عصر الآباء الفلاسفة
«لا شيء مخزٍ، أو شائن، عند الرجل الذي وهبه الله العقل، لكن المسألة ليست على هذا النحو بالنسبة للمرأة التي تجلب الخزي والعار، حتى عندما تفكر في طبيعتها، وماذا عساها أن تكون.»
«أنتِ بوابة الشيطان … أكلتِ من الشجرة المحرمة، وأغريتِ الرجل الذي لم يستطع الشيطان نفسه غوايته على نحوٍ مباشر … أنتِ، أيتها المرأة حطمتِ بسهولةٍ صورةَ الله التي هي الرجل.»
«جسد الأنثى ليس شيئًا جذابًا، بل هو موضوع قذر، وإنجاب الأطفال ليس مدعاة للبهجة والفرح، بل هو علامة على الانهيار والتدهور.»
«إن جمال المرأة لهو الشرك الأعظم! ابتعد عن الفتاة الشابة مثلما تبتعد عن النار.»
تمهيد
على الرغم من أن المسيحية لم تأت إلى العالم — في بدايتها — كمذهبٍ نظري أو فلسفة مجردة، بل كديانةٍ منزَّلة قدمها المسيح على أنها ديانة فداء وخلاص ومحبة، وبعث رسله ليعظوا الناس بالخلاص لا ليشغلوا كراسيَّ أساتذة الفلسفة في الجامعات المختلفة. رغم ذلك كله فقد كان عليها أن تشكل لنفسها مجموعةً من الأفكار النظرية لترد على الفلسفات، والمذاهب، والمدارس القديمة، ولا سيما اليونانية.
أولًا: كلِمِنت السكندري (١٥٠–٢٢٣م) Clement of Alexandria
(١) حياته
وفي الإسكندرية كتب كتابًا في «التربية»، وفي هذا الكتاب يقوم «كلِمِنت» بإرشاد الرجل المسيحي في جميع شئون حياته العامة والخاصة مبينًا له كيف ينبغي عليه أن يسلك في أدق التفصيلات، بل ربما كانت أمورًا غاية في البساطة، أو حتى أشياء لا قيمة لها — على الأقل من وجهة نظر المفكر الجاد. فهو مثلًا لا يرى غضاضةً في الحديث عما يجب على المسيحي أن يفعله أثناء تناوله الطعام، فيطلعه على آداب المائدة، ثم يعرِّفه ثانيًا بأنواع الطعام والشراب التي ينبغي عليه تناولها، وعدد الساعات التي يجب أن ينامها، ونوع الملابس التي يجب أن يرتديها! ثم كيف ينبغي عليه أن يسلك داخل الكنيسة.
(٢) كلمنت … والمرأة
وهو بالطبع لا يفوته أن يتحدث عن واجبات النساء، لكنا ها هنا نراه يرفض استخدام ألفاظ «مهذبة» أو رقيقة (حتى وهو يتحدث عن أشياء بغيضة على حد تعبيره)، فهو يريد أن يكون صريحًا، وصادقًا؛ لأن الشدة إما أن تكون شدة وإما أن تتحول إلى رياءٍ وكذب ونفاق. وهو يرى أن الله خلق الرجل والمرأة كما خلق كل عضوٍ عندهما: «ومن ثم فلا ينبغي أن يخجل أحدٌ من تسمية ما لم يخجل الله من خلقه!»، فها هنا يكون التخفي والمداراة عملًا يدل على عدم احترام الخالق.
