خامسًا: القسمة الخماسية (الفارابي، ابن باجه)
(١) القسمة الثنائية
وقبل أن يَنتهي الفارابي إلى مفهوم «إحصاء العلوم»، هذا التصوُّر الجديد لمنظومة العلم، يَنتقل من القسمة الثنائية إلى القسمة الرباعية، حتى يَنتهي إلى القسمة الخماسية في «إحصاء العلوم»، بادئًا مِن تمثُّل الوافد حتى إبداع «الإحصاء»؛ حيث يتَّحد فيه الوافد والموروث اتحادًا عضويًّا.
(أ) العلم النظري والعلم العملي
وهي قسمة في الظاهر تبدأ من أرسطو واليونان، وفي الحقيقة تضع التقابل بين «عندهم»، في مقابل «عندنا»، دلالةً على التمايز بين الأنا والآخر، وهي قسمة تَنبع من تحليل التجربة الإنسانية «منذ أول الأمر»؛ أي القسمة العقلية في بداهات العقول «والذي يتشوَّق إليه الإنسان»، والعقل والتجربة عامان عند كل الشعوب.
ثم يُوحِّد الفارابي بين الفلسفة والمنطق، ويقسم المنطق قسمة رباعية إلى مقولات، وعبارة، وقياس، وبرهان، ثم يُقسم الفلسفة أيضًا قسمةً رباعية، تعاليم، وطبيعية، وإلهي، ومدني، ثم يقسم التعاليم قسمةً رباعية: عدد، وهندسة، ونجوم، وموسيقى، ثم يعقد خاتمةً في الكليات الخمس، وصف المحمول بما يُشابه في الجوهر (جنس نوع)، أو في الحال (العرض)، أو ما يُباينه في الجوهر (الفصل) أو في الحال (الخاصة).
والمنطق هو أول الموضوعات بالتمرينات لتمثيل الوافد؛ أي للتقطيع والمضغ والبلع والهضم والتمثُّل والإخراج، ومقياس التقسيم هو القياس، ما قبل القياس مُقدمات له، المقولات، والعبارة، وما بعد القياس نتاج له، البرهان في صورته الكاملة وفي صورته الناقصة، والجدل والسفسطة، والخطابة، والشعر.
ويُسمي الفارابي المقولات المعقولات، وهو خروج من النقل إلى التحول قبل الإبداع، ويَحتار العرض بين النازل من الأبسط إلى معقولاتٍ، ثم عبارة ثم قياس ثم برهان أو الصاعد، وهو الأفضل من حيث التأسيس إلى المقولات ثم العبارة ثم القياس ثم البرهان.
وواضح أن الفلسفة باعتبارها منطقًا تستبعد الجدل، والسفسطة، والخطابة والشعر، والفلسفة باعتبارها عِلمًا تقدم التعاليم بدور المنطق ثم الطبيعة، ويُضاف المدني مثل إخوان الصفا، وفي قسمة التعاليم إلى حسابٍ وهندسة وفلك وموسيقى يُسمِّي الفارابي الحساب العدد، والفلك النجوم، وفي الكليات الخمس ما يُشبه المحمول في الجوهر اثنان، الجنس والنوع، في حين أن ما يشبه في الحال واحد هو العرض، وما يُخالف في الجوهر وهو الفصل واحد، وما يُخالف في الحال واحد هو الخاصة.
