تحقيق المثل الأعلى وهو الطهارة، لا الجسدية فحسب، بل التي تمتد لتشمل نطاق الحياة بأسرها … إذ سيكون من العبث الاحتفاظ بأعضاء الشهوة طاهرة نقية دون اللسان، أو الاحتفاظ بنقاء اللسان من دون نظرات العين، أو همسات الأذن، أو لمس اليد. وأخيرًا سيكون من العبث الاحتفاظ بهذه الأعضاء نقية من دون الرُّوح التي يلوثها الكبرياء والغضب.»١٤

ولا شك أن كلمنت السكندري كان من أوائل الفلاسفة المسيحيين الذين بدءوا في شن الحملات ضد الزواج وبيان مساوئه، وسوف يتابعه بعد ذلك «تِرتوليان» على نحو ما سنعرف بعد ذلك، وهو يصور لنا آلام الطفل، وصراخه عند قدومه للعالم لأول مرة، لعلنا نعتبر ونمتنع عن الزواج، وبالتالي عن إنجاب الأطفال:

«أواه يا أمي! لماذا أتيتِ بي إلى هذا العالم، وإلى تلك الحياة التي ينتهي طول العمر فيها — إن آجلًا أو عاجلًا — بالموت؟ لماذا أتيتِ بي إلى هذا العالم المضطرب الذي تكون فيه أول خبرة أمر بها بعد مولدي هي رباط القِماط وقيوده؟ لماذا ولدتِني وجلبتِني إلى حياةٍ كهذه يضيع فيها الشباب، ويُرثى له قبل الشيخوخة … ونصل فيها إلى شيخوخة محكومٍ عليها بالموت؟ ما أبشع مسار الحياة يا أماه! حياة يكون الموت — في النهاية — هو هدف كل من يجري فيها، وما أمَرَّ طريقَ الحياة الذي نسافر فيه، ويكون القبر هو النُّزُل الذي يهبط فيه عابر السبيل!»

وأخيرًا، فإن كلِمِنت السكندري يقول عن القُبلة:

«لا يقاس الحب بالقبلة، بل بالمشاعر الرقيقة، لكن هناك من لا يفعل شيئًا سوى جعل الكنيسة تضج بالقبلات، وهذا هو الاستخدام الفاحش للقبلة، التي ينبغي أن تكون صوفية فلا تثير شكوكًا حمقاء ولا آراء شريرة …!»

لكن علينا قبل أن نغادر كلِمِنت السكندري أن نحمد له دفاعه عن الفلسفة، فقد كان أول مفكر مسيحي يدافع عن الفلسفة، بل ويدعو إلى دراستها، وذلك في معارضة الحركة التي قامت ضدها في أرجاء الكنيسة المسيحية، والتي وصفت الفلسفة بأنها بدعةٌ شيطانية أليمة ابتدعها إبليس الخبيث لتسميم حياة البشر! يقول كلمنت: «يرى بعض الناس — ممن يظنون في أنفسهم الذكاء — الاقتصار على الإيمان، والانصراف عن الفلسفة والعلم، وهؤلاء — في الواقع — مثلهم مثل من يأبى أن يتعهد الكَرْم، ويريد أن يجني منه بعد ذلك عنبًا …! لقد كانت الفلسفة ضرورية لليونان قبل مجيء الرب حتى يطبقوا العدالة، هي الآن مفيدة للتقوى، كما أنها تمهيدٌ ضروري للدين، أعني لأولئك الذين يصلون إلى الإيمان عن طريق الاستدلال العقلي!»

ثانيًا: ترتوليان١٥ (١٦٠–٢٣٠م) Tertullian

مع ترتوليان وصلت الكراهية المسيحية للمرأة إلى ذروتها، وتحولت إلى عقيدةٍ تقبلها الكنيسة قبولًا عامًّا، فقد كان موقفه من المرأة حقوديًّا وانتقاميًّا بشكلٍ غير مألوف! وتتألف عناصر هذا الموقف على النحو التالي: تصورٌ منحط عن غرائز المرأة ووظائفها، استخفافٌ بوظيفة الأمومة وانتقاص من قدرها، رعبٌ من جاذبية الأنثى، وقلقٌ من غوايتها، والتشديد على مسئوليتها عن السقوط. وهي عناصر سوف نجدها منتشرة عند خلفائه وأتباعه، والفلاسفة المسيحيين من بعده.١٦

(١) حياته

وُلد ترتوليان عام ١٦٠م في قَرطاجة (قرب مدينة تونس الحالية)، وهو واحدٌ من أشهر الآباء الفلاسفة في عصره، وُلد من أبوين وثنيين، وتلقى تعليمه في هذه المدينة، وكان تعليمًا أدبيًّا وقانونيًّا مكنه من ممارسة مهنة المحاماة، فهو محامٍ كبير من أهل قَرطاجة، وقد كان اندماج الجانب الأدبي من ناحية والقانوني من ناحيةٍ أخرى سببًا في شهرته.

ويعترف ترتوليان نفسه في مؤلفاته بالخطايا التي اقترفها في شبابه إذ يقول إنه قارف الزنى، وتردد على أماكن الفسوق والفجور، وكان كثير المجون حتى بلغ الثلاثين من عمره، فتحول إلى المسيحية عام ١٩٠م — ربما أثناء مُقام له في روما — وتحمل تلميحاته أنه انفعل انفعالًا شديدًا يومئذٍ لبطولة المسيحيين وهم يساقون إلى الموت، فقدرتهم الهائلة على الإقناع قد أدخلت في رُوعه أنهم يجسدون الحقيقة التي لا تقاوَم، فانصرف إلى التأليف في الدين، وكان كاتبًا مُجيدًا، ولاهوتيًّا عميقًا، ضليعًا في اللغتين اليونانية واللاتينية، كتب باليونانية أولًا، ثم عاد وترجم ما كتب إلى اللاتينية ليوسع مجال انتشارها، إذ إن اليونانية قليلة الذيوع في بلده واستمر على الكتابة باللغة اللاتينية، فكانت مصنفاته إلى الكتب المسيحية بهذه اللغة كتب «دفاع عن المسيحيين» Apologeticus، أثاره في نفسه الاضطهاد الذي قام به الإمبراطور الروماني «سبتميوس سيفيروس» هربًا كما سبق أن رأينا.
ويبين ترتوليان في هذا الكتاب عدم مشروعية الاضطهاد، ويحتج على قسوة الإجراءات التي يقوم بها حكام الولايات الرومانية ضد المسيحيين، ويرى أنها لن تجدي فتيلًا، بل على العكس سوف تزيدهم قوة وصلابة، يقول فيما يشبه التحدي: «إننا نتكاثر إذ تحصدوننا، وإن دم المسيحيين لبذرة، وإن لكم فيما تأخذونه علينا من عناءٍ لعبرة، فمن ذا الذي يشهده ولا يتزعزع، ثم لا يبحث عن السر فيه؟ ومن ذا الذي يبحث فلا ينضم إلينا؟ ومن ذا الذي ينضم إلينا فلا يتوق إلى العذاب والموت في سبيل الحصول على النعمة الإلهية كاملة، والعفو شاملًا؟ …»١٧

(٢) ترتوليان … المرأة

يبدو أن فترة الشباب التي عاشها ترتوليان في فسق ومجون قد أصابته بتأنيب الضمير، وجعلته يندم أشد الندم، لا شك أن هذه التجرِبة ساهمت بدورٍ كبير في تشكيل رأيه عن المرأة، لِمَا كان يشعر به من ألم. وعلى الرغم من أنه تزوج فقد كان يشعر بأن ضميره ما زال يؤنبه لاقترافه هذه «الزَّلة» أيضًا، وقد دفعه ذلك إلى الدخول في سلك الرهبنة الصارم الذي جعله لا يتبرأ من الجنس فحسب، بل من المرأة نفسها! ذهب ترتوليان في أول بحثٍ له إلى أن النساء تحكمهن دوافع حقيرة، فالمرأة لا تهتم بإمكان الحب الصادق أو الجاد في الزواج، ومن هنا فقد راح ينصح زوجته في رسالةٍ بعث بها إليها بعد أن سلك الرهبنة، بألا تقدم على الزواج مرةً أخرى إذا مات قبلها، وهو يضع أمامها الدوافع المحتملة كالرغبة الجامحة، أو الشهوة، ثم الرغبة في السيطرة على منزل رجل آخر وإنفاق ما جمعه من مالٍ بعد طول كد وعناء: «وإن أنتِ اشتقتِ إلى الأطفال، فينبغي عليك أن تتذكري أولئك الذين يعيشون بلا أطفال. إن أولئك الذين يعيشون بدون ثمرة الزواج المرهقة التي ينتفخ بها الرحم، ولا شيء في صدورهم، أولئك هم القادرون على خدمة الرب عند مجيئه للمرة الثانية.»١٨
ويكتب ترتوليان في «كراساتٍ دينية» صغيرة عن «ملابس النساء» كما فعل كلِمِنت السكندري من قبل، لكنه لا يُدين الزينة والملابس فحسب، بل يدين جنس الأنثى بصورةٍ عامة وواضحة، رغم أنه يوجه حديثه إليهن بعبارةٍ رقيقة «إلى الأخوات المحبوبات»! ويجعل العنوان «كسوة النساء»! لكنه سرعان ما يتخلى عن هذه الرقة المزعومة، فيقول: «إن أية امرأة تتحقق من وضعها كأنثى فإنها سوف تُولَع بحقارة الظهور (وهو يرى أن مجرد العناية بالظهور مسألة وضيعة) سوف تسير مثل حواء، نادمة منتحبة لدرجة أنها بكل ما تحمله من ثياب التوبة والندم لن تكفِّر عما ورثته من حواء، أعني: خزي الخطيئة الأولى، وعار الهلاك البشري!»١٩

لقد كان حكم الإدانة الذي أصدره الله على المرأة هو: «أكثِّر أتعاب حَبَلكِ، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رَجُلكِ يكون اشتياقكِ، وهو يسُود عليك» (تكوين ٣: ١٦). والواقع أن هذا الحكم يستمر حتى يومنا الراهن، ومن هنا كان إثمها وإدانتها. يقول ترتوليان مخاطبًا النساء عمومًا:

«ألا تعلمن أن كل واحدةٍ منكن هي حواء، وأن حكم الله على جنسكن ما زال قائمًا حتى هذه اللحظة، وبالتالي فالجريمة قائمة. أنتن الباب المفضي إلى الشيطان، أنتن اللائي أكلن من الشجرة المحرمة، فالمرأة هي التي أغوت الرجل لا العكس، وأول من عصى الله، وخالف الشريعة الإلهية، وأطاع الشيطان، هذا الشيطان الذي لم يجد في نفسه الشجاعة والجرأة لغواية الرجل على نحوٍ مباشر! لكنكِ أنتِ، أيتها المرأة، حطمت بسهولةٍ ويسرٍ صورة الله التي هي الرجل «الصورة الإلهية في الإنسان على نحو ما تجسدت في الرجل» … وبسببك دخل الموت إلى العالم، وبسببك أيضًا كان لا بد لابن الإله أن يموت، فينبغي عليك أن تنتحبي على الدوام، مرتدية ثوب الحِداد، أما الكسوة فأنا أنصحك ألا ترتدي سوى أسمالٍ بالية.»٢٠
علينا أن نتوقف هنا قليلًا لنلاحظ بعض الأمور في هذا النص:
  • الأمر الأول: أننا نجد كراهية التراث القديم (اليهودي الروماني، بل اليوناني أيضًا) تطل برأسها من جديدٍ متخطيةً تمامًا المواقف الإنسانية الجديدة التي جاء بها السيد المسيح، بل إننا نجد الكراهية الأفلاطونية للجسد ترتدي زيًّا دينيًّا، فالشهوة أو الرغبة الجنسية الجامحة، وهي خاصية حيوانية تمامًا، هي النغمة التي يعزف عليها رجال الدين بصفةٍ عامة، وهم يميلون إلى إظهار الرجل بمظهر الحَمَل الوديع، في حين أن المرأة هي «بوابة الشيطان»، هي شِباكه وحبائله، أو هي الشيطان نفسه، وربما كانت أقوى منه؛ لأنه لم يستطع غواية الرجل بل لم يجرؤ على ذلك مباشرة.

