خامسًا: نقد النسق الأشعري (نظرية الذات والصفات والأفعال)
(١) الأدلة على وجود الله
(أ) دليل القدم والحدوث
- (أ)
الجواهر لا تنفكُّ عن الأعراض. وهي مقدمة طبيعية يتفق عليها علماء الطبائع ولكن الأشاعرة يُثبتون عكسها.
- (ب)
الأعراض حادثة أي متغيِّرة وليس بالإضافة إلى موجود قديم.
- (جـ)
ما لا ينفكُّ عن الحوادث حادث، وهو تحصيل حاصل؛ فإذا كان البرهان يقوم على الإضافة، فالمتضايفان متساويان في القيمة ومشروطان بعضهما بالبعض، يعتمد كل منهما على الآخر مثل الكبير والصغير، العظيم والحقير، الطويل والقصير، البدين والنحيل. وكلاهما نسبيَّان، نسبة كل منهما إلى الآخر وليسا مطلقين. ولا يوجد طرف واحد مُطلَق.
هذه الشكوك كلها ليست في قوة صناعة الجدل. ومن ثَمَّ لا تصح أن تكون هذه المقدمات طريقًا إلى معرفة الله وبخاصة للجمهور؛ لأن طريقة معرفة الله في الشرع أكثر وضوحًا. قد تكون مقدمة إلهية مُقنعة، صورة المركز والمحيط ثم تنتقل بعد ذلك إلى الفكر السياسي، الحاكم والمحكوم. فلا فرق بين علاقة الجوهر والأعراض وعلاقة الذات والصفات من حيث البنية. ولما كان الحدوث عرض لزمهم وضع الجوهر كحامل للأعراض مثل الذات كحامل للصفات حتى يُمكن الانتقال من المحمول إلى الحمل، ومن التغير إلى الثبات، ومن المحيط إلى المركز.

هذه كلها شكوك عويصة. وأدلتهم لإبطال قدم الأعراض لازمة لمن يقول بقدم ما يحس منها حادثًا، من يضع أن جميع الأعراض غير حادثة إن لم تكن حادثة. فإما أن تكون متنقِّلة من محل إلى محل أو أن تكون كامنة في المحل، ويُبطلون القسمين. ويظنون أنهم أثبتوا أن جميع الأعراض حادثة في حين أنهم بينوا أن ما يظهر من الأعراض حادثًا فهو حادث لا ما يظهر حدوثه ولا ما يشك في أمره مثل الأعراض الموجودة في الأجرام السماوية. ترجع كل أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الغائب على الشاهد، وهو دليل خاطئ لأن النقلة معقولة بنفسها، وهو أساس الفكر الديني الكلامي مثل المهندسين في الإلهيات.
والدليل كله أيضًا تدمير للعالم وقياس للغائب على الشاهد. فهل الجبل والشمس والقمر والسماء والأرض والعالم أعراض؟ هل يجوز أن تكون على غير ما هي عليه؟ كلها قسمة داخلية وحديث العقل مع نفسه لإيجاد اتساق له، ونوع من الرضا والطمأنينة الذاتية والإيهام بالتفكير والاستقلال، خداع أمام النفس، واتِّساق واطمئنان لتطابق الفكر مع الإيمان ذاتيًّا بالوهم. ومحاولة المتكلِّمين إيجاد برهان عقلي، حدوث الأعراض لإثبات حدوث الأجسام اجتهاد يقوم علم الكلام كله عليه، ويكاد يقترب من تصور علوم الحكمة التي تَستعمل أيضًا ثنائية الحادث والقديم.
(ب) دليل الجوهر الفرد
- (أ)
تركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ.
- (ب)
الجزء الذي لا يتجزأ محدث.
∴ الأجسام حادثة بحدوثه.∴ العالم حادث.
وإذا كان العالم محدثًا فلا بد أن يكون له محدث طبقًا للتفسير بالعلة الفاعلة، وكأنها لا بد أن تكون من الخارج باستمرار، وكأن العلل المادية أو الصورية أو الغائية ليست عللًا. إنَّ افتراض محدث إيمان عقلي، أقرب إلى التناقض، يتضمَّن الشيء ونقيضه، منطق وطبيعة وإلهيات، عمل للذهن لا يطابق شيئًا في الواقع، وما زال في حاجة إلى دليل للانتقال من المنطق إلى الطبيعة.
- (أ)
لو كان محدثًا لافتقر إلى محدث إلى ما لا نهاية، وهو استعمال لحجة الخصم، العلة الفاعلة، واستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية.
- (ب)
لو كان أزليًّا لتعلَّق بموجودات أزلية.
- (جـ)
استحالة خروج حادث من قديم لأن الشبيه لا يخرج إلا من الشبيه، ولو كان المحدث يفعل حينًا ولا يفعل حينًا آخر فإنه يكون خاضعًا للتعليل، علة وعلة العلة إلى ما لا نهاية.
إنَّ هذه البراهين هي مجرد إيجاد نسق عقلي والبحث عن أصول عقلية يستند إليها الفكر لإثبات وجود الله، إما عن طريق وضع مقدمات والانتهاء منها إلى نتائج، وهو الأغلب أو عن طريق وضع مقدمة تحتاج إلى مقدمات أخرى لإثباتها قبل استعمالها مع مقدمات أخرى. فالفكر قد يكون «تقدميًّا»، من المقدمات إلى النتائج أو تراجعيًّا، من المقدمات إلى مقدمات أخرى سابقة عليها. والبداية بالطبيعة من أجل إما تقنيتها بالأجسام ثم تفتيت الأجسام في الأجزاء التي لا تتجزأ وكأن إثبات وجود الله لا يأتي إلا على حساب الطبيعة أو من أجل إدانتها ووصفها ببعض صفات النقص الإنساني من أجل الانتهاء إلى صفات الكمال الإلهي مثل القدم. الحالة الأولى تدمير للطبيعة، والحالة الثانية اغتراب عنها.
والسؤال هو: هل هذه المقدمات عقلية أم تجريبية أو هي إيمانية مُقنعة؟ الحقيقة أنها ليست مقدمات عقلية برهانية كما لاحظ ابن رشد، وليست مقدمات تجريبية لأن المتكلِّمين ليسوا علماء بل هي مقدمات إيمانية مقنعة تستعمل العقل لتبرير الإيمان. طريقة صياغة المقدمات تسمح بوجود الله مثل اعتبار العالم حادث لإثبات أن الله قديم، أو اعتبار العالم أجسام. والجسم من أجزاء لا تتجزَّأ لإثبات حدوثها لأن الله قديم. فالإيمان يأتي مبطنًا أولًا بأن الله قديم ثمَّ يتكيف العقل طبقًا له في صياغات تبدو عقلية تجريبية وهي في حقيقتها إيمان مُصطَنع. ويُمكن معارضة هذه المقدمات العقلية والتجريبية التي تعبر عن إيمان مقنع بمقدمات أخرى تعبر عن طبيعة العقل مثل أن العالم قديم إذ ينشأ الإنسان فيه، ويستمر بعده، أو أنَّ هناك جسمًا لا يتجزأ مثل الجبل والشمس والقمر والإنسان. وأحيانًا يبدو الدليل مُصطنعًا إذا ما حاول إثبات مقدمة بمقدمات أخرى مثل إثبات أن العالم حادث بطريقة الجزء الذي لا يتجزَّأ. إذ يكفي إدراك حدوث العالم بملاحظة التغير فيه. الدليل إذن أقرب إلى الإلهيات العقلية منه إلى الطبيعيات العلمية، لا هو إيمان صريح بتوجيه النص إلى الشعور كما تفعل الحشوية، ولا هو عقل مقنع وهو ما يستحيل في الإلهيات لأنها طبيعيات مقلوبة إلى أعلى أو نفسانيات مسقطة من الداخل إلى الخارج.
- (أ)
إرادة حادثة وفعل حادث، وهو ما يستحيل على الله عقلًا.
- (ب)
إرادة قديمة وفعل قديم، وهو ما يستحيل طبيعيًّا أيضًا. فإذا خرج القديم من القديم يكون حادثًا. فالخروج حدوث. والعالم خرج من الله على هذا الأساس، ولا يوجد قديم خارج.
- (جـ) إرادة قديمة وفعل حادث، وهو ما يقبله المتكلِّمون ويرفضه الحكماء لأنه يستحيل دون واسطة أو القول بالخلق من عدم. والعزم على الإيجاد في وقتٍ مخصوص يعني أن الحادث كان موجودًا في الإرادة القديمة، النية على الإيجاد. وكان العالم موجودًا في العلم الإلهي قبل الخلق؛ ومن ثَمَّ فهو قديم كفكرة ونيَّة وإرادة. فهذا الاختيار للاحتمال الثالث لا يخلص المتكلمين من الشك لأن الإرادة غير الفعل المتعلق بالمفعول. فإذا كان الفعل حادثًا وجب أن يكن الفعل المتعلق بإيجاده حادثًا. فالحادث لا يخرج من القديم. وقد استعمل المتكلمون نفس البرهان لإثبات حدوث دورات الفلك فيتناقضون. يقبلون شيئًا في الإلهيات ويرفضونه في الفلك أو العكس، ما يقبلونه في الإلهيات يقبلونه في الفلك. وقد صرح المتكلمون — أي الأشعرية — أن الله مريد بإرادة قديمة، وهي بدعة؛ إذ كيف يكون مراد حادث عن إرادة قديمة حتى ولو تمَّ ذلك في وقت مخصوص، الوقت الذي وجد فيه.١٠
والاختلاف بين المتكلمين الأشعرية والحكماء المتقدمين في مسألة قدم العالم وحدوثه إنما يرجع إلى التسمية خاصة من بعض القدماء؛ إذ يقول المتكلمون مع الحكماء بتناهي الزمان والوجود في الماضي وعدم تناهيه مع الوجود في المستقبل عكس الحكماء الذين يقولون بلا تناهيه في الماضي والمستقبل؛ إذ لا يحرص المتكلمون على الخلق قدر حرصهم على البعث في حين أن البعث عند الحكماء بعث روحاني لا يحتاج إلى مكان أو زمان.
وقد ظنَّ المتكلمون أن القدم والحدوث من الأسماء المتقابلة وهي ليست كذلك. فإنهما لفظان ليسا متباعدَين إلى هذا الحد. وهما أقرب إلى التضايف منهما إلى التقابل. التضايف في الذهن، والتقابل في الطبيعة. ومن ثَمَّ يكون التحدي هو كيفية الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان؟
وينقل ابن رشد الفكر الكلامي إلى الفكر الفلسفي عبر المصطلحات، من الحادث إلى الضروري في الأدلة على وجود الله. منظور المتكلمين إلهي في حين أن منظور ابن رشد طبيعي.
ويرجع الخلاف بين المتكلمين وابن رشد إلى فهم كلٍّ منهما للآيات. فعند ابن رشد لا يوجد فقط اختلاف الأفعال بل أيضًا اتفاقها باستثناء أبي المعالي في حين أن المتكلِّمين يفهمون فقط اختلاف الأفعال. يفكر ابن رشد بمنطق الهوية في حين يفكر المتكلمون بمنطق الاختلاف. عند ابن رشد الحادث من الحادث، والقديم من القديم، ولكن لا الحادث من القديم، ولا القديم من الحادث. وعند المتكلمين لا القديم من القديم، ولا الحادث من الحادث، الحادث من القديم وليس القديم من الحادث. وهو ليس برهانًا عقليًّا بل مجرد تعبير عن الإيمان الشائع، منطق الشرف، أن الله أفضل من العالم وسابق عليه.
والحقيقة أنهما مفهومان إضافيان، يعيش كل منهما على الآخر، ولا يوجد بذاته. فالحادث أي البشر يحيل بالتمني إلى ما هو أكثر صلابة. والصلابة أمنية تجعل الإنسان يشعر بحده. والتضايف في الداخل وليس في الخارج، في الذهن وليس في الطبيعة، مطلب نفسي ومقتضى أخلاقي. وليس في الوجود سلم تراتبي.
(ﺟ) دليل الممكن والواجب
والدليل الثالث هو دليل المُمكن والواجب. فإذا كان دليل القدم والحدوث ودليل الجوهر والأعراض على مستوى الطبيعة فإن دليل الممكن والواجب على مستوى ما بعد الطبيعة. الأول مستوى اللاهوت (الثيولوجيا)، والثاني على مستوى الوجود (الأنطولوجيا). وهما برهان واحد في مرحلتين مختلفتين في تطور علم الكلام، من الكلام المشخص المشبه إلى الكلام المجرد المنزَّه. يفصل بينهما القرن الخامس، ما قبل البرهان الطبيعي وما بعد البرهان الفلسفي بعد تحول الفلسفة، بعد نقد الغزالي لها، من الباب الخلفي وعودتها في صورة علم الكلام وكما بدا ذلك خاصة في المواقف للإيجي. وأول من استعمل هذا الدليل أبو المعالي في القرن الخامس الذي حدث فيه التحوُّل من الكلام إلى الفلسفة في «الرسالة النظامية». فهو أول من قال بأحكام العقل الثلاثة؛ الواجب والممكن والمستحيل.
وينطبق هذا النقد على ابن سينا لأنه يعتبر كل موجود سوى الفاعل ممكنًا وجائزًا في ذاته. والجائزات صنفان؛ جائز باعتبار فاعله وواجب باعتبار فاعله ممكن باعتبار ذاته. أما الواجب بجميع الجهات فهو الفاعل الأول. وهو قول ساقط لأن الممكن في ذاته لا يكون ضروريًّا من قبل فاعله إلا لو انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري. ولا يُمكن أن يكون ممكنًا بارتفاع فاعله لأن ارتفاع فاعله مستحيل. وقد اخترع هذا الرجل أشياء لا يجوز حتى نقاشه فيها.
كما يقوم الفكر كله على التشخيص، لا بدَّ أن يكون المخصص مريدًا. والتشخيص نوع من التجسيم والتشبيه، وأقرب إلى تصور العوام والبسطاء، أن هناك قوى مشخصة تسير أحداث الكون، في حين أن قوانين الطبيعة التي تعبر عن قوى الطبيعة ذاتها أقرب إلى التصور العلمي سواء كان قانونًا حتميًّا أم احتماليًّا. فالطبيعة عاقلة ومريدة. وترجيح أحد المتماثلين لا يحتاج إلى إرادة مشخصة. يكفي مسار الطبيعة ذاته. كما لا توجد إرادة مشخصه في الجسم العضوي بل هي قوى الطبيعة. وقد يكون للإرادة معنى مجازي عند ابن رشد أي قوى البدن الطبيعية. وإن لم تخضع لقانون فإنها تكون هوائية انفعالية مزاجية. فالقانون أساس الإرادة. وقد هرب المتكلمون من الأشعرية من القول بفعل القوى الطبيعية التي ركبها الله في الموجودات التي ها هنا كما ركب فيها النفوس وغيرها من الأسباب المؤثرة. كما أن قياس الأولى قياس إنساني خالص، أخلاقي شرفي، يمثل درجات الشرف والكمال والرقي الطبيعي في الإنسان. هو اقتضاء ووجوب ومطلب. ولفظ «يجب» هو وجوب عقلي طبيعي في الظاهر، ووجوب نفسي وأخلاقي في الباطن، والاستدلال به في النهاية نوع من التكرار وتحصيل الحاصل مثل الموجود من الإرادة حادث لأن الجائز حادث، وكلها مترادفات.
(د) الأدلة البديلة
العناية والاختراع. وبعد نقد أدلة المتكلمين يأتي البديل، أدلة ابن رشد. بعد الهدم البناء، وبعد السلب الإيجاب. الطرق الشرعية التي نبه الله عليها في الكتاب ويمكن استقراؤها منه والتي استعملها الصحابة طريقان: الأول طريق العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله وهو دليل العناية. والثاني ما يظهر من اختراع الأشياء الموجودة مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، وهو دليل الاختراع أي جعل الحياة في الجماد وليس الخلق، جعل النطق في الإنسان أي الحياة، النفس في البدن. وبالتالي يقلب ابن رشد الفرقة الناجية إلى فرقة ناجية أخرى بمنطق الاستبعاد، مزحزحًا الأشعرية ليحل محلها، وليس مجرد اجتهاد باجتهاد. مع أن الأشعرية تدعى أيضًا أن أدلتهم هي طرق الشرع.