(ب) العلم الكلي والعلم الجزئي
ويَبدأ الفارابي كل كتاب أو مقال بإحصاء العلوم من أجل وضع الجزء في الكل، والبحث عن منظومة علمية تجمع بين الموروث والوافد، فيَنقسم العلوم إلى كليٍ وجزئي، يتعلَّق العلم الجزئي ببعض الموجودات أو بنصِّ الموهومات بالأعراض الخاصة، مثل علم الطبيعة الذي يَنظر في الموجودات، وهي الأجسام من جهة التحرُّك والتغير والسكون، وعلم الهندسة الذي ينظر في المقادير من جهة الكيفيات والإضافات، وعلم الحساب من جهة العدد، وعلم الطب من جهة الأبدان، صحتها ومرضها، وليس لها أن تنظر على العموم في جميع الموجودات، وقسمة العلم إلى كلِّي وجزئي هي نفسها قسمة العلم إلى علمٍ طبيعي وعلم إلهي، أو علم ما بعد الطبيعة، وهي نفس الثنائيات السابقة في قسمة العلم إلى نظري وعملي، ضروري واختياري، طبيعي وإنساني، وهي نفس قسمة الكندي إلى علمٍ إلهي وعلم إنساني، ويَستعمل الفارابي اصطلاح ما بعد الطبيعة، ويُحوِّله من قسمةٍ عرضية. وضع أندرونيقوس كتاب الحروف بعد كتاب الطبيعة إلى تسمية جوهرية، تشير إلى العلم الإلهي، ويجد له مكانًا في تصنيف العلوم. يظهر التضمُّن الكاذب في إطلاق كل ما يَتعلَّق بما بعد الطبيعة العلم الإلهي، والتشكُّل الكاذب في إطلاق كل ما يتعلَّق بما بعد الطبيعة؛ العلم الإلهي، والتشكل الكاذب في تسمية العلم الإلهي علمَ ما بعد الطبيعة.
والعلم الكُلي ينظر في الشيء العام لجميع الموجودات مثل الوجود والعدم، والوحدة والكثرة، والتقدُّم والتأخر، والقوة والفعل، والتام والناقص، والعلة والمعلول، والهوية والتشابه، والتساوي والموافَقة، والموازاة والمناسبة، وتنظير فيما يقوم مقام الأنواع كالمعقولات العشر، وأنواع الواحد بالشخص وبالنوع وبالجنس وبالمناسبة، ثم يتشعَّب كل ذلك ويَنتهي إلى العموم الجزئية، ويُمكن أن يُسمى هذا العلم باسم الله، والعلم الكلي علم واحد؛ لذلك كانت الوحدانية من صفات الله، والله مبدأ الوجود المطلق، موضوع العلم الكلي، هو العلم الإلهي لا الطبيعي، فهذا العلم أعلى من الطبيعي، ويُسمى ما بعد الطبيعة. ويستدلُّ الفارابي على صفات العلم الكلي أنه واحد؛ لأنه لو كان علمان كليان خاصان لكان واحد كليًّا والآخر جزئيًّا، ولا يُمكن أن يكونا جزئين، فهذا خلف.
(٢) القسمة الرباعية
وفي كتاب «الحروف»، يَقترح الفارابي قسمة رباعية للعلم: المنطق، والطبيعيات، والعلم المدني والرياضي، وعلم ما بعد الطبيعة. والعجيب وضع الرياضي مع المدني، وليس مع المنطقي وهو أقرب. وكأنَّ العلم المدني، وهو علمٌ أصيل عند الفارابي، يُزاحم الصوري، وهي نفس قسمة إخوان الصفا مع اختلاف في التسمية والترتيب، فقد سمَّى إخوان الصفا المنطق الرياضي، ويشمل الرياضة والمنطق، وسمَّوا الإلهيات الناموسية والشرعية، أي إخراج العلم المدني من الإلهيات، وليس بديلًا عن الرياضيات، وضع الفارابي العلم المدني مع علم التعاليم، مع أن التعاليم قبل المنطق زمانيًّا في تطور الإنسانية، وضع العلم المدني بين علم الطبيعة وعلم ما بعد الطبيعة، ولكنه إلى علم الطبيعة أقرب؛ نظرًا لأنه علم جزئي مرتبط بالموجودات، وكلها وهمية وليسَت فعلية، كما هو الحال في علم الطبيعة.