لكن ما هو رأي كلِمِنت السكندري — أول الآباء الفلاسفة — في المرأة، ووظيفتها ودورها، كما يقول؟
من الشذرات المتبقية من كتاباته نستطيع أن نستخلص آراءه على النحو التالي:
وهكذا نجد كلِمِنت يقول صراحةً إن المرأة موجودٌ أدنى من الرجل بسبب العقل الذي هو تاج الرجل، وهو يحافظ عليه نقيًّا دون أن تشوبه شائبة «العقل أمانة عند الرجال لا يلحقه خطأ ولا يعتريه عيبٌ أو قصور … أما عند المرأة فإننا نجدها بطبيعتها شيئًا مخزيًا ومخجلًا حقًّا …» فكيف يتعامل الرجال إذن، مع هذه المخلوقة؟ أفضل وسيلة هي إسكاتها، وإغلاق الدار عليها، فواجبها أن تبقى في المنزل، وألا تجعل أحدًا يراها في أي مكان، ولا ينبغي لها أن تذهب إلى الموائد؛ ذلك لأن نظراتها سوف تخلق في أذهان الرجال أفكارًا شريرة، ولا سيما أولئك الذين اعتادوا الإسراف في الشراب. ولا ينبغي لها أن تحضر احتفالات الزواج؛ إذ ربما أدت الأحاديث والأغاني في الأفراح إلى شيءٍ من الإباحية. ولا ينبغي لها بالطبع أن تتجول في الشوارع بحثًا عن النظرات الزائغة التي ترشق جسدها، ولا أن تذهب إلى المسرح، ولا الحمَّامات العامة، ولا إلى المباريات الرياضية العامة، وإذا كانت تريد ممارسة الرياضة فإن كلمنت السكندري يقدم للنساء برنامجًا محددًا:
ولعل القارئ يلاحظ النظرة الجنسية الصارخة للمرأة، وهي نظرة سوف تستمر عند اللاهوتيين، ورجال الدين عمومًا، الذين لا يعرفون عن المرأة سوى الجنس، فلا هي زميلة، ولا زوجة، ولا صديقة، ولا أم، ولا معلمة، ولا طبيبة … إلخ، لا شيء سوى الجنس؛ ولهذا فلا يجوز لها أن تتزين على أي وجهٍ «فليس جيدًا عند الله، أن تتزين المرأة المسيحية المؤمنة … وهدف تغطية الجسد هو الدفاع عن هذا الجسد، وصيانته من الإفراط في البرودة أو شدة الحرارة.»
ولما كان تزين المرأة المسيحية ليس عملًا جيدًا أمام الله، فإن عليها — لهذا السبب — أن تودع حرائر الهند، والملابس المطرزة بالذهب، فتلك أمورٌ ممنوعة بتاتًا، فالمرأة محرمٌ عليها ارتداء الزينة الذهبية أيًّا كان نوعها، كما أن عليها أن تتجنب الملابس المصبوغة؛ لأن الصبغة ضارة بالصحة، كما أنها تثير العيون النهمة، فضلًا عن أنها مصطنعة وكاذبة، ولو أن الله أراد أن تكون ملابس الصوف أرجوانية لخلق الخراف أرجوانية اللون، ولا بد لنا من أن نُدين بقوةٍ أيةَ محاولة لخداع النفس، يقول كلِمِنت:
«التزين في غطاء الرأس، وتنوع هذا الغطاء، وزركشة الضفائر، والنماذج التي لا نهاية لها من زي الرأس، والمرآة الباهظة الثمن التي يرتبن بها هندامهن — تلك خصائص الأفعال التي تقوم بها النساء اللائي فقدن كل حياء …» وإذا كان فيلسوفنا يُدين زينة الجسد الطبيعي على هذا النحو، فإن الوسائل الصناعية، والحيل المصطنعة التي لا حد لها، والتي تستخدمها السيدات اليونانيات والرومانيات هي كلها مكروهة، بل هي في الواقع ممقوتة من وجهة نظره: «وليس في استطاعتكِ أن ترَي الله ما دامت عيونكِ ملونة، فهي ليست هي العيون التي خلقها، بل العيون التي أفسدها الشيطان … لقد اتبعتِه فقلدتِ العيون الحمراء عند الأفعى، وتزينتِ بزي العدو؛ ولهذا فسوف تُدفنين بجواره …»، ويلخص الخطاب الذي يوجهه إلى العذراء: «فلتبقَ هيئتكِ كما هي بغير فساد، وعنقكِ بلا زينة، وشكلكِ بسيطًا، ولا تخرِمي أذنيكِ أو تؤذيهما بالجروح، ولا تجعلي السلاسل الثمينة، ولا السِّوار أو العِقد النفيس يطوق ذراعكِ أو عنقكِ. حرري قدمكِ من القيود الذهبية، ولا تلطخي شعركِ بالأصباغ، هذا تصبح عيناكِ جديرتين بالنظر إلى الله.»
