(١) حياته
ولد توما في قصر روكاسيكا
Roccasecca (أي
الصخرة اليابسة)، وهو قصر شبيه بالقلعة، على بعد
ثلاثة أميال من أكوينو
Aquino على
الحدود الشمالية لمملكة صقلية القديمة جنوب إيطاليا
بين روما ونابولي، في نهاية عام ١٢٢٤م أو بداية ١٢٢٥م.
٢ ومنها جاء لقبه «الأكويني»، فقد كان
والده كونت مقاطعة أكوينو
Count of
Aquino، وكان توما أصغر إخوته،
وعندما بلغ الخامسة من عمره أدخله والده عام ١٢٣٠م
دَير مونت كاسينو
Monte
Cassino الذي كان يشرف عليه
عمه، فظل يدرس فيه تسع سنوات إلى أن بلغ من العمر
أربعة عشر عامًا. وفي هذا الدير تعلم الكثير من
العلوم المدرسية المختلفة، كما تعلم قواعد الحياة
الرُّوحية. وكان الدَّير من أملاك البابا، لكن قوات
الملك فردريك الثاني (١١٩٤–١٢٥٠م) ملك صقلية كانت
قد احتلت منطقة الدَّير، وإن ظل الرهبان على ولائهم
للسلطة البابوية، مما أغضب الملك، فأمر جنوده
باحتلال الدير احتلالًا عسكريًّا، وطرد الرهبان منه
عام ١٢٣٩م، فاضطُر توما إلى خلع عباءة الدير،
والعودة إلى منزله لعدة أشهر.
على أنه لم يمكث مع الأسرة طويلًا، بل أرسله
والده في خريف العام نفسه إلى جامعة نابولي التي
كان الملك فردريك الثاني قد أسسها عام ١٢٢٤م
ليستكمل دراسته، فدرس الفنون الحرة السبعة: الشعر،
والنحو، والمنطق، والخطابة، والهندسة، والحساب، والفلك.
٣ وفي مدينة نابولي تعرف الشاب على
رهبانية الإخوة الوعاظ التي كان قد أسسها حديثًا
القديس دومينيكو (١١٧٠–١٢٢١م) وهو راهب كاثوليكي
إسباني عمل في فرنسا وأنفق شطرًا كبيرًا من حياته
في محاربة الهرطقة ودعوة الهراطقة إلى العودة إلى
حظيرة الكنيسة الرومانية، ثم أنشأ عام ١٢١٦م جماعة
الرهبنة الدومينيكية التي دخلها توما الشاب، رغم
معارضة أسرته الشديدة؛
٤ فقد كانت الأسرة قد أدخلته دير «مونت
كاسينو» في بداية حياته ليتعلم فقط، لكنه الآن وقد
بلغ سن العشرين أراد أن «يحترق»، أعني أن ينصرف
تمامًا عن الدنيا، ويُقبل على خدمة الله بالعلم
والتعليم عن وعيٍ كامل. وخشي رؤساء توما من معارضة
أسرته فقرروا إبعاده إلى باريس، غير أن اثنين من
إخوته اعترضا طريقه، وقبضا عليه، بتحريضٍ من أمهما
وأعاداه إلى قصر روكاسيكا حيث وُضِع تحت الرقابة،
وأصبح البيت سجنًا يتعرض فيه الشاب إلى الاضطهاد
والسخرية، وغواياتٍ سخيفة.
٥ ودام هذا السجن سنةً كاملة،
٦ تمسك فيها توما بفكرته وأصر عليها، بل
استطاع أن يستميل إحدى أخواته واسمها ماركوتا
Marcota، بعد
أحاديث كثيرة معها، إلى الرهبنة البندكتية، فما كان
من أسرته إلا أن أطلقت سبيله؛ فقد أدت شدة تقواه
إلى انضمام أمه إلى جانبه، فساعدته على الفرار،
فعاد إلى تنفيذ مخططه السابق، وتوجه إلى باريس
٧ حيث أقام فترةً قصيرة — فيما يقال —
ذهب بعدها إلى كولونيا في ألمانيا.
وفي
كولونيا تعرف توما على ألبير الكبير
Albertus
Magnus (١٢٠٠–١٢٨٠م).
٨ حيث كان هذا الفيلسوف واللاهوتي
الألماني يقوم منذ عام ١٢٥١م بالتدريس في المعهد
العام الذي أنشئ حديثًا لتأهيل الرهبان
الدومينيكان، وهنا تتلمذ عليه الشاب توما الأكويني
الذي أُعجب به معلمه إعجابًا شديدًا لِمَا وجد عنده
من رغبةٍ عارمة في المعرفة، حتى لقبه «بالثور الصقلي».
٩ وفي كولونيا أيضًا شهد وضع حجر الأساس
في كاتدرائيتها الشهيرة.
وفي عام ١٢٥٢م احتاجت مدرسة «دير سان جاك» التابع
للدومينيكان في باريس إلى مساعد مدرس، فأوصى ألبير
الكبير بتعيين توما في هذا المنصب، وتم تعيينه
بالفعل، وسافر إلى باريس في صيف عام ١٢٥٢م، وقام
بالتدريس في هذا الدير. وكانت دروسه تتناول شرح
الكتاب المقدس وشرح كتاب الأحكام لبطرس اللُّمباردي
Peter the
Lombard اللاهوتي الإيطالي
الأصل (١١٠٠–١١٦٠م).
١٠
في ذلك الوقت أثيرت منازعات بين رجال الدين من
غير الرهبان، وبين الرهبان فيما يتعلق بحق التدريس
في كلية اللاهوت بجامعة باريس. وفي عام ١٢٥٧م
وبأمرٍ مباشر من البابا ألكسندر الرابع عُين توما
أستاذًا بجامعة باريس. وفي سنة ١٢٦٠م وُكِلَت إليه
مهمة الوعظ العام، وفي عام ١٢٦١م مهمة القارئ في
دير أورفيتو في وسط إيطاليا، ثم قام لعدة سنواتٍ
بوظيفة القارئ البابوي. وأثناء إقامته في إيطاليا
أنهى كتابه «الخلاصة ضد الأمم»، ثم شرع عام ١٢٦٦م
في تأليف كتابه الرئيسي «الخلاصة اللاهوتية»
Summa
Theologica. وفي عام ١٢٧٢م قام
بالتدريس في جامعة نابولي، ثم سافر في فبراير ١٢٧٤م
إلى فرنسا ليحضر مجمع ليون، لكنه في الطريق عرج على
دير فوسا نوفا
Fossanova
فأصيب بمرضٍ غير معروف، وتُوُفِّيَ في هذا الدير.
وكانت وفاته في ٧ مارس ١٢٧٤م عن عمرٍ يناهز الثامنة
أو التاسعة والأربعين. غير أن جثمانه نُقل بعد ذلك
إلى جامعة باريس ثم إلى تولوز حيث دُفن، وفي عام
١٣٢٣م أعلن البابا يوحنا الثاني والعشرون أن توما
قديس، وأعلن البابا بيوس الخامس في سنة ١٥٦٧م أن
توما هو دكتور الكنيسة الكاثوليكية، وفي عام ١٨٨٠م
خلع عليه البابا ليون الثالث عشر لقب حامي أو راعي
«المدارس الكاثوليكية».
١١
(٢) العصور الوسطى … والمرأة
سبق أن ذكرنا أن القديس توما الأكويني كان أعظم
فلاسفة المسيحية في العصور الوسطى، فما المقصود
بالعصور الوسطى التي جاء الأكويني ليلخص فكرها
وليكون أعظم فلاسفتها؟ ما هي سماتها، وماذا كان وضع
المرأة فيها؟
لا شك أن تقسيم العصور التاريخية أمرٌ محفوف
بالمخاطر دائمًا؛ إذ تستحيل فيه الدقة لتداخل
العصور تداخلًا يصعب معه الفصل بينها، فالتاريخ
أشبه بمجرى النهر الذي ينساب سريعًا بلا توقف، ومن
ثم فإن التقسيم المقترح هو باستمرار تقسيم «وهمي» —
أقرب إلى التقسيم الجغرافي لخطوط الطول وخطوط العرض
— حتى يسهل على الباحث فهم المجرى المتدفق لأحداث
التاريخ.