وتتكرَّر أفكار الفارابي وقسمته في عدة رسائل، سواء في «فلسفة أرسطوطاليس» أو «في تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة»، والسؤال التاريخي هو: هل كتب أرسطو في علم التعاليم أم إنها إضافة من المسلمين لهذا العلم، داخل نسق أرسطو من أفلاطون وفيثاغورس وأرشميدس وإقليدس، وإذا كان قد ضاع فمن أين أتى بها المسلمون؟
(٣) القسمة الخماسية
ويحصي الفارابي العلوم في هذه القسمة الخماسية بنيويًّا، بادئًا بعلم اللسان، فاللغة بداية الحكمة ثم علم المنطق، وقوانين الفكر تأتي بعد قوانين النحو، ثم علم التعاليم فالرياضيات تأتي بعد المنطق، ثم الطبيعيات والإلهيات في علمٍ واحد، الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، وأخيرًا ضم العلم المدني مع علم الفقه، فالفقه هو علم المجتمع، ومع علم الكلام، فالكلام هو أيديولوجية المجتمع، ثقافته ونُظُمه السياسية، الكلام هنا جزء من إحصاء العلوم، ولا يُمكن تجاوزه كما حول ابن رشد لإفساح المجال للفلسفة، ولا يَنفصل إحصاء العلوم عن الرؤية الدينية؛ إذ يُحال إلى الله صراحةً في نهاية الكتاب، ويُمكن رد القسمة الخماسية إلى قسمةٍ ثنائية، النظري والعملي، الرأي والفعل، النظري اللسان والمنطق والتعاليم والطبيعي الإلهي، والعملي والمدني، والفقه والكلام، أربعة علوم نظرية وعلم واحد عملي يُساويها جميعًا، علم الكلام علم عملي في التأثير على سلوك الناس، خاصةً وأن أحد مسائله الإيمان والعمل، والإمامة وبها مصالح الناس، بل ويمكن القول أيضًا أن العلم الطبيعي يهدف إلى اكتشاف قوانين الطبيعة للسيطرة عليها. والعلم الإلهي باعث للجماعات وحركة التاريخ؛ ومن ثَمَّ فهما علمان عمليان، وقد تم وضع الرياضيات مع الطبيعيات، فالمناظر علم طبيعي رياضي وليس علمًا تجريبيًّا، ثم ينقسم كل علم مرةً قسمة ثمانية، مثل العلم الطبيعي أو سباعية مثل العلم الرياضي أو ثلاثية مثل العلم الإلهي.
(أ) علم اللسان
(ب) علم المنطق
وأسلوب الفارابي واضحٌ وبسيط ودقيق، يستعمل التشبيهات ويضرب الأمثلة، فمن لا يستطيع المنطق يكون كحاطبٍ بليل، وربما يُقال إنَّ الفارابي يقلل من أهمية الفطرة والعادة، ومِن أهميته المنطق الطبيعي والاكتساب، إنما كان ذلك دفاعًا عن المنطق ضدَّ المنكرين له؛ إذ يَنقد الفارابي العصر الذي لا يعطي المنطق أهمية، ويُبين مضرَّة الجهل به، وهو البقاء في الظنون دون الانتقال إلى اليقين.
(ﺟ) علم التعاليم
ويَنقسم إلى سبعة أقسام: العدد أي الحساب، والهندسة، والمناظر، والنجوم أي الفلك، والموسيقى، والأثقال، والحِيَل، ويفصل الفارابي علم النجوم التعليمي؛ لأنه مرتبط بالعمرة أي الأرض، كما هو معروف حاليًّا في علم الجغرافيا البشرية، أما علم النجوم التعليمي فهو الذي يفرض الإشكال وحركات الأجسام والأرض المعمورة وغير المعمورة، ويُبين كم المعمورة وكم أقسامها العظمى، وهي الأقاليم، ويُحصي المساكن منها في كل وقت، وموضع كل مسكن، وترتيبه من العالم، وما يلزم ضرورةً أن يلحق كل واحدٍ من الأقاليم والمساكن عن دورة العالم، وما يَلزم ضرورةً أن يَلحق كل واحد من الأقاليم والمساكن عن دورة العالم المشتركة للكل، ودورة اليوم والليلة لوضع الأرض بالمكان الذي هو فيه مثل المطالع والمغارب وطول الأيام والليالي، فهو أقرب إلى علم الجغرافيا.