ودليل الاختراع أوسع نطاقًا من دليل العناية لأن العناية قصد إنساني خالص في حين أن الاختراع يدخل فيه الوجود كله، نبات وحيوان وأرض وسماء. وإذا كان الاختراع دعوة إلى التعرف على الأشياء، الله يدفع إلى الطبيعة، والطبيعة طريق إلى الله، معرفة الحكمة أولًا أي السبب والغاية من أجل الوقوف على العناية فالاختراع إذن مرادف للعناية تقريبًا. إنما العناية أهم من الاختراع. الاختراع أقرب إلى الطبيعة في حين أن العناية أقرب إلى الإلهيات. وهما في الحقيقة دليل واحد بلغتين مختلفتين، الإسهاب في دليل العناية والاختصار في دليل الاختراع، وكأن كل شيء قد قيل في الدليل الأول، ولم يعد للدليل الثاني شيء. وهو أقرب إلى الدلالة منه إلى الدليل لأنه مجرد معنى عام أو إدراك إنساني عام دون قضايا منطقية محددة أو استدلال منطقي معين.
ويرى ابن رشد أن الآيات منحصرة في هذين النوعين من الأدلة، آيات العناية وآيات الاختراع، وآيات تجمع بين الاثنين. وهما دليلان مغروزان في الفطرة وفي طبائع البشر، يتحد فيها الوحي والعقل والطبيعة. وهما دليلان إنسانيَّان لا كونيان، يستطيع الإنسان تصورهما ببديهته وفطرته. وكيف تكون في الكتاب فقط طريقتان والكتاب أغنى وأرحب، وبه طرق نفسية واجتماعية وسياسية، لا يتميز فيها التصور عن التصديق أو التعريف عن البرهان أو الذات عن الصفات أو الله عن العالم والمجتمع؟ كيف يعتمد الصحابة عليها والصحابة لم يكونوا أهل نظر؟ والاستناد إلى حجة التراث حجة سلطة كما يستعملها المتكلمون، حشوية أو سلفية أو صوفية. وهل يمكن البحث عن الامور النظرية في الشرع أم إن الشرع لا يتعلق إلا بالأمور العملية؟ هل الفلسفة كالفقه، تجعل أفعال العقل مثل أفعال الجوارح؟ وأيهما أكثر يقينا، وأيهما تدعو الحاجة إليه، أيهما وسيلة وأيهما غاية، النظر أم العمل؟ ألا تحتاج هذه الطرق إلى قدر من التفلسف لفهم العناية والاختراع والموافقة مع الغرض والاتفاق مع القصد؟ وهل تستطيع العامة ذلك؟
والدليل قراءة إسلامية صرفة في مقابل التصور اليوناني القائم على أن الله صنع العالم ثم تركه، ويتحرك العالم نحوه بالعشق كما هو معروف عند أرسطو. وهو ليس دليلًا بل مجرد ملاحظة على مجموعة من الآيات ويمكن ملاحظات أخرى على مجموعات أخرى من الآيات. المقدمة الأولى وجدانية حسية تجريبية وليست عقلية مجردة طبيعية ميتافيزيقية، تعارضها شواهد حسية أخرى مثل العقارب والحيات والسبع والهوام والامراض والحروب والحوادث والكوارث والفيضانات والجفاف والرياح والأعاصير والزلازل والبراكين. هل هذه كلها موافقة للإنسان؟ كيف يمكن تبرير الشر؟ أليس هذا انتقالًا من التوحيد إلى العدل، نظرة تفاؤلية، أن هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة؟ كما أن الطبيعة لا تكون طبيعة مواقة للإنسان إلا بعد السيطرة عليها وتسخيرها والتعرف على قوانينها كما فعل الرسل من خلال الآيات وتسخير الطبيعة لهم، البحر لموسى، والمياه لنوح، والرياح والحشرات والطيور لسليمان، والبدن لعيسى، واللغة لمحمد. إن هذه الموافقة ضرورة من فعل فاعل قاصد مريد وليست مجرد ضرورة طبيعية، فالطبيعة سيدة وملهمة عند الشعراء والأدباء والفلاسفة والحكماء. هناك قفزة في الدليل. بعد المقدمتين تكون النتيجة: إذ العناية موجودة دون تشخيص العناية في معتن. قد تكون هذه العناية حكمة الطبيعة ذاتها. فقد تصور القدماء الطبيعة عاقلة. وهي مثل قفزة الأشاعرة في إثبات المحدث دون إثبات أن هذا المحدث هو الله. وهي من عمل الوهم، من الصفات إلى الذات، ومن الأعراض إلى الجوهر. والتجوهر والتموضع والتشيؤ تجسيم طبيعي.
أما دليل الاختراع فيضم النبات والحيوان والسموات. ويقوم أيضًا على أصلين موجودين بالقوة في فطر الناس. الأول كل الموجودات مخترعة. وهي مقدمة معروفة بنفسها في النبات والحيوان، وتدخل الحياة في الجماد مما يتطلب وجود واهب للحياة. كما أن حركات السموات توحي بالعناية، والتسخير يوحي بالاختراع. والثاني كل مخترع له مخترع، ومن ثَمَّ يكون للموجود فاعل مخترع، ويكون للوجود كله مخترع واحد لجميع الموجودات، وهو أيضًا من معاني الحكمة معرفة السبب والغاية والقصد مثل دليل العناية.
وترجع أهمية الدليل إلى البحث أولًا في الطبيعة عن أوجه الاختراع مثل الصوفية كما قال الغزالي في «في حكمة الله عز وجل» مما يدل على وحدة الوحي والعقل والطبيعة، وكما ظهر ذلك في علم الأصول. وهي الطريقة الشرعية التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب وكما قال الشاعر:
وعيب الدهرية أنها تجحد الصانع، تؤكد العلم بالمصنوعات دون العلم بالصانع. وتنسب الصنعة إلى الاتفاق وما يحدث من ذاته.
والحقيقة أن المقدمة الأولى قد توحي بأن الطبيعة كذلك، تراكم كمي يحدث تغيرًا كيفيًّا كما لاحظ حي بن يقظان في التولد الذاتي. فهل تراجع ابن رشد عن ابن سينا وابن طفيل في نظرته إلى الطبيعة؟ ولماذا تصور الموجودات مصنوعة؟ أليس هذا قضاء على الوجود الطبيعي وجعل كل شيء مصنوعا أي مزيفًا؟ فإذا كان الوجود حادثًا فإن المصنوع يكون حادثًا مرتين، آليا، يفقد عنصر الطبيعة. كما يحتوي الدليل على قفزتين الأولى من الاختراع إلى المخترع بناء على التشخيص، وهو نوع من التجسيم. والثانية من المخترع إلى الله وهو ما زال في حاجة إلى إثبات. قد تكون الطبيعة والاختراع شيئًا واحدًا دون تشخيص في طبيعة ومطبوعة وطبيعة طابعة. قد تكون الطبيعة هي المخترع. وقد يكون العلم بالمصنوع دون تشخيص في الصانع أكثر عمقًا وتقدمًا للعلم على تشخيص المصنوع في الصانع. قد تكون الدهرية أكثر علمية من التشخيص. وطالما ارتبط تطور العلم بالدهرية.
(ﻫ) نقد دليل التمانع
ويوجز ابن رشد نقده للدليل في أربع نقاط. الأولى أنه صعب على الجمهور ولا يقتنع به؛ لأنه دليل صوري خالص. والجمهور في حاجة إلى تحليل بسيط يعتمد على الصورة الفنية. والحقيقة أن نقد ابن رشد أيضًا صعب على الجمهور. فالأشعرية تكتب للخاصة وليس للعامة. والثانية أنه يقسم الآية وهي خالية من التقسيم. وهو نقد متحامل لأن القسمة العقلية أحد طرق المعرفة في الكلام والفلسفة. وهي محاولة لتنظير الآية وإيجاد نسق عقلي لها. والثالثة أن الدليل شرطي منفصل والآية شرطي متصل وهو أيضًا نقد متحامل لأن الحكم على نوع القضية الشرطية أنها منفصلة اجتهاد من الأشعري وبأنها متصلة اجتهاد من ابن رشد، اجتهاد باجتهاد، دون خطأ أو صواب. ولا ضير حتى على صحة رأي ابن رشد أن يعيد الأشعري صياغة الدليل بما يتفق مع الاستدلال المنطقي، وهو نفس النقد السابق دليل الجوهر الفرد مع ابن رشد الأصولي بمصطلحات الأصولية. والرابعة ينتهي الدليل إلى محالات ثلاثة في حين أن الكتاب ينتهي إلى محال واحد في وقت مخصوص وهو فساد العالم. ولما كان العالم غير فاسد يبطل احتمال أكثر من واحد. وهو أيضًا نقد متحامل لأن تفصيل الاحتمالات الثلاثة عند الأشعري أكثر تفصيلًا وتحليلًا من الاحتمال الواحد. وهذا نتيجة عمل العقل في النص، وقد فصل ابن رشد نفسه حالة الاتفاق وهي ليست في النص. ويمكن للمتكلمين أيضًا نقد دليل ابن رشد بنفس الطريقة وهو أن طريقته في فهم الآية ليست الطريقة الصحيحة، فما مقياس الصواب والخطأ؟ الكل يعبر عن اجتهاد وقراءة، ويعبر عن مزاج وعمق، وظرف وغاية.
ودليل التمانع لا يتفق مع الشرع والعقل والطبيعة طبقًا للوحدة المبدئية بين الوحي والعقل والواقع. فهو لا يتفق مع العقل؛ لأنه ليس برهانًا بل قسمة، ولا مع الشرع لأن الجمهور لا يقدر على فهمه أو الاقتناع به؛ لأن احتمالاته صعبة: يستحيل إلهان لأنهما لو كانا اثنان لاختلفا أو اتفقا. ففي حالة الاختلاف فأما أن يتم مرادهما وهو مستحيل لأن العالم لا يكون موجودا ولا معدوما أو يتم مراد أحدهما دون الآخر. ويكون ما يتم مراده هو الله، والآخر ليس كذلك. وفي حالة الاتفاق اما مناصفة في الشيء وهو مستحيل لأن القادر على اختراع البعض قادر على اختراع الكل أو بالتداول في الزمان وهو مستحيل لأن التداول نقص في حق كل واحد.

وضعف دليل الأشاعرة أنه يقوم على افتراض الاختلاف مع أن الاتفاق بين الآلهة أولى. وجه الضعف في الدليل أنه قياس للغائب على الشاهد. والحقيقة أن ابن رشد يكمل الدليل بتفصيل حالة الاتفاق بعد افتراضها. وقد وصل أبو المعالي إلى نفس المعنى. فالمتكلم قادر على أن يكون حكيما إذا أمعن النظر، وهو يحظى باحترام أكثر مما يحظى به الأشعري والغزالي.
ونظرًا لاتفاق الوحي والعقل والطبيعة أحيانًا يكون الوحي إلى الشرع هو الأساس، وأحيانًا العقل أي البرهان، وأحيانًا الطبيعة أي الفطرة. ومن ثَمَّ توجد ستة احتمالات إذا كان كل مقياس بمفرده تنشأ احتمالات ثلاثة: الوحي أو العقل أو الطبيعة. وإذا كان اثنين تكون احتمالات ثلاثة: الوحي والعقل أي الشرع العقلي، الوحي والطبيعة أي الشرع الطبيعي، العقل والطبيعة. أي العقل الطبيعي.
(٢) أوصاف الذات
يعتبر ابن رشد أن موضوع الصفات هل هي عين الذات أم زائدة على الذات، نفسية تقوم بالذات أو معنوية أي معنى زاد عليها بدعة. وهو حكم من ابن رشد الفقيه على علم الكلام. ولماذا يكون الموضوع بدعة مع أنه يعبر عن الرغبة في الحفاظ على وحدة الذات دون تكثرها في بيئة تقول كثير من الفرق المحيطة بها بتعدد الآلهة سواء قبل الإسلام في النصرانية أو في الديانات الهندية والفارسية واليونانية. فبالإضافة إلى الطوائف الأربع التي يذكرها ابن رشد، الأشعرية والمعتزلة والحشوية والصوفية يذكر أيضًا من الفرق غير الإسلامية النصارى في قضية الذات والصفات، واليهود في موضوع الشريعة، والبراهمة في مسألة النبوة. فالاتصال بالهند قدر الاتصال باليونان.
اختار المعتزلة أن الصفات عين الذات. واختار الأشعرية أنها زائدة عليها طبقًا لمنطق الهوية والاختلاف. وفي كلتا الحالتين يقاس الغائب على الشاهد. ويلزم من هذا أن يكون الله جسمًا، صفة وموصوفًا، حاملًا ومحمولًا. فتتعدد الآلهة كما هو الحال عند النصارى في الأقانيم الثلاثة: الوجود والحياة والعلم. وإذا كانت الذات قائمة بذاتها، والصفات قائمة بالذات تكون العلاقة بينهما علاقة الجوهر بالعرض، والجوهر جسم بالضرورة.
وهذا كله بعيد عن مقاصد الشرع، وما يجب على الجمهور معرفته هو ما قصد به الشرع وحده، التسليم بها دون تفصيلها لأنه لا يُمكن حصول اليقين عند الجمهور فيه، لعدم حصول صناعة البرهان له سواء حصلت له صنعة الكلام أم لا؛ إذ لا تستطيع صناعة الكلام وحدها الوصول إلى اليقين في هذا الموضوع دون صناعة البرهان. الكلام جدلي، والحكمة برهانية. ولا يستطيع الجدل الوقوف على الحق. والسؤال هو: من الذي يحدد مقاصد الشرع، المتكلمون أم الأصوليون، الحكماء أم الصوفية؟ الكل يجتهد، ولا يمكن استبعاد فريق دون آخر، تصويب علم وتخطئة علوم أخرى.
كما يرفض ابن رشد الأشعرية، الصفات المعنوية زائدة على الذات. الله يعلم بعلم زائد على ذاته، حي بحياة زائدة على ذاته كالحال في الشاهد. وينتج عن هذا أن الخالق جسم لوجود، صفة وموصوف، حامل ومحمول. الذات قائمة بذاتها والصفات قائمة بها أو أن تكون كل واحدة قائمة بنفسها مثل قول النصارى في الأقانيم الثلاثة، الوجود والحياة والعلم. ولو كان أحد قائمًا بذاته وآخر قائمًا به يكون هناك جوهر وعرض، والمؤلف من جوهر وعرض جسم.
(أ) التنزيه
وهذان الطريقان، السلب والإيجاب يقومان على عدة عمليات نفسية على مراحل متتالية. أولًا اتهام النفس ونظرة دونية لها واعتبار مظاهر نقصها نقصًا بالفعل دون إدراك مظاهر عظمتها. فلولا النسيان ما كان التذكر، ولولا النوم ما كانت اليقظة، ولولا الخطأ ما كان الصواب، ثانيًا قلب هذا الإدراك الخادع إلى وهم وتصور أن في عكسه تكون مظاهر العظمة فيتخلى الإنسان عن عظمته ويشوه نفسه محولًا عظمته إلى نقص. ثالثًا إسقاط ذلك على الله وتشخيصه في جوهر ثابت بدلًا من تحقيقه في الحياة العملية وخلق الإنسان الكامل في نفسه وفي الأمة. ولماذا لا تكون الطبيعة كاملة منظمة بطبيعتها دون حاجة إلى موجود كامل؟ لم القذف بالكمال خارج العالم دون إبقائه في داخله كقوة كامنة تتحقق في المستقبل؟ لماذا تصور الكمال رأسيًّا وليس أفقيًّا، مفارقًا وليس محايثًا، متعاليًا وليس متدانيًا؟ لماذا ترك العالم ناقصًا دون تغييره نحو الكمال، وقذف الكمال خارج العالم الناقص ثم تشخيصه ثم عبادة ما تم صنعه وخلقه؟ قد يكون السبب في ذلك اغتراب الإنسان في العالم وعجزه عن الفعل والتغيير وتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم. فإذا ما صعب الأفقي نحوِّل إلى رأسي. وإذا ما صعب الدخول في العالم سهل الخروج منه. إذا ما استحالت الثورة الاجتماعية تحولت إلى عزاء ديني.
(ب) نفي الجسمية
ويتجلى التنزيه في نفي صفات ثلاث عن الله: الجسمية، والجهة، والرؤية. وهي مترابطة فيما بينها أدخل في وصفي القيام بالنفس والمخالفة للحوادث، وهما الوصفان الرابع والخامس من أوصاف الذات الستة عند الأشاعرة. فقد دخلت الصفات الثلاث الأولى، الوجود والقدم والبقاء، في الأدلة على وجود الله، والصفة السادسة الوحدانية في نقد دليل التمانع في صفة الوحدانية.
ويبدو أنها بنية واحدة، علاقة الله بالعالم مثل علاقة النفس بالبدن، والصورة بالمادة، واللامرئي بالمرئي، والمتعالي بالمحايث. وإذا عرف الله بالنفس وعرفت النفس بالله فيكون ذلك دورًا منطقيًّا. تعريف الموضوع بالمحمول وتعريف المحمول بالموضوع في آنٍ واحد.