ولا شك أن كلمنت السكندري كان من أوائل الفلاسفة المسيحيين الذين بدءوا في شن الحملات ضد الزواج وبيان مساوئه، وسوف يتابعه بعد ذلك «تِرتوليان» على نحو ما سنعرف بعد ذلك، وهو يصور لنا آلام الطفل، وصراخه عند قدومه للعالم لأول مرة، لعلنا نعتبر ونمتنع عن الزواج، وبالتالي عن إنجاب الأطفال:
«أواه يا أمي! لماذا أتيتِ بي إلى هذا العالم، وإلى تلك الحياة التي ينتهي طول العمر فيها — إن آجلًا أو عاجلًا — بالموت؟ لماذا أتيتِ بي إلى هذا العالم المضطرب الذي تكون فيه أول خبرة أمر بها بعد مولدي هي رباط القِماط وقيوده؟ لماذا ولدتِني وجلبتِني إلى حياةٍ كهذه يضيع فيها الشباب، ويُرثى له قبل الشيخوخة … ونصل فيها إلى شيخوخة محكومٍ عليها بالموت؟ ما أبشع مسار الحياة يا أماه! حياة يكون الموت — في النهاية — هو هدف كل من يجري فيها، وما أمَرَّ طريقَ الحياة الذي نسافر فيه، ويكون القبر هو النُّزُل الذي يهبط فيه عابر السبيل!»
وأخيرًا، فإن كلِمِنت السكندري يقول عن القُبلة:
«لا يقاس الحب بالقبلة، بل بالمشاعر الرقيقة، لكن هناك من لا يفعل شيئًا سوى جعل الكنيسة تضج بالقبلات، وهذا هو الاستخدام الفاحش للقبلة، التي ينبغي أن تكون صوفية فلا تثير شكوكًا حمقاء ولا آراء شريرة …!»
لكن علينا قبل أن نغادر كلِمِنت السكندري أن نحمد له دفاعه عن الفلسفة، فقد كان أول مفكر مسيحي يدافع عن الفلسفة، بل ويدعو إلى دراستها، وذلك في معارضة الحركة التي قامت ضدها في أرجاء الكنيسة المسيحية، والتي وصفت الفلسفة بأنها بدعةٌ شيطانية أليمة ابتدعها إبليس الخبيث لتسميم حياة البشر! يقول كلمنت: «يرى بعض الناس — ممن يظنون في أنفسهم الذكاء — الاقتصار على الإيمان، والانصراف عن الفلسفة والعلم، وهؤلاء — في الواقع — مثلهم مثل من يأبى أن يتعهد الكَرْم، ويريد أن يجني منه بعد ذلك عنبًا …! لقد كانت الفلسفة ضرورية لليونان قبل مجيء الرب حتى يطبقوا العدالة، هي الآن مفيدة للتقوى، كما أنها تمهيدٌ ضروري للدين، أعني لأولئك الذين يصلون إلى الإيمان عن طريق الاستدلال العقلي!»
ثانيًا: ترتوليان١٥ (١٦٠–٢٣٠م) Tertullian
(١) حياته
وُلد ترتوليان عام ١٦٠م في قَرطاجة (قرب مدينة تونس الحالية)، وهو واحدٌ من أشهر الآباء الفلاسفة في عصره، وُلد من أبوين وثنيين، وتلقى تعليمه في هذه المدينة، وكان تعليمًا أدبيًّا وقانونيًّا مكنه من ممارسة مهنة المحاماة، فهو محامٍ كبير من أهل قَرطاجة، وقد كان اندماج الجانب الأدبي من ناحية والقانوني من ناحيةٍ أخرى سببًا في شهرته.