(د) العلم الطبيعي والعلم الإلهي
(ﻫ) العلم المدني، وعلم الفقه، وعلم الكلام
وهو العلم الإرادي وليس العلم الطبيعي، أو العلم الصوري (المنطق والتعاليم) أو العلم اللُّغوي، هو العلم الذي يَبحث في أصناف الأفعال والسلوك الإرادي والأخلاق، الذي يتأسَّس عليه، والغايات التي من أجلِها يتمُّ وجودها في الإنسان، وترتيبها وحفظها، هو أقرب إلى علم الأخلاق العملي، علم السلوك الإرادي، وهو علم معياري لا يصفُ فقط ما هو كائنٌ، بل يقنن ما ينبغي أن يكون أي عمل الواجب، فالسلوك الإنساني يتحدَّد بالغايات في سلمٍ للقيم.
يُبين علم الأخلاق الفَرق بين السعادة الحقيقية والسعادة المظنونة، السعادة الحقيقية لا تكون في هذه الحياة، بل في حياةٍ أخرى بعدها، والسعادة المظنونة مثل الثروة والكرامة واللذات، غايات الحياة الدنيا، ويُميِّز بين الأفعال والسنن، ويُبيِّن أن الطريق إلى نيل السعادة الحقيقية، هي الخيرات الجميلة والفضائل ونقيضها الشرور والقبائح والنقائض، وتوزع هذه الفضائل والخيرات في المدن والأمم على تَرتيبٍ معين، وتَستعمِل استعمالًا مُشتركًا بين الأخلاق والسياسة.
السعادة من المفاهيم المحورية عند الفارابي، كما يبدو ذلك من مؤلفاته «تحصيل السعادة»، «التنبيه على سبيل السعادة»؛ لذلك أصبحت ركيزة العلم المدني بشقيه الأخلاق والسياسة، الفرد والمجتمع، فالأخلاق جزء من الاجتماع، والاجتماع جزء من الأخلاق، ولكن يبقى سؤال: لماذا تكون الثروة والكرامة واللذة سعادة وهمية في مجتمع الفقر والقهر؟ ولماذا تكون السعادة الحقيقية بعد الموت في الآخرة؟ لماذا لا تُحقق السعادة في الدنيا والفضائل والخيرات في الدنيا، بلدًا من هذه الثنائية التطهرية الروحية بين شقاء الدنيا ونعيم الآخرة؟ هنا يبدأ الاغتراب والإشراق والتصوف مثل إخوان الصفا.
ويستعمل الفارابي منهج الاستنباط، تطبيقًا لنظرية الفيض في المنطق، يَستنبِط الاجتماع من الأخلاق، ثم يستنبط السياسة من الاجتماع، ثم يستنبط التاريخ من السياسة، وربما ترجع أهمية الاستنباط إلى أصوله في الاجتهاد، كمَصدرٍ للأحكام في علم الأصول، وموضوع السياسة يمر أولًا بالاجتماع، ترتيب المدن، والتمييز بينها، مهمَّتها تصنيفية إحصائية خالصة، التمييز بين المدن الفاضلة وغير الفاضلة، واعتبار الأفعال والسير في الأولى مظاهر الصحة، وفي الثانية أمراض، هناك إذن تشابُه بين السياسة والطب، السياسة علاج المدن، والطب علاج الأبدان، ومهمَّة العلم معرفة أسباب التحوُّل وكيفيته من المدن الفاضلة إلى المدن الجاهلة، ووسائل الوقاية للحفاظ عليها مثل الطب الوقائي قبل الطب العلاجي.
وقد أشار الفارابي إلى العلم المدني في بعض رسائله، بالإضافة إلى رسالته في «السياسة المدنية»، باعتباره العلم الذي يقوم على تحليل الفعل الإنساني الغائي، كجزء من غائية العالم، والغائية جزء من العلل الأربعة التي تتحكَّم في الأشياء، كما تتحكَّم العلَّة الغائية في العلم المدني، وهناك بعض التكرار للأفكار سواء في العلم الواحد أو في عدة أعمال.