ويبدو أن ابن رشد بسبب هذا التحريم الشرعي المسكوت عن صفة الجسمية وصعوبة فهم الجمهور لنفيها كان أقرب إلى إثباتها مع الجهة والرؤية، وأنه من الافضل أن يظل الجمهور في عماه وحسيته وتشبيهه. بل أن ابن رشد قد ضحي بالتنزيه خوفًا على الحشر والمعاد. يضع الجمهور تحت وصايا الشريعة أي تحت حماية الفقهاء. والعجيب أن ابن رشد يصدر هذا الحكم باسم الشريعة وحكم الشرع مع أن الشريعة لا تتناول التصورات بل الأفعال، ولا تتعامل مع النظريات بل مع السلوك. يوسع ابن رشد من مفهوم الشريعة بحيث تشمل النظر والعمل وليس العمل وحده. يتعامل مع الفكر كما يتعامل الفقيه، والاشتباه في موقفه بين الحكيم والفقيه، بين الفيلسوف والظاهري.
وهناك تناقض في حكم ابن رشد الأصولي. فإما أن تكون صفة الجسمية من المسكوت عنها أو أن الشرع صرح بإثباتها أو نفيها. ولا يمكن الجمع بين الاثنين. وهل المسكوت عنه توقف عن الحكم على مشكلة قائمة أم إلغاء المشكلة ورفض الدخول فيها لأنها تؤدي إلى حكمين متناقضين يستحيل اختيار أحدهما؟ وإذا سكت الشرع عنها فإن الواقع لم يسكت وتساءل الناس عنها وأجابوا نفيًّا أم إثباتًا. وهل مصير السكوت هو الاشتباه أم توجيه الإنسان إلى العالم بعيدًا عن المتاهة العقلية وقضاء على الاغتراب فيه؟ النهي عن السؤال ليس عملًا فلسفيًّا إذا كانت الفلسفة هو التساؤل. وهل الحل هو النهي عن السؤال أم توجيه الشعور نحو العمل والعالم والطبيعة والإنسان والمجتمع؟
(ﺟ) نفي الجهة
وهي صفة يثبتها أهل الشريعة وينفيها المعتزلة مع متأخري الأشعرية كأبي المعالي مع أن ظواهر الشرع أقرب إلى الإثبات في كثير من الآيات قبل تأويلها حتى لا يعود الشرع كله مؤولًا أو متشابهًا. تقول الشرائع إن الله في السماء. ومنها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين والكتب. وإليها كان الإسراء حتى سدرة المنتهى. كما اتفق الحكماء مع الشرائع على أن الله والملائكة في السماء. وكلها صور فنية عن العلو وليست أماكن أو جهات.
والعجيب أن ابن رشد يدافع عن صفة الجهة مع أهل الشريعة، ويعني أهل السنة الذين كانوا يثبتونها أولًا قبل أن تنفيها المعتزلة ومتأخرو الأشعرية مثل أبي المعالي ومن تابعه. ابن رشد هنا سني ظاهري، أقرب إلى الأشاعرة منه إلى المعتزلة، وأقرب إلى متقدمي الأشاعرة من متأخريهم الذين حاولوا الاقتراب من المعتزلة ابتداءً من أبي المعالي والماتريدي. ما الحكمة إذن في إثبات الجسمية والجهة والرؤية وفي نفس الوقت نقد الأشعرية، وهو في الحقيقة نقد المعتزلة دون أن يعلم ابن رشد أنه أقرب إلى الأشعرية منه إلى الاعتزال؟
ابن رشد ظاهري. يرى أن ظواهر الشرع تثبت الجهة وكأن النفاة يخرجون على ظواهر الشرع، وبالتالي يحيدون عن الطريق المستقيم. يؤكد ابن رشد هنا دوره كمتكلم سلفي ويتخلى عن دوره كحكيم. ويكون ابن سينا أكثر جرأة في تأويله وتصريحه بالحكمة في رسالته الأضحوية في أمر المعاد وفي الصلاة. هل يقصد ابن رشد الحكيم التأكيد على ظاهر الشرع حتى يهرب العقلاء منه خوفًا من التجسيم والتشبيه إلى المعتزلة دفاعًا عن التنزيه عن طريق دفع الرأي المعارض إلى أقصى حدوده حتى ينفر منه الناس؟
يصر ابن رشد على أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأن نفيها إبطال للشرائع. وصعوبة إدراك ذلك مع نفي الجسمية أنه لا يوجد له مثال في الشاهد. لذلك لم يصرح الشرع بنفي الجسمية عن الله لأن الجمهور يصدق بالغائب بناء على الشاهد مثل العلم. وإذا كان الغائب غير معلوم في الشاهد عند الجمهور ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته مثل العلم بالنفس أو يضرب لهم مثالًا من الشاهد إن احتاج الجمهور إلى معرفته لسعادتهم وإن لم يكن المثال هو المقصود مثل ما جاء في أمور المعاد. أما شبهة النفاة فإن الجمهور لا يفطن إليها خاصة أن الشرع لم يصرح لهم بالنفي. لذلك يظل الجمهور في إطار حكم الشرع.
وشبهة نفي الجهة هو الاعتقاد بأن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية. ويرى ابن رشد أن ذلك كله غير لازم. فالجهة غير المكان. الجهة سطوح الجسم وهي ستة. وليست مكانًا، إنما سطوح الجسم المحيطة به مكان. سطح آخر أجسام العالم ليس مكانًا لأنه ليس محيطًا لجسم آخر. فإثبات الجهة لا يتضمن بالضرورة إثبات الجسمية. وهي تفرقة دقيقة ولكنها غير مقنعة. فكيف يكون المكان سطوح الأجسام الأخرى المحيطة وليس سطح الجسم ذاته؟ أليست سطوح الجسم ذاته مكانًا للأجسام الأخرى ما دام الأمر على التبادل؟
وإثبات الجهة أو نفيها مرتبطة بإثبات الجسمية أو نفيها. ويدل على ذلك ترك موضوع الجهة والعودة من جديد إلى موضوع الجسمية، عودًا بالفرع إلى الأصل في صيغة سؤال: هل يجوز نفي الخلاء لإثبات الجسم! فلا يمكن تصور جهة بلا جسم. رفض ابن رشد القول بأن خارج العالم خلاء لامتناع وجود خلاء كما بان في العلوم النظرية. ليس الخلاء إلا أبعاد الطول والعرض والعمق. وهي ليس فيها جسم. إذا رفعت الأبعاد عنه صار عدمًا. ولو ثبت الخلاء لزم أن تكون الأعراض موجودة غير جسم. فالأبعاد أعراض كمية. ويستعمل ابن رشد ثقافات الشعوب الماضية وديانات الأمم المغايرة لإثبات أن الخلاء كان مسكن الروحانيين، الله والملائكة لأنه ليس بمكان ولا يحويه زمان حتى لا يطرأ عليه الفساد. هناك إذن موجود غير فاسد ولا كائن هو الجهة أولى بالوجود من العدم. فالوجود أشرف من العدم. ولما كان الله أشرف الموجودات فإنه ينسب إلى أِشرف الجهات وهي السموات. وهذا ما يدركه الراسخون في العلم. واضح إذن ارتباط الخلاء بالإلهيات لإفساح المجال للوجود الإلهي. ولما كان إثبات الخلاء هو نفي للجسمية والجهة ينفي ابن رشد الخلاء اعتمادًا على العلوم النظرية أي الطبيعية وليس الإلهية مع أن الله في كل مكان شعوريًّا. وهو الأساس اللاشعوري لنفي الخلاء. والأمر كله لا يتعدى الاقتضاء والمطلب النفسي والإنشاء الذي يظهر في ألفاظ مثل «يجب»، «يلزم». وكلها محاولات واجتهادات لا يخطئ فيها أحد أو يصيب بل تعبر عن قصد التنزيه.
وإذا كان الشرع قد سكت عن صفة الجهة دون إثبات أو نفي، وإذا كان الإثبات يؤدي إلى التجسيم أو التشبيه كما هو الحال عند الحشوية ومتقدمي الأشاعرة فالأولى النفي دفاعًا عن التنزيه كما هو الحال عند المعتزلة. وإذا كان لا بد من التأويل، فالتأويل للنفي دفاعًا عن التنزيه أولى من التأويل للإثبات دفاعًا عن التجسيم والتشبيه. ولكن ابن رشد يبين مخاطر التأويل. ويستمر ابن رشد في تناول موضوع الجهة منهجيًّا وليس موضوعيًّا أي من حيث شرعية التأويل.
فالناس ثلاثة أصناف. الأول صنف لا يشعر بالشكوك العارضة في هذا المعنى بعد أن ترك على ظاهره في الشرع، وهم أكثر الناس، الجمهور. والثاني صنف عرضت له هذه الشكوك ولا يقدر على حلها. وهؤلاء فوق العامة، وأقل من العلماء. وهم الذين يرون التشابه في الشرع ذمهم الله. والثالث صنف لا يعرض لهم في الشرع شك ولا تشابه. وهم العلماء الراسخون في العلم. وهي نفس القسمة التي عبر عنها ابن رشد سلفًا في «فصل المقال» قسمة القول إلى خطابي للجمهور، وجدلي للمتكلمين، وبرهاني للحكماء.
وواضح أن ابن رشد في قسمته الناس إلى علماء وجمهور ومتكلمين، وأنصاف متعلمين أنه يضع اليقين العلمي عند العلماء، واليقين العملي عند الجمهور. والشك والتشابه والخروج على ظاهر الشرع والتأويل عند المتكلمين أنصاف العلماء، فلا هم وصلوا إلى مرتبة العلم ولا هم آمنوا كالجمهور. فإما أن يكون الإنسان عالمًا أو جاهلًا. ولا مكان لأنصاف المتعلمين وأنصاف الجهال، أن يكون برهانيًّا أو خطابيًّا ولا مكان للجدلي، طرفان نقيضان ولا وسط بينهما. وهي قسمة تابعة لطبقات الناس طبقًا للعلم وكأنها قسمة ثابتة أزلية لا يتحرك فيها الجمهور ليصبح من العلماء، ولا العلماء ليتحولوا إلى جمهور. ولا توجد مرتبة وسطى في طريقها إلى مرتبة العلماء بمزيد من البرهان أو إلى الإيمان بمزيد من التسليم واتباع ظاهر الشرع. ولما كان العلماء هم الصفوة، والجمهور هم الدهماء تتحول الطبقات العلمية إلى طبقات اجتماعية وسياسية فيقع الجمهور تحت سيطرة العلماء، ويتسلط العلماء على رقاب الجمهور خاصة وأن العلماء مقربون من السلطان. وهل يظل الجمهور تحت وصاية فقيه السلطان وفقيه الحيض والنفاس؟ وهو موقف مشابه لموقف الغزالي بالرغم من التناقض بينهما في «التهافتين». فقد ألجم الغزالي العوام عن علم الكلام، وجعله مضنونًا به على غير أهله مثل التصوف، وفضل للعامة ظاهر الشرع والتسليم والإذعان.
ولما كان التشابه قليلًا في الكتاب ولقليل من الناس فكيف يكون المتكلمون بهذه الأكثرية؟ هم أكثرية بالنسبة إلى العلماء، وأقلية بالنسبة إلى الجمهور. وقد خرج المتكلمون من الحرفيين وأرباب الصناعات، ومنهم النجار والغزال والنشار والعلاف والحداد. قد يكون المتشابه في الشرع قليلًا ولكن الآيات الشرعية المحكمة أقل بكثير من آيات العقائد المتشابهة التي لا يمكن أخذها على ظاهرها دفاعًا عن التنزيه وتحرزًا من الوقوع في التجسيم والتشبيه. وفي النهاية ألا يؤدي الظاهر في الشرع إلى الظاهر في السلوك فتضيع التقوى الباطنية كما يضيع العمق في الفهم؟
والسؤال هو: هل هناك دواء جامع شاف لكل الأمراض، نوع من الوصفة السحرية التي يسخر منها الأديب الشعبي أو التي تؤيدها الأمثال العامية والأغاني الشعبية؟ ولماذا إنكار الأدوية المفردة والفروق الفردية ورغبة الأطباء في التطوير والتجديد؟ وما عيب المنهج التجريبي، وهو المنهج العلمي الذي استعمله ابن رشد نفسه في علم الطب وأن يصلح الثاني ما أفسده الأول؟ وهل المريض الذي لم ينفعه الدواء يكون العيب فيه أم في الدواء؟ وهل يتكيف الجسم حسب الدواء أم يتغير الدواء بحسب طبيعة الجسم؟ وهل يُعقل أن يخطئ كل المتأولين من أجيال المجتهدين؟
واضح أن ابن رشد هنا سلفي. يرى أن العودة إلى الأصول الأولى خير وسيلة للإصلاح، العودة إلى الوحدة الأولى بدلًا من التفرق والتشتت والتحزب نتيجة الاجتهادات والتأويلات المتعددة للفرق. وبتكرار عادة التغيير يتم الانقاذ بالعودة إلى المركب السحري الأولى الذي تمثله الفرقة الناجية، فرقة السلطان، التي تخلص العالم من فرق الضلال، فرق المعارضة. كل فريق يعتبر نفسه الفرقة الناجية كما يهوى لاستبعاد الخصوم. الكل يؤول ويستبعد التأويلات الأخرى. كل يعتبر نفسه المعبر عن مقاصد الشرع، والآخرون منحرفون عنه.
ولم يعط أيضًا نماذج من تأويل الصوفية وهم أهل التأويل وأربابه. أما الغزالي فإنه هو الذي طم الوادي على القرى وصرح بالحكمة كلها إلى الجمهور وطبقًا لفهمه إياها. فاجتمعت في الغزالي مساوئ المتأولين كلهم، الخوارج وتأويلهم السياسي، ودفاعه عن نظام الملك، والمعتزلة وتأويلهم العقل دفاعًا عن التنزيه، والردة الأشعرية في سوء استخدام العقل والشرع معًا ثم التأويل الباطني المضاد للعقل.
(د) نفي الرؤية
ينفي المعتزلة والأشاعرة معًا الرؤية. إلا أن الأشاعرة أرادوا الجمع بين النقيضين، تفنى الرؤية وإثباتها، انتفاء الجسمية وجواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس نظرًا لتداخل الرؤية مع الجهة والجسمية وهو مستحيل أو عسير. فلجئوا إلى حيل وأقاويل سوفسطائية مموهة كاذبة. الحجج كالناس، فيها الفاضل والأقل فضلًا ومن يوهم أنه فاضل هو المرائي. كذلك الحجج يقينية أو أقل من اليقينية أو مرائية توهم بأنها يقينية مثل حجج الأشعرية في نقض دليل المعتزلة على نفيها والقول بجواز الرؤية لما ليس بجسم. والأشاعرة غير متسقين مع أنفسهم يطلقون قياس الغائب على الشاهد في الشرط، الحياة شرط العلم، ولا يجعلونها شرط الرؤية. الله ليس بجسم لأن كل جسم محَدث كما تقول الأشعرية. لم تصرح الأشعرية بنفي الرؤية كالمعتزلة لأنها تثبت الجسمية وإلا كان ناقصًا.
وينقد ابن رشد حجج الأشعرية لإثبات رؤية ما ليس بجسم وهما حجتان: الأولى، وهي الأشهر، أن الشيء يرى من جهة ما هو ملون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه وجود. فهذه أربعة احتمالات وربما يوجد أكثر منها. ثم يبطل الدليل احتمالًا وراء الآخر. فباطل أن يرى من حيث أنه جسم وإلا لما رؤى اللون، وباطل أن يرى لأن له لون وإلا لما رُئي الجسم. ومن ثَمَّ لم يبق إلا الاحتمال الرابع أنه يرى من قبل أنه موجود. وهذا الدليل مغالطة لأن المرئي اما مرئي بذاته أو مرئي من قبل المرئي بذاته وهو حال اللون والجسم. فاللون مرئي بذاته، والجسم مرئي من قبل اللون. لذلك ما لا لون له لا يُبصر. ولو رُئي الشيء من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمسة، وتكون الحواس كلها حاسة واحدة، وتكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا حتى المتضادات. وهذا ضد المعقول، ورأي سوفسطائي تبناه أقوام قدماء مشهورون بالسفسطة. لذلك اضطر المتكلمون إلى القول بإمكانية سماح الألوان ورؤية الأصوات. وهو خروج على الطبع والمعقول. فلكل حاسة وظيفتها، ولا تنقلب حاسة إلى أخرى.