نستطيع أن نقول بعد ذلك إن مصطلح العصور الوسطى
يطلق على وجه التقريب على تلك الفترة من تاريخ
أوروبا الممتدة من سقوط الإمبراطورية الرومانية حتى
عصر النهضة، أي: حوالَي ألف سنة (من القرن الرابع
حتى القرن الرابع عشر). وقد أحدث المفكرون في عصر
النهضة ميلادًا جديدًا
Renaissance
للفكر والفن في التراث اليوناني-الروماني. ومن ثم
فما حدث فيما بين العصر القديم، وعصرهم هو وسط أو
عصر وسيط، أو هو حقبة العصور الوسطى.
١٢
ولقد تجمعت في الستة قرون التي أعقبت موت
جوستنيان (٤٨٣–٥٦٥م) ظروف كثيرة كان لها أثر هائل —
وإن كان بطيئًا — في التغير الأساسي الذي حدث في
المجتمع الأوروبي من الجوانب الاقتصادية والسياسية
والأخلاقية … إلخ، أدى إلى ظهور تركيبة اقتصادية
وسياسية واجتماعية هي التي سميت فيما بعد بعصر
الإقطاع. ذلك أنه عندما تفككت الإمبراطورية
الرومانية هبطت القبائل الشمالية وغزت الغال
الروماني (فرنسا الآن)، وإيطاليا، كما استقر
الدانيون
Danes في بريطانيا.
١٣
ولما أصبحت مدن إيطاليا والغال غير آمنة على
نفسها أثناء الغارات الجرمانية انتقل أعيان هذه
المدن إلى القصور الريفية، وأحاطوا أنفسهم بأتباعهم
من الزراع والموالي وأعوان من العسكر. وزادت حركة
التفرقة التي تهدف إلى تكوين وحدات اقتصادية شبه
مستقلة في الريف، وقيام الأديرة التي كان رهبانها
يفلحون الأرض، ويشتغلون ببعض الصناعات اليدوية. ولم
تعد الطرق صالحة للاحتفاظ بوسائل النقل وتبادل
التجارة فاضطُرت قصور الأعيان في الريف إلى أن تسعى
للاكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية. وأضحت هذه
الإقطاعات في القرن التاسع وراثية وشبه مستقلة.
ولما كان معظم المغِيرين من الفرسان فقد كثر الطلب
على المدافعين الذين يملكون الخيل، وأصبح الفرسان
لهذا السبب أهم من المشاة. وهكذا نشأت في فرنسا
وإيطاليا وإنجلترا وإسبانيا طبقة من الفرسان تقع
بين الدوق والبارون من جهة، والفلاحين من جهةٍ
أخرى، ولم ير الشعب حرجًا في هذه التطورات، فقد كان
يتطلع إلى وجود نظام عسكري يتولى حمايته مما يحيط
به من رعب، ومن الهجمات التي تنقض عليه في أي وقت.
وهكذا نشأ نظام الإقطاع الذي كان يعني خضوع الرجل
من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية إلى رجلٍ أسمى
منه منزلة في مقابل تنظيم اقتصادي وحماية
عسكرية.
أما المجتمع في العصور الوسطى فقد كان يتكون من
الأحرار (الأعيان، ورجال الدين، والجنود، والتجار …
إلخ) ورقيق الأرض والعبيد. وكانت القوانين الكنسية
تحرم على العبيد أن يكونوا قساوسة، أو أن يتزوجوا
من المسيحيات الحرائر … كما كان القديس توما
الأكويني يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم،
وأنه وسيلة اقتصادية في عالمٍ يجب أن يكدح فيه بعض
الناس ليمكِّنوا بعضهم الآخر من الدفاع عنهم! وهي
آراءٌ تتفق تمامًا مع نظرية أرسطو في الرق.
١٤
ولا شك أن
القبائل الجرمانية قد حملت معها عاداتها وقوانينها
وتقاليدها، وفرضتها إلى حدٍّ ما على القوانين
والعادات والتقاليد الموجودة عند الشعوب التي غزتها.
١٥ وإن كانت ديانة الإمبراطورية
الرومانية، وهي الديانة المسيحية، قد أصبحت الديانة
الرسمية لكل أوروبا الغربية، بل كان بابا روما لبعض
فترات العصر الوسيط، يمثل الله على الأرض، كما كان
يسمى الأب المقدس، وكان أقوى من كثيرٍ من ملوك
وأباطرة الأمم الأوروبية. ومن ناحيةٍ أخرى فقد
أصبحت الكنيسة ونظرياتها جزءًا لا يتجزأ من الحياة
اليومية لكل شخصٍ في أوروبا طوال العصور الوسطى،
ومن ثم فقد كان موقفها من المرأة بالغ الأهمية؛ لما
يحمله من معنًى ومغزًى، ولما له من تأثيرٍ قوي في
حياة الناس. ولقد ارتكزت نظريات الكنيسة في بداية
العصر الوسيط — في الأعم الأغلب — على كتابات عصر الآباء.
١٦
ولقد كانت قوانين ونظريات رجال الكنيسة بوجهٍ عام
معادية للمرأة، بل غالت بعض قوانين الكنيسة في
إخضاعها. فقد ظلت المرأة في نظر القساوسة ورجال
الدين كما كانت عند القديس يوحنا فم الذهب: شرًّا
لا بد منه، وإغواءً طبيعيًّا، وكارثة مرغوبًا فيها،
وخطرًا منزليًّا، وفتنة مهلكة، وشرًّا عليه طلاء.
وكانت حواء لا تزال مجسدة في كل مكان، فحواء هي
التي خسر بها الجنس البشري جنات عدن، وهي أداة
الشيطان المحببة التي يقود بها الرجال إلى الجحيم.
١٧ وكان توما الأكويني، وهو في العادة
رسول الرحمة، يتحدث عنها كما يتحدث الرهبان،
فينزلها من بعض النواحي منزلة الرقيق.
«إن المرأة خاضعة للرجل لضعف طبيعتها الجسمية
والعقلية معًا، والرجل مبدأ المرأة ومنتهاها، كما
أن الله مبدأ كل شيء ومنتهاه. وقد فُرض الخضوع على
المرأة عملًا بقانون الطبيعة، أما العبد فليس كذلك.
ويجب على الأبناء أن يحبوا آباءهم أكثر مما يحبون أمهاتهم.»
١٨
وإذا كان قانون الكنيسة قد أوجب على الزوج حماية
زوجته، فقد أوجب على الزوجة طاعة زوجها، فقد خلق
الله الرجل، لا المرأة، على صورته هو … ويعقب
العالِم الكنسي على ذلك بقوله: يتضح من هذا أن
الزوجة يجب أن تكون خاضعة لزوجها، بل يجب أن تكون
له أقرب ما تكون إلى الخادمة.
١٩
وكان القانون المدني أشد عداء للمرأة من القانون
الكنسي، فقد كان كلا القانونين يجيز ضرب الزوجة،
وينص على ألا تُسمع للنساء كلمة في المحكمة
«لضعفهن»، ويعاقب على الإساءة للمرأة بغرامة تعادل
نصف ما يُفرض على الرجل نظير هذه الإساءة نفسها.
وقد حَرَمَ القانون النساء — حتى أرقاهن مولدًا —
من أن يُمثِّلنَ ضِياعهن في برلمان إنجلترا، أو في
الجمعية العامة للطبقات في فرنسا. وكان الزواج قد
أعطى الزوج الحق الكامل في الانتفاع بكل ما للزوجة
من متاع وقت الزواج، والتصرف في رَيْعه.