كانت لدى الفارابي جرأة على وضع المفاهيم والتصوُّرات، مثل أنواع المدن والتي قد يكون لألفاظها أصل في الموروث، فهل يرجع تعبير المدينة الجاهلة إلى لفظ الجاهلية أو العصر الجاهلي، ونقله من التاريخ إلى الفكر شعوريًّا أو لا شعوريًّا؟ وقد تتغيَّر مدلولات الألفاظ من عصرٍ لعصر، فاليسار عند الفارابي هو الآن اليمين الباحث من المال، في حين أن اليسار الآن هو الفاضل، والكرامة لفظٌ حسن، كرامة المواطنين والدول، وليس الغنى والثروة، ولماذا يكون اليسار في مجتمع الفقر خسَّة؟
ولا تأتي السعادة الحقيقية إلا بالرياسة؛ أي التحوُّل من الأخلاق إلى السياسة، السياسة هي الرئاسة، وهي التي تجعل الأفعال والسنن والشيم والملَكات والأخلاق في المدن والأمم، مُمكنة دون الشعب أو المؤسسات، كما هو الحال في الإمامة، صدى الفكر الشيعي عند الفارابي، والرئيس هو الذي يجتهد في حفظ الرياسة للناس حتى لا تزول، وهي لا تأتي إلا بمِهنة وملكة وهي الملكية، الرياسة هي الملكية وحدها، وليس أنَّ الملكية إحدى النظم السياسية.
وتَلتئِم المهنة الملكية الفاضلة بقوتين: القوة على القوانين الكلية، والقوة التي يستفيدها الإنسان، بطول مُزاولة الأعمال المدنية والأفعال الخلقية بالحنكة، وطول المشاهَدة كما هو الحال في الطب، تفحص الفلسفة المدنية القوانين الكلية للأفعال والسنن والملَكات الإرادية بحسب حال حال، ووقت وقت دون التقدير الكمي الذي هو للقوة التجريبية، والتحدِّي كله في جدل العام والخاص، القانون الكلي والحالات الفردية، كما هو الحال في جدل الأصل، والفرع في الاجتهاد في علم الأصول، لا تكفي الفكرة وحدها دون التجربة، في حين تستطيع الرياسات الجاهلة الاكتفاء بالتَّجربة؛ لأنها لا تحتاج إلى القوى النظرية.
والفارابي من أنصار التقليد، سواء في المدينة الفاضلة، أو في المدينة الجاهلة، بتبعية الملك المتقدِّم للملك المتأخِّر بلا انقطاع، وكأن الملك لا يتغيَّر، ربما صدى للنبوة والخلافة والإمامة، وهو ما يَستحيل عملًا وما يَنقضه التاريخ، كل ملك يخرج من الملك السابق، كما هو الحال في نظرية الفيض، الفارابي من أنصار الملكية الوراثية، مات الملك عاش الملك، وكيف لا تجدد البيعة، والإمامة عقد وبيعة اختيار؟ وهل يكفي تأديب أولاد الملوك دون رعاية لمصالح الناس؟
ومع ذلك لا تدوم المدينة الفاضلة، حتى كان ملوكها يتوالون في الأزمان، على نفس الشرائط بحيث يكون المتقدِّم مثل المتأخر، دون انقطاعٍ أو انفصال، فأولاد الملوك مثل الآباء والملوك، وتأديب الكل واحد، أما الرياسات الجاهلة فلا تُعطي ملوكًا، ولا تحتاج الفلسفة النظرية أو العلمية، تكفيها القوة التجريبية الحاصلة بمُزاوَلة جنس الأفعال، إلى تحقُّق الغرض متى كانت لها قوة العزيمة الجدَلية وجودة الاستنباط، بالإضافة إلى جودة الاقتدار.
وعلم الكلام علم دفاعي، ملكة يَقدر بها الإنسان على نصرة الملة، ضد تزيفها من كل من خالفها بالأقاويل، وهو مُشابه لتعريف الغزالي فيما بعد، وتنقسم جزأين؛ جزء في الآراء وجزء في الأفعال، وهو غير الفقه؛ لأن الفقه يأخذ الآراء والأفعال، التي صرح بها الشرع، ويجعلها أصولًا فيستنبط منها ما يحتاج، والمتكلِّم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه، من غير أن يَستنبط منها أشياء أخرى، ويُمكن الجمع بين القدريتين فيكون فقيه متكلمًا، فقيه في الاستنباط، والمتكلم ينصر ما يستنبطه الفقيه، مع أن المتكلم يعمل في إطار العقيدة والفقيه في إطار الشريعة، وهناك تمايُز بين العلمين، ويبحث الفارابي عن الملة، وليس الدين أو الوحي أو السمع أو النقل، ما يدل على الجانب الاجتماعي في الفكر الديني عند الفارابي.