(٢) ترتوليان … المرأة
لقد كان حكم الإدانة الذي أصدره الله على المرأة هو: «أكثِّر أتعاب حَبَلكِ، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رَجُلكِ يكون اشتياقكِ، وهو يسُود عليك» (تكوين ٣: ١٦). والواقع أن هذا الحكم يستمر حتى يومنا الراهن، ومن هنا كان إثمها وإدانتها. يقول ترتوليان مخاطبًا النساء عمومًا:
- الأمر الأول: أننا نجد كراهية التراث
القديم (اليهودي الروماني، بل
اليوناني أيضًا) تطل برأسها من
جديدٍ متخطيةً تمامًا المواقف
الإنسانية الجديدة التي جاء بها
السيد المسيح، بل إننا نجد
الكراهية الأفلاطونية للجسد ترتدي
زيًّا دينيًّا، فالشهوة أو الرغبة
الجنسية الجامحة، وهي خاصية
حيوانية تمامًا، هي النغمة التي
يعزف عليها رجال الدين بصفةٍ عامة،
وهم يميلون إلى إظهار الرجل بمظهر
الحَمَل الوديع، في حين أن المرأة
هي «بوابة الشيطان»، هي شِباكه
وحبائله، أو هي الشيطان نفسه،
وربما كانت أقوى منه؛ لأنه لم
يستطع غواية الرجل بل لم يجرؤ على
ذلك مباشرة.
فكانت وسيلته المرأة تغويه، وتغريه، وتوقعه في حبائلها. أي إن الرجل لو تُرك بذاته لكان طاهرًا عفيفًا نقيًّا بلا رغبة ولا شهوة ولا ميل إلى الجنس على الإطلاق! أو إنه في أحسن الأحوال سوف يتمكن من التغلب على هذه «الدوافع الشيطانية»، ويصل بقدراته الخاصة إلى بر الأمان.
- الأمر الثاني: أننا كثيرًا ما نجد «القديس» الذي أنفق شبابه في الفسق والمجون، واقترف الزنى، وصادق الغواني والعاهرات … إلخ، يلجأ إلى التوبة، ويشُن في نهاية حياته — عندما يرتدي مُسُوح الرهبان، ويتحلى بالعفة والقداسة — حملةً بالغة العنف على «المرأة»، ذلك الشيطان البشري الذي أوقعه في جميع هذه الخطايا، وساقه إلى طريق الرذيلة والشر، كأنه يبرر لنا مواقفه السابقة ويعتذر عنها، لكن لا تكون لديه الشجاعة في تحمل مسئولية ما فعل، بل يلقي باللوم كله على المرأة، ولسان حاله يقول: «ماذا كنت أفعل وهذه الشيطانة الجميلة تدعوني إليها، وتدغدغ غرائزي وشهواتي حتى أفلت الزمام مني، ولم أعد أستطيع السيطرة على شيء! لكني وقد هدأت الغرائز وخفَّت الرغبة، وضعفت الشهوة، أُبصر الموقف على حقيقته فأجدها مسئولة مسئولية تامة عما حدث!»
- الأمر الثالث: أننا كثيرًا ما نجد اللاهوتيين، والقديسين، والآباء، ورجال الدين عمومًا، يميلون إلى وصف «جسد» المرأة وكأنهم يشعرون بمتعة، ولا سيما في سن الضعف، بالحديث، ولو مجرد الحديث عن جماله وتناسقه كنوعٍ من التعويض النفسي عما فقدوه.٢١
ولهذا فأنت تراهم يتحدثون عن عيون «المها» وصِبغة العين، وعن الشعر الفاحم، والخد الناعم، والفم المرسوم، والقوام الممشوق، والصدر الناهد … إلخ، ثم يطالبون المرأة بإخفاء هذه المفاتن، وكأنهم لا يتحدثون عن هذه الأجزاء من جسدها إلا لينصحوها بطمسها وإخفاء معالمها.
من هذا المنطلق يواصل الأب الفيلسوف «ترتوليان» حملته ضد المرأة، فيرى أنه ينبغي عليها، لا فقط أن تكف عن التبرج في مظهرها أو إبراز مفاتنها، على نحو ما دعا كلِمِنت السكندري من قبل، بل إن عليها «أن تعمل على إطفاء هذه المفاتن، وإهمال الجمال الطبيعي، بل العمل على محو آياته؛ ذلك لأن جمال المرأة الطبيعي بالغ الخطورة، لكل من يراها أو يتصادف أنه يسوقه حظه العاثر للوقوع في طريقها.»