٢٠
أضف إلى ذلك أن المفكرين في القرنين الحادي عشر
والثاني عشر أعادوا اكتشاف أرسطو ودراسته، من واقع
كتبه التي ترجموها مباشرة عن اليونانيين، إذ يروي
المؤرخون عن الأكويني أنه عهد إلى زميله الراهب
الدومينيكاني وليم موربيك (١٢١٥–١٢٨٦م) بأن يزوده
بترجماتٍ من اليونانية إلى اللاتينية؛ ذلك أنه كان
مهتمًّا بالرجوع إلى النصوص الأصلية، وبغير هذه
الطريقة ما كان من الممكن تمييز فلسفة أرسطو عن
إضافات كبار مفكري العرب، وخاصة ابن سينا وابن رشد،
حيث كانت فلسفة أرسطو مختلطة بآراءٍ من الأفلاطونية
الجديدة. على أن ما يسمى بتعميد أرسطو لم يكن مجرد
توفيق سطحي بينه وبين المسيحية، فقد أراد الأكويني
أن يصل بالحجج الفلسفية إلى أعمق مستوياتها، لا أن
يكدس من المواد ما يمكن تطويعه تطويعًا يندرج به في
الإطار اللاهوتي كما هو قائم.
٢١
أما نظرة
القديس توما إلى المرأة فهي بغير جدالٍ نظرة دونية؛
فدورها الأساسي إنما يوجد في التناسل، وينبغي علينا
أن نحافظ عليها لهذا السبب الرئيسي. وقد كتب يقول:
إننا نحتاج للمرأة للمحافظة على الجنس البشري،
ولإمدادنا بالطعام والشراب أيضًا، وإن كان دورها
الفريد الذي لا نظير له إنما يوجد في الحمل، ما
دامت الأهداف البشرية الأخرى يستطيع الرجل أن يقوم
بها على نحوٍ أفضل بمساعدة غيره من الرجال.
٢٢ ولهذا السبب فقد شعر توما بأن المرأة
تحتاج إلى حماية، ولا سيما وأنها الحافظة للنوع
البشري، ومن هنا فإن على الرجال أن يهتموا
بزوجاتهم، فالزواج الحقيقي هو ذلك الذي يُعنَى فيه
الزوج بزوجته وأولاده، وهو بالغ الأهمية، وجزء حيوي
من واجب الرجل الاجتماعي.
٢٣
غير أن ذلك كله إيجازٌ يحتاج إلى شرحٍ
وتفصيل.
(٣) الطبيعة البشرية
كان القديس أوغسطين قد استفاد من التراث اليوناني
— ومن أفلاطون بصفةٍ خاصة — غير أن فكره — ومعه
النغمات الأفلاطونية — بدأ يخفت في القرن الثالث
عشر، في الوقت الذي بدأ فيه تراث أرسطو يطل برأسه،
بل ظهر شعار «العودة إلى أرسطو». وكان القديس توما
الأكويني أكبر فيلسوف يحقق هذا الشعار، فقد حاول أن
يخلق مركبًا من الفكر المسيحي والفلسفة الأرسطية
ظهر واضحًا في مؤلفاته وعلى رأسها كتابه العظيم
«الخلاصة اللاهوتية».
وقد أخذ الأكويني من أرسطو نظرية متكاملة عن
الطبيعة البشرية، ربما أكثر بكثيرٍ مما فعل أوغسطين
مع أفلاطون الذي اكتفى باستلهام الرُّوح الأفلاطوني
فحسب.
لقد كان القديس أوغسطين يؤكد وحدة النفس البشرية
رغم اختلاف عملياتها وتنوعها، غير أن تفرقة أرسطو
بين الوجود بالقوة، والوجود بالفعل، وبين القوى،
والملكات، والوظائف، والذوات، والمبادئ … إلخ، قد
مكنت الأكويني من السير في نفس الطريق، والتمييز
بدقةٍ بين القوى والملكات المختلفة التي تتألف منها
الطبيعة البشرية.
٢٤ فهو مثلًا يساير أرسطو في أن النفس
ثلاث درجات: هي النفس النباتية (أي القدرة على
النماء)، والنفس الحاسة (أي القدرة على الشعور)،
والنفس العاقلة (أي القدرة على التعقل والاستدلال)،
والأولى موجودة في جميع الكائنات الحية، أما
الثانية فلا توجد إلا في الحيوان والبشر، وأما
الثالثة فلا توجد إلا في بني الإنسان. لكنه يزيد
الفكرة الأرسطية توضيحًا وتفصيلًا،
٢٥ فيرى أن النفس خمس صور أو قوًى: النفس
النباتية (وبها ننظم وننمو ونتكاثر)، والنفس
الحاسة، (وبها نستقبل المنبهات من العالم الخارجي)،
والنفس الشهوانية (وبها نرغب ونريد)، والنفس
المحركة (وبها تحدث الحركة)، والنفس العاقلة (وبها نفكر).
٢٦ غير أن النفس وحدة واحدة رغم اختلاف
قواها وملكاتها، وكذلك العقل فهو وحدة واحدة رغم
اختلاف وظائفه، فالنفس العاقلة تتضمن بداخلها الصور
الدنيا أو الأقل كمالًا التي يُعزى إليها عمليات
أقل نبلًا، كالوظائف اللاعقلية في الطبيعة البشرية،
فليس للموجود البشري سوى صورة جوهرية واحدة، ومن
هنا كانت النفس العاقلة هي مبدأ الفهم والإرادة
سواء بسواء. إن الإحساس لا يكون حاضرًا في النفس،
بل في مركب النفس والبدن، إنه عن طريق النفس
العاقلة يكون لهذا المركب قوة الإحساس.
٢٧
لكن هل هذه الطبيعة البشرية هي طبيعة كل إنسان؟
وبمعنًى آخر: هل هذه القوى التي تتألف منها طبيعة
الإنسان موجودة عند الرجل والمرأة على حدٍّ سواء؟
يجيب توما بالإيجاب مع بعض التحفظات:
فهو يرى أن قصة الخلق التي وردت في سِفر التكوين
تجيب بوضوحٍ عن هذه الأسئلة؛ فقد جاء فيها: «… فخلق
الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكرًا
وأنثى خلقهم» (تكوين ١: ٢٧)، فصورة الله هنا هي —
في مغزاها الأساسي — الطبيعة العاقلة، وهي موجودة
عند الرجل كما هي موجودة عند المرأة على حدٍّ سواء؛
٢٨ ولهذا فإن الكتاب المقدس يتحدث عن
الإنسان في صيغة الجمع، فيقول: (ذكرًا وأنثى خلقهم)
خشية الظن أن الجنسين معًا قد اتحدا في فردٍ واحد.
٢٩
ولو أن القديس توما وقف عند هذا الحد لكان قد
اتخذ خطوةً كبرى نحو إنصاف المرأة ومساواتها
بالرجل، ولسار بعيدًا عن فلسفة أرسطو، لكنه — للأسف
— يعود إلى «التحفظات» التي تنسف الفكرة من أساسها
عندما يتساءل وكأنه اصطدم بكلماتٍ أخرى للكتاب
المقدس، وهي هنا من أقوال بولس الرسول: ماذا نقول
في أقوال الرسول؟ يبدو أن صورة الله لا توجد عند كل
إنسان؛ لأن القديس بولس يقول: إن الرجل هو صورة
الله، أما المرأة فهي صورة الرجل،
٣٠ ومن ثم فبما أن المرأة هي فرد من أفراد
الجنس البشري فمن الواضح أن صورة الله لا توجد في
كل فردٍ من أفراد البشر.