- (١) الملة من الله، لا شأن لها بالفعل أو الرؤية؛ لأنها أرفع منها، مأخوذة من الوحي، بها الأسرار الإلهية، وتقصر العقول الإنسانية عن إدراكها، وما فائدة الوحي لو استطاع الإنسان إدراكه بعقله؟ لو كان العقل قادرًا على إدراك الحي، لكان في العقل غنًى عن الوحي والنبوة. في الملة زيادة عما يعيه العقل، وبعض ما يستنكره العقل فيه بعض الفوائد في الملَّة، ومهما بلغ الإنسان من الكمال في الإنسانية، فإن منزلته عند ذوي العقول الإلهية منزلة الصبي. وإن كثيرًا من الصبية يستنكرون بعقولهم ما ليس بمُنكَرٍ بدليل شهادة العقول الإلهية، والعقل الإنساني مُرتبطٌ بالتربية، إذا تأدَّب بالعقول وأحنكته التجارب، زالت عنه ظنون العقل الصبياني، وانقلب الحسن قبيحًا، والقبيح حسنًّا، والوحي صادق لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، وصدقة بالمعجزات التي لا يُصدِّقها العقل، أو بشهادات من تقدم قبله من الصادقين، إذا صدق الوحي فلا مجال لنظر العقل ورويته! الملة لا شأن لها بالعقول أو الروية؛ لأنها أرفع منهما، مأخوذة من الوحي، وإلا فما ضرورته لو كان الإنسان قادرًا بعقله على الحكم، ما يُقبحه العقل ويُحسِّنه؟٢٨والعجيب أن يأتيَ ذلك من حكيم، رفض حُكمَ العقل وتسفيهه أمام الوحي، وإنكار الحُسن والقُبح العقليَّين، والقول بنسبية العقل أمام إطلاقية الوحي؟ أليس هذا هو موقف الظاهرية؟ بل إن الأشعرية تقول بالعقل أيضًا، خاصةً المتأخِّرة منها، هو موقف أقرب إلى المسيحية منه إلى الإسلام، جعل الإيمان سرًّا لا يمكن النفاذ إليه، يتَّهم النفس بالضعف والعقل بالخور. ولمَ إحساس الإنسان بالدونية، أمام من يتصوره أعظم منه، ولا شيء أعظم منه؟ أليس العقل أساس النَّقل عند المُعتزلة؟ ألا يُوافق صحيح المنقول صريح المعقول عند الفقهاء؟ وماذا عن اجتهادات الكندي في اتفاق الدين والفلسفة، وإخوان الصفا وابن سينا وابن طفيل وابن رشد في اتِّفاق الحكمة والشريعة؟ وماذا عن أهل البرهان، الحكماء، الخاصة أهل التأويل، الراسخون في العلم؟ هل يَتبدَّل الحُسن والقُبح العقليان طبقًا للتربية، وأنَّ ما يتعلَّمه الصبي اليوم ينقضُه غدًا، هل يُؤدِّي الإيمان بالضرورة إلى هدم عموم الحُسن والقُبح، شُمولهما وموضوعيتهما؟ كيف ينصر الفارابي الوحي بالوحي؟ كيف يدافع عنه ضدَّ من لا يؤمن به؟ وماذا يقول الفارابي في حث القرآن على إعمال العقل واعتبار المتكلِّمين خاصةً المعتزلة، العقل أول الواجبات؟ وكيف يؤمن من يُنكِر المُعجزات باعتبارها خرقًا لقوانين الطبيعة؟ وهل يقين الوحي بالإخبار والرُّواة وبالنَّقل التاريخي، دون تحقُّق من الوحي نفسه بالعقل أو بالتَّجربة وهما ركيزتا الحي؟ هل يُغني صحة السند عن صدق المتن؟٢٩ هل يُغني النقد التاريخي عن النقد الداخلي؟ كيف يهدم العقل والإنسان في موطن الدفاع؟ وهل هناك سلاح سواه؟ لذلك لم يَكتب الفارابي كما فعل الكندي وإخوان الصفا وابن سينا وابن طفيل وابن رشد في اتِّفاق الحكمة والشريعة، واكتفى بالتوحيد بين الملك الفيلسوف.
