الفصل الثاني عشر

التهور

ففي ذات يوم خرجت روزه إلى الحديقة عند غروب الشمس، وأخذت تسير الهوينى بين الأشجار والرياحين، وهي كلما وقعت عيناها على زهرة جميلة أسرعت إلى اجتنائها، حتى جمعت مقدارًا وافرًا، فضفرت منه إكليلًا، وزينت به رأسها، وجعلت ما بقي فوق صدرها فإذا بها كآلهة الجمال، وأخذت تتثنى بين الزهور والورود فتعيرها لونًا من ورد وجنتيها، وتزري بأغصان البان قدًّا واعتدالًا، وهي سكرى بخمرة الحب ونشوة الصبا، وبعد أنْ خطرت نحو ساعة في تلك الروضة الغناء استولى عليها التعب، وعقد العرق لؤلؤًا على جبينها الوضاح كزنبقة رصعها ندى الصباح، فاتخذت لها مكانًا أمام جدول الماء الصافي، ولم يستقر بها المقام حتى رأت أباها مقبلًا، فأسرعت إليه وعانقته. وكان والدها كلما طال نظره إليها يزداد شغفًا بها فيعود إلى ضمها وتقبيلها، ذاهلًا عن وجود شخصين كانا قادمين برفقته لأشغال لهما معه، فبعد أنْ أروى غليل القلب من عناق ابنته، عاد إليهما معتذرًا، وسار معهما إلى غرفة قريبة من مدخل الحديقة، قد خصصت للمفاوضات في أمور الأشغال.

فعادت روزه إلى مكانها، وأخذت تسرع نظرها في الفضاء، وكان القمر قد لاح في قبة السماء، فأرسل ضوءه من خلال الأغصان مبددًا جيوش الظلام المتكاثف حولها، وهَبَّ النسيم يداعب شعرها الحريري، ويلاعب عطفها المياس، فتغار الأغصان من لينه، فيُسمع لحفيف أوراقها تنهدات فيها خرير المياه.

وبعد قليل سمعت وطء أقدام قريب، فمالت بنظرها نحو الحديقة فرأت عزيزًا، فأسرعت إليه والسرور يتلألأ في محياها، ولم يتمالك عزيز لدى رؤيتها أنْ صاح: ما أجملك يا روزه! وما أعظم سلطانك على قلبي! إني كلما أطلت النظر إليك وأكثرت من معاشرتك، يظهر لي من سحر جمالك ونبل صفاتك أسرار لم أكن أدركها قبلًا، فيا حبذا لو تعلمين مقدار حبي وافتتاني بك.

فابتسمت روزه وهمَّت أنْ تجيبه، ولكنها توقفت إذ رأته قد ابتعد عنها خطوة وقال لها بصوت خافت: إني أسمع صوت أناس قريبين منا.

– هذا أبي وزائران في الغرفة المحاذية لنا، يتذاكرون في أمور تختص بأشغالهم.

فأصغى عزيز قليلًا، وإذا بأحدهم يقول: «سأشتري خمسين ألف قنطار»، فأجابه آخر: «تلك مجازفة»، فقال يوسف: «كلا، فإن أسعار القطن لا بدَّ أنْ ترتفع ارتفاعًا عظيمًا.» فقال الثالث: «لقد جرأتماني على الاتحاد معكما.»

فأصاخ عزيز سمعًا لحديث القوم، حتى إذا ما انفض مجلسهم تأكد لديه أنَّ الأسعار ثابتة الارتفاع، فوسوس له حب الكسب ابتياع كمية وافرة من القطن على حسابه الخاص؛ لينال منها أرباحًا طائلة، ولكن أنَّى له المال للحصول على بُغيته، ذلك كان شغله الوحيد وفكره الجديد، فلحظت روزه منه بعض الارتباك فسألته عن ذلك، فلم يشأ أنْ يبوح لها بشيء، ثم صعدا إلى القصر حتى حان وقت العشاء، فجلسوا على المائدة، وكل منهم لاهٍ بفكره عن غيره، فيوسف يؤمل النفس بالأرباح الطائلة، وعزيز يبحث في سره عن وسيلة تمكنه من إحراز الثروة، وروزه تجهد النفس في معرفة الأسباب التي أوجدت في عزيز بعض التغيرات؛ ولذلك كان السكون مخيمًا عليهم، لا يسمع بينهم سوى قعقعة الصحون، وبعض كلمات موجزة دارت على أفواههم، ثم نهضوا عن العشاء، وجعلت روزه توقع بعض الأنغام على البيانو، ووالدها وعزيز يدخنان في زاوية أخرى، وكلاهما متظاهر بالإصغاء إليها، ولم يكن إلَّا قليل حتى انتصب عزيز فجأة، وظهر على محياه ابتسامة الظفر لفكر مر في خاطره فأمله بالفوز العظيم، فودعهما وخرج هائمًا يخبط في هواجسه، فتارة يثب وثبة الفرح والابتهاج، كأنه بلغ ذروة المجد والإثراء، وطورًا يقف مذعورًا تتنازعه الأفكار ويصارعه الجزع.