هنا يقدم الأكويني مخرجًا من هذا المأزق يجده
فيما يسميه «المعنى الثاني» لصورة الله، يقول: لكن
هناك معنًى ثانيًا لصورة الله وُجد في الرجل، وليس
في المرأة، ذلك أن الرجل هو بداية المرأة ونهايتها
وغايتها، تمامًا كما أن الله هو بداية الخلق
ونهايته وغايته؛ ولهذا فعندما قال الرسول: إن الرجل
هو صورة الله ومجده في حين أن المرأة هي صورة الرجل
ومجده، فإنه قد أضاف السبب الذي جعله يقول ذلك وهو:
«… إن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل،
ولم يُخلق الرجل من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل.»
٣١
أيكون ذلك لأن المرأة خلقت من ضلع الرجل، فكانت
بذلك موجودًا ثانويًّا، في الوقت الذي يكون فيه
الرجل هو المبدأ وهو الأصل والأساس، وهو الغاية
والنهاية بالنسبة للمرأة؟ فلنقف قليلًا عند مشكلة
خلق المرأة.
(٤) خَلق المرأة
يعرض القديس توما الأكويني لخَلق المرأة في
الخلاصة اللاهوتية في أربع مقالات،
٣٢ يتساءل في المقالة الأولى: أكان ينبغي
خلق المرأة مع بداية الخلق؟ ويثير ثلاثة اعتراضات
ضد خلق المرأة، ثم يجيب عنها على النحو
التالي:
الاعتراض الأول
يبدو أنه ما كان ينبغي خلق المرأة مع بداية
خلق الكائنات؛ ذلك لأن الفيلسوف
٣٣ يقول: إن الأنثى نتاج مشوَّه للرجل
٣٤ (وهو ما يوافق عليه الأكويني
ويردده مرارًا)، ولا ينبغي أن يكون هناك شيء
ناقص أو مشوه أو معيب في بداية الخلق، ومن ثم
فإن المرأة ما كان ينبغي أن تخلق مع بداية خلق
الكائنات.
الاعتراض الثاني
خضوع المرأة وتقييدها إنما جاء نتيجة
للخطيئة؛ ولهذا قال لها الله بعد الخطيئة:
«فكثيرًا أُكَثِّر أتعاب حبَلك، بالوجع تلدين
أولادًا، وإلى رجُلك يكون اشتياقك، هو يسود
عليك» (تكوين ٣: ١٦)، ويقول جريجوري: لو لم تكن
هناك خطيئة ما كان هناك تفاوت ولا عدم مساواة؛
ولهذا كان من الطبيعي أن تكون المرأة أقل قوة
وأدنى كرامة من الرجل؛ لأن الفاعل — كما يقول
أوغسطين — هو باستمرارٍ أعلى مقامًا ممن وقع
عليه الفعل، ومن ثم فما كان ينبغي أن توجد
المرأة في بداية خلق الكائنات قبل
الخطيئة.
الاعتراض الثالث
كان ينبغي منع فرص الخطيئة أمام الرجل، غير
أن الله استشفَّ أن تكون المرأة فرصة لوقوع
الرجل في الخطيئة؛ ولهذا ما كان ينبغي أن توجد
المرأة مع بداية الخلق، لكن العكس هو الذي كان،
فقد جاء في الكتاب المقدس: «وقال الرب الإله
ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فأصنع له معينًا
نظيره» (تكوين ٢: ١٨).
ويقول توما الأكويني: جوابي على هذه
الاعتراضات هو على النحو التالي:
في اعتقادي أنه كان من الضروري خلق
المرأة لكي تكون معينًا نظيرًا للرجل
كما جاء في الكتاب المقدس، لا لكي
تساعده في الأعمال المختلفة كما يذهب
بعض الباحثين؛ إذ الواقع أن الرجل
قادرٌ على هذه الأعمال، بل إنه يمكن أن
يؤدي جميع الواجبات أفضل من أداء
المرأة — لا نستثني من ذلك العناية
بالبيت — وهو يكون أكثر فاعلية عندما
يساعده رجلٌ آخر، وإنما المقصود هنا أن
تُعِينَ الرجل وتساعده في عملية
التناسل، ويمكن أن يتضح ذلك إذا ما
لاحظنا أنواع التناسل في مختلِف
الكائنات الحية، فبعض هذه الكائنات لا
تملك في ذاتها القدرة على التناسل؛
ولهذا فهي تتناسل عن طريق فاعل آخر، في
حين أن هناك كائنات حية أخرى لديها
القدرة التناسلية الإيجابية والسلبية
معًا على نحو ما نرى في النباتات التي
تتناسل من البذور.
٣٥
وتعود
القدرة الإيجابية في عملية التناسل إلى جنس
الذكر، بينما تنتمي القدرة السلبية إلى جنس
الأنثى، وفي النبات تتحدد القدرة الإيجابية
والسلبية على نحوٍ ضروري، أما في الحيوانات فلا
يكون الذكر متحدًا أو متصلًا بالأنثى إلا في
حالة الجماع فقط، ومن ثم جاز لنا أن نقول إن
الذكر والأنثى في حالة الجماع يكونان شيئًا
واحدًا، وهما في النباتات يتَّحدان بصفةٍ
مستمرة، حتى وإن كان أحدهما في بعض الحالات
يَرجح الآخر ويتفوق عليه، بينما تكون الغلبة
للثاني في الحالات الأخرى. أما الإنسان فهو
مُعَد ليقوم في الحياة بدورٍ أكثر نبلًا، أعني
أن يقوم بالوظيفة العقلية؛ ولهذا كان هناك مبرر
قوي لتمايز هاتين القدرتين في الإنسان، فكان لا
بد أن تخلق منفصلة عن الرجل، ومع ذلك فلا بد من
اتحادهما جسديًّا من أجل التناسل؛
٣٦ ولهذا جاء في الكتاب المقدس بعد
خلق المرأة مباشرة: «… ولذلك يترك الرجل أباه
وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدًا واحدًا»
(تكوين ٢: ٤).
وبعد هذه المقدمة الطويلة عن ضرورة خلق المرة
من أجل التناسل، يتولى الرد على الاعتراضات
السابقة على النحو التالي:
الرد على الاعتراض الأول
فيما يتعلق بالطبيعة الفردية للمرأة، فإننا
نجد أنها موجودٌ ناقص، ومشوَّه، ومعيب؛ ذلك لأن
القوة الإيجابية عند الذكر (وهي الأساس في
عملية التناسل) تتجه لإنتاج مولود يشبه الذكر
تمامًا، فإن جاءت المولودة أنثى دل ذلك على نقص
في القدرة الإيجابية، وقد يكون نتيجة بعض
الانحرافات المادية (على نحو ما يحدث في دماء
الطمث)، وربما كان نتيجة لبعض المؤثرات
الخارجية، ومنها رياح الجنوب التي تأتي محملة
بالرطوبة كما لاحظ الفيلسوف.
٣٧
لكن فيما يتعلق بالطبيعة البشرية الكلية،
فإننا نجد أن المرأة ليست موجودًا ناقصًا أو
مشوهًا أو معيبًا، بل هي تدخل ضمن مقاصد
الطبيعة التي توجهها نحو عملية التناسل، وتعتمد
هذه المقاصد الكلية للطبيعة على الله الذي هو
الخالق الكلي للطبيعة، ومن هنا فإن الله عندما
خلق الكائنات لم يخلق الذكر فحسب، بل الأنثى أيضًا.