    فكانت وسيلته المرأة تغويه، وتغريه، وتوقعه في حبائلها. أي إن الرجل لو تُرك بذاته لكان طاهرًا عفيفًا نقيًّا بلا رغبة ولا شهوة ولا ميل إلى الجنس على الإطلاق! أو إنه في أحسن الأحوال سوف يتمكن من التغلب على هذه «الدوافع الشيطانية»، ويصل بقدراته الخاصة إلى بر الأمان.

  • الأمر الثاني: أننا كثيرًا ما نجد «القديس» الذي أنفق شبابه في الفسق والمجون، واقترف الزنى، وصادق الغواني والعاهرات … إلخ، يلجأ إلى التوبة، ويشُن في نهاية حياته — عندما يرتدي مُسُوح الرهبان، ويتحلى بالعفة والقداسة — حملةً بالغة العنف على «المرأة»، ذلك الشيطان البشري الذي أوقعه في جميع هذه الخطايا، وساقه إلى طريق الرذيلة والشر، كأنه يبرر لنا مواقفه السابقة ويعتذر عنها، لكن لا تكون لديه الشجاعة في تحمل مسئولية ما فعل، بل يلقي باللوم كله على المرأة، ولسان حاله يقول: «ماذا كنت أفعل وهذه الشيطانة الجميلة تدعوني إليها، وتدغدغ غرائزي وشهواتي حتى أفلت الزمام مني، ولم أعد أستطيع السيطرة على شيء! لكني وقد هدأت الغرائز وخفَّت الرغبة، وضعفت الشهوة، أُبصر الموقف على حقيقته فأجدها مسئولة مسئولية تامة عما حدث!»
  • الأمر الثالث: أننا كثيرًا ما نجد اللاهوتيين، والقديسين، والآباء، ورجال الدين عمومًا، يميلون إلى وصف «جسد» المرأة وكأنهم يشعرون بمتعة، ولا سيما في سن الضعف، بالحديث، ولو مجرد الحديث عن جماله وتناسقه كنوعٍ من التعويض النفسي عما فقدوه.٢١

ولهذا فأنت تراهم يتحدثون عن عيون «المها» وصِبغة العين، وعن الشعر الفاحم، والخد الناعم، والفم المرسوم، والقوام الممشوق، والصدر الناهد … إلخ، ثم يطالبون المرأة بإخفاء هذه المفاتن، وكأنهم لا يتحدثون عن هذه الأجزاء من جسدها إلا لينصحوها بطمسها وإخفاء معالمها.

من هذا المنطلق يواصل الأب الفيلسوف «ترتوليان» حملته ضد المرأة، فيرى أنه ينبغي عليها، لا فقط أن تكف عن التبرج في مظهرها أو إبراز مفاتنها، على نحو ما دعا كلِمِنت السكندري من قبل، بل إن عليها «أن تعمل على إطفاء هذه المفاتن، وإهمال الجمال الطبيعي، بل العمل على محو آياته؛ ذلك لأن جمال المرأة الطبيعي بالغ الخطورة، لكل من يراها أو يتصادف أنه يسوقه حظه العاثر للوقوع في طريقها.»

وعلى حين أنه يعترف بأن الجمال الطبيعي ليس جريمة في حد ذاته، فإنه مخيفٌ ومرعب؛ لأنه عنيفٌ ضار لمن يعشقه أو يطلب وده.٢٢
وهكذا يصدر ترتوليان حكمًا قاطعًا وحاسمًا: «كل امرأةٍ ينبغي عليها أن تضع حجابًا وخمارًا على وجهها (أو أن عليها أن تخفي وجهها وراء نقاب …)،٢٣ الأم من أجل أبنائها، والأخت من أجل إخوتها، والابنة من أجل أبيها، ما دامت هي نفسها بشخصها تعرض جميع الأعمار للخطر …»٢٤

أما موضوع الجمال فهو هبة من الله، ولا دخل للمرأة فيه، لكن ترتوليان يرى مع ذلك ضرورة العمل على إخفائه بشتى الطرق، كما لو كان «عورة» لا يجوز لها أن تظهر! ومن هنا فإننا نراه يتساءل: «هل المرأة جميلة؟ تلك هبة طبيعية لا بد من طمسها، وذلك عن طريق تجاهلها وإهمالها، بوصفها أمرًا خطيرًا على عيون الناظرين!» ولهذا فلا بد للمرأة — ولا سيما الجميلة أن تغطي نفسها من قمة الرأس إلى أخمص القدم!

وعلى حين أن موقف ترتوليان تجاه النساء كان موقفًا انتقاميًّا وحقدًا غير مألوف — كما سبق أن ذكرنا — تدفعه إليه تجارِبه المجونية في شبابه، ثم توبته وندمه بعد ذلك، فإن جميع عناصره مثل: التصور الحقير لدوافع المرأة ووظائفها، والحط من قدر الأمومة والاستخفاف بها، والرعب من جاذبية الأنثى وغوايتها، والتأكيد المستمر، وبإلحاحٍ، على مسئولية المرأة عن السقوط؛ جميع هذه العناصر موجودة عند معاصريه من آباء الكنيسة، فالقديس جريجوري ثاومتيرجس Gregory Thaumaturgus (حوالَي ٢١٣–٢٧٠م) وهو أحد آباء الكنيسة الشرقية، والذي كان أسقفًا في مسقط رأسه في مدينة قيصرية الجديدة Neo Caesarea٢٥ يقول:
«كلما بحثت بين النساء جميعًا عن العفة المناسبة، فإنني لا أجد منها شيئًا. إن المرء قد يجد رجلًا عفيفًا بين ألف رجل، لكنه لن يجد ذلك قط بين النساء.» ثم يضيف: «إنهن يخدعن عقول الرجال بوسائل تزينهن، ويقطرن لهم السم بنظرةٍ من عيونهن، ثم يأسرنهم بأفعالهن.» من ثم فإن على الرجل الحذر أن يوجه مشاعر الحقد والكراهية نحو النساء جميعًا بغير استثناء! ثم يقول: «لقد أظهرني ملاك الرب على أن ما تفعله النساء بسحرهن يسيطر على الملِك والشحاذ على حدٍّ سواء. هن يسلبن من الملِك مجده، ومن الرجل الشجاع قوَّته وبسالته، بل حتى من الشحاذ قدرته على تحمل فقره.»٢٦

وسوف نجد هذا الموقف نفسه عند خلفاء ترتوليان أيضًا، فهم جميعًا يقيمون فكرهم حول المرأة بناء على تجارِب شخصية أولًا، ثم على التراث اليهودي الروماني ثانيًا، وعلى الأسس التي وضعها القديس بولس في نظريته عن المرأة ووجوب خضوعها للرجل.

ومن هنا فسوف نجد القديس أوغسطين يمر بنفس تجرِبة ترتوليان الجنسية مع الغواني والعاهرات، ويضع كتابًا خاصًّا هو «الاعترافات» يعترف فيه بذنوبه وآثامه، فقد أنجب ابنًا من امرأةٍ زانية كان يُطلِق عليه طوال حياته «ابن خطيئتي»! وسوف نرى كيف سار القديس أوغسطين في نفس الطريق الذي أنشأه القديس بولس، وبعده ترتوليان، وغيره من الآباء الفلاسفة، وهو طريق ينتهي بالنظر إلى المرأة بوصفها موجودًا أدنى من الرجل، ومن ثم فإن عليها أن تخضع له مستسلمة لمصيرها المحتوم؛ لهذا فسوف نراه يقتبس باستحسانٍ ما قالته أمه القديسة مونيكا Monica للنساء اللائي انتقدن أزواجهن في حضورها. يقول القديس أوغسطين:
«كانت أمي تطيع زوجها طاعةً عمياء، وإذا ما زارها نسوةٌ كان أزواجهن أقل قسوة من رجلها، ومع ذلك لم يضنوا على نسائهم بضرباتٍ لا تزال آثارها بادية على وجوههن. كانت تقول لهن: الذنب ذنبكن، فاجتنبنه، فإن الخادمات لا يصح، ولا يجوز لهن أن يقاومن سادتهن، وما كنتن لترتكبن هذا الخطأ لو أعاد أزواجكن على مسامعكن ما دُوِّن في عقود زواجكن، فأنتن تعرفن أنه عقد عبودية سجلتُنَّه على أنفسكن.»٢٧
فلو أن المرأة تدبرت عقد الزواج قليلًا لوجدت أنه صورة قانونية لشكلٍ من أشكال امتلاك الرقيق …! فقد تحولت النساء بفضله إلى جوارٍ، وعليهن أن يسلكن على هذا الأساس …!٢٨

(٣) الزواج

اتفق آباء الكنيسة — بصفةٍ عامة — كما لو أن الأمر أقرب إلى البديهية، على أن الزواج يمثل وضعًا أدنى — من الناحية الأخلاقية — من «العذرية» Virginity، ومن ثم لا يمكن تبرير العملية الجنسية إلا بأنها وسيلة لإنجاب الذرية، غير أن ما تنفرد به العذرية من ميزاتٍ وخصائص كان هو الموضوع المحبب، والحديث المفضل للكراسات الدينية والأخلاقية التي يصدرها الآباء، فكل مؤلفٍ ظهر له على الأقل حديث من أحاديثه الدينية حول هذا الموضوع في مجموعة مؤلفاته، ولقد برهن القديس أوغسطين ببراعةٍ على أن الآباء الأُول الذين ذكرهم الكتاب المقدس لم يمارسوا الجنس إلا لأنهم كانوا مضطرين للإنجاب، حتى يعقوب نفسه كان يفضل الامتناع عن الذرية لولا إلحاح زوجاته!

ويبدو الارتباط واضحًا بين إدانة الجنس، وكراهية المرأة في حكاية رواها القديس أوغسطين في «مناجاته» يقول: «ذات يوم أقنعني عقلي أنه لشيءٌ حقير، بغيض، مقزِّز، مخجِل ومرعب حقًّا، أن أرتمي في أحضان امرأة …» لكنه يعترف أنه في هذه الليلة نفسها انغمس في نزواتٍ حسية أنسته عقله! وفي اليوم التالي أقنع نفسه مرةً أخرى بأنه «لا شيء يهبط برُوح الرجل من أعلى عليين أكثر من مداعبة امرأة وتقبيلها، والتصاق الجسدين الذي لا يمكن أن يحدث بدون أن تكون هناك زوجة.