وبعد نقد ابن رشد الأشاعرة ثم ضرب المعتزلة بالأشاعرة ينقد المعتزلة مباشرة في جدل صاعد؛ إذ ليس عند المعتزلة برهان ولا عند المتكلمين برهان على نفي الجسمية، فقد انبنى نفي الجسمية على وجود الحدوث للجسم بما هو جسم. ومن يملك البرهان على ذلك هم العلماء، فهذه موضوعات طبيعية أصبحت لاهوتية وأصلها في الطبيعة. ومع ذلك أنكر المعتزلة الرؤية. وسبب وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية، واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين وجب عندهم أن تنتفي الجهة وبالتالي انتفاء الرؤية. فكل مرئي في جهة من الرائي. فردوا الشرع المنقول، واعتلوا بأن الأحاديث أخبار آحاد وهي لا توجب العلم، وأن ظاهر القرآن معارض لها. أنكر المعتزلة الرؤية بالرغم من ورد الشرع بإثباتها في نصوص كثيرة ومشهورة. فشنع الأمر عليهم مما يكشف عن خطر الشرع على حرية الفكر ومنطق البرهان. وسبب شبهتهم أن المعتزلة قد نفوا الجسمية من الله، وصرحوا بذلك لجميع المكلفين مما ينتج عنه انتفاء الجهة. ويرد وابن رشد على المعتزلة وفي نفس الوقت دون استعمال حجج أبي حامد الصوفي الذي اجتمعت فيه مساوئ الأشعرية والتصوف ولكن يرفض قياس الغائب على الشاهد في موضوع الرؤية، ويكون صاحب معيار مزدوج، يطبقه في الحياة شرط العلم، ويرفضه في الرؤية. يرفض تطبيق قياس الغائب على الشاهد وهو أساس الفكر الديني من أجل اثبات الغائب ضد الشاهد وهو أساس الفكر الغيبي.
والحقيقة أن المعتزلة متسقون مع أنفسهم، نفي الجسمية يؤدي إلى نفي الجهة الذي يؤدي إلى نفي الرؤية. وما الضير طبقًا لمناهج الاستدلال بالمنقول معارضة أخبار الآحاد بظواهر القرآن، بالإضافة إلى ضعف رواية الرؤية، والقرآن مقدم على خبر الآحاد؟ فالحكم الأصولي بالضرورة هو نفي الرؤية.
وهل خطأ المعتزلة التصريح بالنفي للمكلفين أم كان من الأفضل إبقاء الناس على تجسيمهم وتشبيههم وحسيتهم أي وثنيتهم لا فرق في ذلك بين المسلمين أنصار التنزيه وبين باقي الديانات الأخرى كالنصرانية التي تقوم على التشبيه؟ أي الطريقين أفضل، ظاهر الجمهور أم تأويل العلماء؟ والمكلفون لفظ جديد يستعمله ابن رشد للجمع بين العلماء والجمهور. وهل سيحاسب الله الناس يوم القيامة بمقياسين، الظاهر للجمهور، والمؤول للعلماء، وكلاهما مكلف بنفس التكاليف؟ إن خطورة المعتزلة في نفي الرؤية أقل من خطورة الأشعرية في إثباتها. ونفي الرؤية عند المعتزلة دفاعًا عن التنزيه خير من إثباتها عند الأشعرية وقوعًا في التشبيه والتجسيم.
يبدو أن ابن رشد هنا من أنصار الحقيقتين، التصوير والاستدلال، الخيال والعقل، العامة والخاصة، الجمهور والعلماء. الأولى علانية والثانية سرية لا يصرح بها الشرع سواء في القرآن أو عند العالم، وهو اتجاه شيعي إمامي وليس اتجاهًا سُنِّيًّا، أعوذ بالله من علم لا ينفع. وذلك يطرح عدة تساؤلات: إلى متى يُؤخذ بظاهر الشرع دون تأويله دفعًا لمخاطر التجسيم والتشبيه وإثباتًا للتنزيه؟ وإلى متى يظل الجمهور على عماه والمجتمع كله يسعى نحو مزيد من العقلانية؟ وهل يتحدث الله على مستوى الجمهور أم على مستوى العلماء؟ إن نزل على مستوى الجمهور تضايق العلماء، وإن نزل على مستوى العلماء لم يفهم الجمهور؟ أم إنه نزل على المستوين وخاطب الفريقين على نحوين مختلفين؟ وهل الوعي السياسي فيه أيضًا علماء وجمهور، علماء لهم حق التفسير وجمهور له واجب الطاعة؟ أليست هذه هي ولاية الفقيه عند الشيعة ومن ثَمَّ لا خلاف بين سنة وشيعة فيما يتعلق بأولي الأمر؟
(٣) صفات الذات
(أ) العلم
ويثبت ابن رشد العلم في الكتاب لأن المصنوع يدل على الصانع من جهة ترتيب أجزائه أي كون الأجزاء بعضها لبعض، وموافقتها للمنفعة المقصودة منه. وإن جواز أن تكون الأشياء المصنوعة على غير ما هي عليه هو ما تتصف به المصنوعات الخسيسة وليست الشريفة وبالتالي فإن رأي المتكلمين مضاد للحكمة والشريعة أي للعقل والنقل. والصانع ليس هو الطبيعة بل صانع رتب كل شيء من أجل غاية توجب أن يكون عالمًا بها بالرغم من وجود حفائر وسدود طبيعية وكهوف وقدرة الكائنات الحية التكيف مع الطبيعة. دليل إثبات العلم أشبه بدليل العناية. ولماذا تصور الطبيعة وكأنها سفيهة؟ ولماذا لا تكون الطبيعة عاقلة؟ وهل يحتاج العلم إلى إثبات بالدليل العقلي والنص واضح ومقنع؟
ثم يتناول ابن رشد وصف العلم بالقدم لأنه لا يجوز على الله الاتصاف بها في وقت ما دون التعمق أكثر من ذلك كما فعل المتكلمون، أن الله يعلم المحَدث وقت حدوثه بعلم قديم وإلا لكان العلم بالمحدَث وقت وجوده ووقت عدمه علما واحدًا، وهو مناقض للعقل لأن العلم علم بالموجود. ولما كان الموجود مرة بالفعل ومرة بالقوة كان العلم بالحالتين مختلفا. وهذا ما لم يصرح به الشرع بل صرح بخلافه وهو العلم بالمحدثات حين حدوثها، وعلمه بالأشياء قبل كونها وبعد كونها ومع تلفها لأن الجمهور لا يفهم إلا هذا المعنى. هنا يبدو ابن رشد فقيهًا ظاهريًّا حنبليًّا يرفض الدخول في متاهات عقلية كما رفض أحمد بن حنبل من قبل القول بقدم القرآن أو بحدوثه. ويعتبرها بدعة. وهو مفهوم فقهى. وتعني المتاهة العقلية التي لا حل عقلي لها لأنها خالية من المضمون، مجرد افتراض نظري بعيد عن الواقع، تنزه الله باسم الوحي، وتضحي بما سواه، العقل والطبيعة وقول المتكلمين بعد إثبات قدم الصفة أن الله يعلم المحدث بعلم قديم قول طبيعي بالرغم مما فيه من مشاكل، وهو الاختلاف بين العلم والمعلوم.
وقد حاول المتكلمون الخروج من المأزق عن طريق التفرقة بين وجود العلم بالقوة ووجوده بالفعل. ولكن ابن رشد نقد هذا المخرج بأن هذه التفرقة لم يصرح بها الشرع وكأن الشرع يصرح بكل شيء، وهو استنتاج من مقدمة أولى متسقة من صنع العقل. ومع ذلك، الانتقال من القوة إلى الفعل حركة، والقديم لا تجوز عليه الحركة. وقد وقع ابن رشد نفسه في مأزق الأشعرية بإثبات صفة العلم قديمة. ويمكن تجاوزه ونقد ابن رشد له بطريقة أفضل، الخروج من المسار المجرد نفسه الذي يفترض استحالة الجمع بين المختلفين على نحو تجريدي، علم الله القديم بمعلوم حادث عن طريق مستويات التحقق أو نقل الموضوع كله إلى مستوى الذات والصفات في الشخصية الإنسانية. فالفكر الكلامي كله يقوم على قياس الغائب على الشاهد. فهو فكر تمثيلي تشبيهي قياسي لا يختلف عن القياس الفقهي إلا في المجال، العقيدة دون الشريعة، النظر وليس العمل، الفكر لا السلوك. وكل فكر إنساني في النهاية يعبر عن مطلب واقتضاء، لا يصف شيئًا في الخارج، كما يبدد ذلك من أفعال الوجوب إيجابًا أم سلبًا مثل «يجب أن»، «لا يجوز عليه».
(ب) الحياة والقدرة والإرادة
يعرض ابن رشد صفة الحياة قبل القدرة خارج الترتيب الأشعري، ويستنبطها من العلم، قياسًا للغائب على الشاهد لأن الحياة شرط العلم. يقبل ابن رشد القياس لو كان في صالحه ويرفضه لو استعملته الأشعرية والنسق الأشعري يبدأ بالعلم أولًا والقدرة ثانيًا أي النظر والعمل ثم الحياة شرط لهما. الحياة لها وجهان، النظر والعمل، الفكر والسلوك، العقيدة والشريعة، وهو أكثر اتساقًا مع العقل من ترتيب ابن رشد، العلم فالحياة، ثم الإرادة والقدرة.
ويضم ابن رشد صفتي الإرادة والقدرة معًا مع أن القدرة ثاني صفة بعد العلم في النسق الأشعري في الثلاثي، والإرادة سابع صفة بعد السمع والبصر والكلام في الرباعي. صحيح أن الإرادة والقدرة متصلتان مثل علاقة العموم بالخصوص. فالقدرة هي الصفة العامة، والإرادة هي القدرة الخاصة على تجاوز الهوى والانفعال. والإرادة تعبير عن العلم لأن العالم لا يكون إلا مريدًا، وصدور الشيء عنه لا يكون إلا بإرادة. والقدرة أيضًا شرط العلم. ومن ثَمَّ يكون للعلم شرطان، الإرادة والقدرة. ويتصور ابن رشد العلم على أنه صدور للشيء وليس مجرد تعلق عالم بمعلوم كما هو الحال في الأشعرية. ويبدو أن نظرية الصدور التي عاداها ابن رشد في الحكمة خاصة عند ابن سينا قد تسربت إليه في نقد علم الكلام.
(ﺟ) الكلام
ويثبت ابن رشد صفة الكلام استنباطًا من صفة العلم وصفة القدرة على الاختراع. فالكلام فعل يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه أو يصير المخاطب بحيث ينكشف له العلم النفسي. الكلام فعل من أفعال الفاعل. وإذا كان الإنسان الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على الكلام؛ لأنه عالم قادر فالأولى أن يجب ذلك في الفاعل الحقيقي، قياسًا للغائب على الشاهد، وتصور الله قياسًا على الإنسان.
والحقيقة أن تفرقة ابن رشد بين لفظ القرآن ونفس اللفظ المتداول خارج القرآن، الأول من خلق الله والثاني من فعل الإنسان بإذن الله تفرقة يصعب قبولها لأن كليهما نطق إنساني وصوت إنساني. وما سمعه النبي لا نعرفه. وإنما نعرف ما تلفظ به النبي بصوته وبلغه عنه الصحابة والحفاظ بأصواتهم. كما أن حرف الكتابة من صنعنا وخط أيدينا وخط كتابة الوحي. والقرآن قد بُلِّغ صوتًا وليس كتابة بألواح نزلت من السماء. وإن تعظيم الكتابة لأنها دالة على اللفظ وقوع في أسوء صور التشبيه. والقول بأن اللفظ مخلوق لله، والمعنى غير مخلوق يثير نفس الإشكال الذي يعيبه ابن رشد على الأشعرية، كيف يخرج المخلوق من الله وهو غير مخلوق؟ كيف يخرج المراد الحادث من الإرادة القديمة؟ وتصور ابن رشد للفظ القرآن المخلوق ونفس اللفظ بالحادث من فعل الإنسان بإذن الله لا يمنع من الشركة بين اللفظين. فالله والإنسان كلاهما خالق للفظ على مستوين مختلفين.
وقد نفت الأشعرية أن يكون المتكلم فاعلًا للكلام وإلا كان الله فاعلًا لكلامه، والكلام متقدم بذاته وبالتالي يكون الله فاعلًا للكلام بذاته فتكون ذاته محلًّا للحوادث، فنفوا أن يكون الله فاعلًا للكلام وجعلوه صفة قديمة لذاته كالعلم. وهذا يصدق على كلام النفس ويكذب على اللفظ. وظنت المعتزلة أن الكلام هو فعل المتكلم وهو اللفظ فقط. لذلك قالوا القرآن مخلوق. فليس من شرط الفعل أن يقوم بفاعله على عكس الأشعرية التي تتشرط أن يقوم الكلام بالمتكلم. وكلاهما صحيح في الشاهد، كلام النفس واللفظ الدال عليه.
(د) السمع والبصر
(٤) الأفعال
- (أ)
إثبات خلق العالم، وقد تم تناوله من قبل في الأدلة على وجود الله، دليل القدم والحدوث وأحيانًا في صفات الذات، صفة القدرة، القدرة على خلق ما لا يكون.
- (ب)
بعث الرسل، وهو أول موضوع في السمعيات، النبوة.
- (جـ)
القضاء والقدر، وهو أول موضوع في العدل أو ما يجوز على الله تعالى عند الأشعرية في أحكام العقل الثلاثة بين العقليات والسمعيات.
- (د)
التجوير والتعديل، وهما لفظان اعتزاليان، ويعنيان الحسن والقبح، وبالتالي يكتمل العدل، ولكن في نظرية الأفعال بعد أن انضم أصل العدل إلى أصل التوحيد.
- (هـ)
المعاد، وهو الموضوع الثاني في السمعيات.
ولا يتعرض ابن رشد للإيمان والعمل مع أنه من الموضوعات الرئيسية في وضع موضوع الصلة بين النظر والعمل وموضوع الإمامة وهي المشكلة السياسية، نشأة السلطة ومصدرها. كما تغيب ملحقات الإمامة وكل ما يتعلق بالتفضيل والفرقة الناجية. وهو ما بدأه الغزالي في «الاقتصاد»، معاركه مع الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة. وإذا كان مشروع ابن رشد له غاية سياسية فلماذا ترك الموضوعين السياسيين المباشرين؟ هل لأنه فقيه يعتبر الإيمان والعمل من الأحكام الشرعية كما يعتبر الإمامة من الموضوعات الفقهية، موضوعها «بداية المجتهد»؟ ابن رشد صاحب مشروع كبير يتلخص في تخليص الوافد من سوء تأويله على أيدي الشراح المسلمين، الحكماء الإشراقيين عامة خاصة ابن سينا، وتخليص الموروث من سوء تأويله على أيدي المتكلمين خاصة الأشعرية.
(أ) خلق العالم
ويقوم هذا الدليل العقلي البسيط على أصلين معترف بهما عند الجميع. الأول أن العالم بجميع أجزائه موافق للإنسان، والثاني أن كل ما يوجد موافق في جميع أجزائه لفعل واحد متجه نحو غاية واحدة. والنتيجة إذن هو مصنوع بالضرورة، وكل مصنوع له صانع. وتدل العناية على الأمرين معًا. لذلك كانت أشرف دلالة على وجود الصانع.
وهذا الاستدلال موجود في الكتاب في عديد من الآيات التي يذكر فيها بدأ الخلق، وموافقة أجزاء العالم لوجود الإنسان، والتنبيه على أمر معروف للبشر، خلق الأرض بحيث تكون سكن لهم. ولو كانت متحركة أو بشكل آخر أو في موضع آخر أمكنهم الحياة فيها. فالمهاد ويجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع بالإضافة إلى الوثارة واللين استعارة وإعجاز وإيجازًا. كما نبه على المنفعة الموجودة في سكون الأرض من قبل الجبال. فلو كانت الأرض أصغر لتزعزعت من حركات باقي العناصر ولهلك الحيوان. وموافقة سكونها لما عليها من الموجودات ليس عن اتفاق بل عن قصد قاصد، وإرادة مريد. وكذلك موافقة تعاقب الليل والنهار لحياة الإنسان في الحيوان. الليل ستر من حرارة الشمس، وإلا هلكت الموجودات، النبات والحيوان. لذلك سمى الليل لباسا، استعارة بليغة. وفي الليل منفعة أخرى للحيوان هو النوم بعيدًا عن الضوء ويقظة الحواس. الكون بنيان يدل على الاختراع والاتقان والنظام والترتيب. فيه قوة وحركة. كل ذلك يدل على موافقته في أعداده وأشكاله وأوضاعه وحركاته الموجودات على الأرض. فلو وقف جرم واحد لحظة واحدة لفسدت الأرض ووقفت حركتها. لذلك زعم البعض أن النفخ في الصور، سبب الصعقة، هو وقوف الفلك. ومنفعة الشمس أنها سراج وهاج لأن الأصل الظلمة، والضوء طارئ عليها للانتفاع بحاسة البصر بالإضافة إلى سائر منافعها. وينزل المطر للنبات والحيوان بقدر محدود، وفي وقت محدود، لينبت الزرع. ولا يمكن أن يكون ذلك اتفاقًا بل قصدًا وعناية. وكثرة الآيات في العناية تستحق أن يفرد لها كتاب خاص. وهو موضوع موروث خالص من الأصول الأولى، لم تعرفه اليونان.