٣٨
علينا أن نلاحظ هنا أن الأكويني يحاول
التوفيق بين فكرة أرسطو التي تجعل من المرأة
موجودًا شائهًا وناقصًا ومعيبًا؛ لأن الطبيعة
لا تخلق الإناث إلا إذا انحرفت، إذ تميل إلى
خلق الذكر الذي يشبه الأب، وبين الفكرة الدينية
التي ترى أن الله الخير لا يخلق إلا ما هو خير،
فإذا كانت المرأة خلقًا لله، فكيف تكون موجودًا
ناقصًا ومعيبًا؟ وكيف يمكن أن نقول إنه مع
بداية خلق الكائنات كان هناك موجود ناقص
ومعيب؟
والحل الذي يقدمه الأكويني هو أن فكرة المعلم
الأول تصدق على الإناث فُرادى، فهذه المرأة
المُعيَّنة وتلك موجودات ناقصة؛ لأنها جاءت عن
طريق عملية التناسل التي هي جمع بين الحيوانات
المنوية للذكر وطمث الأنثى، وقد تكون نتيجة
لضعف قوة التلقيح عند الأب، أو لعاملٍ آخر مثل
رياح جنوبية رطبة، فهي انحراف عن المجرى الصحيح
الذي تسير فيه الطبيعة التي ترغب على الدوام في
أن تُخرج ذكرًا، فالمرأة من هذه الزاوية ذكر
أخطأه التوفيق، ومن ثم كانت مخلوقًا عارضًا
عاجزًا.
لكن المرأة من زاويةٍ أخرى هي خلق مباشر لله،
ومن ثم فهي هنا ليست موجودًا فرديًّا ناقصًا أو
عاجزًا؛ لأننا في هذه الحالة لا نتحدث عن أفراد
النساء، بل عن الطبيعة الكلية التي خلقها الله،
ووجهها نحو الحفاظ على النوع البشري، ولما كان
لا بد من المحافظة على النوع فإن الله خلق
الأنثى إلى جانب الذكر، فالطبيعة الكلية للمرأة
أو فكرة المرأة بصفةٍ عامة لا هي معيبة ولا هي
ناقصة. ولقد سبق أن رأيناه يقول: إننا نحتاج
إلى المرأة لما تقوم به من دورٍ فريد لا نظير
له في المحافظة على النوع البشري.
الرد على الاعتراض الثاني
يحمل خضوع المرأة للرجل معنًى مزدوِجًا؛
الأول: خضوع العبودية، وبفضله يستخدم الأعلى من
هو أدنى ويستغله لمصلحته، ولقد بدأ مثل هذا
النوع من الخضوع بعد الخطيئة. أما الثاني:
فهناك نوع من الخضوع يسمى بالخضوع المدني أو
الاقتصادي يستخدم فيه الأعلى من هو أدنى
لمصلحته الخاصة وللخير، ومثل هذا النوع الثاني
من الخضوع موجود حتى قبل الخطيئة، فلا بد أن
يكون النظام الصالح أو الجيد في الأسرة البشرية
ناقصًا ومعيبًا ما لم يكن فيها من يحكم ويكون
أكثر حكمة من بقية الأعضاء، ومن هنا كانت
المرأة بطبيعتها خاضعة للرجل، ويرجع ذلك الخضوع
إلى أن ملكة العقل عند الرجل هي التي تسود، أما
المرأة فتغلب عليها العاطفة والانفعال، وهذا
أمرٌ طبيعي؛ لأن الرجل تسوده قوة التمييز
وفراسة العقل، وليس التفاوت بين الناس مستبعدًا
حتى في حالة البراءة.
الرد على الاعتراض الثالث
لو أن الله منع فرص الخطيئة، وحرم العالم من
جميع الفرص والمناسبات التي تجعل الإنسان يقع
في الخطيئة — لكان نظام الكون ناقصًا غير كامل،
ولما استطعنا أن نقول إن الشر الفردي كان يمكن
تجنبه لصالح الخير العام، لا سيما وأن الله
قادر على كل شيء، حتى إنه قادرٌ على توجيه الشر
لغايةٍ خيِّرة.
٣٩
(٥) خلق المرأة من الرجل
أما المشكلة الثانية التي يدرسها الأكويني فتتمثل
في هذا السؤال: أكان ينبغي خلق المرأة من الرجل؟
وهنا يثير كذلك ثلاثة اعتراضات ويقوم بالرد عليها
على النحو التالي:
الاعتراض الأول
يبدو أن المرأة كان ينبغي ألا تُخلق من
الرجل؛ لأن الإنسان والحيوان ينتميان معًا إلى
جنسٍ واحد، ولما كانت الأنثى في الحيوانات
الأخرى لم تُخلق من الذكر، فكان يجب ألا يحدث
ذلك أيضًا في حالة الإنسان.
الاعتراض الثاني
وفضلًا عن ذلك فإن جميع الكائنات التي من
نوعٍ واحد إنما تُخلق من نفس المادة، ولما كان
الذكر والأنثى في الإنسان ينتميان إلى نوعٍ
واحد، فلا بد أن يكون خلقهما من نفس المادة،
ولما كان الرجل قد خُلق من صلصالٍ أو طينٍ لازب
فكان ينبغي أن تُخلق المرأة من نفس هذا الطين،
لا من الرجل.
٤٠
الاعتراض الثالث
ومن ناحيةٍ ثالثة فقد خُلقت المرأة لتكون
نظيرًا مُعِينًا للرجل في عملية التناسل، غير
أن العَلاقة الوثيقة الحميمة لا تجعل الشخص
مؤهلًا للقيام بهذا الدور؛ ولهذا السبب كان
تحريم الزواج من ذوي القربى على نحو ما جاء في
الكتاب المقدس: «لا يقترب إنسان إلى قريب جسده
ليكشف العورة، أنا الرب، عورة أبيك وعورة أمك
لا تُكشف» (اللاويين ١٨: ٦–٩)؛ ولهذا لم يكن
يجب أن تُخلق المرأة من الرجل مع أن الكتاب
المقدس يقول: «لقد خلق منه (أي من الرجل)
مُعينًا نظيرًا له هو المرأة.»
ويجيب الأكويني إجابةً عامة قبل أن يرد على
كل اعتراضٍ على حدة فيقول: عندما خُلقت
الكائنات في البدء كان من المناسب للمرأة أن
تُخلق من الرجل أكثر من أن يحدث ذلك بالنسبة
للحيوانات الأخرى، وذلك للأسباب الآتية:
- أولًا: لكي تُعطَى للرجل الأول
كرامة معينة، من حيث إن الله —
بوصفه مبدأ الكون كله — قد خلق
الرجل الأول على صورته ليكون مبدأ
النوع البشري كله، ومن هنا فقد كان
بولس الرسول يقول: «إن الله صنع
الجنس البشري من دمٍ واحد» (أعمال
الرسل ١٧: ٢٦).
- ثانيًا: لقد أحب الرجل الأول المرأة
حبًّا شديدًا، والتصق بها كما جاء
في الكتاب المقدس: «وبنى الرب
الإله الضلع التي أخذها من آدم
امرأة، وأحضرها إلى آدم فقال آدم:
هذه الآن عظم من عظمي ولحم من
لحمي، هذه تُدعى امرأة لأنها من
امرئٍ أُخذت؛ ولذلك يترك الرجل
أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان
جسدًا واحدًا» (تكوين ٢: ٢٣-٢٤)،
ولقد كان ذلك بالغ الضرورة في
الجنس البشري الذي يعيش فيه الذكر
والأنثى معًا في حياةٍ مشتركة،
وليس الأمر كذلك مع الحيوانات
الأخرى.
- ثالثًا: كما قال الفيلسوف، فإن الذكر
البشري والأنثى البشرية لا
يتَّحدان من أجل التناسل فقط، كما
هي الحال في الحيوانات الأخرى،
وإنما يتَّحدان بغرض تكوين حياة
أليفة يؤدي فيها الزوج والزوجة
واجباتهما، ويكون فيها الرجل رأس المرأة؛٤١ ولهذا السبب كان من
المناسب للمرأة أن تُخلق من الرجل؛
لأنها في هذه الحالة تخرج من
مبدئها.