وعلى الرغم من أن آباء الكنيسة كانوا يؤمنون نظريًّا بأن العَلاقات الجنسية تلوث الجنسين معًا، وتقوم بتدنيسهما على حدٍّ سواء، فقد كان من الطبيعي — بوصفهم رجالًا — أن يؤكدوا التأثير الفاسد للنساء على الرجال، أكثر من أن يؤكدوا العكس، أعني تأثير الرجال الفاسد على النساء!

واستمرت المناقشات حول الزواج حتى ظهر تياران في الكنيسة منذ التاريخ المبكر: أحدهما يؤيد الزواج، والآخر يرفضه ويحتقره، ومع ذلك فلم يستطع أحدٌ أن يقول إن الزواج إثم أو خطأ، فذلك يتعارض مباشرة مع أقوال المسيح في العهد الجديد، بل على العكس ظل التقليد الكنسي هو أنه من الهرطقة القول بتحريم الزواج.

واكتفى الآباء الرسوليون بتقديم النصائح للزوجات لكي يحببن أزواجهن، ويخضعن لهم، فضلًا عن قيامهن بتربية أطفالهن على معرفة الله وخشيته، وكلما مر الزمن أصبحت هذه النصائح أقل شيوعًا، وإن ظلت الكنيسة تبارك الزواج.

أما «ترتوليان» فقد كانت آراؤه تؤيد زواج المؤمنين، وكانت كلماته قوية وحاسمة.

يقول عن بركات الزواج:

«من أين نجد الكلمات الكافية التي تصف سعادة ذلك الزواج الذي دعمته الكنيسة، وأكده القربان الديني، ووقعت عليه البركة، وختمته بخاتمها، وحضرته الملائكة، وصدَّق عليه الآباء وأقروه؟» ثم يصف فرحة الزوجين بقوله:
«معًا يصليان، معًا يسجدان، معًا يصومان، يعلِّم كل منهما الآخر وينصحه، ويشد من أزره …»٢٩

و«ترتوليان» هنا لا يؤكد على أهمية الزواج بصفةٍ عامة، وإنما يركز حديثه على بركات الزواج، وغبطته بين المؤمنين الذين يتزوجون وفق تعاليم الكنيسة، في مقابل الزواج الذي يكون بين طرفٍ مؤمن وآخر غير مؤمن، ولا تقره الكنيسة أو تصادق عليه، فهو يقارن بين نوعين من الزواج ويدعو لأحدهما ويرفض الآخر.

أما الزواج المبارك المقبول من الكنيسة فواجبات الزوجة فيه بسيطة للغاية: «إن عليها أن تطيع زوجها؛ لأنه بمثابة الرأس لها، وهو سيدها، وهو الأعلى والمتفوق عليها،٣٠ ومن ثم فإن واجبها أن تخشاه، وأن تهابه، وأن تحترمه، وأن تسره، وأن تسعده هو وحده، كما أن عليها أن تتحلى بالصمت الذي وصفه اليونانيون من قبل بأنه تاج المرأة وزينتها»، وعليها أيضًا أن تقوم بالغزل، ورعاية المنزل، وينبغي عليها أن تقر في بيتها وأن تراقب أطفالها.٣١ والمناسبة الوحيدة التي يمكن أن يُسمح لها فيها بالخروج خارج المنزل هو ذَهابها إلى الكنيسة، أو بصحبة زوجها لزيارة أخٍ مريض.٣٢
وعلى الرغم من أن «ترتوليان» لا يحرم الزواج — فهو نفسه قد تزوج — لكنه بغير شك يضعه في مرتبةٍ أدنى من «العذرية» يقول: لقد جمعت أقوال الكتاب المقدس فوجدته يقول إن الكلمة (المسيح) جاءت من العذرية، والمسيح لم يحرم تمامًا إنجاب الأطفال، إذ على الرغم من أن القمر قد يكون أعظم من النجوم، فإن ضوء النجوم الأخرى لا يدمره ضوء القمر»، وهكذا يضع تدرجًا لترتيب النساء: «العذراء أولًا ثم الأرامل ثانيًا وأخيرًا الزوجات»، وهكذا نجد ترتوليان يتحدث عن الزوجات بوصفهن نساء من الدرجة الثانية وقعن في حبائل الزوجية.٣٣ كما هاجم آباء الكنيسة «الزواج الثاني» وأدانوه، ونقصد بالزواج الثاني من يتزوج بأخرى بعد وفاة زوجته الأولى. يقول «أثناجوراس» Athenagoras٣٤ في معارضةٍ صريحة للزواج الثاني: «إن من حُرِمَ من زوجته الأولى، وتزوج بأخرى، حتى لو كان ذلك بسبب موتها فهو زانٍ مقنع»، وفي نفس التيار يقف فيلسوفنا ترتوليان، وحجته ضد الزواج الثاني «أن الله جعل من الزوج والزوجة جسدًا واحدًا، ولا بد أن يظلا جسدًا واحدًا حتى لو مات أحدهما، فإذا كانا جسدًا واحدًا فكيف يمكن أن ينضاف إلى هذا الجسد امرأة ثانية، إنها لا يمكن أن تصبح جسدًا واحدًا.» والحق أن ترتوليان Tertullian ابتعد عن إيمان الكاثوليك، واقترب من إيمان المونتانيين Montanists، فأكد أن الزواج الثاني يساوي الزواج من امرأتين في وقتٍ واحد، ومن ثم فهو محرَّم! ومن الواضح — مهما يكن من الحجج التي يسوقها — أن نزعة الشك والزهد تكمن خلف أحاديثه، وذلك موجود بوضوحٍ عند ترتوليان الذي كتب رسالةً موجهة إلى زوجته يحذرها فيها من الزواج مرةً أخرى لو أنه مات قبلها، كما هو واضح في حديثه عن القيامة. يقول فيها في ذلك اليوم (يوم القيامة): «لن يكون بيننا استرجاع أو استئناف للخزي الشهواني.» وفي رسالةٍ أخرى يقول: «فلنتأمل مشاعرنا في ذاتها لنرى ما الفارق الذي يشعر به الرجل نفسه عندما يتصادف أن يُحرَم من زوجته وكم يتذوق ذلك رُوحيًّا؟!»٣٥
لقد كان ترتوليان في عصره استثناء في قوة شجبه وإدانته للزواج الثاني. وكانت الكنيسة في ذلك الوقت قد اشترطت على المسيحيين الحصول على إذنٍ مسبق منها للزواج الثاني، والواقع أن معارضته للزواج الثاني كان لها أثرٌ كبير في حياة الأسرة. ومن الغريب حقًّا أن يندر ذكر الأطفال عند الكُتَّاب المسيحيين في القرنين الثاني والثالث! فلا شيء يقال عن تربيتهم وتعليمهم، فهل اقتنع المسيحيون في ذلك الوقت أن العالم يزخر بعددٍ كافٍ من الأطفال؟ وأن ميلاد أطفال جدد سيكون مبعث حزن لا فرح؟ ربما أجابت عبارة كلِمِنت السكندري التي أسلفناها، عن صرخة الطفل الأولى لمجيئه للعالم، عن هذه الأسئلة.٣٦
أما بالنسبة لترتوليان فالأطفال عبء لا نستطيع احتماله، بل هم خطر على الإيمان، يقول:
«هناك مبررات أخرى للزواج، يزعمها الرجال لأنفسهم، تنشأ من القلق على الذرية والأجيال القادمة، والمتعة المريرة لوجود الأطفال، غير أن هذا في نظرنا عبث لا طائل تحته. ولِمَ الشغف بوجود الأطفال وتربيتهم؟ مع أنهم إذا وُجدوا فإننا نسرع بأن نرسلهم قبلنا إلى الشهرة والمجد (وأنا أعني بهذا الخصوص الحزن أو الألم الذي هو سيف مصْلَت فوق رءوسنا) — مع أننا نرغب رغبةً جامحة في إخراجهم — على نحو ما نريد أن نخرج أنفسنا — من هذا العالم الشرير لنكون بين يدي الله؟!»٣٧ ويقول أيضًا: «… فلنقل إن عبء الأطفال المعروف جيدًا كان لنصح الآباء إذا اضطُر الرجال أن يكون لديهم أطفال بحكم القانون؛ لأنه ليس ثمة رجل عاقل يرغب بإرادته أن يكون له أطفال، «وهو يعلن» — حقًّا — أن الرجل المسيحي يبحث عن وريثٍ محروم مثله من متع الدنيا بأسرها …»٣٨

(٤) العذارى والأرامل

يبدو أن الكنيسة في عصر ترتوليان Tertullian كانت تختار العذارى لأداء الخدمة الدينية فيها، وتطلق عليهن اسم «الأرامل»، وهو نظام كان فيما يبدو معمولًا به في جميع كنائس الشرق في منتصف القرن الثالث الميلادي. ففي ذلك الوقت كانت حياة الأرملة قد سقطت في «سوق الرُّوح»، وظهرت أهمية العذرية. صحيحٌ أنه لم يكن من الخطأ للأرملة أن تتزوج، لكن الأصح أن زواجها كان يفسَّر على أنه دليل ضعف، وعدم قدرة على ضبط النفس، وهو في النهاية يصِمها بوصمةٍ تجعلها غير صالحة لخدمة الكنيسة، أما العذراء فهي التي ترحب الكنيسة بأدائها للخدمة الدينية على اعتبار أنها تزوجت «المسيح»، وطلقت العالم كله، أو أنها أماتت شهواتها، وكما لو أنها أضحت أرملةً بالفعل؛ ولهذا كانت الكنيسة تطلق عليها هذا الاسم، غير أن «ترتوليان» رفض هذا الاتجاه، فهو فيما يبدو لا يرحب بدخول المرأة الكنيسة أو العمل بها، وإن حدث واضطرت الكنيسة إلى قبولها، فينبغي أن يكون ذلك في أضيق نطاق، على نحو ما سنعرف بعد قليل.

يقول «ترتوليان»: «أعلم تمام العلم أنه في مكانٍ ما هناك عذراء يقل سنها عن عشرين سنة توضع في سلك الأرامل.» وهو يحتج بقوةٍ ضد هذه الطريقة الجديدة المبتكرة، ومن ثم نراه يتهم «العذراء الأرملة» بأنها «عذراء منحرفة» أو شاذة السلوك.

وهي لا تصلح للعمل إذ ليس لديها خبرة، لا في الحياة الزوجية، ولا في تربية الأطفال، ولا في التعامل مع الآخرين.٣٩

غير أن احترام العذرية كان ينمو ويزداد في تلك الأيام، وكانت الظروف تتجمع لتدعم النظام الجديد، فحتى نهاية القرن الثاني لم تكن هناك أماكن عامة للعبادة المسيحية، ولا دور عبادة، فقد كان المسيحيون يلتقون في بيوتٍ خاصة، وكان المستأجرون، أو السكان، يقومون بإعداد جميع الترتيبات الضرورية للاجتماع.