أما موضوع الجمال فهو هبة من الله، ولا دخل للمرأة فيه، لكن ترتوليان يرى مع ذلك ضرورة العمل على إخفائه بشتى الطرق، كما لو كان «عورة» لا يجوز لها أن تظهر! ومن هنا فإننا نراه يتساءل: «هل المرأة جميلة؟ تلك هبة طبيعية لا بد من طمسها، وذلك عن طريق تجاهلها وإهمالها، بوصفها أمرًا خطيرًا على عيون الناظرين!» ولهذا فلا بد للمرأة — ولا سيما الجميلة أن تغطي نفسها من قمة الرأس إلى أخمص القدم!
وسوف نجد هذا الموقف نفسه عند خلفاء ترتوليان أيضًا، فهم جميعًا يقيمون فكرهم حول المرأة بناء على تجارِب شخصية أولًا، ثم على التراث اليهودي الروماني ثانيًا، وعلى الأسس التي وضعها القديس بولس في نظريته عن المرأة ووجوب خضوعها للرجل.
(٣) الزواج
ويبدو الارتباط واضحًا بين إدانة الجنس، وكراهية المرأة في حكاية رواها القديس أوغسطين في «مناجاته» يقول: «ذات يوم أقنعني عقلي أنه لشيءٌ حقير، بغيض، مقزِّز، مخجِل ومرعب حقًّا، أن أرتمي في أحضان امرأة …» لكنه يعترف أنه في هذه الليلة نفسها انغمس في نزواتٍ حسية أنسته عقله! وفي اليوم التالي أقنع نفسه مرةً أخرى بأنه «لا شيء يهبط برُوح الرجل من أعلى عليين أكثر من مداعبة امرأة وتقبيلها، والتصاق الجسدين الذي لا يمكن أن يحدث بدون أن تكون هناك زوجة.
وعلى الرغم من أن آباء الكنيسة كانوا يؤمنون نظريًّا بأن العَلاقات الجنسية تلوث الجنسين معًا، وتقوم بتدنيسهما على حدٍّ سواء، فقد كان من الطبيعي — بوصفهم رجالًا — أن يؤكدوا التأثير الفاسد للنساء على الرجال، أكثر من أن يؤكدوا العكس، أعني تأثير الرجال الفاسد على النساء!
واستمرت المناقشات حول الزواج حتى ظهر تياران في الكنيسة منذ التاريخ المبكر: أحدهما يؤيد الزواج، والآخر يرفضه ويحتقره، ومع ذلك فلم يستطع أحدٌ أن يقول إن الزواج إثم أو خطأ، فذلك يتعارض مباشرة مع أقوال المسيح في العهد الجديد، بل على العكس ظل التقليد الكنسي هو أنه من الهرطقة القول بتحريم الزواج.
واكتفى الآباء الرسوليون بتقديم النصائح للزوجات لكي يحببن أزواجهن، ويخضعن لهم، فضلًا عن قيامهن بتربية أطفالهن على معرفة الله وخشيته، وكلما مر الزمن أصبحت هذه النصائح أقل شيوعًا، وإن ظلت الكنيسة تبارك الزواج.
أما «ترتوليان» فقد كانت آراؤه تؤيد زواج المؤمنين، وكانت كلماته قوية وحاسمة.
يقول عن بركات الزواج:
و«ترتوليان» هنا لا يؤكد على أهمية الزواج بصفةٍ عامة، وإنما يركز حديثه على بركات الزواج، وغبطته بين المؤمنين الذين يتزوجون وفق تعاليم الكنيسة، في مقابل الزواج الذي يكون بين طرفٍ مؤمن وآخر غير مؤمن، ولا تقره الكنيسة أو تصادق عليه، فهو يقارن بين نوعين من الزواج ويدعو لأحدهما ويرفض الآخر.
(٤) العذارى والأرامل
يقول «ترتوليان»: «أعلم تمام العلم أنه في مكانٍ ما هناك عذراء يقل سنها عن عشرين سنة توضع في سلك الأرامل.» وهو يحتج بقوةٍ ضد هذه الطريقة الجديدة المبتكرة، ومن ثم نراه يتهم «العذراء الأرملة» بأنها «عذراء منحرفة» أو شاذة السلوك.