- رابعًا: هناك سبب آخر يتعلق بالأسرار
المقدسة (سر الزواج)، وذلك يعني أن
الكنيسة تستمد أصلها من المسيح،
ومن هنا قال الرسول: «أيها النساء
اخضعن لرجالكن كما للرب؛ لأن الرجل
هو رأس المرأة، كما أن المسيح
أيضًا هو رأس الكنيسة وهو مخلِّص
الجسد، ولكن كما تخضع الكنيسة
للمسيح، كذلك النساء لرجالهن في كل
شيء» (رسالة بولس الرسول إلى أهل
أفسس ٥: ٢٢–٢٤).
وعلى هذا النحو يكون الأكويني قد رد في ثنايا
هذه الإجابة العامة على الاعتراض الأول الذي
يقول: إنه كان ينبغي ألا تُخلق المرأة من الرجل
فذلك لم يحدث في الحيوانات الأخرى، فالقياس هنا
خاطئ؛ لأننا في حالة الأنثى البشرية نجد أن
دورها الأساسي إنما يكمن في تكوين الأسرة
المحافظة على النوع، الأمر الذي يحتاج إلى
ارتباطٍ وثيق بينها وبين الرجل، وهل يمكن أن
يكون هناك ارتباط أشد وثوقًا من أن تُخلق من
الرجل؟!
أما رد الأكويني على الاعتراض الثاني الخاص
بالمادة الواحدة التي يُخلق منها النوع، فيتلخص
في أنه كانت المادة المعيَّنة تنتج شيئًا
معينًا، فإن القوة الإلهية ما دامت لا متناهية
فإنها قادرة على خلق كائنات منوعة من أي مادة،
فهي ليست مقيدة بنمطٍ معين من الخلق، وهذا واضح
في خلق الإنسان، فقد خلق الله الرجل من طين
الأرض في الوقت الذي خلق فيه المرأة من ضلع
الرجل.
أما الاعتراض الثالث الذي يحرم الزواج من ذوي
القربى، فإنه مردودٌ عليه بأن الألفة والمودة
والقربى تنشأ من التناسل الطبيعي؛ ولهذا تكون
مانعًا من الزواج، لكن المرأة — في عملية الخلق
الأولى — لم تنتج من الرجل عن طريق التناسل
الطبيعي، بل بواسطة القوة الإلهية وحدها؛ ولهذا
السبب فإننا لا نقول عن حواء إنها ابنة آدم.
وهكذا يكون قد تمت البرهنة على ضعف هذا الاعتراض.
٤٢
(٦) المرأة … وضلع الرجل
أما المشكلة الثالثة التي يدرسها الأكويني فهي:
إذا سلَّمنا بأنه كان من المناسب أن تُخلق المرأة
من الرجل، فهل كان من المناسب أيضًا أن تخلق من
ضلعه؟ يثير الأكويني كالمعتاد ثلاثة اعتراضات ثم
يقوم بالرد عليها على النحو التالي:
الاعتراض الأول
يصعب أن نصدق أن المرأة خُلقت من ضلع الرجل؛
لأن ضلع الرجل أصغر كثيرًا في حجمه من جسد
المرأة، صحيحٌ أنه يمكن أن ينتج أكبر الأشياء
من أصغرها، لكن بإحدى طريقتين؛ الأولى: عن طريق
الإضافة، أعني أن نضيف مواد أخرى إلى هذا الشيء
الصغير، لكن إذا قلنا إنه قد أضيفت أشياء أخرى
في حالة خلق المرأة فإنه لا يمكن أن يقال إنها
في هذه الحالة قد خُلقت من ضلع الرجل وحده،
والثانية: عن طريق الخلخلة؛
٤٣ لأن الجسد لا يمكن زيادة كتلته —
كما قال أوغسطين — إلا عن طريق تخلخل الهواء،
لكن الملاحظ أن جسد المرأة ليس فيه من تخلخل
الهواء أكثر مما هو موجود في جسد الرجل، أو على
الأقل ليس بنسبة الضلع إلى جسم حواء، من ثم فإن
حواء لم تُخلق من ضلع آدم.
الاعتراض الثاني
وفضلًا عن ذلك فلم يكن هناك في بداية الخلق
شيء زائد عن الحاجة، ومن ثم فإن ضلع آدم يؤثر
في سلامة جسمه وصحته، وعلى ذلك فلو أزيل هذا
الضلع لكان جسد آدم ناقصًا غير كامل، وهو أمرٌ
غير معقول؛ لأنه لا يتناسب مع الغرض الذي خلقه
الله من أجله.
الاعتراض الثالث
ومن ناحيةٍ ثالثة، لا يمكن إزالة ضلع من
الرجل بغير ألم، لكن لم يكن ثمة ألم قبل
الخطيئة، ومن ثم فليس من الصواب أن يؤخذ ضلع من
الرجل لكي تُخلق منه حواء، لكن ما حدث هو العكس
تمامًا، فقد جاء في الكتاب المقدس: «وبنى الرب
الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة» (تكوين
٢: ٢٢).
ويتولى الأكويني الرد على هذه الاعتراضات
فيقول — بصفةٍ عامة — لقد كان من المناسب أن
تُخلق المرأة من ضلع الرجل، وذلك للأسباب
الآتية:
- أولًا: للتعبير عن الوحدة
الاجتماعية بين الرجل والمرأة، فلا
ينبغي أن يكون للمرأة سلطان على
الرجل، وهي لهذا لم تُخلق من رأسه.
وليس من الصواب من ناحيةٍ أخرى أن
تتعرض المرأة لاحتقار الرجل
باعتبارها جارية، وهي لهذا السبب
لم تُخلق من قدمه، وهكذا كان أنسب
مكان هو ضلع الرجل.
- ثانيًا: لسببٍ يتعلق بالأسرار
المقدسة؛ ذلك لأنه من جنب المسيح
الذي نام على الصليب، نبعت الأسرار
المقدسة؛ أعني الدم والماء اللذين
أقيمت عليهما الكنيسة.٤٤
ثم يقوم الأكويني بالرد على الاعتراضات
فرادى:
الرد على الاعتراض الأول
من الصواب أن نقول إن المرأة خُلقت من ضلع
آدم دون حاجةٍ إلى إضافة مادة زائدة على أي
نحو، وهناك مثال جيد على ذلك: عندما استطاع
المسيح أن يستخرج من خمسة أرغفة أعدادًا هائلة
من الخبز أطعمت آلافًا من الناس؛
٤٥ لأن مثل هذه الزيادة إما أن تكون
عن طريق تغيير جوهر المادة نفسها، أو تغيير
أبعادها، وإذا كان جوهر المادة غير قابل للتغير
فإن الكثرة والتعدد والحجم هي مسائل خارجية
بعيدة عن جوهر المادة ذاتها، ومع ذلك فإننا
نستطيع أن نقول إنه يمكن إضافة عناصر إلى
المادة عن طريق الخلق. ومن هنا قال أوغسطين إن
المسيح أشبع خمسة آلاف رجل بخمسة أرغفة من
الخبز، بنفس الطريقة التي تُنتج بها بذور قليلة
محصولًا كبيرًا من القمح، وبنفس الطريقة التي
نقول بها إن الجموع تغذت من خمسة أرغفة نقول
أيضًا إن المرأة خُلقت من ضلع الرجل، وربما
كانت هناك مواد أضيفت إلى ما هو موجود بالفعل
في الحالتين، أعني: الخبز، والضلع.
الرد على الاعتراض الثاني
يرتبط الضلع بسلامة جسم آدم وصحته، لا بوصفه
فردًا بل مبدأ للنوع البشري، مثلما يرتبط
الحيوان المنوي بسلامة الفاعل وتطلعه لعملية
اللذة الطبيعية؛ ولهذا كان من الصواب أن نقول
إنه بواسطة القدرة الإلهية خرج جسد المرأة من
ضلع الرجل، وهذا هو ردي أيضًا على الاعتراض الثالث.