- (٢) جمع ما صحَّ به الشرع من الألفاظ، ثم رصد كل المحسوسات والمشهورات والمعقولات، ثم إحكام المتشابه من الأول اعتمادًا على الثاني، ثم تأويل المخالف من الأول اعتمادًا على الثاني، ثم تأويل الناقص لما في الملة، حتى ولو كان تأويلًا بعيدًا، فإذا ما تعارضت الشواهد، المحسوسات والمشهورات مثلًا، أخذت الملَّة المتَّفقة من أقواها، فإن لم يكن ذلك ممكنًا، أمكن نصرة الملَّة بصدق مصدرها عودًا إلى الطريقة الأولى، وهذه الطريقة أفضل من السابق؛ لأنها تخرج من النقل إلى العقل، وتقوم بالتأويل، وتَعتمد على الحِسِّ والعقل والعرف، ولكنَّها لا تستمر إلى النهاية، وتعود إلى الطريقة الأولى في حالة العجز.٣٠
- (٣) تتبُّع كل تاريخ الأديان، ورصدُ كل الشنائع المُماثلة، حتَّى لا يكون في الملَّة شيء غريب إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ.٣١ وهذه الطريقة مجرَّد حُجة جدلية، تقوم على المساواة في الخطأ والشناعة بين الخصوم، وليس أحدهم أولى بالصواب عن الآخر، ومجموع الخطأين لا يكون صوابًا، وخطأ الآخر ليس مقياسًا لخطأ الذات، ولا تقضي على الشناعة بل تُعادلُها بشناعةٍ أخرى، وتَقضي على تطور النبوة، فما كان شناعة في مرحلةٍ سابقة، لا يكون شناعةً في مرحلةٍ لاحقة. كما يقضي على إمكانية تطهير أية شريعة، مما وقع فيها من تحريفٍ وزيغ، بحُجة أن مثلها قد وقع لدى الأمم السالفة.
- (٤) إحراج الخَصم وإخجاله وحصاره، أو تخويفه من أن يناله مكروه، ما دام المتكلم قد عجز عن إثبات أقاويله ونصرتها، حتى يَسكت عنها الخصم، لا لصحَّتها بل لعَجزِه عن مُقاومتها، وهي طريقة تقوم على نقل الحُجة، من العجز عن إثبات صحة الموضوع إلى إحراج الخصم، كما هو الحال في الحُجة الإحراجية في منطق الجدل.٣٢ وهو انتقالٌ من العلم إلى الإرهاب، ومِن الدليل إلى التجريح الشخصي، وماذا لو فعل الخصم مع المتكلِّم نفس الشيء؟ ولماذا يعجز المتكلم عن الإيضاح العقلي، ونصرة قضيته بالدليل والإقناع؟ هنا يتحوَّل المتكلم إلى شرطي.
- (٥) استعمال الكذب والمُغالطة والبُهت والمكابَرة؛ فالناقض إما عدو، والكذب جائز معه كالخُدَع في الحرب، أو ليس عدوًّا، ولكنه جاهل بالملَّة لضعف عَقلِه، وجائز أن يُثاب إلى رشده باستعمال الكذب والمغالطة، كما هو الحال مع النساء والصبيان، وتقوم هذه الطريقة على أن الغاية تُبرر الوسيلة، وأن طرق الإقناع تختلف من العدو العاقل إلى الصديق الجاهل، مع الأول يستعمل الخداع، ومع الثاني يتمُّ خداعه بالكذب والبهتان، ما دام غير عاقل، وهو موقفٌ لا أخلاقي، انتهازي، يتخلَّى عن البرهان، وماذا لو انتصَرَ العدو العاقل على المتكلم، فالحرب خدعة، يوم لك ويوم عليك وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ؟ وماذا لو أفاق الصديق الجاهل، واكتشف خِداعه بالوسيلة، ألا يكفر بالغاية؟