غير أن احترام العذرية كان ينمو ويزداد في تلك الأيام، وكانت الظروف تتجمع لتدعم النظام الجديد، فحتى نهاية القرن الثاني لم تكن هناك أماكن عامة للعبادة المسيحية، ولا دور عبادة، فقد كان المسيحيون يلتقون في بيوتٍ خاصة، وكان المستأجرون، أو السكان، يقومون بإعداد جميع الترتيبات الضرورية للاجتماع.
والغريب أن هذا التقليد انتقل من الكنيسة الشرقية إلى الكنائس في الغرب، فهي لم تعط قط أية وظائف كليركية للنساء، فقد كان يُنظر إليهن باستمرارٍ على أساس أنهن أدنى مرتبة من الرجال، ومن العار على الرجل أن يتلقى تعليمًا، أو تهذيبًا، أو إرشادًا، أو حتى بركات كنيسة من امرأة!
ترتوليان … والمونتانية
نود أن نختتم هذا الحديث عن ترتوليان بقصته مع مذهب «المونتانية»، فما هو هذا المذهب؟
غير أن ترتوليان سرعان ما انفصل عن هذا المذهب وكون لنفسه شيعة خاصة به، وشن حملةً عنيفة على أفكار هذه الفرقة الدينية، ولا سيما ما قالته عن النساء، يقول: «كم هن خليعات عاهرات أولئك النسوة الهراطقة! لأنهن تجرأن وعلَّمن، وجادلن، وناقشن، وقمن بتلاوة الصلوات والأناشيد والتعاويذ … وذلك كله تجديف على الله، وربما قمن بأداء طقوس العماد أيضًا …!»
•••
فإذا تساءلنا في نهاية حديثنا عن «ترتوليان» ماذا كان موقفه من الفلسفة؟ لوجدنا أنه، على العكس من كلِمِنت السكندري — ظن أنها عدو للدين، فشن عليها حملةً بالغة العنف، وكان أول فيلسوف مسيحي بارز يكتب باللاتينية ويُظهر احتقارًا ظاهرًا للوثنية وللعلم الوثني، ويتساءل ما العَلاقة المشتركة بين الفيلسوف والرجل المسيحي، بين تلميذ اليونان وصديق الخطأ، وبين ابن السماء وعدو الخطأ وصديق الحقيقة؟
ثالثًا: القديس جيروم (٣٤٥–٤٢٠م) St. Jerome
(١) حياته
(٢) جيروم … والمرأة
ولم يكن القديس «جيروم» يجد شيئًا جذابًا في الأمومة، بل إنه ليجد في المرأة الحامل منظرًا مقزِّزًا للنفس، وهو لا يستطيع أن يجد مبررًا للهفة الإنسان على الذرية: «فما الذي يجعلك تهفو إلى طفلٍ مزعج يزحف على صدرك، ويلوث عنقك بقاذوراتٍ بغيضة؟!» فهو يريد جمال المرأة في صفائه ونقائه دون أن يمسسه دنس.
«إن فكرة واحدة قد تكفي لضياع البكورية … فليكن رفاقكِ هم صُفر الوجوه الذين هزَلت أجسامهم من الصوم … وليكن صومك حادثًا يتكرر في كل يوم. اغسلي سريركِ، ورشي مخدعكِ كل ليلةٍ بالدموع … ولتكن عزلة غرفتكِ هي حارسكِ على الدوام … ودعي الله عريسكِ هو الذي يلعب معكِ في داخلها … فإذا غلبكِ النوم جاءكِ من خلف الجدار، ومد يده من خلال الباب، ومس بطنكِ، فصحوتِ من النوم، وقمتِ واقفةً وناديته: «إني أهيب بحبك» فتسمعينه يقول: إن أختي حبيبتي جنة مغلقة وعين ماء مفتوحة وينبوع مختوم …»
ويقول «جيروم» إنه لما نشر هذه الرسالة: «حياها الناس بوابلٍ من الحجارة»، ولعل بعض قرائها قد أحسوا في هذه النصائح بلوعةٍ مقيمة في رجلٍ يبدو أنه لم يَسلم بعد من حرارة الشهوات.