٤٦
(٧) المرأة … والخلق المباشر
خُلقت المرأة من الرجل ومن مكانٍ محدد في جسمه هو
ضلعه، فهل تم هذا الخلق على نحوٍ مباشر؟!
يورد الأكويني هنا أيضًا ثلاثة اعتراضات ويقوم
بالرد عليها:
الاعتراض الأول
يبدو أن الله لم يخلق المرأة على نحوٍ مباشر؛
لأنه ليس ثمة فرد خلقه الله خلقًا مباشرًا من
فردٍ آخر يشبهه في النوع، ومن ثم فإن الله لم
يخلق المرأة خلقًا مباشرًا.
الاعتراض الثاني
من ناحيةٍ أخرى فإن أوغسطين يقول إن الأشياء
المادية يحكمها الله من خلال الملائكة، ولما
كان جسد المرأة مادة فقد تم خلقه تحت رعاية
الملائكة، لكنه لم يخلق المرأة خلقًا
مباشرًا.
الاعتراض الثالث
ومن ناحيةٍ ثالثة فإن الأشياء التي وُجدت في
عملية الخلق وجودًا يسبق مبادئها السببية، فإن
إنتاجها إنما يكون عن طريق بعض المخلوقات وليس
عن طريق الله مباشرة. ولما كان جسد المرأة قد
خُلق من مبادئه السببية بين أول المخلوقات —
كما قال أوغسطين — فإنه لم يكن خلقًا مباشرًا
لله.
ويتولى الأكويني الرد على هذه الاعتراضات
إجمالًا فيقول: إن التناسل الطبيعي لكل نوعٍ
إنما يكون من مادةٍ معينة، والمادة التي يُنسل
منها الإنسان على نحوٍ طبيعي هي الحيوانات
المنوية للذكر مع الأنثى، وهكذا نجد أن الفرد
في النوع البشري لا يمكن أن ينشأ على نحوٍ
طبيعي من أية مادة أخرى، غير أن الله وحده الذي
تَدين له الطبيعة بوجودها قادرٌ على خلق المرأة
من ضلع الرجل على نحوٍ مباشر، فهو القادر على
الخروج عن المجرى المألوف للطبيعة، ومن ثم فهو
وحده الذي يستطيع خلق الرجل من طينٍ لازب، وخلق
المرأة من ضلع الرجل على نحوٍ مباشر.
الرد على الاعتراض الأول
الواقع أن هذا الاعتراض لا يكون جيدًا إلا
إذا كان الحديث عن نسل الفرد بواسطة التوالد
الطبيعي ممن يشبهه في النوع، أما خلق حواء فهو
فريد لا قياس عليه، وبالتالي ليس ثمة ما يمنع
من خلقها خلقًا مباشرًا.
الرد على الاعتراض الثاني
يقول أوغسطين إننا لا نعرف ما إذا كان الله
قد استخدم الملائكة في خلق المرأة أم لا، لكن
يكاد يكون من المؤكد أنه كما أن الملائكة لم
تشترك في خلق الرجل من طين الأرض، فإنها لم
تشترك كذلك في خلق المرأة من ضلع الرجل.
الرد على الاعتراض الثالث
كما يقول أوغسطين: لم يكن الخلق الأول
للكائنات يتطلب بالضرورة أن تُخلق المرأة على
هذا النحو، ومن هنا فقط كان من الممكن بالنسبة
لها أن تُخلق على هذا النحو؛ ولذلك فقد كان
لجسد المرأة وجود سابق طبقًا لهذه المبادئ
السببية في أول أعمال الخلق، لا طبقًا للإمكان
الإيجابي، بل للإمكان السلبي الذي تنظمه القوة
الإيجابية لله.
(٨) المجتمع … والأسرة
الكون عند توما الأكويني — كما كان عند أرسطو —
نظام مرتب يمتد في درجاتٍ تبدأ من الله أسمى
الموجودات، وتنتهي هابطة عند أدنى المخلوقات. ويعمل
كل كائنٍ منها بدافعٍ داخلي مُستمد من طبيعته،
مجاهدًا في سبيل الخير أو الكمال الملائم لطبقته من
المخلوقات، ويستمر مجاهدًا حتى يأخذ مكانه في هذا
النظام الهيراركي التصاعدي حسب درجة الكمال التي
وصل إليها، ويسيطر الأعلى في جميع الأحوال على
الأدنى ويفيد منه، ولكل كائنٍ حي قيمته مهما كانت
تفاهته. وفي مثل هذا النظام يكون للطبيعة البشرية
مركز فريد بين المخلوقات كافة، لا لأن الإنسان يملك
جسدًا فحسب، بل لأن له عقلًا ورُوحًا كان بفضلهما
أقرب المخلوقات إلى الله، وهو الوحيد الذي يتكون من
بدنٍ ورُوح في وقتٍ واحد، وترتكز على هذه الحقيقة
الأساسية جميع الأنظمة والقوانين التي تحكم حياته
وتوجهها.
وللمجتمع — كالطبيعة — أهداف وغايات تقضي على
الأدنى بأن يخدم الأعلى، وأن يطيعه، في حين أن على
الأعلى أن يسود الأدنى. وعلينا أن نلاحظ أن
الأكويني يساير أرسطو عندما يستعير مصطلحات السياسة
ليطبقها على الكون، أو يأخذ من تسلسل مراتب
الموجودات (أعني هيراركية الكون) — مبدأ يطبقه على
الدولة بحيث لا نعرف على وجه الدقة أيهما يسبق
الآخر، مع أن فكرة التسلسل التصاعدي هي في الواقع
فكرة ميتافيزيقية.
٤٧
وقد اقتدى الأكويني أيضًا بأرسطو فوصف المجتمع
بأنه عبارة عن تبادل خِدمات ومنافع بُغية الوصول
إلى حياةٍ طيبة تسهم في بنائها مهن وحرف كثيرة،
فالزارع والصانع يمدان هذا المجتمع بالاحتياجات
المادية، والقسيس يسهم بالصلوات وإقامة الشعائر،
كما تسهم كل طائفةٍ بالعمل الذي تزاوله وتجيده.
ويقضي الخير العام أن يكون لهذا النظام هيئة حاكمة
تسيِّر شئونه كما تسيِّر الرُّوح الجسد.
٤٨
أما الأسرة فقد رأى الأكويني أنها نموذجٌ طبيعي
معقول للمجتمع الصغير هدفها الإنجاب وتربية الأطفال
والخير المتبادل بين الزوج والزوجة، فنظرته إلى
الأسرة توجهها أساسًا وظيفتان جوهريتان هما:
الإنجاب، وتربية الطفل؛ ولهذا ينبغي أن يكون الزواج
واحديًّا، فلا يكون ثمة سوى زوج واحد وزوجة واحدة،
حتى يتمكن الاثنان من الإشراف على نمو الأطفال،
وتعليمهم، وتربيتهم، وأن يكون رائد التعامل بينهما
الأمانة، وتعاطف كل منهما مع الآخر. وهو في هذا كله
يتأثر تأثرًا قويًّا بالحجج التي يسوقها أرسطو عن
الزواج الواحدي في فلسفته السياسية.
٤٩
أما بالنسبة لوضع المرأة في الأسرة فقد كان
الأكويني يؤمن ببساطةٍ شديدة بدونية المرأة، فهي
موجود أدنى من الرجل، ونحن نحتاج إليها للمحافظة
على النوع، ودورها الفريد في الأسرة إنما يوجد في
الحمل؛ ولهذا فينبغي علينا أن نحافظ عليها؛ لأن
إنجاب الأبناء هو المهمة الأولى للأسرة؛ ولهذا فإن
الزواج لا يصبح صحيحًا حتى يتم اتصال الزوجين
بالمعاشرة الجنسية بقصد إنجاب الأطفال؛ ولهذا فإن
منع الحمل يُعَد محرمًا، ويرى القديس توما أنه
جريمةٌ لا تزيد عنها شناعة إلا جريمة القتل
العمد.