وهو دليل شرعي. فقد قصد الشرع من معرفة العالم أنه مصنوع لله ومخترع له وأنه لم يوجد عن اتفاق أو من تلقاء نفسه. وهي طريقة بسيطة معترف بها عند الجميع في تعليم الجمهور لإثبات حدوث العالم إن لم يكن لها مثال في الشاهد فقد استعمل الشرع مقالًا من حدوث الأشياء في المشاهدة. لقد سلك الشرع في تعليم الجمهور أن العالم مصنوع، وهو طريق العناية. وهنا يكرر ابن رشد من جديد دليل العناية الذي عرضه أولًا في الأدلة على وجود الله، ويقوم على الموافقة بين الإنسان وبين كل شيء في هذا العالم في منفعته وغايته مما يدل على وجود صانع مريد عاقل، وليس عن اتفاق. كل ما في العالم من شمس وقمر وكواكب التي هي سبب الفصول الأربعة، وتعاقب الليل والنهار وسقوط الأمطار، وجريان المياه، وهبوب الرياح، وعمارة الأرض، ووجود الناس، وسائر الكائنات من الحيوان والنبات وموافقة الأرض لسكنى الناس والحيوان، الماء للحيوان المائي والهواء للحيوان الطائر. ولو اختل فيها لاختل وجود المخلوقات. ولا يمكن أن تكون هذه الموافقة باتفاق بل عن قصد من قاصد، وإرادة من مريد، هو الله. فالعالم مصنوع، إذ لا يمكن أن توجد الموافقة عن اتفاق من غير صانع.
الطرق الشرعية التي نصبها الله لعباده لمعرفة أن العالم مخلوق ومصنوع هو طريق الحكمة والعناية بجميع الموجودات خاصة الإنسان. وهي طريقة ظاهرة في العقل ظهور الشمس للحس.
ولفظ مصنوع أو مخترع أقل حكمة من لفظ مخلوق أو مبدع. فالمصنوع يؤدي إلى الصانع في حين أن المخلوق يؤدي إلى الخالق، والمبدع إلى المبدع. فالصفة توحي بالتشكيل من مادة قديمة وبالمصطنع وبالآلية والمنفعة والجزئية والحرفية في حين أن الخلق والإبداع ليسا كذلك. الاختراع يوحي بأنه اكتشاف معلوم بعد أن كان مجهولا كما هو الحال في الاختراعات العلمية. والله ليس صانعا كالنجار والحداد. وصلته بالعالم ليس كصلة النجار بالكرسي أو الحداد بشباك الحديد.
وقد سلك الشرع طريقًا للجمهور لتصوير هذا المعنى، وهو التمثيل بالشاهد. وإن كان ليس له مثال في الشاهد استعمل الشرع ما يقرب من فهم الجمهور مثل الخلق في الزمان، والخلق من شيء. فهما الصفتان المعرفتان في الشاهد دون تأويل هذا التمثيل، وإلا بطلت الحكمة كما فعلت الأشعرية. أما القول بالخلق من غير شيء ومن غير زمان فذلك ما لا يمكن تصوره من العلماء فضلًا عن الجمهور. هذا التمثيل هو الموجود في القرآن وفي التوراة وفي سائر الكتب المنزلة. وهو يطابق معنى الحدوث في الشاهد. لم يصرح الشرع بهذا اللفظ تنبيهًا للعلماء على أن حدوث العالم ليس مثل الحدوث الذي في الشاهد. إنما الشرع يستعمل ألفاظا أخرى مثل الخلق والفطور وهي تصلح للمعنيَين الحدوث في الشاهد والحدوث الذي أدى إليه البرهان عند العلماء في الغائب. استعمال لفظي الحدوث والقدم إذن بدعة في الشرع، ويؤدي إلى شبهة عظيمة تفسد عقائد الجمهور وبخاصة الجدليين منهم.
ونتجت هذه الشبهة لتصريح في الشرع بما لم يأذن به الله. ليس في الشرع أن الله مريد بإرادة حادثة ولا قديمة. لم يتبع الأشعرية ظاهر الشرع فكانوا سعداء مع أهل الظاهر، ولا وصلوا إلى مرتبة اليقين فكانوا من أنصار اليقين. لا هم من بين الجمهور المصدقين ولا من بين العلماء البرهانيين. إنما من الذين في قلوبهم زيغ ومرض، يقولون بما لا يؤمنون به بدافع العصبية والمحبة. والتعود على هذه الأقاويل سبب الانخلاع عن المعقولات كما هو الحال عند الأشعرية التي ارتضاها الناس منذ الصبا فأصبحوا محجوبين عن الحق بحكم العادة والمنشأ.
الظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور. ولم يصرح لا بإرادة قديمة ولا حادثة. بل صرح بالأظهر والأوضح والأسهل، أن الإرادة موجدة موجودات حادثة لأن الجمهور لا يفهم موجودات حادثة عن إرادة قديمة. لم يصرح لا بإرادة قديمة، ولا حادثة لأنها من المتشابهات في حق الأكثر. ولا يوجد عند المتكلمين برهان يقيني على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود قديم واستثناء الأصل في نفي قيام الإرادة بمحل قديم اعتمادًا على أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
ومن الذي يقرر مستوى الفهم ثم يصنه إلى جمهور وعلماء؟ هذا حكم تقديري اجتهادي صرف. وهل الخلق من شيء أسهل على الجمهور فهمه من الخلق من عدم؟ وهل الخلق في زمان أسهل على الجمهور فهمه من الخلق في لا زمان مع أن الأسهل والأكثر إثارة للخيال الخلق من عدم وفي لا زمان مثل الحاوي الذي يخرج الحمامة من كمِّه؟ وهل الشرع مزدوج اللغة، مرة للجمهور ومرة للعلماء؟ ألا تؤدي الوصايا على الجمهور وحجب المعرفة عنهم إلى سهولة قيادهم سياسيًّا؟ ولماذا لا يعي الجمهور ويصبح من العلماء؟ الجمهور ليس طبقة بل حرم من التعليم ويمكنهم أن يصبحوا علماء.
دليل العناية على النقيض من أدلة الأشعرية التي زعمت أنها طريق إلى معرفة الله. فدلالة الموجودات عندهم ليست من أجل حكمة تقتضي العناية ولكن من قبل الجواز. كل شيء في هذا العالم جائز في العقل أن يكون بهذه الصفة وضدها. فإن كان الجواز على السواء فلا توجد حكمة ترجح أحد الجائزين على الآخر. ولا توجد موافقة أصلًا بين الإنسان والعالم. ويستوي خلق الإنسان في العالم أو خلقه في الخلاء. ويستوي أن يكون الإنسان بهذا الشكل أو بشكل آخر في هذا العالم أو في عالم آخر مخالف. لا توجد نعمة يمتن بها. وما ليس بضروري أو أفضل فالإنسان مستغن عنه لا يوجب إنعامًا عليه. وهذا كله بخلاف الفطرة والطبيعة.
يتفق دليل العناية مع العقل والطبيعة والشر. هو دليل يقيني برهاني (العقل)، وبسيط نظري (الطبيعة) ومستمد من ظاهر الآيات ولا تحتاج إلى تأويل (الشرع)، فلا فرق بين تحليل النص وتحليل الطبيعة وتحليل التجربة البشرية. ميزته أنه إنساني الطابع. فكل شيء موافق للإنسان. كما أنه يعتمد على العلة الغائية وليس على العلة الفاعلة. كما أنه دليل طبيعي يعتمد على الطبيعة والتأمل في الموجودات وقدرة الإنسان على السيطرة عليها. ويساعد التأمل في الطبيعة على نشأة العالم. كما تساعد الموافقة على تسخير الطبيعة لصالح الإنسان. الجغرافيا الطبيعية والجغرافية البشرية دليل على خلق العالم ووجود الله، وفي نفس الوقت موضوع علمي لعلوم الطبيعة والفلك. وبالرغم من الطابع الإنساني العام لهذا الدليل وبيان أن الطبيعة متفقة مع الإنسان وكلاهما قصد واحد إلا أنه ما زال إسقاطًا من الإنسان على الطبيعة وقراءة لها قراءة إنسانية، ووضع سلم القيم على نظام الطبيعة. فالعناية أشرف الدلائل على وجود الصانع. فلا الأدلة ولا الطبيعة تعرف سلم القيم.
يقوم الدليل على مفاهيم إنسانية خالصة مثل المراد والعزم والحالة. والتقدم والتأخر والأشرف والأخس مقولات إنسانية تشخيص الطبيعة وأنسنة الكون كما هو الحال في القرآن مثل جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ. كما تكشف عبارات «يجب»، «ينبغي» على أن الفكر كله اقتضاء ومطلب للتعبير عما ينبغي أن يكون. بل إن قياس الأولى نفسه وهو عماد الفكر الديني مثل قياس الغائب على الشاهد قياس إنشائي محض يقوم على قياس الشرف والقيمة في النفس وليس في الخارج، فالفكر الديني فكر إنشائي وليس فكرًا خبريًّا.
فضل الأشاعرة الجواز على الحكمة كطريق إلى معرفة الله. والحكمة تقتضي العناية، والجواز ينفيها، وبالتالي انتفاء الموافقة بين الإنسان والطبيعة وشكر المنعم وكأن الإنسان يستطيع أن يعيش في عالم ويوجد في عالم آخر، وهو قادر على الاستغناء عما هو ضروري. كل شيء في العقل جائز أن يكون على غير ما هو عليه، على هذه الصفة وضدها. ولما كان الطريقان يستويان غابت حكمة تغليب طرف على آخر، وهذا كله ضد فطر الناس. ومن هنا نشأت ضرورة الاعتراف بالأسباب والمسببات.
كان الدافع لدى المتكلمين من الأشعرية هو الهروب من الاعتراف بفعل القوى الطبيعية التي ركبها الله في الموجودات كما ركب فيها النفوس حتى لا يدخل عليهم القول بوجود أسباب فاعلة غير الله. ولا خوف من ذلك لأن الله هو مخترع الأسباب، وتأثيرها بإذنه. خافوا أن يؤدي القول بالأسباب إلى أن يكون العالم صادرًا عن سبب طبيعي مع أن الطبيعة مصنوعة ودالة على الصانع. إن إنكار فعل الطبيعة يسقط جزءًا عظيما من موجودات الاستدلال على وجود الصانع بجحده جزأين من موجودات الله. ففي الطبيعة إذن نقى لله.
تنكر أدلة الأشعرية ارتباط الأسباب بالمسببات في الأمور الصناعية وفي الأمور الطبيعية مما يؤدي إلى جحد الصانع الحكيم. ولا يكفي في ذلك القول بالعادة التي أجراها الله دون أن يكون لها تأثير فعلي، فإن ذلك نفي لمقتضى الحكمة ومبطل لها. فإذا وجدت المسببات دون الأسباب فأي حكمة في وجودها؟ فوجود المسببات من الأسباب لا يخلو من ثلاثة أوجه: الاضطرار مثل الغذاء أو من أجل الأفضل مثل أن يكون للإنسان عينان أو بالاتفاق ودون قصد فلا تكون هناك حكمة أصلًا ولا تدل على صانع مثل اليد وأصابعها للإمساك. ولو غابت الحكمة لاستوت اليد مع الحافر.
فإذا رفعت السببية لم يوجد شيء يرد به على القائلين بالاتفاق وإنكار الصانع وحدوث كل شيء عن الأسباب المادية لأن أحد الجائزين أحق أن يقع عن الاتفاق منه أن يقع عن فاعل مختار إلا قول الأشعري إن وجود أحد الجائزين دال على مخصص وفاعل. وهنا يضرب ابن رشد الاتفاق بالأشعرية ثم يضرب الأشعرية بالسببية.
وقد استمدت الأشعرية آراءها من الظنون التي تخطر على البال من أول وهلة من الأفكار الشائعة التي يسميها ابن رشد «بادئ الرأي». فاسم الإرادة يطلق على القدرة على فعل الشيء وضده. ومن ثَمَّ جعلوا الموجودات جائزة لإثبات فاعل مريد منكرين الترتيب في الأمور الصناعية. وهو أيضًا صادر عن فاعل مريد وهو الصانع. فأنكروا الحكمة عن الصانع، وأدخلوا بدلًا عنها الاتفاق في الموجودات، وأصبحت الإرادة مجرد عبث منسوب إلى الاتفاق. فأنكروا نظام الطابع والصانع للعالم، وأثبتوا العبث والاتفاق. وأنكروا الأسباب وهي جند الله التي سخرها بإذنه لحفظ العالم. وهي الأجسام السماوية والأسباب الموجودة في ذوات الموجودات مثل النفوس والقوة الطبيعية لحفظ الموجودات وتحقيق الحكمة. هذا ما فعلته الأشعرية من تغيير في الشريعة.
يأخذ ابن رشد صف المعتزلة أصحاب الطبائع في إثبات السببية دون استعمال مصطلحاتهم، الفطرة والكمون والتوليد. ويشبه موقف ابن حزم في اثبات السببية كذلك ردًّا على الأشعرية. وقد يكون الدافع على تفضيل الأشعرية الإرادة على الحكمة دافعًا سياسيًّا. فإرادة الحاكم وليس عقله تعبير عن الوضع السياسي وتبرير له.
والحقيقة أن ذلك كله من أفعال الشعور بغية التنزيه وعلى درجات متفاوت من الإحساس به بين المتكلمين أو بين المتكلمين والحكماء فبالرغم من عدم وجود برهان على استحالة إرادة حديثة من موجود قديم إلا أن هناك نفورًا عقليًّا من ذلك؛ إذ إن العقل مع اتساق المتضايفين قدمًا أو حدوثًا.
وينتقل الفكر الديني من النقيض إلى النقيض. فليس المقصود موضوع التنزيه بل درجة الإحساس بالتنزيه. وينتقل من رفض الاتفاق في الطبيعة إلى الفاعل المشخص. والحقيقة بينهما في غائية الطبيعة وقوانينها. ولماذا التشخيص؟ لماذا لا يكون القصد من داخل الطبيعة وليس من خارجها؟ أليست الطبيعة عاقلة؟ كما أن الدليل على هذا النحو يقع في الدور، اثبات الخالق بالعناية ثم اثبات العناية بالخالق. فالمقصود ليس الدليل بل اتساق الفكر مع نفسه. كما أنه ينقلب من اثبات خلق العالم إلى اثبات وجود الله، ومن ثَمَّ استعمال دليل العناية مرتين، مرة كدليل على وجود الله في المقدمات الأولى، ومرة لإثبات خلق العالم كفعل من أفعال الله في نظرية الأفعال.
ويمكن نقد قلب الدليل بأنه يقوم على تبرير الشر في العالم، وتبرير الكوارث والزلازل والبراكين والأمراض والحروب والاغتيالات والظلم والألم والعذاب بأنها موافقة لغاية الإنسان واعتمادًا على وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ. وإذا كان من صفات الله أو أسمائه الجود والكرم والخير والعالم مصنوع فكيف يصدر الشر من الخير؟
ويستعمل ابن رشد بعض الألفاظ المعربة مثل الأسطقسات بعد أن استقر وأصبح عربيًّا. كما يحلل بعض الألفاظ الأخرى لبيان معانيها الدينية مثل المهاد والأوتاد وهو ما يتجاوز قدرات المعاصرين الذين يتفوقون ربما في التحليلات السياسية والاجتماعية. كانت اللغة والأدب ثقافة القدماء، والعلوم الاجتماعية ثقافة المعاصرين.
يبدو ابن رشد الحكيم أحيانًا ظاهريًّا اسميًّا حرفيًّا في تحديد معنى الحدوث في الشاهد. ولفظ الحدوث ليس لفظًا شرعيًّا مذكورًا في القرآن وإن كان معنى الحدوث موجود. وهنا يبدو ابن سينا أكثر حكمة عندما يقول «لا مشاحة في الألفاظ». والعجيب إزاحة ابن رشد للاجتهاد، وهو الفقيه، والاستناد إلى ظاهر الشرع، والكلام كله اجتهادات حسب الطاقة والوسع، تخطئ وتصيب. كما يضع علم الكلام في إطار تاريخ الأديان المقارن، فتمثيل الخلق للجمهور موجود في القرآن والتوراة وسائر الكتب المنزلة دون أن يثير قضية التحريف التي يثيرها ابن حزم. ولكنه يستعمل لغته الحادة وإلقاء الاتهامات على الذين في قلوبهم زيغ ومرض، ويشق على قلوب الناس، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والحيد عن الطريق، والضلال بعد الهدى.