فإذا كان القديس جيروم قد أولى بعض النساء عنايةً خاصة، فقد جاء ذلك على حساب الأنثى بصفةٍ عامة، وعلى حساب كراهيته لأهم وظيفة بيولوجية للمرأة، ومن هنا ظهر عداؤه القوي لجنس النساء!
الواقع أن موقف القديس جيروم من المرأة بالغ الغرابة، وهو محير للباحث إلى أقصى حد، فأنت معه تشعر بأنه يكن لها حبًّا عميقًا، لكنه حب انقلب إلى كراهيةٍ، فأراد أن يجرد المرأة من أنوثتها، ولا يجعلها تمارس أية عَلاقة تذكره بهذه الأنوثة، ولكنك تشعر أحيانًا أخرى أنه يعاني من صراعٍ عنيف بين الجوانب الدنيوية، والجوانب الرُّوحية؛ فهو يقرِّب الأرستقراطيات الجميلات، وبنات الأشراف، ويصطحب الفتاة «يوستوخيوم» وأمها «بولا» في رحلته الطويلة المتعرجة إلى بيت لحم، ولما ماتت «بولا» دفنها في بيت لحم، وكتب القديس قصيدة شعر توضع على قبرها:
«ضع في اعتبارك أنك لن تكون قديسًا أكثر من النبي داود، ولن تكون حكيمًا أكثر من سليمان الحكيم، وتذكر دائمًا أن امرأةً واحدة هي التي قادت رجل الفردوس إلى خارجه، ففقد (آدم) الجنة التي وهبها له الله!».
ويمكن لنا أن نقول إن القديس «جيروم» يكشف في كثيرٍ من الأحيان عن انفصامٍ في الشخصية بالغ الغرابة: فهو من ناحيةٍ يبدي تقديرًا وإعجابًا لا حد لهما بالعذارى والأرامل بشرط أن يكرهن الزواج (أي أن يعملن على طمس جانب الأنثى فيهن). ومع أنهن نساء في نهاية الأمر فهن رغم ذلك رفاق الرُّوح في رأي القديس جيروم، لكنه من ناحيةٍ أخرى يُكنُّ للمرأة كراهيةً عميقة، فضلًا عن احتقاره للجسد وكل ما يتعلق بالجنس. أهو الحب العميق، الذي سبق أن تحدثنا عنه، الذي لم يجد وسيلةً للإشباع فانقلب إلى كراهيةٍ عميقة؟!
يقتبس القديس جيروم ثلاثة نصوص من سِفر الأمثال، تدور حول البغايا والعاهرات، ونصًّا واحدًا عن امرأةٍ سليطة اللسان، ويظن أنه بذلك قدم لنا الحُجج الدامغة على الخصائص العامة للزوجة، بصفةٍ خاصة، ووصف لنا طبيعة المرأة عمومًا.
فإذا كان القديس جيروم يقدر بعض النساء، فهو يعلي من شأنهن على حساب جنس المرأة بأسره، وشأنه شأن بقية الآباء يركز على أمرين أساسيين: الجنس، والخطيئة الأولى. وها هنا يعتمد تمامًا على التراث اليهودي، وخوفه من غواية المرأة، وإدانته للشهوة الجنسية، وما يذكره من قصصٍ عن شمشون، وداود، وسليمان وغيرهم، وهو يستخرج من نصوص الكتاب ما يعمل على طمس هذه الجاذبية، وكثيرًا ما يكرر بإصرارٍ أن جسد الأنثى ليس شيئًا جذابًا، بل هو موضوع قذر، وإنجاب الأطفال ليس مدعاة للفرح والبهجة، بل هو علامة على الانهيار والتدهور!