ويتابع القديس توما أرسطو في القول بأن الأساس في
عملية تشكيل الجنين هو مَنِيُّ الرجل وحده، فهو
العامل المؤثر الفعال في اللقاح، ولا يتعدى دور
المرأة ضم الجنين في رحمها، وإمداده بالطعام،
وبالمواد المغذية للجسم. ولما كان الذكر هو سبب
تكوين الجنين، فإن أصل الأجنة كلها هو الذكورة،
وإنما يتحول بعضها إلى إناث إذا ما علت المواد
السفلية الأنثوية، وطغت على المواد العلوية التي
يقذفها الذكر، وهذا يعني أن المرأة ذكرٌ ناقص
التكوين. ولقد أفاض الأكويني في شرح هذه الفكرة،
واستشهد على صواب رأيه بقرائن عديدة، منها: أن جسد
المرأة يتغير ويميل إلى النقصان بعد الجماع، وذلك
لفقدانها بكارتها، كما أن مؤدى الجماع هو الحمل
والولادة، وما يصاحبهما من مشاقٍ وتعب.
الوظيفة الأساسية للمرأة هي الإنجاب، وهذا هو
السر في الخلق المنفصل للمرأة الذي يرمز إلى
التوالد، ودورها في عملية الإنجاب هو الذي يجعلها
نظيرًا معينًا للرجل. أما في مجالات الحياة الأخرى
— غير التوالد — يمكن للرجل أن يكون أشد فاعلية
بمساعدة رجل آخر.
وعلى الرغم من أن الأكويني يصر على أن المرأة
خلقت على صورة الله احترامًا لمبدأ العقل، فإنه
يضعها خارج النشاط العقلي للإنسان.
٥٠ ورغم أنه يصر أيضًا على أن ثانوية
المرأة في سِفر التكوين ينبغي ألا تُفهم على أنها
تعني أن للمرأة قدرًا أدنى من العقلانية، فإن هناك
إشارات كثيرة في «الخلاصة اللاهوتية» توضح أن ذلك
ليس بسبب اعتقاده أن النساء متساويات — من الناحية
العقلية — بالرجال. وعلى الرغم من أنه يذهب إلى أن
الوجود الأدنى أو الثانوي للمرأة لا يعني — كما ذهب
أحد معارضيه — أن وجودها ذاته يُنسب إلى النتائج
الفاسدة للسقوط أكثر مما يُنسب إلى الوضع الأصلي
للخلق، فإنه يذهب — مع أوغسطين — إلى القول بوجود
طبيعة دنيا للمرأة، وأيضًا بثانويتها، ويرى أن
السبب هو سيادة العقل عند الرجل، ومن ثم فلا بد أن
يكون النظام الصالح الجيد في الأسرة البشرية
ناقصًا، ما لم يكن فيها من يحكم ويكون أكثر حكمة من
بقية الأعضاء.
٥١
والقانون الصارم الذي يسري على الطبيعة والمجتمع:
يسري كذلك على الأسرة، وهو: أن الأدنى يكون في خدمة
الأعلى، وإذا كانت المرأة بطبيعتها أدنى من الرجل،
فإنه من الطبيعي أيضًا أن يحكمها الرجل، وهكذا يكون
الرجل هو البداية، والمرأة هي النهاية تمامًا مثلما
أن الله هو البداية والنهاية لجميع المخلوقات؛ وذلك
لأن الرجل لم يُخلق من أجل المرأة، لكن المرأة
خُلقت من أجل الرجل.
٥٢
وفي قسمٍ أخير من الخلاصة اللاهوتية يقتبس
الأكويني — باستحسان — تأكيد أرسطو على أن النساء
لا يمكن وصفهن بأنهن عفيفات؛ لأنهن «يتأرجحن» لعدم
استقرار العقل وسهولة الانقياد، فهن يتبعن العواطف
والانفعالات الطاغية. وهو يجمع النساء مع الأطفال
والمرضى والبُله ليقدم دليلًا مؤكدًا على نقص العقل
عندهن. وفضلًا عن ذلك فإن الأكويني يقبل نظرية
أرسطو في التوالد، ولا يجعل للمرأة سوى دور سلبي
تقبُّلي في تقديم المادة التي يتكون منها الجنين،
في حين يقوم الذكر بالدور الإيجابي بما يقدمه من
بذورٍ على هيئة الحيوانات المنوية. ومن ناحيةٍ أخرى
فإن التوالد يتجه إلى إنتاج الذكور، فإن كانت
المولودة أنثى دلَّ ذلك على نقصٍ ما، يقول الأكويني
مرددًا نظرية أرسطو:
يتجه التوالد إلى التشابه التام بجنس الذكر، ومن
هنا فإن مولد المرأة يُعبر عن نقصٍ في القوة
الإيجابية، أو نقص في المادة، أو ربما يأتي من بعض
العوامل الخارجية: كرياح الجنوب الرطبة (كما لاحظ الفيلسوف).
٥٣ والذكر كما قال أرسطو هو الصورة،
والمرأة هي الهَيُولَى، ومن ثم فإن انطباع الصورة
انطباعًا قويًّا على المادة يعطينا الذكور، فإن كان
هناك نقص في المادة أو ضعف في الصورة أُنتجَت
الإناث. ومرة أخرى أيد الأكويني فكرته عن نقص
الأنثى وعجزها بالإشارة إلى أن كل امرأةٍ هي من حيث
طبيعتها البيولوجية مخلوق مشوَّه ومعيب وناقص. ومن
ناحيةٍ أخرى فإن الأكويني يعتقد أن المرأة ليست
لديها القدرة على استخدام اللغة التي هي وسيلة هامة
يستطيع الإنسان بواسطتها أن يعبر للآخرين عن
تصوراته وأفكاره. والوضع الاجتماعي للمرأة كان يفرض
عليها الكثير من ألوان الصمت فرضتها عليها قوة أعلى
لا تعترف اعترافًا ثابتًا بالمشاركة الاجتماعية؛
ولهذا كانت المرأة عاجزة عن استخدام اللغة والتعبير
الكامل عن الأفكار والتصورات ونقلها إلى الآخرين،
كما أنها محرومة من المفردات اللغوية التي تنقل
خبرتها الاجتماعية — بما في ذلك مشاعرها — إلى
غيرها؛ ولهذا فإن المرأة عند الأكويني تفتقر إلى
الوضوح الذي يراه أساسيًّا لطبيعة الحديث ذاته؛
لهذا السبب فإنها لا تستطيع المشاركة في الحياة
العامة، وعليها أن تمارس نشاطها داخل المجال الخاص،
أي الأسرة، ولهذا المجال الخاص قداسته، فهي هنا
تعبر عن فضائل وقيم مسيحية كثيرة، وفي هذا المجال
الخاص أيضًا (أي الأسرة) تنتمي الزوجة إلى زوجها،
وتحتفظ مع ذلك بشخصيةٍ خاصة، فهي فرد منفصل عن
زوجها أكثر مما ينفصل العبد عن سيده، أو الابن عن
والده؛ لأنها تشارك في لونٍ من الحياة الاجتماعية
هي حياة الزوجية التي تسودها العدالة المنزلية أكثر
من العدالة المدنية. وقد كان الأكويني على حقٍّ في
قوله: إن الزوج والزوجة يرتبطان برابطةٍ مباشرة
داخل مجالٍ خاص، لكن هناك فرقًا: فليس هناك سوى وضع
خاص متاح أمام الزوجة، في حين أن الزوج يشارك في
الأسرة، كما أنه يشارك في المجال العام بوصفه
مواطنًا، وهو في هذا المجال يتمتع بالعدالة المدنية
ويشارك في أبعادها العامة.
٥٤