(ب) بعث الرسل (النبوة)
وهو أول الموضوعات السمعية في النسق الأشعري. يتناوله ابن رشد في أصلين. الأول إثبات الرسل من حيث المبدأ وهو ما يسمى عند الأشعرية إمكان النبوة أو استحالتها أو ضرورتها، والثاني صدق الرسالة والدليل عليه.
ويفضل ابن رشد لفظ الرسل على لفظ النبوة، والرسل على لفظ الأنبياء. ويتحدث عن «بعث الرسل» للإشارة إلى جانب الرسالة أي علاقة الرسول بالمرسل إليهم وليس النبوة أي علاقة النبي بمصدر النبوة.
حاول المتكلمون إثبات النبوة بالقياس، قياس الغائب على الشاهد. لما ثبت أن الله متكلم مريد ومالك لعباده وجائز على المتكلم المريد المالك في الشاهد أن يبعث رسولًا إلى عباده المملوكين وجب أن يكون ذلك ممكنًا في الغائب.
وعيب دليل القياس لإثبات النبوة عند المتكلمين استنباطا من كلام الله وارادته وملكه للعباد هو التركيز على العلة الفاعلة وغياب العلة الغائية. غاية الرسالة تحقيق مصالح العباد في النظر والعمل. والنبوة ليست موضوعًا نظريًّا بل موضوعًا عمليا؛ إذ يمكن الوصول إلى الحقائق النظرية والأخلاقية ببداهة العقل وتصديق الواقع. فهل المطلوب من النبوة اثبات الله، مالك الملك، وأن الإنسان مملوك أم اثبات الإنسان، مصالحه وحقوقه؟ الدليل من خارج النبوة وليس من داخلها. ومن ثَمَّ تكون حجة البداهة في استحالة النبوة أقوى لأنها دليل داخلي.
والدليل على صدقه ظهور المعجزة عليه، ويغيب الدليل على أن المعجزة دليل على صدق الرسول، إما بإشارة من الله على ذلك أو من عادة ظهورها على الرسل. وذلك يدرك إما بالشرع أو بالعقل. ومحال أن يدرك بالشرع لأن الشرع لم يثبت بعد. ولا يستطيع العقل ذلك إلا إذا تكرر ظهور المعجزة مرات عديدة عليهم دون سواهم وهي طريقة مقنعة ولائقة بالجمهور إلا أن بها بعض الخلل في الأصول.
ويقوم دليل المعجزة على مقدمتين. الأولى أن هذا المدعى للرسالة ظهرت على يديه المعجزة. والثانية أن كل من ظهرت على يديه معجزة فهو نبي. المقدمة الأولى تؤخذ من الحس. فبعد ظهور المعجزة يتم التأكد أنها لم تستفد من صناعة أو خاصية. والثانية تصح بعد الاعتراف بوجود الرسل وبأنها لم تظهر إلا على من صحت رسالته. وهذا شرط القول الخبري الذي يبرهن على أن العالم محدث بشرط أن يكون معلومًا بنفسه أن العالم موجود، وأن المحدث موجود أي وجود الموضوع والمحمول. فابن رشد يفرق بين الجواز المعرفي والجواز الوجودي. الأول جهل، والثاني وقوع.
وبالرغم من موافقة ابن رشد على محاولة المتكلمين إثبات النبوة بالقياس لإبطال نفي البراهمة لها إلا أنهم لم يدركوا وجه الإعجاز والدلالة عليه. فأقاموا الإمكان بدل الوجود، وجعلوا كل من تصح منه المعجزة فهو رسول. وقد تظهر المعجزة على يد غير رسول مثل الساحر والولي. كما أن المعجزة لا دلالة لها على وجه قاطع إلا من حيث أن من يقوم بها يكون فاضلا. والفاضل لا يكذب. فالمعجزة وحدها دون الأخلاق دلالتها ظنية.
لذلك ينتقل ابن رشد من المعجزة إلى الإعجاز، من خرق قوانين الطبيعة إلى التحدي البشري، من الأشياء إلى الإرادة، من التقليد إلى الإبداع، من الوجود إلى القيم، ومن الله إلى الإنسان. لم يدع الرسول أحدًا عن طريق خوارق الأفعال، وقلب الأعيان. وما ظهرت عليه من كرامات وخوارق إنما ظهرت أثناء أحواله دون أن يتحدى بها. ويفضل ابن رشد الإعجاز لأنه يقوم على أصلين: الأول وجود الأنبياء والرسل معلوم بنفسه، وهم الذين يصنعون الشرائع للناس بوجه من الله لا بتعلم إنساني، ولا ينكر متواتر، فالتواتر مصدر العلم. واتفقت الفلاسفة وجميع الناس باستثناء الدهرية على وجود أنبياء ورسل يوحي إليهم، يفهمون الناس العلم والعمل وبها تتم سعادتهم، وينهون عن الاعتقادات الفاسدة والأفعال القبيحة. والثاني أن كل من قام بهذه الأفعال فهو نبي، وهو ما تقره الفطرة الإنسانية. فكما أن فعل الإبراء من الطيب كذلك وضع الشرائع بوحي من الله إلى النبي. وكلا الأصلين منصوص عليهما في الكتاب.
ويبدو أن ابن رشد ما زال يعزو للرسل بعض خوارق الأفعال والكرامات دون أن يجعله متحديًا بها لإثبات رسالته ومظاهر الشرع، بلغة ابن رشد، ليعلن نهاية المعجزات بالمعنى القديم، خرق قوانين الطبيعة، ليس فقط عند الرسل السابقين بل أيضًا عند خاتم الأنبياء. فدلالة القرآن على نبوة الرسول ليست كدلالة انقلاب العصا حية على نبوة موسى، ولا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على نبوة عيسى. تلك خوارق لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء. وهي مقنعة عند الجمهور. ولا تدل دلالة وضعية إذا انفردت لأنها ليست صفة داخلة في النبي بل خارجة عنه. أما دلالة إعجاز القرآن فهي دلالة داخلية مثل دلالة الإبراء على الطب عن طريق البرهان، وليس السير على الماء إلا عن طريق الإقناع. وعند الجمهور، من قدر المشي على الماء، وهو ليس من فعل البشر، أقدر على الإبراء الذي هو من فعل البشر. ومتى وجد الرسول، وقام بأفعال خارقة لا توجد صفة إلا منهم كان المعجز دليلًا على صدقه. وهو المعجز البراني الذي لا يناسب صفة النبي. وهو طريق لتصديق الجمهور فقط. أما المعجز الجواني، وهو الإعجاز فهو طريق تصديق العلماء لأنه الإعجاز البرهاني. وهو المعجز المناسب الأصلي والذي قد يقتنع به الجمهور أيضًا. هنا يجعل ابن رشد الجمهور لأول مرة يشارك ميزة العلماء.
لذلك لا يكون الإعجاز بالصرف أي منع الناس أن يأتوا بمثله لأن الصرف يمنع أن يكون الطرفان على نفس المستوى. طرف حر والآخر مُكبل، طرف طليق والآخر مقيد، طرف قادر والثاني عاجز منذ البداية. ففيم التحدي؟ وهل يجوز لمتسابقين أن يبدأ السباق، والأول طليق والثاني مقيد؟ لو حدث تكون النتيجة معروفة سلفًا ويثبت الإعجاز قدرة الله، وهي ليست في حاجة إلى اثبات وعجز الإنسان وهو موضوع البرهان. القول بالصرف يقضي على التحدي البشري إذ إن من شرط الإعجاز توفر الدواعي والقدرات على التحدي والإتيان بالمثل لا صرفها.
ولا يكون التحدي بصدق إنذار الأنبياء والإخبار عن المستقبل وما يتضمنه الكتاب من علم بالغيوب فذاك أقرب إلى الكهانة والعرافة والأزلام والأنصاب وضرب الأقداح وسائر فنون التنبؤ بالمستقبل عند العرب. والمعنى القديم للنبوة وهو الإخبار بالمستقبل. إنما يأخذ هذا الإخبار معنى جديدًا وهو التحقق من صدق النبوة في التاريخ أي في الواقع العريض الممتد من الحاضر إلى المستقبل. كما أن قصص الأنبياء يثبت تحقق النبوة أيضًا في التاريخ في الماضي. والقوانين واحدة، لا فرق بين التاريخ والطبيعة والمجتمع.
إنما التحدي في الإعجاز الأدبي عند قوم الفصاحة والبلاغة والبيان تراثهم القومي كما تمثل في الخطابة والشعر مهما اختلفت فصاحة العرب بين الأقل والأكثر. الفصاحة ليست من جنس الأفعال المعجزة لأنها قدرة بشرية على الإبداع. ولا حدود للإبداع البشري، ولا يفصل ابن رشد نواحي الإعجاز الأدبي كما فعل عبد القاهر في «النظم» و«التخييل» وسيد قطب في «التصوير». ولم يتناول الحروف الأولى في أوائل السور. يبدو أنه كان طبيبًا أكثر منه أديبًا بالرغم من تلخيصه وجوامعه على الخطابة والشعر. ويكتفي فقط بالحديث عن «النظم» الذي لا يأتي بفكر وروية كما هو الحال في نظم البلغاء المتكلمين بلسان العرب عن صناعة أم طبيعة.
ويفصل ابن رشد الإعجاز التشريعي باعتباره فقيهًا، فالشريعة الإسلامية أكمل الشرائع وخاتمتها بفضل التعليم الموضوع للمسلمين في معرفة الله والمعاد مقارنة بالشرائع اليهودية والمسيحية مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية كما يقول الشاطبي ولا تقوم على العقائد الإيمانية بل على تحليل علل السلوك الإنساني في الأوضاع الاجتماعية. يعزو ابن رشد إلى الأنبياء وضع الشرائع. وكما أن الإبراء قد يكون من الساحر أو الولي وليس بالضرورة من النبي فكذلك الشرائع قد تكون من وضع الحكماء وليس بالضرورة من تشريع الأنبياء. والحقيقة أن الشرائع تعبير عن مقاصد الوحي، وما الرسول إلا مبلغ عنها.
ولإثبات الوحي يقلل ابن رشد من شأن المعرفة الإنسانية ويجعل كل المعارف الإنسانية الأخلاقية والتشريعية من الوحي وكأن الإنسان عاجز عن أن يعرف بنفسه الصالح العام ووضع ذلك في الشرائع، ومعرفة جوهر النفس ومعادها. وإلا فماذا تكون دلالة «حي بن يقظان»؟ ولماذا لا يعرف ذلك كله بالعقل كما عرف اليونان والفرس والهند والصين الذين عظمهم المسلمون من أجل ذلك؟ وإذا كانت كل هذه المعارف في الكتاب العزيز فلماذا اختلف الناس فيها وتطايرت الرقاب في معرفتها وتأويلها. يبدو أن ابن رشد بلغة المعاصرين من أنصار أن «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية».
ميزة هذا الدليل أنه عملي إنساني أخلاقي وليس دليلًا صوريًّا عقليًّا جدليًّا مجردًا. وله عيوب كثيرة. فهو دليل احتمالي، لو كانت الشرائع من عند الله. وماذا يحدث لو لم تكن، وكان الاحتمال غير واقع، هل يبطل الدليل؟
والقول بفضل الكتاب على باقي الكتب المنزلة في الشرائع المفيدة علميًّا وعمليًّا يُرضي كل صاحب شريعة يدعي أن شريعته أفضل الشرائع كما هو الحال عند اليهودي والمسيحي والمسلم على حد سواء، بل والشرائع الفارسية والهندية والصينية وشريعة ما بين النهرين، فهوا دعاء كل أمة وكل كتاب. وإذا كانت التوراة والانجيل محرفين فلبهما واضح. القياس كله قياس أولى، وهو قياس تفضيلي أخلاقي عملي مثل الرهان وليس قياسًا منطقيًّا صوريًّا يقوم على الحدود، وينتهي إلى إثبات أفضلية شريعة على أخرى وليس فقط إلى أنها وحي من عند الله. دليل الأولى هنا أقرب إلى الإيمان منه إلى دليل العقل، قفز على المنطق بالوجدان.
ويقوم منهج ابن رشد على الارتداد، لا تعرف الشرائع إلا بعد معرفة الله والسعادة والشقاء ومعرفة النفس مع أن معرفة الله استقرائية بالنظر في الموجودات، ومعرفة الشرائع استقرائية لمصالح الناس. وهو استدلال عملي وليس نظريا مثل استدلال المتكلمين يقوم على الفقه ومصالح الناس وليس على المعرفة الخالصة.
وفي النهاية لا يختلف ابن رشد كثيرًا عن الأشعرية في الجدل، ومحاولة إيجاد أفضل البراهين لإثبات النبوة وصدق النبي، بنفس الروح وإن تختلف الصياغة وطرق البرهان.
(ﺟ) القضاء والقدر
في القضاء والقدر افترق المسلمون فرقتين، المجبرة والمعتزلة ثم توسطت الأشعرية بينهما بقولها إن للإنسان كسبا مخلوقًا لله. وهو تناقض يؤدي إلى الجبر. فلا وسط إلا وهو أقرب إلى الطرفين. الوسط لا وجود له أصلًا فليس الاكتساب إلا الفرق الذي يجده الإنسان بين حركة الارتعاش وحركة يده باختياره. والحركتان ليستا من قبله لأنه لا يملك القدرة على الامتناع عنهما. والاختلاف لفظي لا يوجب حكما في الذوات. قال المجبرة إن الإنسان مجبور على أفعاله ومقهور عليها. وترى المعتزلة أن للإنسان اكتسابا هو سبب المعصية والحسنة وما يترتب عليها من ثواب وعقاب. وقال الأشعرية بالتوسط بين القولين أنَّ للإنسان كسبًا، وأن المكتسب به والكسب مخلوقان لله. وهو تناقض لأنه إذا كان الاكتساب والكسب مخلوقين لله فالإنسان مجبور على اكتسابه. فالأشعرية ليست فرقة ثالثة بل هي أقرب إلى الفرقة الأولى، الجبرية، والمعتزلة هم أصحاب الكسب يستعمل ابن رشد لفظ اكتساب وهو لفظ أشعري لشرح موقف المعتزلة ولا يستعمل التعبير الاعتزالي وهو خلق الأفعال. وفي نفس الوقت يرفض الموقف الأشعري لأنه لا وجود له أصلًا. بل إن العنوان الذي اختاره ابن رشد أشعري «في القضاء والقدر»، يوحي بالشك بين الرفض والقبول وليس العنوان الاعتزالي. لقد ضحت الأشعرية بالإنسان في سبيل الله في الظاهر وفي سبيل السلطان في الحقيقة. فقد كان الأشاعرة فقهاء السلطة. لذلك يسمون «الأموية». فقد كانت النتيجة السياسية للأشعرية أولوية إرادة السلطان على القانون، يفعل ما يشاء ولا معقب على حكمه.
ثم تطور المذهب الأشعري. جوز قدماء الأشاعرة تكليف مالا يطاق هربًا من الأصل الذي نفته المعتزلة وهو كونه قبيحًا في العقل. ثم خالفهم المتأخرون منهم مثل أبي المعالي في «النظامية»؛ إذ جعل للإنسان اكتسابًا لأفعاله واستطاعة على الفعل بناء على امتناع تكليف مالا يطاق لكن من غير الجهة التي منعته المعتزلة. وتوسط أبي المعالي بين المعتزلة والأشاعرة مثل توسط الماتريدي.
والفريقان اللذان يقولان بالطرفين النقيضين، الجبرية والأشعرية من ناحية والمعتزلة من ناحية أخرى مخطئان. ومع ذلك فابن رشد مع الأشعرية في القول بالتوسط بالرغم من نقده للمقدمات النظرية لها. فهو أشعري دون أشعرية. والأسس النظرية الجديدة لا تختلف كثيرًا عن الأشعرية إلا باستعمال ألفاظ مثل القوى والأسباب والعوائق مما يوحي بالاعتزال في الظاهر وهي أشعرية في الحقيقة لأن الله هو خالقها ومزيلها.
والقضاء والقدر من المسائل الشرعية. نشأت من تعارض دلائل السمع وحجج العقول. ففي الكتاب هناك آيات تدل على أن كل شيء بقدر، وأن الإنسان مجبور على أفعاله. وهناك آيات أخرى تدل على أن للإنسان اكتسابًا بأفعاله وأنه ليس مجبورًا عليها. وقد يقع التعارض في الآية الواحدة. ويوجد نفس التعارض في الأحاديث. الإيمان والكفر أحيانًا مخلوقان لله، والعبد مجبور عليهما، وأحيانًا يكونان من صنع الإنسان وفعله.