لكن عندما بدأ بناء الكنائس بدأ الموظفون الرسميون برعايتها، وعُيِّن الشمامسة٤٠ لهذا الغرض. وقد أعدت الكنيسة ترتيباتٍ خاصة للمصلين، فقد كان النساء يدخلن من أبوابٍ خاصة، وينفصلن عن الرجال، وعلى الباب المخصص للنساء تقف «شمَّاسة» من النساء لتوجيه الزائرات إلى أماكنهن، وللتأكد من أن الجميع يسلكن بهدوءٍ واحترام، وكان ذلك هو العمل الكبير الذي تقوم به النساء في الكنيسة. وشيئًا فشيئًا أصبح هو عملهن الوحيد، لكنهن كن يساعدن الشمامسة في الخدمة أيضًا، ولا سيما في الأعمال التي تناسب النساء، فمثلًا رأت الكنيسة أنه في عملية تعميد الأطفال ليس من الضروري أن يقوم الرجال بعمل الترتيبات اللازمة لهذا الاحتفال، ومن ثم فقد تُرك للشمامسة من النساء القيام بهذه الأعمال البسيطة: خلع ملابس الطفل، وإعداده للعماد، ثم إعادة إلباسه لملابسه مرة أخرى، وقل الشيء نفسه في عملية العماد بالنسبة للكبار إذ يقوم الشماس بمسح جبهة المرأة المسيحية بالزيت فقط.
على أن يترك للشماسة القيام بمسح جسد المرأة كله،٤١ كما تقوم الشماسة كذلك بعمل الأرامل، فتنقل بعض الرسائل والحاجات إلى النساء الفقيرات. لكن الشماسات لا يقمن بوظائف رُوحية؛ فلا يقمن بالوعظ أو التعليم، ولتحمل الأرملة ذهنًا خاليًا ولتتفرغ للصلاة. ولا ينبغي عليها أن تجيب عن أية أسئلة حول الإيمان والاستقامة والأمل في الرب … إلخ.
غير أن ترتوليان يحرِّم أن تقوم الشمَّاسة من النساء بعملية العماد، فهو عند مناقشته لترتيبات العماد يذهب إلى أن الأسقف Bishop من حقه قبل أي إنسانٍ آخر القيام بهذه العملية، ثم القسيس أو الكاهن، أو شيخ الكنيسة، ثم الشمامسة من الرجال، فإذا لم يوجد أحدٌ من هؤلاء فليقم بالتعميد عابر سبيل، أو رجل الشارع، لكن لا يجوز في جميع الحالات أن تقوم امرأةٌ بهذه العملية!
ويعتمد ترتوليان في هذا التحريم على القديس بولس، يقول: «كيف يمكن لنا أن نصدق أن من حرَّم على المرأة حتى أن تعلِّم (يقصد بولس)، سوف يعطي للأنثى سلطة التعميد، لتصمت نساؤكم، وليستشرن أزواجهن في المنزل …»٤٢

والغريب أن هذا التقليد انتقل من الكنيسة الشرقية إلى الكنائس في الغرب، فهي لم تعط قط أية وظائف كليركية للنساء، فقد كان يُنظر إليهن باستمرارٍ على أساس أنهن أدنى مرتبة من الرجال، ومن العار على الرجل أن يتلقى تعليمًا، أو تهذيبًا، أو إرشادًا، أو حتى بركات كنيسة من امرأة!

ترتوليان … والمونتانية

نود أن نختتم هذا الحديث عن ترتوليان بقصته مع مذهب «المونتانية»، فما هو هذا المذهب؟

«المونتانية» Montanism مذهبٌ ديني مسيحي نشأ في مدينةٍ صغيرة هي «تيميون» Tymion في فريجيا Phrygia بآسيا الصغرى في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي (فيما بين ١٥٦-١٥٧م)، وإن كان من الباحثين من يرى أنه نشأ بعد ذلك حوالَي (١٧١م) على يد كاهن اسمه مونتانوس Montanus زعم أنه صوت الرُّوح القدس، وتنبأ بأن المسيح سوف يعود إلى الأرض في وقتٍ قريب جدًّا، ومن أجل ذلك راح يدعو الناس إلى التوبة، والصيام، والاستشهاد، والصوم عن الزواج. وقد بقيت المونتانية ذات شأن في آسيا الصغرى إلى أن أصدر الإمبراطور «جوستنيانس الأول» Justinianus I (٤٨٣–٥٦٥م) في القرن السادس للميلاد تشريعًا قاسيًا ضدها.٤٣
ظهر هذا المذهب إذن في عصر «ترتوليان» وانضم إليه فيلسوفنا في بداية نشأته، وكان للمذهب نشاط ملحوظ في تدعيم قضية المرأة في فريجيا أولًا، ثم امتد نشاطه إلى سوريا، ومصر، وشمال أفريقيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وبلاد الغال. ويُرجع البعض سبب انتشارها السريع إلى ضعف الحماس الذي كان عند المسيحيين في ذلك الوقت.٤٤
كان موقف المذهب غريبًا بعض الشيء بالنسبة لقضية المرأة، فهو يقدم الشكر لحواء؛ لأنها كانت أول من أكل من شجرة المعرفة. كما أنه أثنى على مريم شقيقة موسى، وكذلك بنات فيليبس Philips الأربع؛ لأنهن أكدن حق المرأة في النبوة، أعني نقل رسالة الله إلى العلن. وكان يوجد عادة في كنائس هذا المذهب سبع عذارى يرتدين الملابس البيضاء، ويحملن المشاعل، ويتحدثن إلى النساء حديثًا مؤثرًا حتى تنحدر دموع التوبة والندم على خدود المستمعات. فضلًا عن ذلك كله فقد احتلت النساء في هذا المذهب مناصب دينية رفيعة، فكان منهن الأساقفة، ومشايخ الكنيسة، والقساوسة، والشمامسة مثلهم مثل الرجال سواء بسواء، واستخلصوا في ذلك بعض عبارات للقديس بولس يقول فيها: «في يسوع المسيح ليس هناك ذكر ولا أنثى!» وأولوها تأويلًا خاصًّا بأنها تعني المساواة التامة بين الرجال والنساء، وأنها ليست مجرد حديث عن «الإيمان».

غير أن ترتوليان سرعان ما انفصل عن هذا المذهب وكون لنفسه شيعة خاصة به، وشن حملةً عنيفة على أفكار هذه الفرقة الدينية، ولا سيما ما قالته عن النساء، يقول: «كم هن خليعات عاهرات أولئك النسوة الهراطقة! لأنهن تجرأن وعلَّمن، وجادلن، وناقشن، وقمن بتلاوة الصلوات والأناشيد والتعاويذ … وذلك كله تجديف على الله، وربما قمن بأداء طقوس العماد أيضًا …!»

•••

فإذا تساءلنا في نهاية حديثنا عن «ترتوليان» ماذا كان موقفه من الفلسفة؟ لوجدنا أنه، على العكس من كلِمِنت السكندري — ظن أنها عدو للدين، فشن عليها حملةً بالغة العنف، وكان أول فيلسوف مسيحي بارز يكتب باللاتينية ويُظهر احتقارًا ظاهرًا للوثنية وللعلم الوثني، ويتساءل ما العَلاقة المشتركة بين الفيلسوف والرجل المسيحي، بين تلميذ اليونان وصديق الخطأ، وبين ابن السماء وعدو الخطأ وصديق الحقيقة؟

لا شيء مشترك بينها على الإطلاق!٤٥ «ما العَلاقة بين أثينا وأورشليم، بين الأكاديمية والكنيسة، بين المارقين والمؤمنين؟ لا شيء قط! ونحن نتبرأ ممن ابتدعوا مسيحية رواقية أو مسيحية أفلاطونية أو مشائية … بعد المسيح والأناجيل لسنا بحاجةٍ إلى شيء!»، بل إن حكمة سقراط لا ترقى كثيرًا مادام لا يوجد أحدٌ يستطيع أن يعرف الله من دون المسيح، ولا المسيح من دون الرُّوح القدس. وفضلًا عن ذلك فإن سقراط — كما اعترف بنفسه — كان يقوده الشيطان! أما أفلاطون فقد اعترف بدوره — في رأي ترتوليان — بأن من الصعب عليه أن يصل إلى صانع الكون Demiorgos (من اللفظ اليوناني Demiorgos) في الوقت الذي وصل إليه أبسط رجل مسيحي!٤٦ أما أرسطو «التعس» ففي استطاعتك أن تستخدم منطقه في الهدم والبناء على السواء! وفضلًا عن ذلك فإن فلاسفة اليونان هم آباء الهراطقة، فنظرياتهم الأخلاقية، وكذلك معظم أفكارهم، استعاروها من العهد القديم في الكتاب المقدس، ثم شوهوها ونسبوها إلى أنفسهم! ومن ثم فإن الاعتماد على مؤلفات الفلاسفة واستخراج الأدلة منها، منهجٌ عقيم؛ ولهذا يبتكر منهجًا آخر هو استنطاق النفس، ويبين في كتابه «في النفس» أن النفس تنزع بطبيعتها إلى الدين، ولا سيما في أوقات الضيق والشدة، فتظهر المشاعر الدينية التي فطر الله النفس عليها، ومن هنا فإن «ترتوليان» يعتمد كثيرًا على المشاعر والعواطف، وليس العقل. أيمكن لنا أن نعجب بعد ذلك إذا ابتكر منهجًا يقوم على الإيمان بالخُلف والعبث والتناقض واللامعقول؟ فهو صاحب المبدأ الشهير أُومنُ لأنه خُلفٌ محال Credo quia Absurdum est أو بصيغته الأخرى، أُومنُ لأنه محال Credo quia impossibile est.

ثالثًا: القديس جيروم (٣٤٥–٤٢٠م) St. Jerome

فيلسوف من أكبر لاهوتيي الكنيسة المسيحية في عهودها الأولى، ويقول «رسل» إنه واحد من أربعة رجال يطلَق عليهم «أساتذة الكنيسة الغربية».٤٧

(١) حياته

ولد جيروم عام ٣٤٥م في مدينة تسمى «ستريدون» Stridon لا تبعد كثيرًا عن مدينة «أكويليا» Aquileia بوسط إيطاليا، وقد أصيبت ستريدون بالدمار على أيدي القوط عام ٣٧٧م، وكانت أسرته ميسورة الحال، لكنها لم تكن بالغنية، وفي سنة ٣٦٣م قصد روما حيث درس البلاغة، واقترف الخطيئة، وبعد أن ارتحل في بلاد الغال ألقى عصاه في «أكويليا» وأصبح من الزاهدين، وأنفق السنوات الخمس اللاحقة راهبًا في صحراء سوريا، فكانت حياته حياة قوية وندمًا صارمًا يكفر به عما اقترف، كانت حياة دموع وآلام يعقبها فترات من النشوة الرُّوحية، ثم تعاوده الذكريات المغرية بالغواية عن الحياة الرومانية. وقد أقام في كهفٍ يجمع قوته بنفسه ويرتدي ثوبًا من وبر الإبل. وبعد هذه الفترة سافر إلى القسطنطينية وأقام في روما ثلاثة أعوام، حيث أصبح صديقًا للبابا «داماسوس» Damasus، وهو الذي دفعه إلى ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية، وأثناء إقامته في روما اتصل بسيداتٍ كثيرات ممن جمعن بين الأرستقراطية والتقوى، وقد حمل بعضهن على اصطناع حياة الزهد، فكره البابا الجديد هذا المسلك من جيروم (وكان موت داماسوس قد جعله يشتبك في خلافٍ مع البابا الجديد)، وشارك البابا في كرهه كثيرون من أهل روما.

