الفصل السادس

حياة جديدة

وعند الصباح نزلا إلى البلدة، ودخلا قهوة قامت أعمدتها في وسط البحر تلاطمها الأمواج فتردها على أعقابها، وقد انتشرت نقطها في الهواء تتلألأ بنور الشمس كقوس القزح، فجلسا بمعزل عن الناس، وكان حبيب ملازمًا الصمت يتأمل فيما صار إليه حاله، ويرنو بطرفه نحو تلك الأمواج، فيراها مداومة النزاع مع الصخور لا تكل ولا تمل من مهاجمتها رغمًا عما تلاقيه من المصادمة، فاتخذها مثلًا لهذه الحياة التي هي مجمع الأتعاب ومنبعث الشدائد، فهي كبحر عجاج تتلاطم أمواجه، وكلاهما في نزاع دائم، ولكن شتان ما بينهما إذ إنَّ المرء مهما تصلبت عضلاته وقويت بنيته فلا يثبت في ميدان تنازع البقاء، بل ينوء تحت أثقال الحياة ومصائبها، وينتهي الأمر به إلى الاضمحلال والفناء، وهذه الصخور واقفة أبد الدهر ترد هجمات الأمواج بعزم ثابت وقوة عظيمة، تحفظها في عالم الوجود والبقاء.

ولبث حبيب نحو ساعة غارقًا في بحار الهواجس، وتارة تبدو على وجهه علائم الثبات والشجاعة والتغلب على طوارئ النوائب، وطورًا يتقلب الحزن في أسارير وجهه، فيظهر تأثير اليأس في نظراته ويتململ من ضغط أفكاره، ثم يميل بوجهه إلى البحر كي لا يراه أحد، ويبكي بكاء الطفل غير قادر على كبح جماح الأحزان التي تسلطت عليه.

وكان لصديق حبيب شقيقة تزيده سنًّا، متزوجة بأحد التجار الموسرين واسمه خليل البيروتي، فحدث أنَّ خليلًا هذا كان جالسًا وقتئذٍ بالقرب منهما يقرأ بعض الجرائد، فحانت منه التفاتة فرأى نسيبه، فنهض للحال، واقترب منه، ولما أبصره هذا أبدى السرور والانعطاف، وأكب عليه يعانقه، ثم عرَّفه بصديقه حبيب نصر الله، وجلس الثلاثة يتحادثون، وجرَّهم الحديث إلى الكلام عن بيروت وعن أحوالها التجارية، فأخذ حبيب يشرح لهما عن الوساطة التي يمكن اتخاذها للنجاح والإثراء، إذ كان عالمًا في ضروب التجارة علمًا وعملًا، وبقي ساعة يطرفهم بالأحاديث المهمة، ويكشف لهم عن الأسرار التي عرفها بالمزاولة والاختبار، وهما ينظران إليه معجبين بسعة معرفته التجارية، وعند نهاية الحديث طلب خليل إليهما أنْ يترددا إلى مخزنه من وقت إلى آخر ففعلا، واستأنس حبيب بصحبته فأكثر من التردد عليه، وتعرف ببعض التجار الذين لهم علاقة معه، فأجلُّوه واحترموه لما رأوا من حُسن خِلاله وحميد صفاته، وما آنسوا به من رسوخ القدم في فنون التجارة.

وكان خليل يدعوه غالبًا إلى منزله، فيلقى من ملاطفته ومؤانسة وحيدته سلمى ما يبرد لوعته ويلطف كثيرًا من أحزانه، حتى أصبح بعد مدة من الزمن لا تطيب له الإقامة إلَّا بين الأب وابنته، وقد تمكنت عرى الوداد بين الصديقين، فكان حبيب يأتيه من حين إلى آخر بأحسن الآراء التي أوجدها حسن اختباره وتمرنه على الأشغال التجارية، فأحرز خليل أرباحًا طائلة بفضل مشورته، فأدخله شريكًا في أعماله، وقلده إدارة محله، فشمر حبيب عن ساعد الجد والنشاط، وبذل ما في وسعه لإتمام ما عهد إليه من العمل، فلم تكن إلَّا سنين قليلة حتى كثرت أرباحهما واتسعت دائرة أعمالهما، فزادت ثروتهما ونالا من الشهرة وحُسن الصيت ما جعلهما في مقدمة التجار والأعيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