ولما كانت الأسباب في العالم الخارجي تجري على نظام محدود بحسب ما قدرها الله عليه، وكانت ارادة الإنسان وأفعاله لا تتم إلا بموافقة الأسباب في العالم الخارجي فإن أفعاله تتم على هذا النظام المحدد في أوقات محددة وبمقدار محدد لأنها المسببة عن تلك الأسباب في الخارج. فهي مقدرة طبقًا لضرورة محددة مقدرة. ولا يمكن إنكار هذا الارتباط بين أفعال الإنسان والأسباب الخارجية بل بينها وبين الأسباب التي خلقها الله داخل الأبدان. هذا النظام المحدود في الأسباب الخارجية والداخلية هو ما يُسمى بالقضاء والقدر الذي كتبه الله على عباده. وهو اللوح المحفوظ، وعلم الله بها وبما يلزم عنها هو العلة في وجودها، لا يحيط بها إلا هو. وهو العالم بالغيب. ومعرفة الأسباب هو العلم بالغيب لأن الغيب معرفة الوجود واللاوجود في المستقبل. الغيب إذن ليس جهلا ولا سحرا ولا خرافة بل هو علم بالأسباب. والعالم يسير بالعلم بالأسباب وليس بالحيلة أو الإرادة أي الاهواء والقوى الغاشمة.
تتداخل الإرادة الإلهية مع الضرورة الطبيعية حتى لا يصبح للإنسان اختيار في أفعاله. فالله هو الذي سخر الأسباب في العالم الخارجي. بل إن الإرادة كشوق أو دافع أو تمثيل أو تصديق تعرض من الأمور في العالم الخارجي الإقدام والإحجام، المحبة والكراهية. كل ذلك مرهون بالعالم الخارجي، وليس بالعالم الداخلي، بالضرورة وليس بالحرية. لا يوجد تعارض إذن بين الموقفين، الجبر والكسب لأن الواقع متشابك يجمع بين الداخل والخارج، بين حرية الداخل وضرورة الخارج. ويتم الفعل بمجموع الداخل والخارج، الحرية والضرورة. قد تكون الضرورة الداخلية والضرورة الخارجية سببًا لإظهار حرية الفعل والثورة ضد الجبلة والمحددات الداخلية ومقاومة العوائق الخارجية. فالضرورة مناسبة لإظهار الحرية وليست نافيه لها. الحرية الداخلية دون ضرورة مجرد هوائية ذاتية، فارغة بلا مضمون، حركات عشوائية لا هدف منها ولا غاية، حرية عامة لا تتحقق في موقف، ولا تحرك تاريخًا. والضرورة الخارجية وحدها وضع الجماد بما في ذلك الشمس والقمر والجبال والسماء والأرض. بل إن هذه الضرورة أيضًا محددة بالخلق. البداية والنهاية ضرورة طارئة. كانت بعد أن لم تكن، ولا تكون بعد أن كانت.
وإذا كان السؤال: كيف توجد أسباب فاعلة لمسببات مفعولة ولا فاعل إلا الله؟ يجيب ابن رشد بأن حكيهما صحيح لسببين. الأول، يفهم من قول لا فاعل إلا الله أحد أمرين! إما أن لا فاعل إلا الله وأن ما سواه من الأسباب التي سخرها لا تسمى فاعلًا إلا مجازًا. وجودها به هو الذي صيرها موجودة وأسبابًا، يحفظ وجودها في كونها فاعلة، ويحفظ مفعولاتها بعد فعلها، ويخترع جواهرها عند اقتران الأسباب بها، ويحفظها في نفسها. ولولا هذا الحفظ لما وجدت في زمان محدد. يقول أبو حامد إن من يشرك سببًا من الأسباب مع الله في اسم الفاعل مثل من يشرك في فعل الكتابة القلم مع الكاتب. الإنسان كاتب، والقلم كاتب، الكتابة تقال باشتراك الاسم، معنيان لا يشتركان إلا في اللفظ مع أنهما متمايزان. ويرى ابن رشد أن هذا المثال تسامح. ويكون أفضل لو كان الكاتب هو المخترع لجوهر القلم والحافظ له والحافظ للكتابة المخترع لها عند اقتران القلم بها. فالله مخترع لجواهر جميع الأشياء التي تقترن بها أسبابها التي جرت العادة أن يقال إنها أسباب لها.
الله لا يخلق الأفعال بل الأشياء. أما الأفعال فتصدر عن الإرادات الإنسانية والقوى الطبيعية في الكون المخلوق. الإنسان صاحب أفعاله بمعنى مسئوليته عنها وليس خالقها بمعنى منشؤها كأشياء في الكون. الخلق هنا لفظ متشابه بمعنى الإيجاد لله وبمعنى المسئولية للإنسان. الوجود لله والفعل للإنسان، ولا تناقض بين الاثنين.
(د) الجور والعدل
ويعني ابن رشد بالجور والعدل الحسن والقبح شرعيين أم عقليين. ويبدأ بالجور قبل العدل مع أن التعبير الاعتزالي العدل والجور. ويأخذ ابن رشد هنا صراحة موقف المعتزلة ضد الأشعرية على عكس القضاء والقدر الذي لم يأخذ فيه بخلق الأفعال، وقال نظرية معدلة في الكسب تقرنه بالسببية.
يبدأ ابن رشد بنقد مقالة الأشعرية، وهو رأي غريب جدًّا في العقل والشرع بعد أن صرحت بما لم يصرح به الشرع. بل إن الشرع صرح بضده. ولا يقوم على قياس الغائب على الشاهد. بل إن الغائب هنا بخلاف الشاهد. فالعدل والجور ما تقره الشريعة. العدل ما عدله الشرع، والجور ما جوره الشرع. وما يخرج عن حجر الشرع فليس بعدل ولا جور. لا يوجد شيء في نفسه عدل أو في نفسه جور. وهذا في غاية الشناعة. فالعدل معروف بنفسه أنه خير، والجور معروف بنفسه أنه شر. والشرك بالله في نفسه جور، والتوحيد في نفسه عدل. وقد وصف الله نفسه بالقسط، ونفي عنه الظلم. ولا يمكن للشرع أن يقلب الجور عدلًا أو العدل جورًا.
وفي الجور ظن المتكلمون أن الافعال كلها تكون في حقه لا عدلا ولا جورًا وأنه ليس يتصف بالعدل أصلًا. وهذا إبطال للعقل ولظاهر الشريعة. وهو في الحقيقة موقف الأشاعرة وحده الذين ينكرون الحسن والقبح العقليين في العدل كما ينكرون قانون الاستحقاق في المعاد. بل أن الأشعرية جوزت أن يفصل الله ما لا يرضاه أو يأمر بما لا يريده. وهو كفر صراح. وهو اعتقاد خاطئ. فالناس لم يخلقوا للضلال فإذا كان ظاهر بعض الآيات أن الله يضل العباد وبالتالي يفعل الجور فإنها لا يجب أن تحمل على ظاهرها لوجود آيات أخرى معارضة لها ينفي الله عن نفسه الظلم ولا يرضى لعبادة الكفر ولا يضلهم. ويمكن الجمع بين الآيات المتعارضة بأن المشيئة السابقة اقتضيت أن يكون في أجناس الموجودات ضالين أي مهيئين للضلال بطبائعهم ومسوقين إليه بالأسباب الداخلية والخارجية. ولو شاء الله أن يخلق خلقًا معرضين للضلال من جهة طباعهم أي بأسباب داخلية وخارجية أو لكليهما معا. فالإضلال عن طريق الطبائع الشريرة مثل الأبدان الرديئة التي تكون الأغذية ضارة بها. وقد اقتضت الحكمة الإلهية خلق صنف من المخلوقات يكونون بطباعهم مهيئين للضلال وهو ما يبدو جورًا ولكنه في الحقيقة ليس كذلك لأن الطبيعة التي منها خلق الإنسان اقتضت أن يكون البعض أقل شرًّا وأكثر خيرًا والآخرون أكثر شرًّا وأقل خيرًا لأسباب داخلية وخارجية تسمح بإمكانية التحرك من الأقل خير إلى الأكثر، ومن الأكثر شرًّا إلى الأقل. فالشر ضروري لفهم الخير والإقدام عليه. والخير ضروري لفهم الشر والابتعاد عنه. لذلك تفهم الملائكة جعل الله آدم في الأرض خليفة خشية من شره؛ لأن الخير أغلب عليه. فإذا نُسب إلى الله الإضلال يكون ذلك في سياق اثبات العدل ونفي الظلم وخلق أسباب الضلال لأن الهداية أكثر. فالطبيعة أمام خيارين: إما عدم خلق الأنواع فيقدم الخير الكثير على الشر الأقل أو خلق الأنواع فيها الخير الأكثر والشر الأقل. وقد اختارت الطبيعة البديل الثاني. فالطبيعة عاقلة خيرة لأنها من خلق الله. الطباع الشريرة ليست حتمية أو نفي المسئولية لأن هناك الأسباب الخارجية واختيار الإنسان لها مع الطبيعة الداخلية. والطبيعة الداخلية مرة بفعل البلوغ والعقل والوعي الذي يتجاوز التربية والنشأة الاجتماعية والتركيب المزاجي والبدني. قانون ابن رشد احتمالي ففي الإنسان الخير فيه أكثر من الشر، والملائكة كلها خيرًا، والشيطان كله شر، ومن ثَمَّ يصبح الإنسان مجال الحرية والحركة والاختيار في حين أن الملاك والشيطان كلاهما مجالان للحتمية.
والحكمة في ورود هذه الآيات المتعارضة في هذا المعنى مما يؤدي إلى التأويل بالرغم من خطورته وخروجه على ظاهر الشرع هو اضطرار تفهيم الجمهور إلى أن الله موصوف بالعدل، وأنه خالق كل شيء، الخير والشر لما أعتقد كثير من الأمم بوجود إلهين، إله للخير وإله للشر. ولما كان الإضلال شرًّا ولا خالق إلا سواه وجبت نسبة الشر إليه. ومع ذلك هو خالق للخير من أجل الخير وللشر من أجل الخير. ومن ثَمَّ يكون خلقه للشر عدلًا مثل خلق النار التي تدفئ وتحرق، ولكن دفأها أكثر من حرقها، وخيرها أكثر من شرها. فعلم الكلام علم بيئي ثقافي اضطر إلى جعل الله خالقًا للخير والشر كرد فعل على وجود أمم تقول بإلهين. علم الكلام جزء من تاريخ الأديان القديم.
والموضوع يجمع بين خلق الأفعال والحسن والقبح. الله لا يضل لأن الضلال جور وكأن الحسن والقبح العقليين محددان للإرادة الإلهية. والقول بأن الله يفعل ما يشاء وإنكار العدل والجور في ذاتيهما هو تبرير للسلطان أن يفعل ما يشاء دون الالتزام بقانون أو دستور أو قيم اعتمادًا على القوة. فالعدل والظلم ما يقرره السلطان لا ما يقرره القانون. ويصطدم تحليل ابن رشد بقضية الأخوة الثلاثة التي على أساسها ترك الأشعري الجبائي في مسألة العدل والجور. ولماذا يكون البعض مهيئين للضلال أكثر من الهداية وآخرون مهيئين للهداية أكثر من الضلال؟ ألا تقوم الحكمة الإلهية هنا بتبرير الشر في العالم من أجل اثبات الخير؟ ولماذا يكون المريض هو الضحية لإثبات الصحة، والقتيل هو الضحية لإثبات الحياة؟
ومع ذلك يرفض ابن رشد الواجبات العقلية التي تقول بها المعتزلة فلا يجب على الله شيء كما تقول الأشعرية. الواجبات تقتضي أن يكون الله في حاجة ضرورية أو في حاجة يكون بها تامًّا، والله منزه عن الاحتياج والنقص لأنه كامل وعادل. وعدله ليس كما يتصف به الإنسان وإلا كان نقصًا. بل يتصف بالعدل لأن أفعاله في حقه عدل وجور لا كما يدعي المتكلمون من أن أفعاله في حقه لا عدلًا ولا جورًا. فهذا قضاء على العقل، وإبطال لظاهر الشريعة بإنكارهم العدل في ذاته والجور في ذاته، فابن رشد لا هو مع الأشاعرة ولا هو مع المعتزلة بل هو مع الطبيعة التي تجمع بين الضرورة والحرية.
(ﻫ) المعاد
وتقوم الأدلة مثل أدلة علم الكلام كله قياسًا على الشاهد. والشاهد تزكية النفس في الدنيا والأعداد للمستقبل أي العلة الغائية والقصد نحو الكمال والعمل الصالح وأثره على الفرد والمجتمع والتاريخ. ومن ثَمَّ يكون الخلود إما للنفس وإما للنفس والبدن وإما للعمل والفكر والأثر والتاريخ بعيدًا عن الثنائية التقليدية بين النفس والبدن، والسعادة والشقاء، الأخرويين والدنيويين، في حياة الاخرين وليس فقط في حياة الفرد، في قلوب الناس وفي تاريخ الحضارة. خطورة الثنائية التقليدية التضحية بالسعادة في الدنيا من أجل نيل السعادة في الأخرة؛ إذ يقوم دليل ابن رشد على ثنائية مبدئية بين الخير والشر، الفضيلة والرذيلة، النفس والبدن، السعادة والشقاء دون الأخلاق الاجتماعية مثل العلم والجهل، التقدم والتخلق، العدل والظلم، الحرب والسلام من أجل تغيير الاوضاع الاجتماعية. وهو أقرب إلى الحجج الإحراجية التي تحاصر الإنسان وتتهمه إذا رفض خلود النفس وتثني عليه إذا أثبته، ومن ثَمَّ يبرز سؤالان: هل هناك قوتان في النفس، نظرية وعملية أم قوة واحدة؟ وهل الأمور النظرية معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، وهو مضمون الإيمان التقليدي، أم هي الأسس النظرية لفهم الإنسان والمجتمع والتاريخ؟
وفي الشرع دليل على بقاء النفس في الكتاب، وهو التشابه بين النوم والموت في تعطيل قوى النفس. فلو كان تعطل فعل النفس في الموت بسبب فسادها لا بتغير آلتها فيكون تعطلها في النوم أيضًا لفسادها. ولو حدث ذلك لما عادت إلى اليقظة. ومن ثَمَّ يكون هذا التعطل لا لأمر في جوهرها وانما لتعطل آلتها. وتعطل الآلة لا يؤدي إلى تعطل النفس. والموت مجرد تعطل للآلة مثل النوم وبرهان مشابه لبرهان ابن سينا. لذلك سمي النوم الموت الاصغر في مقابل النوم الاكبر. ولا يذكر ابن رشد حديث الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا الذي يذكره الصوفية.
ويلجأ ابن رشد إلى تاريخ الاديان المقارن بين اتفاق الشرائع كلها على المعاد. ولا يحاجج المنكرين له مثل الصدوقيين في اليهودية والدهريين في الإسلام. لم يستثمر ابن رشد تاريخ الاديان بما فيه الكفاية بالرغم من إعلانه أن الشريعة الإسلامية آخر الشرائع. ولم يرصد مسار التطور للشريعة حتى الكمال.
والحقيقة أنهم فرقتان. الأولى التي تقول بالتشابه بين العالمين، والثانية التي تقول بالتباين بين العالمين. ثم تنقسم الثانية إلى فرقتين. الأولى التباين بين الجسماني والروحاني والثانية بالتشابه بين الجسماني في العالمين والتباين في الكيف. ولا يحدد ابن رشد رأي الطائفة الثانية التي تقول بالمعاد الروحاني، والأغلب هم الحكماء خاصة ابن سينا. والغريب أنه بعد أن يترك ابن رشد لكل إنسان الحق في تبني أي نظرية يريد بحيث لا يبطل الأصل وهو إنكار الوجود جملة يكفِّر من ينتهي إلى هذا الإنكار لأنه ينكر ما هو معلوم من الشرع والعقل.
(٥) قانون التأويل
ويعقد ابن رشد خاتمة بعنوان «قانون التأويل» أي المنهج الذي وراء علم الكلام والذي يسبب كثيرًا من أخطاء المتكلمين. وهو قانون أي منهج دقيق ومحكم. هل فالتفسير هو الوسيلة للانتقال من الفهم إلى التعبير. وهو يعادل نظرية المعرفة في الحضارة النصية، كيفية التعامل مع النص، العلاقة بين النص والشعور من ناحية والنص والعالم الخارجي من ناحية أخرى. وهو أقرب إلى الفتوى الفقهية مثل «فصل المقال» إجابة على سؤال ما يجوز تأويله ومالا يجوز.