(٢) جيروم … والمرأة

من الباحثين من يرى أن القديس جيروم — وهو ثالث مفكر كبير في هذه الحقبة — كان من زوايا كثيرة أكثر رقة ولطفًا في معاملته للنساء، إذا قورن بأي أبٍ آخر من رجال الكنيسة، فقد كان يشعر بمتعةٍ لا حد لها عندما يقوم بالتدريس لهن، حتى إنه كوَّن حوله حلقة في أثناء إقامته في روما، تتألف من سيدات كثيرات ممن جمعن بين الأرستقراطية والتقوى،٤٨ حيث كان يقوم بشرح الكتاب المقدس لهن، ويحثهن على الزهد والتنسك — كما قلنا — ومن بين من استطاع هدايتهن من النساء الممتازات «مارسلا» Marcella و«بولا» Paula وهما أرملتان، ثم ابنتا الأخيرة وهما «بلايزيلا» Blaesilla و«يوستوخيوم» Eustochium.٤٩
ولقد كانت ظاهرة النساء المثقفات شائعة وحية في زمن القديس «جيروم» St. Jerome، ونستطيع أن نقدر أهمية المساعدة العلمية التي قدمتها «بولا» وابنتها، في خلوتهما الفلسفية، إلى شارح الكتاب المقدس من خلال هذه الكلمات البسيطة التي بعث بها إليهما فيلسوفنا: «أنتما الضليعتان في الأدب العبري، والمؤهلتان للحكم على صحة وسلامة نص مترجم، أعيدا النظر في هذا النص كلمة كلمة (وكان النص المترجم من سِفر أستير) للتأكد من أني لم أضف شيئًا، أو أنقص شيئًا من النص الأصلي، ومن قدرتي على النقل الصحيح والأمين إلى اللاتينية لهذه القصة العبرية …»٥٠ وهكذا وُلد يومًا بعد يوم، وبفضل مساهمة نسائية، النص اللاتيني الشهير للتوراة المعروف باسم «الفولجات» Vulgate.
غير أننا ينبغي أن ننتبه جيدًا إلى هذا الموقف، فلا شك أن القديس «جيروم» دافع بقوةٍ عن صداقته للنساء على أساس أنه ليس ثمة ما يشين إذا ما عقد المرء عَلاقة صداقة مع ذلك الجنس الذي انحدرت منه مريم العذراء، فهي على كل حال «صداقة أفلاطونية» بريئة تجرد المرأة من كل ما يتعلق بأنوثتها، فلا عواطف، ولا غرائز، ولا جسد، ولا زوجة، ولا أم … إلخ.٥١ وقد كره بابا روما الجديد من جيروم هذا المسلك، وشارك البابا في كرهه كثيرون من أهل روما، وهو مسلك يستحق بالفعل «التأمل»!
ومهما يكن من شيء فقد ظل جيروم يهاجم الجسد، بل والزواج نفسه، حتى إنه اندفع في هجومٍ عنيف على شخصٍ يدعى «هلفيديوس» Helvidius؛ لأنه جرؤ على أن يأخذ إشارة الكتاب المقدس إلى إخوة المسيح مأخذ الجِد،٥٢ فاستنتج من هذه الإشارة أن السيدة مريم مارست الجنس مع يوسف النجار بعد الميلاد العذري للسيد المسيح. هناك قام القديس جيروم بهجومٍ كاسح على هذا التجديف الفاضح، فقال في نقده لهذا الرجل: «لقد دنست قداسة الرُّوح القدسي الذي عزمت أن تجعل منه فريقًا من أربعة إخوة، ومجموعة من الأخوات»، فقد كره «جيروم» مجرد التفكير في أن تكون السيدة مريم زوجة عادية، وتسلك مسلك أية زوجة تحب زوجها وترعى أطفالها.٥٣

ولم يكن القديس «جيروم» يجد شيئًا جذابًا في الأمومة، بل إنه ليجد في المرأة الحامل منظرًا مقزِّزًا للنفس، وهو لا يستطيع أن يجد مبررًا للهفة الإنسان على الذرية: «فما الذي يجعلك تهفو إلى طفلٍ مزعج يزحف على صدرك، ويلوث عنقك بقاذوراتٍ بغيضة؟!» فهو يريد جمال المرأة في صفائه ونقائه دون أن يمسسه دنس.

وينصح صديقاته من النساء أن يعشن عذارى في بيوتهن إذا تعذر عليهن دخول الدَّير، ويكاد جيروم يعُد الزواج من الخطايا ويقول: «إني لا أمدح الزواج إلا لأنه يأتيني بالعذارى» ويريد «أن يقطع بفأس البكورية خشب الزواج»، وهو يفضل بولس الرسول الأعزب على بطرس الذي تزوج. ومن أطرف رسائله ما كتبه إلى «يوستوخيوم» Eustochium في لذة البكورية، ويقول لها في هذه الرسالة إنه لا يعارض الزواج، لكن الذين ينجون منه ينجون من آلام الحمل، وصراخ الأطفال ومتاعب البيوت، وعذاب الغيرة. وهو يعترف بأن طريق العفة شاق أيضًا، وأن ثمن البكورية هو اليقظة الدائمة.

«إن فكرة واحدة قد تكفي لضياع البكورية … فليكن رفاقكِ هم صُفر الوجوه الذين هزَلت أجسامهم من الصوم … وليكن صومك حادثًا يتكرر في كل يوم. اغسلي سريركِ، ورشي مخدعكِ كل ليلةٍ بالدموع … ولتكن عزلة غرفتكِ هي حارسكِ على الدوام … ودعي الله عريسكِ هو الذي يلعب معكِ في داخلها … فإذا غلبكِ النوم جاءكِ من خلف الجدار، ومد يده من خلال الباب، ومس بطنكِ، فصحوتِ من النوم، وقمتِ واقفةً وناديته: «إني أهيب بحبك» فتسمعينه يقول: إن أختي حبيبتي جنة مغلقة وعين ماء مفتوحة وينبوع مختوم …»

ويقول «جيروم» إنه لما نشر هذه الرسالة: «حياها الناس بوابلٍ من الحجارة»، ولعل بعض قرائها قد أحسوا في هذه النصائح بلوعةٍ مقيمة في رجلٍ يبدو أنه لم يَسلم بعد من حرارة الشهوات.

ولما ماتت «بليزلا» Blesilla الفتاة الزاهدة بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت عام ٣٨٤م، خرج من روما في العام التالي ٣٨٥م، ولم يعد إليها أبدًا.

فإذا كان القديس جيروم قد أولى بعض النساء عنايةً خاصة، فقد جاء ذلك على حساب الأنثى بصفةٍ عامة، وعلى حساب كراهيته لأهم وظيفة بيولوجية للمرأة، ومن هنا ظهر عداؤه القوي لجنس النساء!

فمن الغريب أن يهاجم القديس «جيروم» فكرة الزواج نفسها، فهو يبعث ببعض الرسائل إلى «يوستوخيوم» تستوقف النظر لغرابتها، فهو ينصحها بالاحتفاظ ببكارتها، ويجعل نصحه لها في هذا الصدد مفصلًا وصريحًا غايةً في التفصيل والصراحة، بل ويتعمد أن يشرح المعنى البيولوجي والتشريحي الدقيق لبعض العبارات التي وردت في «العهد القديم» في هذا الموضوع، واكتفت بالتلميح دون التصريح! وتراه في مدحه للذائذ الحياة في الأديرة يستخدم ضربًا من التصوف الغزلي هو أقرب إلى التعويض كما يقول علم النفس: فالراهبة عروس المسيح، وقد أشيد بهذا الزواج في «نشيد الأنشاد»، فهو يكتب رسالةً إلى «يوستوخيوم» الفتاة العذراء يحثها على التمسك بالرهبنة؛ لأنها ستتزوج من المسيح، يقول للفتاة:
«احرصي أبد الدهر على أن تكون لغرفتكِ حرمة تحرسكِ، احرصي أبد الدهر على أن يلاعبك «العريس» داخل غرفتكِ. هل تؤدين الصلاة؟ إنك في الصلاة تتحدثين إلى «العريس». هل تقرئين؟ إنه في القراءة يتحدث إليكِ. إنه إذا ما أخذكِ النعاس، أتاكِ من خلف، ووضع يده خلال ثقب الباب، وعندئذٍ سيهتز قلبك، فتستيقظين وتنهضين لتقولي إنني «نشوانة من الحب»، وعندئذٍ سيجيبك قائلًا: «إن بستانًا مستورًا هو بمثابة أختي وعرسي، إنها ينبوع مصون في هذه الغرفة، ونافورة مختومة!» وفضلًا عن ذلك فإن «القديس جيروم» يبعث لأمها برسالةٍ هامة يبرر لها تشجيعه لابنتها لرفض الزواج، ويطلب فيها أن تفرح لذلك: «أأنت غاضبة منها لأنها اختارت أن تكون زوجة لملِك (يقصد المسيح) بدل أن تكون زوجة لأحد الجنود؟ لقد خلعت عليك ميزةً كبرى لأنك الآن قد أصبحت حماة المسيح …»٥٤

الواقع أن موقف القديس جيروم من المرأة بالغ الغرابة، وهو محير للباحث إلى أقصى حد، فأنت معه تشعر بأنه يكن لها حبًّا عميقًا، لكنه حب انقلب إلى كراهيةٍ، فأراد أن يجرد المرأة من أنوثتها، ولا يجعلها تمارس أية عَلاقة تذكره بهذه الأنوثة، ولكنك تشعر أحيانًا أخرى أنه يعاني من صراعٍ عنيف بين الجوانب الدنيوية، والجوانب الرُّوحية؛ فهو يقرِّب الأرستقراطيات الجميلات، وبنات الأشراف، ويصطحب الفتاة «يوستوخيوم» وأمها «بولا» في رحلته الطويلة المتعرجة إلى بيت لحم، ولما ماتت «بولا» دفنها في بيت لحم، وكتب القديس قصيدة شعر توضع على قبرها:

ابنة سيبيو Scipio٥٥ ترقد في هذا القبر.
هي سليلة أسرة بولس التي طبقت شهرتها الخافقين.
هي غصن من أرومة آل جراتشي Gracchi، وهي في نسل أجاممنون درةٌ لامعة.
هاهنا ترقد السيدة بولا، التي أحبها والدها حبًّا شديدًا.
وابنتها هي يوستوخيوم Eustochium، وهي أولى سيدات الرومان اللائي اخترن المشقة، وقصدن إلى بيت لحم في سبيل المسيح.
ويشهد على ما كان يعانيه من صراع، ما يرويه عن نفسه من كبح جماح نفسه، ومجاهدة ومعاناة، فهو يصوم وينقطع عن الطعام الشهي الذي تعوده، ثم يقرأ «شيشرون»، وبعد أن يقضي أيامًا وليالي في تأنيب نفسه، كان يعود فيسقط مرةً أخرى، ويقرأ بلوتس Plautus الكاتب المسرحي الهزلي الروماني، وبعد هذه القراءة يظهر له أسلوب الأنبياء قبيحًا منفرًا، وأخيرًا يرى في الحلم وهو محموم، أن المسيح يسأله يوم الحساب من ذا عسى أن يكون، فيجيبه أنه مسيحي، وعندئذٍ يأتيه رد المسيح: «إنك كاذب، فأنت من أتباع شيشرون لا المسيح.» وأمر به بعدئذٍ أن يُضرب بالسياط، وأخيرًا صحا جيروم من حلمه قائلًا: «مولاي إذا أبقيتُ عندي بعد اليوم كتبًا دنيوية، أو إذا قرأت بعد اليوم مثل هذه الكتب، فقد أنكرتك.» ثم يضيف إلى ذلك قوله: «إن هذا لم يكن نعاسًا، ولا كان حلمًا فارغًا.»٥٦
من الواضح، إذن، أن القديس جيروم كان يعاني من هذا الصراع الدنيوي الرُّوحي، كما أن حبه للمرأة وكراهيته للجنس، كانا يدفعانه بقوةٍ نحو الإشادة بالعذرية والبكارة، ومهاجمة الحياة الزوجية بألفاظٍ قاسية محذرًا الرجال من قوة الغواية عند النساء! وهو يعرف صراحة، أنه كان يعاني — وهو يحيا حياة النساك في صحراء سوريا — من خيالات المرأة التي تطوف بذهنه، فهو كثيرًا ما مزقته أطياف الفتيات وهن يرقصن؛٥٧ ولهذا نراه يحذر الكاهن من أن يسمح لامرأةٍ أن تدخل أو تجلس معه على انفرادٍ في مكانٍ منعزل،٥٨ فيقول له:

«ضع في اعتبارك أنك لن تكون قديسًا أكثر من النبي داود، ولن تكون حكيمًا أكثر من سليمان الحكيم، وتذكر دائمًا أن امرأةً واحدة هي التي قادت رجل الفردوس إلى خارجه، ففقد (آدم) الجنة التي وهبها له الله!».

ويمكن لنا أن نقول إن القديس «جيروم» يكشف في كثيرٍ من الأحيان عن انفصامٍ في الشخصية بالغ الغرابة: فهو من ناحيةٍ يبدي تقديرًا وإعجابًا لا حد لهما بالعذارى والأرامل بشرط أن يكرهن الزواج (أي أن يعملن على طمس جانب الأنثى فيهن). ومع أنهن نساء في نهاية الأمر فهن رغم ذلك رفاق الرُّوح في رأي القديس جيروم، لكنه من ناحيةٍ أخرى يُكنُّ للمرأة كراهيةً عميقة، فضلًا عن احتقاره للجسد وكل ما يتعلق بالجنس. أهو الحب العميق، الذي سبق أن تحدثنا عنه، الذي لم يجد وسيلةً للإشباع فانقلب إلى كراهيةٍ عميقة؟!

ومن هنا فقد انطلق القديس جيروم في مهاجمة جوفنيان Jovinian بعنف؛ لأنه تجرأ ووصف الزواج بأنه يمكن أن يكون رابطةً فاضلة ومرغوبة مثله مثل حالة العذرية والبكارة سواء بسواء. وها هنا يُظهر القديس جيروم كراهيةً واضحة للمرأة؛ ولهذا نراه يأتي بحججٍ من الكتاب المقدس ليبرهن على أن الزواج رجسٌ من عمل الشيطان، وهو تدنيس للنفس البشرية، ألم يكن هو نفسه نتيجة للسقوط؟! والقديس جيروم يلجأ إلى الملك سليمان بوصفه رجلًا خبيرًا في شئون الجنس — على حد تعبيره — ثم يسيء تأويل النصوص التي يقتبسها من سِفر الأمثال لكي يبين لنا — من خلال رجلٍ جرَّب النساء وعانى منهن — مَن هي الزوجة، ومَن هي المرأة.

يقتبس القديس جيروم ثلاثة نصوص من سِفر الأمثال، تدور حول البغايا والعاهرات، ونصًّا واحدًا عن امرأةٍ سليطة اللسان، ويظن أنه بذلك قدم لنا الحُجج الدامغة على الخصائص العامة للزوجة، بصفةٍ خاصة، ووصف لنا طبيعة المرأة عمومًا.

أما النص الأول ففيه حديث عن ثلاثة أشياء عجيبة، أحدها: «طريق المرأة الزانية، أكلت، ومسحت فمها، وقالت ما عملت إثمًا» (أمثال ٣٠: ٢٠). ولست أدري كيف يمكن أن نجد في نصٍّ كهذا إدانة للمرأة بصفةٍ عامة، مع أن النص صريح في إدانته للمرأة الزانية وحدها؟ إنه يتحدث عن وقاحة امرأة معينة دون أن يتعرض بكلمةٍ واحدة لجنس النساء، وفضلًا عن ذلك فإنه يمكن أن تقال العبارة نفسها عن الرجل الزاني أيضًا، فالحديث هنا لا يعدو استهجان سلوك إنساني آثم!
أما النص الثاني فهو يتحدث عن أربعٍ لا تقول كفى:٥٩ «الهاوية، والرحم العقيم، وأرض لا تشبع ماء، والنار» (أمثال ٣٠: ١٥-١٦)، وإذا كان هذا النص يشير إلى أن امرأةً لا ترتوي جنسيًّا فهو خطأ، أما إذا كان يشير إلى شوق المرأة العاقر إلى الأطفال … فلست أدري ما الذي يَشين المرأة في ذلك؟ بل ألسنا نجد الرجل العاقر لهوفًا عليهم أيضًا؟
النص الثالث يقول: أربعة لا تستطيع الأرض احتمالها: «عبد إذا ملك، وشنيعة إذا تزوجت، وأحمق إذا شبع، وأمة إذا ورثت سيدتها» (أمثال ٣٠: ٢–٢٢).
ويذهب القديس جيروم إلى أن هذه النصوص تكشف عن أن المرأة موجودٌ شاذ، فالرغبة الجنسية عندها لا تشبع، ويكفي — في رأيه — أن الكتاب المقدس وضعها بين أربعة أشياء لا تستطيع الأرض احتمالها، وينتهي من ذلك كله إلى أن: الزوجة توضع في مصاف الشرور العظيمة، وبعد أن يقتبس من كتاب ثيوفراسطس Theophrastus المفقود، والذي عنوانه «مساوئ الزواج»، يقول عنه في زهو: إنه كتابٌ يساوي وزنه ذهبًا، ويسرد في فرحة المنتصر قائمةً طويلة بأسماء زوجات شهد لهن التاريخ بالسوء والسلوك الشائن:
فهناك ترنتيا Terentia٦٠ التي تزوجت ثلاث مرات، واكزانثيب Xanthippe٦١ التي اعتادت أن تسكب المياه القذرة على رأس سقراط وتلاميذه وهم يتناقشون أمام منزلها، وميتالا Metalla التي لم تكن عفيفة ولا طاهرة، وأكلوريا بولا Akloria Paula السكِّيرة التي تحدت زوجها كاتو Cato، وأولمبياس Olympias التي أغلقت الباب في وجه زوجها فيليب المقدوني ومنعته من أن يدخل غرفة نومه.٦٢ وإذا قلنا للقديس جيروم هذه أمثلة شاذة لزوجاتٍ سيئات، لكن هناك ملايين غيرهن من الزوجات الصالحات الفاضلات المخلصات٦٣ لأجابنا بقوله: وما الذي يجبرني على القيام بمغامرةٍ فتكون لي امرأة أتزوجها سواء أكانت صالحة أم طالحة؟ إننا نادرًا ما نجد زوجةً خالية من هذه العيوب، أو بغير أخطاء، أو بغير منازعاتٍ وانفعالاتٍ طاغية، وكل من تزوج يعرف ذلك حق المعرفة.٦٤

فإذا كان القديس جيروم يقدر بعض النساء، فهو يعلي من شأنهن على حساب جنس المرأة بأسره، وشأنه شأن بقية الآباء يركز على أمرين أساسيين: الجنس، والخطيئة الأولى. وها هنا يعتمد تمامًا على التراث اليهودي، وخوفه من غواية المرأة، وإدانته للشهوة الجنسية، وما يذكره من قصصٍ عن شمشون، وداود، وسليمان وغيرهم، وهو يستخرج من نصوص الكتاب ما يعمل على طمس هذه الجاذبية، وكثيرًا ما يكرر بإصرارٍ أن جسد الأنثى ليس شيئًا جذابًا، بل هو موضوع قذر، وإنجاب الأطفال ليس مدعاة للفرح والبهجة، بل هو علامة على الانهيار والتدهور!

تربية الفتاة

ربما كان القديس جيروم أكثر الآباء الفلاسفة اهتمامًا بالتربية والتعليم، حتى إنه وضع رسالةً خاصة لخص فيها أفكاره عن تربية الفتاة وتعليمها، وكان المسيحيون في بحثهم عن حياةٍ رُوحية أعظم قد اكتشفوا حياة الدير التي بدأت تشيع منذ القرن الرابع الميلادي، ولقد راح القديس جيروم يبشر بها ويعظ بفضائلها، ويجذب نساء روما وأراملها إليها. وقد سبق أن رأينا كيف جذب الفتاة «يوستوخيوم» وأمها «بولا» اللتين صحِبتاه إلى بيت لحم حيث أنشأ ثلاثة أديرة للراهبات، وديرًا رابعًا للرهبان، وفيه عكف على تأليف معظم كتبه، وفي عام ٤٠٣م كتب رسالةً موجهة إلى زوجة ابن السيدة بولا ينصحها كيف تربي ابنتها التي وضعتها حديثًا، وكان يأمل أن تربى الفتاة على أن تظل عذراء تهب نفسها لله!

