الفصل الخامس عشر

ماري

نذهب الآن بالقارئ الكريم إلى شارع الأزبكية، حيث يوجد قصر جميل البنيان في حديقة غناء متسعة الأطراف، فيها من الأشجار والنبات والأزهار ما يشرح الصدر ويدهش الأبصار؛ فضلًا عن التماثيل على جوانب طرفها ومنعرجاتها، وهي منحوتة على أجمل شكل، وأحسن صنع، وجملة ظواهر القصر وما عليه من الاتساع والزخرفة تدل على سعة يد أصحابه وسمو مكانتهم، أما داخله فمفروش بالرياش الثمين، والتحف النادرة، والآثار القديمة؛ فضلًا عن النقوش البديعة التي تزين سقوفه وجدرانه.

فهناك كان يقطن حبيب نصر الله مع ولديه فريد وماري، ولا غرو فإن ثروته ازدادت كثيرًا في تلك الأيام؛ إذ كانت قد تضاعفت أثمان الأطيان، وارتفعت أسعار الغلال، فكان ذلك سببًا في إثرائه وكثرة غناه.

وفي إحدى مقاصير ذلك المنزل جلس حبيب وولداه يومئذٍ حول مائدة، وشرعوا في تناول الغداء، وهم يتبادلون الأحاديث، ثم قص فريد على والده ما قرأ في الجرائد عن اتهام عزيز بسرقة مصرف يوسف رافائيل، فأظهر والده الكدر، وتشوق كلاهما لمعرفة الحقيقة.

وكانت ماري تسمع ذلك، وفؤادها يتقطع حزنًا وغمًّا، فلما تفرقوا عن المائدة احتجبت في مخدعها، وأطلقت لعواطفها العنان، فكانت كالمأخوذة لفرط ما حلَّ بها من تأثير المصاب.

ولبثت على تلك الحال من التحسر والأنين حتى المساء، إذ دعيت للعشاء فاعتذرت، ولبثت ذلك الليل في غرفتها تصعد الزفرات، وتسكب العبرات، لا تجد سبيلًا إلى العزاء، ولا ذاقت أجفانها لذة الرقاد.

ولما كان اليوم التالي أذاعت الجرائد خبرًا يكذب ما نشرته بالأمس، واتصل ذلك بأسرة حبيب، ولما تأكدت ماري من براءة حبيبها فاضت مدامعها سرورًا، وحمدت ربها على أنَّ ما بلغهم عنه لم يكن شيء من الصحة، فكان مثلها حينئذٍ مثل من استيقظ بعد حلم مروع، فجعل يطرد ما بقي من مخيلته من آثار تذكاره الشنيع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