وهذا التقسيم قريب من أحكام الأصوليين في الحقيقة والمجاز فالصنف الأول هو الحقيقة عند الأصوليين، والصنف الثاني هو المجاز بأقسامه، الأول فرض للجمهور، والثاني فرض للعلماء ولا يفصحون به للجمهور، والصنف الثاني هو المجاز بأقسامه. ويقوم على بنية محكمة بالرغم من عدم تعادل الصنفين الرئيسيين كما، الأول قسم واحد والثاني أربعة أقسام الصنفان الكبيران متقابلان، الحقيقة والمجاز. والقسمان الصغيران الأول والثالث من الصنف الثاني متقابلان. والقسمان الثالث والرابع أيضًا متقابلان. والقسم الرابع، المثال بعلم بعيد والسبب بعلم قريب قد لا يبدو معقولا. فمعرفة المثال بعلم قريب والسبب بعلم بعيد. ومن ثَمَّ كان القسم الثالث أولى. والقسم الثاني هو الموجود في الشرع بالفعل أي التمثيل على المعاني، وضرب الأمثال. وهو ما سماه الأصوليون قياس الغائب على الشاهد. ويستحيل الصنف الأول أن يكون المعنى الذي صرح به الشرع هو بعينه المعنى الموجود في نفسه. فهذه الموضوعية التامة لا وجود لها. الكتاب لا ينطق إنما ينطق به الرجال. وهو حمال أوجه، نص مقروء وليس نصًّا صامتًا. وتتعدد القراءات بتعدد القراء وطبقًا لأمزجتهم وأهوائهم وثقافاتهم ومالحهم وأوضاعهم الاجتماعية. وقد تقابل الأقسام الأربعة. الأول للحكماء، والثاني للفقهاء، والثالث للمتكلمين، والرابع للصوفية.
هل يكشف التأويل مالم يأذن به لله ورسوله؟ وإذا كان أداة شرعية فمن الطبيعي أن يؤدي إلى علوم التأويل. وإذا كانت بعض أقوال الصحابة تفيد ذلك فإن المقصود التوجه نحو العمل وليس نحو النظر بعيدًا عن المتاهات والتنظيمات. هل التأويل امر شرعي مثل الاحكام الشرعية أم هو أداة في يد المتكلم أو الحكيم أو الصوفي للغوص في معاني النصوص؟ ليس التأويل حكمًا شرعيًّا بل حاجة معرفية من أجل تطابق الوحي والعقل والطبيعة بعيدًا عن الازدواجية في الفكر والسلوك. التأويل عملية اجتماعية وواقع ثقافي، لها قوانينها الخاصة، لا يوقف بتحريم، ولا يذاع بتحليل. ولو حرم التأويل ونشأت دوافعه لظهر. ولو أوجب التأويل ولم تظهر دوافعه لما نشأ. لا يأتي ولا يذهب التأويل بتحريم أو تحليل مثل الفتوى الفقهية بل هو عملية معرفية لتطابق الوحي والعقل والواقع، وعملية اجتماعية كجزء من عملية التغير الاجتماعي من خلال التراث أو كسلاح سياسي في الصراع الدائر بين القوى السياسية في المجتمع. وربما هي عملية فردية أخلاقية لتبرير أفعال وتحريم أخرى.
والحقيقة أن التأويل ليس في الشريعة بل في بعض الصور الفنية أو الجور أو الظلم. لذلك من الافضل استعمال لفظ الوحي او الدين بدلًا من الشريعة لأن الشريعة لا تأويل فيها كما تفعل الشيعة في تأويل الشريعة. وهنا يبدو ابن رشد فقيهًا أكثر منه حكيمًا في استعمال لفظ الشريعة. وهو ليس كشف إلهيًّا أقرب إلى العلم اللدني بل منهج عقلي واستدلال منطقي وتحليل للتجارب الحية وإدراك لواقع خارج النص ورؤية لداخله من صنع الفقيه أو المؤول أو المفسر أو الحكيم بناء على منطق التأويل.
والحقيقة أن سبب التأويل راجع إلى اختلاف فطر الناس طبقًا للخلق الفردي، واختلاف مستوى التعليم طبقًا للظروف الاجتماعية والاستعدادات الطبيعية، واختلاف العمق في النفوس، فلكل نفس أفق مستقل، ولاختلاف التجارب الإنسانية طبقًا لمراحل العمر وطبقًا لما يمر بالإنسان من أحداث وعلاقات اجتماعية، ولاختلاف في التذوق الفني والإحساس بالحياة، ولاختلاف في درجات الإبداع وشجاعة الإعلان يرجع التأويل إذن إلى اختلاف القدرات الفردية. والنص نفسه حمال أوجه لما فيه من تشابه يسمح بإبراز القدرات الفردية واختلاف المصالح عبر تغير العصور وأنواع المجتمعات.
إن مشروع ابن رشد كله هو الكشف عن التأويل الخاطئ في أقاويل الشريعة بداية بعلم الكلام. وهو الموضوع المنهجي المحوري في الضلال وفي الإصلاح، مشروع لمقاومة الخطأ، الخطأ في نظرية المعرفة الحضارية، التأويل، ويخاطب ابن رشد القارئ كما هي العادة عند إخوان الصفا لإشراكه في مشروع حضاري مشترك، فالقارئ جزء من المؤلف، والجمهور جزء من المتكلم.
والسؤال الآن: هل نقد ابن رشد علم الكلام دفاعًا عن الفلسفة أم إنه أقام علم كلام فلسفي جديد؟ لقد استبدل ابن رشد لفظا بلفظ مع بقاء الإشكال الكلامي. استبدل بالحادث الضروري، وبدليل الإبداع دليل الاختراع. وأبقى على بعض الألفاظ القديمة مثل الذات والصفات والأفعال والعناية. واستعمل أسلوب المتكلمين الذي يتخيل المعترض سلفًا ويرد عليه «فإن اعترض معترض وقال»، «فإن قيل». والشارع هو الله أو الرسول وليس الشريعة الوضعية كما يقول الشاطبي. ولم يخل ابن رشد من الثنائيات التقليدية المعروفة، العامة والخاصة، الظاهر والمؤول، الشريعة والحكمة، الدنيا والآخرة … إلخ. لم يستطع التخلص من الأشعرية أو يطور الاعتزال مما يطرح سؤال: هل كان ابن رشد أشعريًّا؟
(٦) من نقد الكلام إلى الدفاع عن الفلسفة
إذا أثبت ابن رشد في «مناهج الأدلة» خطأ الكلام باسم الفلسفة فإنه يثبت في «تهافت التهافت» صحة الفلسفة باسم الكلام، وأن الحكمة متفقة مع الشريعة وإذا كان «مناهج الأدلة» نقدًا للكلام من داخل الكلام فإن «تهافت التهافت» نقد للكلام من خارج الكلام باسم الفلسفة.
معركة أبي الوليد مع أبي حامد نقد للكلام ودفاع عن الفلسفة في «تهافت التهافت» بعد أن كانت معركة أبي حامد نقد الفلسفة دفاعًا عن الكلام في «تهافت الفلاسفة». «تهافت التهافت» نقد لعلم الكلام دفاعًا عن الفلسفة ضد هجوم الغزالي على الفلسفة باسم علم الكلام في «تهافت الفلاسفة». الغزالي لا يمثل شخصه بل يمثل علم الكلام. وهجومه على الفلسفة إنما ثم باسم على الكلام ودفاعه عن الشرعية الدينية والسياسية للدولة. وعندما يرد ابن رشد فإنه يرد على الكلام باسم الفلسفة وزعزعة شرعية السلطة الدينية والسياسية باسم الفلسفة. الكلام عقيدة السلطان والفلسفة أداة المعارضة.
ويعني ابن رشد بالمتكلمين علم الكلام وليس الأصوليين على الإطلاق المتأخرون منهم أفضل من المتقدمين؛ لأنهم أقرب إلى الفلسفة بعد أن تحوَّلت الفلسفة إلى بطن الكلام بعد نقد الغزالي لها.
ويستعمل ابن رشد منهج البحث عن الدوافع في هجوم المتكلمين على الفلاسفة من أجل تحديد كل علم كمقصد، بداية ونهاية، نشأة واكتمالًا. دافعهم حماية الاعتقاد ولكن حصيلة فكرهم يجعل تعرض عن الحق. أما الفلاسفة فإنهم يبحثون عن الحق وكانت حصيلته الدفاع عن الإيمان.
(أ) حدود الكلام
الكلام له حدوده. ولا يمكن تجاوزه كي يصبح فلسفة الكلام والفلسفة تحطان فكريان يمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر كما فعل الكندي الذي انتقل من الكلام إلى الفلسفة وكما فعل الغزالي عندما انتقل من الفلسفة إلى الكلام ولكن لا يمكن تطوير الكلام كي يصبح فلسفة نظر الحدود العقل الكلامي، تبرير الدين، المنهج الجدلي، القول الخطابي، سوء استخدام العقل على عكس الفلسفة كنمط عقلي خالص تبحث عن الحقيقة وتعتمد على البرهان والتحليل العلمي للطبيعة. هناك إذن علمان متمايزان، الكلام والفلسفة. وهو نفس التقابل الآن بين الجماعات الإسلامية المعاصرة من ناحية والإسلام المستنير أو اليسار الإسلامي من ناحية أخرى.
ولما عجز المتكلمون عن الرد على اعتراض الفلاسفة على حدوث العالم لجئوا إلى التمثيل بالإرادة. كل فعل إنما يصدر عن حي عالم. ومن الصعب اثبات وجود الله من حدوث الأشياء على ما تشاهد من حدوث الأجسام قياسًا للغائي على الشاهد. ومقدمات الدليل لا تؤدي إلى المطلوب اثباته. فإذا كان غرض المتكلمين نبيلا فإن الطريق إليه عسير وفاسد ومموه. دليل الحدوث عند المتكلمين ضعيف في منطق الاستدلال عند الفلاسفة. فالنتيجة، مالا يخلو من الحوادث فهو حادث هو كذلك بالجنس وليس بالموضوع. كما أن المقدمة الثانية لا يمكن أن تسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية مصادرة على المطلوب، وإيمان مقنع وحكم مسبق وفكر ديني يمهد إلى إثبات العلة الأولى.
وعلاقة الذات بالصفات هو الموضوع الرئيسي الذي يأخذه ابن رشد كمثال على ضرورة تجاوز الكلام إلى الفلسفة سواء في بدايته، القدم والحدوث أو في نهاية الأسباب والمسببات. نفي التراث والصفات يبدو التصور الكلامي الأشعري المشخص، الصفات زائدة على الذات. ويبدو تصور الفلاسفة لواجب الوجود تطويرًا لتصور المعتزلة، الصفات عين الذات. الكلام بداية الفلسفة، والفلسفة نهاية الكلام. يجوز المتكلمون من الأشعرية على المبدأ الأول الكثرة إذ يجعلونه ذاتًا وصفاتًا ويرد الفلاسفة ضرورة تعدد العلم والمعلوم إلى اتحادهما من جهة البرهان دفاعا عن حق القديم ورد ضرورة تعدد الصانع والمصنوع لأن الله لا يعرف إلا من ذاته. وهو قول فاسد من جهة مقابلة، الفاسد بالفاسد، وتصحيح الخطأ بالخطأ. ليس عند الأشعرية برهان على تأخر المفعول عن فاعله، وليس عند الفلاسفة برهان على اتحاد العلم بالمعلوم. وفي الشاهد يتمايز العلم عن المعلوم وليس عند الفلاسفة برهان على اتحادهما. يظل التعدد ظنا والتوحد ظنا، ظن المتكلمين في مقابل ظن الفلاسفة.
ومع ذلك فالفلاسفة أقرب إلى التفكير العلمي من المتكلمين والمتكلمون أقرب إلى التفكير الديني من الفلاسفة. فالخلاف بين الفريقين هو الخلاف بين الدين والعلم، بين الظن واليقين. فكل ما كان معروفا معرفة يقينية لا يوجد برهان يناقضه. وكل ما وجد برهان يناقضه فهو ظن. والكلام يناقض البرهان فهو ظن. والفلسفة لا يناقضها البرهان فهي يقين. الخلاف بينهما في درجة الإحساس بالتنزيه مثل الوسائط كدليل على الحكمة يثبتها الفلاسفة وينكرها المتكلمون خشية الشرك. عند المتكلمين يمكن أن تحل صورة الإنسان في التراب من غير وسائط، ولكن الفلاسفة يقولون بالوسائط كدليل على حكمة الخالق وقدرته.
(ب) رحابة الفلسفة
واللازم للأشعرية ليس نقل القديم عن العجز إلى القدرة؛ لأنه ليس عاجزًا من لم يقدر على فعل الممتنع وإنما اللازم لهم انتقال الشيء من طبيعة الامتناع إلى طبيعة الوجود؛ مثل انقلاب الضروري ممكنًا، والممكن ممتنعًا أي إعطاء الأولوية للإرادة على الحكمة، وللعلة الفاعلة على واجب الوجود. ولو ارتفعت الضرورة من الأشياء المصنوعة وكيفياتها وموادها كما تتوهم الأشعرية في المخلوقات مع الخالق لارتفعت الحكمة الموجودة في الصانع وفي المخلوقات وخطورة ذلك على العدل. فالعلة الفاعلة تقضي على فاعلية الإنسان واكتسابه وأثره على الموجودات. يفهم الأشعرية المجاز بطريقة تنكر خلق الإنسان لأفعاله. جحدوا الأسباب المحسوسة، وأنكروا الأسباب والمسبِّبات، وهو نظر خارج عن الإنسان بما هو إنسان. وكذلك فهمت الأشعرية التخصيص على أنه تمييز الشيء إما من مثله أو من ضده من غير أن يَقتضي ذلك حكمة. خطأ الأشاعرة هو في تصوُّر الله تصورًا مشخصًا بمفاهيم القدرة والعجز وليس بمفاهيم الفلسفة، الممكن والمستحيل والواجب.
وتقول الأشعرية إنَّ كل تركيب مُحدث. ثم أضافوا مقدمة ثانية. ولا يُفضي هذا الدليل إلى إثبات وجود الله، بل إلى إثبات أول ليس بحادث، وإثبات موجود قديم يتمُّ بدليل الأشعرية. ولكن الحدوث الذي صرح به الشرع هو نوع من الحدوث المشاع في هذا العالم والذي يوجد في تصور الموجودات والتي يسميها الأشعرية صفات نفسانية وتسميها الفلاسفة صورًا. والخلاف بين الأشعرية والفلاسفة هو قول الأشعرية بالاختراع من لا شيء. والقديم لا يحتاج إلى علة حدوث. وعند الفلاسفة وصف الوجود والقديم لا يحتاج إلى علة حدوث. وصف الوجود بالقديم وبالعلة إلى ماضٍ ومستقبل هَوسٌ وتخليط؛ لأنه يجعل الحدوث في الله. وقد عسر عليهم القول بأن العالم قديم أي إنه متقدِّم بأشياء قديمة، وفضَّلوا حدوث العالم على قدمه. وما حكاه أبو حامد عن الأشعرية من أنهم يُجوِّزون حدوث جوهر قائم بذاته ولا يُجوِّزون عدمه مذهب في غاية الضعف. ويمكن إطلاق اسم الحدوث على العالم كما أطلقه الشرع لا كما أطلقه الأشعرية. ويُقارن ابن رشد دليل الأشعرية على حدوث العالم ودليل الفلاسفة على قدمه. ويطالب حكم القارئ أي الدليلين أقوى برهانًا؟
ويذكر المعتزلة مع الأشعرية باعتبارها أهم فرقتَين في الملة. ولكن تذكر المعتزلة أولًا من حيث الأهمية، ومن حيث قربهم من الفلاسفة؛ ومن حيث الترتيب الزماني أيضًا. فالمعتزلة تسبق الأشعرية والأشعرية ردَّة اعتزالية.
يذكر ابن رشد المعتزلة في عدة موضوعات مستقلة دون قرنها بالأشعرية. وفي مقدمتها ما تميزت به المعتزلة في اعتبارهم المعدوم شيئًا وهو ذات؛ وذلك لأن العدم مقابل الوجود، والوجود شيء وهو ما يتَّفق مع الفلاسفة. وجعلوا الذات متغيرة من الوجود قبل كون العالم. وأقاويلهم على أنه شيء يخرج من لا شيء غير صحيحة لأن دليلهم أنه لو خرج شيء عن شيء لمر الأمر إلى ما لا نهاية ضعيف.
وفي موضوع الفعل ترى المعتزلة أن الأشياء لا تصدر عن الفاعل للشيء صدورًا أوليًّا كما ترى الفلاسفة بل أقرب إلى تشخيص الأشعرية والحاجة إلى فاعل ضروري لمفعول ممكن.