يقول في هذه الرسالة:

فلتتلقَّ طفلتكِ تعليمًا جديرًا بمولدها، لقد ترعرع صموئيل في المعبد،٦٥ ويوحنا في البرية.٦٦ الأول أرسل شعره لا يذوق الخمر، ويحادث الرب وهو صبي صغير، والثاني يتجنب الحياة في المدن، ويضع حول وسطه مِنطقة من الجلد، ويتغذى على الجراد وعسل النحل، ويرتدي جلد الحيوان — على هذا النحو ينبغي أن تُربَّى النفس التي ستكون معبدًا للرب، فتتعلم ألا تسمع ولا تقول إلا ما يجعلها تخشى الله، فلا تعرف شيئًا من الكلام الأحمق، ولا أغنياتٍ دنيوية، بل أن يتحلى لسانها بموسيقى المزامير العذبة. وليبتعد عنها الأطفال بعبثهم ومرحهم ونزواتهم، ولتعمل مربيتها على إبعادها عن كل ما هو دنيوي، حتى لا يصل إلى مسامعها أية معارف شريرة.٦٧ أما الزي وما ينبغي أن ترتديه الفتاة من ملابس فيقول عنه القديس جيروم:
أما بالنسبة لملابسها ومظهرها الخارجي فيجب أن تذكِّريها باستمرارٍ أنها موعودة للمسيح، فلا تخرِمي أذنيها، ولا تلطخي وجهها بالأصباغ، ولا خديها باللون الأحمر، فهي كلها مكرسة للمسيح، ولا تثقلي عنقها بالذهب واللآلئ، أو رأسها بالجواهر، ولا تصبغي شعرها باللون الأحمر؛ لأنك بذلك تتنبئين لها بنيران جهنم. دعيها تتحلى بجواهر أخرى عظيمة القيمة.٦٨

والقديس جيروم يذكر لها أن امرأة — بناء على نصيحة زوجها — زينت ابنتها العذراء بالجواهر، وتركت شعرها مسدولًا، فجاءها الملاك في النوم ليقول لها بصوتٍ مرعب:

أتجرُئين أن تضعي أوامر زوجك فوق وصايا المسيح؟ أتنوين أن تضعي هذه الأيدي الدنسة فوق العذراء التي نذرت نفسها لله؟ منذ هذه الساعة سوف تذبل هذه الأيدي وسوف تدركين إثمه فيما تشعرين به من عذاب، حتى إذا ما انقضى الشهر الخامس سوف تُحملين إلى نار جهنم. فإذا ما كابرتِ وتمسكتِ بشرِّك فسوف تفقدين زوجك وأطفالك. ويضيف جيروم: لقد تحقق ذلك كله، إذ سرعان ما حصد الموت كل شيء، مما يدلك على أن المسيح ينتقم من كل من يدنس معبده، ويدافع عن جواهره ولآلئه الثمينة. وأنا لا أذكر لكِ ذلك وفي ذهني أن أفرح أو أستمتع بسقوط الأشرار، بل لأذكِّركِ بأن عليكِ أن تتنبهي في قلقٍ وعناية للفتاة التي نَذَرْتِها لله، فما إن تَشِبَّ الفتاة حتى تأخذيها، مع والديها، إلى المعبد، إلى أبيها الحقيقي.٦٩

ويستمر القديس جيروم في رسالته ليذكر جميع تفصيلات الحياة اليومية في تربية الطفلة، فيقول عن الطعام مثلًا:

أما بالنسبة لتناول الطعام، فينبغي ألا تأكل في أماكن عامة، ولا حتى على مائدة أهلها إذا كان هناك ضيوف؛ لأنها في هذه الحالة قد ترى ألوانًا من الطعام قد تهفو نفسها إليها، وعلى الرغم من أن بعض الناس قد يقولون لكِ إنها لفضيلةٌ كبرى أن يرى المرء هذه الأشياء ويزهد فيها، فإنني عن نفسي أقول إن كبح النفس في هذه الحالة إنما يكون بالبقاء في حالة الجهل، فالأشياء التي ألفناها واعتدنا عليها سوف يصعب التخلص منها، وامنعيها من الآن عن شرب الخمر حتى تبلغ أشدها، وعندئذٍ لا مانع من تذوق بعض النبيذ الذي يُصلح المعدة … علميها غزل الصوف، وكيف تُمسك بفَلْكة المِغزل، وتضع السلة في حجرها، وتحرك الغزل. علميها أن تحتقر الحرائر، والصوف الصيني، والأقمشة المطرزة بالذهب، ولا ترتدي من الملابس إلا ما يقيها من البرد. ليكن طعامها نباتيًّا من الخضراوات والخبز، وقطعة ضئيلة من السمك بين الحين والحين، ولا أريد أن أطيل في قواعد تناول الطعام، فقد سبق أن كتبت فيها بالتفصيل في مكانٍ آخر، ولكن كل ما أود أن أضيفه هو أن تجعليها تشعر بالجوع بعد كل وجبة، وتبدأ في الحال في قراءة (أو غناء) مزامير داود. ينبغي ألا يكون لديها القدرة ولا المعرفة أن تعيش بدونك، وأن ترتعد إذا ما شعرت بأنها ستكون وحيدة. وامنعيها من مناقشة الأمور الدنيوية، ولا ترتبط بالعذارى اللائي لا يعرفن شيئًا عن نذرهن. وعليها ألا تحضر أفراح الجواري، ولا تشترك في الألعاب المنزلية الصاخبة. أنا أعلم أن بعض الناس وضعوا قاعدة هي أن العذراء المسيحية ينبغي عليها ألا تستحم مع خِصيان أو نساء متزوجات؛ لأن الخصيان لا يزالون رجالًا في قلوبهم، وللنساء المتزوجات نظرات نارية للعذارى. أما أنا فأستهجن الاستحمام تمامًا للعذراء الناضجة، إذ ينبغي عليها أن تخجل من نفسها وأن تعجز عن النظر إلى نفسها، وهي عارية تمامًا. فإذا ما أماتت الجسد بالصوم والصلاة، وإذا ما أطفأت جذوة الشهوة وكبحت جماح حرارة رغبات الشباب بالعفة الباردة، وإذا ما أسرعت بإفساد جمالها الطبيعي بالقذارة المتعمدة، فَلِمَ توقظ النيران النائمة عن طريق الاستحمام؟٧٠

وهكذا يحطم القديس جيروم الحكمة التي تقول إن النظافة من الإيمان في سبيل أن يطمس معالم الجمال عند المرأة، فلا تثير شهوة الرجال، وتوقعهم في الخطيئة!

رابعًا: القديس يوحنا «فم الذهب» (٣٤٥–٤٠٧م) St. John Chrysostom

أبٌ آخر من آباء الكنيسة، وواحد من أوائل المفكرين الذين دافعوا عن المسيحية في عهودها الأولى، وهو القديس «يوحنا كريسوستوم» الذي كان خطيبًا مفوهًا ذَرِب اللسان، حتى أحبه الناس حبًّا عظيمًا، ولقبوه ﺑ «يوحنا فم الذهب» أو «ذهبي الفم» وهو مشهور أيضًا في تاريخ الفكر المسيحي بيوحنا صاحب الفم الذهبي Chyrsostom.٧١

صحيحٌ أنه لم ينزلق في الانغماس المحموم بشجب أية عَلاقة مع المرأة، لكنه شارك في الجو الثقافي العام الذي كان يؤمن بأن المرأة موجودٌ أدنى من الرجل، وأن تأثيرها عليه بالغ السوء، يقول:

كم عانينا كثيرًا من عددٍ لا حصر له من الشرور والآلام، بسبب تمسكنا بالمرأة، نعود إلى البيت ونستسلم لرغباتٍ جامحة، ثم نعاني القلق أيامًا وليالي. إن جمال المرأة لهو الشرك الأعظم.٧٢ وهو ينصح الشباب بالابتعاد عن النساء جميعًا باستثناء العجائز القبيحات اللائي فقدن سحرهن وجاذبيتهن: «ينبغي على الشاب أن يبتعد عن الفتاة الشابة، مثلما يبتعد عن النار.»٧٣

وعند القديس يوحنا أن من يتزوج ويعيش حياةً عادية فاضلة في هذا العالم هو مجرد شاب صغير لكنه لا يمكن أن يكون راهبًا، وهو كثيرًا ما يقدم النصح اللطيف أو التحذير الرقيق، لكنه أبعد ما يكون عن الحقد أو الضغينة!

غير أن القديس يوحنا عندما يتحدث عن عَلاقة الرهبان بالنساء — وهو موضوع يهتم به اهتمامًا كبيرًا — فإنه يستخدم عندئذٍ لغة أكثر قوة، وأشد قسوة. وعلى الرغم من أنه أراد أن يتكيف مع العالم وأن يعيش معه، فقد وضع نفسه — على نحوٍ طبيعي — في سلك الرهبان، وآمن بالعذرية بوصفها الطريق الوحيد للحياة الفاضلة؛ ولهذا فقد رأى أن الشاب يخطئ عندما يهجر رسالة الرهبانية ويُربط بالزواج والأطفال والأسرة؛ لأن القديس يوحنا ينزعج من هذا الموقف انزعاجًا شديدًا ويعتبره سقوطًا مدوِّيًا، وهو لهذا السبب يسرع بكتابة كراسة دينية عنوانها «نصيحة إلى تيودور Theodore بعد سقوطه»، يقول فيها:

عليك يا تيودور أن تفكر بإمعانٍ في النتائج المترتبة على ارتباطك بالمرأة، بل بالنساء عمومًا، عليك أن تفكر مرتين في هذا الأمر، فكر فيما ارتكبه داود من زنًى، وفي ارتداد سليمان، ثم عليك أن تتأمل مليًّا في الطبيعة الحقة لذلك الجمال الأنثوي الذي توشك من أجله أن تتخلى عن فضيلتك!

لو أنك تأملت يا تيودور ما تخفيه هذه العيون الجميلة، هذه الأنف القويمة، والفم المرسوم، والخدود الغضة — لتأكدت أن هذا الجسم الممشوق ليس سوى قبر أبيض، أعضاؤه مليئة بقاذوراتٍ لا حد لها!

وفضلًا عن ذلك، فلو أنك رأيت شخصيةً تافهة مملوءة بقاذوراتٍ كالبلغم والبصاق وما شابه ذلك لما استطعت أن تلمسها ولو بأطراف أصابعك، كلا، ولا استطعت حتى أن تتحمل النظر إليها بعد ذلك كله، أفأنت تهتاج وتُستثار لمخزون ومستودع هذه النفايات؟