تربية الفتاة
ربما كان القديس جيروم أكثر الآباء الفلاسفة اهتمامًا بالتربية والتعليم، حتى إنه وضع رسالةً خاصة لخص فيها أفكاره عن تربية الفتاة وتعليمها، وكان المسيحيون في بحثهم عن حياةٍ رُوحية أعظم قد اكتشفوا حياة الدير التي بدأت تشيع منذ القرن الرابع الميلادي، ولقد راح القديس جيروم يبشر بها ويعظ بفضائلها، ويجذب نساء روما وأراملها إليها. وقد سبق أن رأينا كيف جذب الفتاة «يوستوخيوم» وأمها «بولا» اللتين صحِبتاه إلى بيت لحم حيث أنشأ ثلاثة أديرة للراهبات، وديرًا رابعًا للرهبان، وفيه عكف على تأليف معظم كتبه، وفي عام ٤٠٣م كتب رسالةً موجهة إلى زوجة ابن السيدة بولا ينصحها كيف تربي ابنتها التي وضعتها حديثًا، وكان يأمل أن تربى الفتاة على أن تظل عذراء تهب نفسها لله!
يقول في هذه الرسالة:
والقديس جيروم يذكر لها أن امرأة — بناء على نصيحة زوجها — زينت ابنتها العذراء بالجواهر، وتركت شعرها مسدولًا، فجاءها الملاك في النوم ليقول لها بصوتٍ مرعب:
ويستمر القديس جيروم في رسالته ليذكر جميع تفصيلات الحياة اليومية في تربية الطفلة، فيقول عن الطعام مثلًا:
وهكذا يحطم القديس جيروم الحكمة التي تقول إن النظافة من الإيمان في سبيل أن يطمس معالم الجمال عند المرأة، فلا تثير شهوة الرجال، وتوقعهم في الخطيئة!
رابعًا: القديس يوحنا «فم الذهب» (٣٤٥–٤٠٧م) St. John Chrysostom
صحيحٌ أنه لم ينزلق في الانغماس المحموم بشجب أية عَلاقة مع المرأة، لكنه شارك في الجو الثقافي العام الذي كان يؤمن بأن المرأة موجودٌ أدنى من الرجل، وأن تأثيرها عليه بالغ السوء، يقول:
وعند القديس يوحنا أن من يتزوج ويعيش حياةً عادية فاضلة في هذا العالم هو مجرد شاب صغير لكنه لا يمكن أن يكون راهبًا، وهو كثيرًا ما يقدم النصح اللطيف أو التحذير الرقيق، لكنه أبعد ما يكون عن الحقد أو الضغينة!
عليك يا تيودور أن تفكر بإمعانٍ في النتائج المترتبة على ارتباطك بالمرأة، بل بالنساء عمومًا، عليك أن تفكر مرتين في هذا الأمر، فكر فيما ارتكبه داود من زنًى، وفي ارتداد سليمان، ثم عليك أن تتأمل مليًّا في الطبيعة الحقة لذلك الجمال الأنثوي الذي توشك من أجله أن تتخلى عن فضيلتك!
لو أنك تأملت يا تيودور ما تخفيه هذه العيون الجميلة، هذه الأنف القويمة، والفم المرسوم، والخدود الغضة — لتأكدت أن هذا الجسم الممشوق ليس سوى قبر أبيض، أعضاؤه مليئة بقاذوراتٍ لا حد لها!
وفضلًا عن ذلك، فلو أنك رأيت شخصيةً تافهة مملوءة بقاذوراتٍ كالبلغم والبصاق وما شابه ذلك لما استطعت أن تلمسها ولو بأطراف أصابعك، كلا، ولا استطعت حتى أن تتحمل النظر إليها بعد ذلك كله، أفأنت تهتاج وتُستثار لمخزون ومستودع هذه النفايات؟
(النبطي = من شعب النبط) «إحياء علوم الدين للإمام الغزالي»، دار الريان، المجلد الثاني، ص٥١.
إن صُدرتك مشقوقة عن عمدٍ وثدييك مشدودان بأربطةٍ من التيل، وصدرك سجين في منطقةٍ ضيقة، وخمارك يسقط أحيانًا حتى يترك كفيك البيضاويين عاريتين، ثم تسرعين فتغطين به ما كشفته عن قصد!» اقتبسه وِل ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»، المجلد الثاني عشر، ترجمة محمد بدران، ص١٠٩.