ولما كان اليوم التالي، أقام يوسف حفلة شائقة تذكارًا لمولد ابنته التي قد أتمت سنتها الثامنة عشرة، فدعا إليها بعض المقربين من أصحابه، ولما دنت الساعة المعينة وفد المدعوون تباعًا، فكانت روزه تقابلهم بوجهٍ يتلألأ بشرًا وإيناسًا، حتى امتلكت أفئدة القوم بباهر طلعتها وسحر بيانها، وكانت صديقتها ماري أول من حضر مع أخيها فريد، الذي اتخذ له مكانًا قريبًا من روزه، وجعل يراقب حركاتها ولفتاتها وفي وجهه ما يترجم عن خفوق فؤاده وشدة إعجابه بها، ثم أخذ يحادثها بمواضيع لم تخرج عن دائرة الدعوة، معجبًا بكمال الزينة وسلامة الذوق، مادحًا كرم الضيافة، متهللًا بالأصوات الجميلة التي كانت تحرك القلوب على نغمات الأوتار، أما روزه فكانت تصغي إلى كلامه وعيناها شاخصتان إلى الباب، كأنها تنتظر قدوم واحد من الأصحاب، ولم يكن إلَّا قليل حتى أقبل عزيز فتهلل وجهها فرحًا، وبرقت عيناها سرورًا بما أوضح لجليسها أنَّ هذه هي الضالة التي تنشدها، ثم أقبلت إليه تحدثه بعبارات ملؤها الرقة والحب، وانتقلت بعد ذلك إلى غيره فغيره فغيره، مظهرة من اللطف ورقة الجانب ما جعل الجميع مأخوذين بسحر بيانها، ولطف حركاتها، ولبثت على تلك الحالة متنقلة من مكان إلى آخر حتى انتهت إلى صديقتها ماري، وكانت جالسة على مقربة من عزيز تحدثه وعلائم الانشراح بادية على محياها، فاقتربت منهما روزه ونظرت إلى ماري نظرة تعني بقولها: «أرأيت ما أجمله؟» أما عزيز فلم يقوَ على الثبات أمام تلك النظرات الطاهرة فنهض هاربًا من أمامها، أما روزه فسارت مع صديقتها بين صفوف المدعوين إلى أنْ انتهت إلى حيث كان فريد جالسًا على انفراد، وأفكاره سابحة في بحور الهواجس، فلما شعر بدنوها انتعش فؤاده لما رأى من اهتمامها به، ونهض إجلالًا لها، فقالت له: علام أنت منفرد هنا يا سيدي، كأنك تأبى مشاركة الجميع بأفراح هذه الليلة.

– كلَّا يا سيدتي، بل أراني في ذروة الفرح والسرور لوجودي بينكم، وأحسب هذه الدقيقة التي شرفتني فيها سيدتي ببعض عنايتها لهي أسعد أوقات حياتي.

فشكرته روزه بابتسامة أجهزت على فؤاده الجريح، ودعته لمجالسة الجميع المتألبين حول موائد المدام، فسار وامتزج معهم، وأخذ يحدثهم في كل موضوع مستطاب، ويورد الأحاديث المفيدة، والنكات المستظرفة برقة وفصاحة لا مزيد عليهما، مما دل على سعة اختباره، وعلو مكانته في العلم والأدب، فاشرأبت إليه الأعناق وحدَّقت إليه الأبصار، والكل معجب بذكاء عقله وقوة جنانه، وبعد قليل صدحت الموسيقى بأنغامها اللطيفة، تلاها أصوات المغنين فكف القوم عن الحديث، وجلسوا يترنمون على نغمات المثالث والمثاني، ويرسلون أصوات الابتهاج ويبدون إشارات الاستحسان.

وفي أثناء ذلك لحظت روزه بعض التغيير في حركات عزيز وسكناته، إذ أصبح محبًّا للانفراد، وكثيرًا ما سألته عن السبب فكان يتكلف الابتسام محاولًا إخفاء ما يقلق فكره ويتنازع لبه من الأسرار، فتأثرت لحالته اعتقادًا منها أنه دائم الاهتمام في إيجاد واسطة ينال بها ثروة تؤهله للاقتران بها، وهي بغنى عن كل ذلك ما دام أبوها غنيًّا وهي الوحيدة عنده، فأخذت تباحثه برقتها المعهودة ودلالها الفتان؛ لتسرِّي عنه ذلك الاضطراب. أما هو فلم يزده ذلك إلَّا تألمًا وعذابًا، إذ رأى نفسه دونها منزلةً وإخلاصًا، فإنه على شدة هيامه بها يشعر بميل عظيم نحو ماري، ويرتاح لرؤيتها واستماع حديثها، ولكن إذا غابتا كلتاهما من عينيه لا يفكر إلا بروزه، ولا يكون لماري نصيب من الذكرى والشوق اللذين يشعر بهما نحو حبيبته، وعليه فقد كان محبًّا لماري، عاشقًا لروزه، أسيرًا للهواجس والكآبة.

وبعد انقضاء الحفلة ودع القوم أصحاب المنزل وانصرفوا شاكرين.

واختلت روزه في غرفتها فأطلقت العنان لتصوراتها بقية ذلك الليل، فكان تارة يبدو لديها طيف عزيز، وقد كللت جبينه الكآبة، وأذل جفنيه الانكسار فيتقطع قلبها شفقة لحالته، وطورًا يخيل لها أنه قد تردد في حبها، وندم على تقيده معها، فينفطر فؤادها جزعًا، وتفكر في وجوب ابتعادها عنه وحله من عهوده السالفة، ولكنها لا تلبث أنْ تسخر من أفكارها وتلوم ذاتها على سوء ظنها به، وهو الذي ضحى بمستقبله، وما كان يؤمله من التقدم والإثراء في الاغتراب إذعانًا لأمرها وإجابةً لإشارتها.

ومر أسبوع على تلك الليلة دون أنْ يتقابل المحبان، فارتبكت أفكار روزه وحسبت لانقطاع عزيز عن زيارتها ألف حساب، ولما عيل صبرها وسئمت الانتظار، عزمت على الاستفهام من أبيها، ولكنها لم تجسر على السؤال خوف افتضاح أمرها، وانكشاف سرها، فتسلحت بسلاح الصبر والجلَد حتى يأتي الله أمرًا كان مفعولًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