ولم لا تحرر نفسك، يا تيودور، من عبوديةٍ ملعونة، وتعود إلى حريتك السابقة.٧٤
وعلى الرغم من أن النساء في عصر القديس يوحنا كانت قد اعتادت ألا تسير في الشارع دون أن تغطي جسمها كله بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يرى أي جزءٍ منه، بل إنهن لا يستطعن رؤية شيء من الطريق سوى موضع القدم — رغم ذلك كله فقد نظر إليها على أنها بقايا عفة قديمة لم يعد لها وجود الآن؛ لأن الفساد يسرع إلى النساء من خلال الآذان ومن خلال العيون على حدٍّ سواء، حتى لقد فسد معظمهن فسادًا تامًّا، وهكذا تصل الإباحية والفساد إلى معظم النساء، يقول: إن النساء يسرن في الشارع بوجوهٍ مغطاة، لكن بأرواحٍ مكشوفة، بل قل إنها في الواقع مكشوفة على مصراعيها.٧٥
وهناك عبارة جامعة تلخص رأي القديس يوحنا كريسيستوم «صاحب الفم الذهبي» هي: «من بين وحوش البرية المفترسة يستحيل عليك أن تجد حيوانًا أشد أذى من المرأة.»٧٦
١  رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، الإصحاح الأول: ٣٢–٤٢.
٢  Fredrick Copleston: “A History of Philosophy”, Vol. 2, Search Press, p. 13.
٣  قارن في تقسيم هذه العصور التاريخية: د. إمام عبد الفتاح إمام: «مدخل إلى الفلسفة»، الطبعة السادسة، ص١٧.
٤  F. Copleston, op. cit. p. 14.
٥  Encyclopedia Americana Vol. 7, p. 49.
٦  إدوارد جيبون: «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، ترجمة لويس إسكندر ومراجعة أحمد نجيب هاشم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، القاهرة، عام ١٩٦٩م، ص١٧١ من المجلد الأول.
٧  James Donaldson: “Woman: Her Position”, p. 152.
٨  قارن: إمام عبد الفتاح إمام: «هيباتيا … فيلسوفة الإسكندرية»، دراسة في مَجلة عالم الفكر، المجلد الثاني والعشرون، يناير ١٩٩٤م.
٩  علينا أن نلاحظ دائمًا المبدأ السيكولوجي الذي ذكرناه من قبل، والذي يقول: «إن الكراهية الشديدة تنتج عن حبٍّ شديد …»، فقد يكون للإحباط والكبت، والمحاولة اليائسة لقهر الشهوات … إلخ، دورها في هذه الآراء.
١٠  Quoted by J. Donaldson: “Woman: Her Position”, p. 183.
١١  Ibid.
١٢  Ibid., p. 184.
١٣  Ibid.
١٤  Ibid., p. 188.
١٥  اسمه الكامل باللغة اللاتينية هو: Quintus Septimius Florens Tertullian. أي كوينتوس سبتيموس فلورنس ترتوليانوس.
١٦  Susan G. Bell: “Women: From The Greeks to the French Revolution”.
١٧  اقتبسه يوسف كرم في كتابه «تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط»، دار القلم، بيروت لبنان، ١٩٧٩م، ص١٦. وانظر أيضًا جورج طرابيشي: «معجم الفلاسفة»، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨٧م، ص٢٠٨.
١٨  Simone de Beauvoir: “The Second Sex”, pp. 129, 199.
١٩  Ibid.
٢٠  J. Donaldson: op. cit.
٢١  انظر فيما بعد عبارات القديس جيروم وهو يؤنب امرأةً رومانية على صدرها المكشوف!
٢٢  Ibid.
٢٣  لم تكن مشكلة الحجاب والنقاب وليدة اليوم أو الأمس القريب، بل هي تضرب بجذورها في الماضي الموغل في القدم، لا فقط في العصور المسيحية ولا الرومانية، بل ترتد إلى التراث اليهودي، فقد جاء في نشيد الأنشاد «للنبي سليمان»: «جميلة أنت يا حبيبتي، جميلة عيناك من وراء نقابك، خداك كفلقة رمانة من وراء النقاب» (الإصحاح الرابع: ١–٤).
٢٤  Quoted by Katherine M. Rogers: op. cit. p. 17.
٢٥  كانت مدينة قيصرية الجديدة عاصمة لفلسطين في عهد الرومان، وهي تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوب حيفا، أما مدينة قيصرية القديمة فكانت تقع في أواسط تركيا.
٢٦  J. Donaldson: “Woman: Her Position”, p. 183.
٢٧  Quoted by Katherine M. Rogers: “The Troublesome Helpmate: A History of Misogyny in Literature” Seattle, Wash. University of Washington Press 1966, p. 16.
٢٨  قارن: «والقول الشافي فيه أن النكاح نوع رق، فهي رقيقة له، فعليها طاعة الزوج مطلقًا في كل ما طلب منها في نفسها مما لا معصية فيه.» الإمام أبو حامد الغزالي: «إحياء علوم الدين»، المجلد الثاني، دار الريان للتراث، عام ١٩٨٧م، ص٦٤.
٢٩  J. Donaldson: “Woman: Her Position …”, p. 175.
٣٠  قارن: «حق الرجل أن يكون متبوعًا لا تابعًا، والزوج هو السيد» … إلخ. وأيضًا: «ثلاثة إن أكرمتهم أهانوك وإن أهنتهم أكرموك: المرأة – والخادم – والنبطي.»
(النبطي = من شعب النبط) «إحياء علوم الدين للإمام الغزالي»، دار الريان، المجلد الثاني، ص٥١.
٣١  «القول الجامع في آداب المرأة من غير تطويل: أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمِغزلها، لا يَكثُر صعودها وطلوعها، قليلة الكلام لجيرانها، لا تدخل عليهن إلا في حالٍ يوجب الدخول، تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه … إلخ.» إحياء علوم الدين، المجلد الثاني، ص٦٦.
٣٢  J. Donaldson: op. cit. p. 175.
٣٣  Ibid., p. 179.
٣٤  أب من آباء الكنيسة المسيحية في القرن الثاني، وهو واحد من المدافعين عن الدين، قدم دفاعه الشهير بعنوان: «التماسٌ من أجل المسيحيين» وجهه إلى الإمبراطور مرقس أوريليوس وابنه سنة ١٧٧م.
٣٥  J. Donaldson: op. cit, pp. 179-180.
٣٦  Ibid., p. 180.
٣٧  Ibid., p. 181.
٣٨  Ibid.
٣٩  Ibid., p. 159.
٤٠  الشمامسة جمع شمَّاس، والشمَّاس كلمة سريانية تعني من يقوم بالخدمة في الكنيسة، وهي مرتبة دون القسيس؛ ولهذا يقال عادةً إن الشماس هو مساعد القسيس.
٤١  J. Donaldson: op. cit.
٤٢  Tertullian: De Baptismo, C. XVIII.
٤٣  Twentieth Century Encyclopedia, Vol. 2 Barker Books House, 1995, p. 751.
٤٤  Ibid.
٤٥  F. Copleston: “A History of Philosophy” Vol. 2, Search Press, p. 23.
٤٦  Ibid.
٤٧  هم القديس أمبروز، والقديس جيروم، والقديس أوغسطين، والبابا جريجوري!
٤٨  برتراند رسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء الثاني، ترجمة د. زكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، عام ١٩٦٨م، ص٦٣.
٤٩  The Encyclopedia of Religion and Ethics Vol. 7 edited by James Hastings 1967, p. 498.
٥٠  اقتبسته مونييك بيتر في كتابها «المرأة عبر التاريخ» ترجمة هنريت عبودي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ص٩٩.
٥١  Katherine M. Rogers: “The Troublesome Helpmate: A History of Misogyny in Literature”, p. 19.
٥٢  من المعروف أن السيدة مريم كانت مخطوبة ليوسف النجار، وبنت عم إليصابات والدة يوحنا المعمدان. وتعتقد الكنيسة الكاثوليكية أنها ولدت بلا دنس، وأنها ظلت عذراء طيلة حياتها. وما ورد في الكتاب المقدس من ذكر إخوة ليسوع إنما ينصبُّ على أولاد العم والخال.
٥٣  تقول بعض المصادر الدينية: ترعرع يسوع في الناصرة مع أربعة إخوة هم: يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان، وعدة أخوات، بين أحضان أمه. وهم يشيرون أحيانًا إلى ما جاء في إنجيل مرقس: «أليس هذا هو النجار ابن مريم، وأخو يعقوب، ويوسي، ويهوذا، وسمعان؟ أوليست أخواته ها هنا عندنا» مرقس ٦: ٣.
٥٤  في الأصل «حماة الإله»، وقد آثرنا هذا التعديل. انظر: برتراندرسل: تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء الثاني، ترجمة د. زكي نجيب محمود، ص٦٣-٦٤.
٥٥  كان سيبيو Scipio قنصل روما عام ٢١٢م، كما كان قائدًا رومانيًّا شهيرًا، قاد مع شقيقه حملةً إلى إسبانيا ضد قَرطاجنة لكنهما هُزما وقُتلا معًا.
٥٦  برتراند رسل: المرجع السابق، ص٦٥.
٥٧  Katherine M. Rogers: op. cit. p. 20.
٥٨  وهو يؤنب امرأة رومانية بعباراتٍ تنم عن تقديره لجمال النساء، كما أنها مشحونة بتلميحاتٍ جنسية لا تخفى:
إن صُدرتك مشقوقة عن عمدٍ وثدييك مشدودان بأربطةٍ من التيل، وصدرك سجين في منطقةٍ ضيقة، وخمارك يسقط أحيانًا حتى يترك كفيك البيضاويين عاريتين، ثم تسرعين فتغطين به ما كشفته عن قصد!» اقتبسه وِل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»، المجلد الثاني عشر، ترجمة محمد بدران، ص١٠٩.
٥٩  وهو أقرب إلى ما يقوله العامة في بلادنا من أن المرأة لا تشبع من الناحية الجنسية، وهو قولٌ بالغ الخطأ؛ لأنه يسقط الفروق الفردية أولًا، ويتغاضى عن موضوع الختان ثانيًا، ولا يضع في ذهنه ثالثًا أنك قد تجد من الرجال من لا يشبع جنسيًّا أيضًا.
٦٠  أول زوجة لشيشرون، وقد طُلقت منه عام ٤٦ق.م. وكان يقول عنها إنها تعرف في أمور السياسة أكثر مما تعرف عن شئون بيتها. وعندما فتَر حُبه لها بسبب طبعها الحاد من ناحية، وغرامه بسيدةٍ شابة غنية من ناحيةٍ أخرى، طلقها فتزوجت واحدًا من أعداء زوجها السياسيين!
٦١  لم يذكر جيروم شيئًا عن معاملة سقراط السيئة لزوجته ولا زوجة أرسطو التي أشاد بها.
٦٢  Katherine M. Rogers op. cit. and Susan Bell, pp. 87-88.
٦٣  هناك بنلوبي، التي نقضت غزلها، وظلت تنتظر زوجها أكثر من عشرين عامًا، وهي تماطل في خطابها، وهناك ألكستيل التي ضحت بنفسها من أجل زوجها … إلخ، وقد ضرب بهما أرسطو المثل على الزوجة الفاضلة صاحبة الامتياز. انظر كتابنا «أرسطو والمرأة»، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص١٠٥-١٠٦.
٦٤  Katherine M. Rogers: op. cit.
٦٥  المقصود النبي صموئيل، «وكان صموئيل يخدم أمام الرب وهو صبي متمنطق بأفود من كتان، وعملت له أمة جبة صغيرة» … إلخ. صموئيل الأول ٢: ١٨-١٩.
٦٦  «وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية» … إلخ. متى ٣: ١-٢.
٦٧  Quoted by Susan Bell: “Woman from the Greeks to the French Revolution”, pp. 90–92.
٦٨  Ibid.
٦٩  Ibid.
٧٠  Ibid., p. 94.
٧١  كلمة Chrysostom يونانية الأصل تعني حرفيًّا الفم الذهبي، وهو لفظٌ أُطلقَ عليه لفصاحته كما قلنا، وهو أحد آباء الكنيسة اليونانية، وقد وُلد في أنطاكية عام ٣٤٥م، وكان بطريرك مدينة القسطنطينية من ٣٩٨ إلى ٤٠٤م. عُمِّد ورُسِّم قارئًا في الكنيسة عام ٣٦٨م، ثم انخرط في سلك الرهبان في صحراء قرب أنطاكية من ٣٧٥ إلى ٣٨١م، ثم رُسِّم شماسًا عام ٣٨١م وقسيسًا عام ٣٨٦م في أنطاكية، ثم أسقفًا (بطريرك) للقسطنطينية عام ٣٩٨م.
٧٢  Quoted by Susan Bell: “Women from the Greeks to the French Revolution”, p. 86.
٧٣  Ibid.
٧٤  Susan G. Bell: Ibid., pp. 86-87.
٧٥  Ibid.
٧٦  Ibid., pp. 86-87.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