الفصل التاسع

السفر

ودَّع الجميع بعضهم بعضًا، وذهب المسافران إلى المنزل الذي كان فيه يوسف، فباتا تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي أخذا أمتعتهما وسارا إلى محطة السكة الحديد، فدخلا عربة، وجلسا ينتظران مسير القطار.

وإنهما لكذلك، إذ دخل عليهما شاب جميل الطلعة، وحسن البزة، يظهر من ملامحه أنه شرقي فانحنى أمامهما باحتشام، ثم أخذ لنفسه مكانًا في إحدى زوايا العربة، ولما سار القطار أخرج من جيبه جريدة، وجعل يطالع فيها حتى إذا استقر به المقام وأتى على الصفحة الأولى جعل يقلبها بين يديه، وعيناه تنظران إلى رفيقيه خلسة، فآنس في الفتاة جمالًا باهرًا وأجفانًا ساحرةً أسرت لبه وجذبت أبصاره، ولكنه ما عتم أنْ نكس هيبة، وعاد إلى جريدته وهو ينظر إليها من طرف خفي، أما هي فنهضت وسارت نحو النافذة تسرح بصرها في تلك السهول الشاسعة والمروج الخضراء، وقد كسا غصن قامتها ثوبٌ بسيط الزي محكم الوضع، وغطت قسمًا من شعرها الحريري قبعة من القش خالية من الزخرف فأتبعها بصره، وهو يتأمل ذلك الهيكل الممتلئ والأعضاء المتناسبة، فرآها وقد حاولت إقفال زجاج النافذة للريح التي كانت تمر على محياها بقوة فتؤثر في مقلتيها الجميلتين بما تحمله من ذرات الغبار، وقد عصاها إتمام مرغوبها فأسرع إليها مستأذنًا وأقفل النافذة عنها، وعاد إلى مكانه بعد أنْ فاز منها بابتسامة شكر جزاء صنيعه، وبقي القطار سائرًا والسكوت مخيمًا حول هؤلاء الثلاثة مدة من الزمن، وقد أخذت سيماء الملل تظهر في ملامح المسافرين.

وحينئذٍ ابتدر والد روزه رفيقه بالحديث فقال: يظهر لي أنك شرقي الجنس أيها الرفيق الكريم.

– نعم سيدي لقد أصبت، فإني سوري الأصل، ولقد أتيت إلى هذه الديار من عهد بعيد؛ لأشغال تتعلق بمحل تجاري في بيروت، وقد اضطرني الحال إلى مبارحتها الآن قاصدًا مصر.

– إذن فستبقى في صحبتنا، فالأجدر بنا أنْ نقطع هذه المسافة بالمحادثة كأصدقاء دفعًا للضجر وحبًّا بالفائدة، وأنا سوري الأصل نظيرك، لبناني الموطن، وقد هاجرت بلادي منذ أعوام طويلة، فنفسي الآن ترتاح إلى استماع أخبارها واستطلاع حالة أفرادها.

وكانت روزه سامعة حديثهما، فلما انتهى أبوها إلى هذه النقطة عادت إلى مكانها وقالت للفتى: وأنا أيضًا يسرني أنْ أسمع شيئًا عن سوريا التي لم يتيسر لي زيارتها حتى الآن، ولا سيما جبال لبنان مسقط رأس أبي، فأرجوك أنْ تتم الحديث عنها.

– إني رهين إشارتكما، فسوف أشرح لكما كل ما أعلمه عن بيروت، غير أني آسف لكوني جاهلًا عن أحوال لبنان مع أني لبناني نظيركما، ولكن أهلي أرسلوني إلى مدرسة في قرية عبية، إذ كنت صغير السن، وبعد أنْ تلقيت فيها الدروس الابتدائية، أرسلت إلى المدرسة الأمريكية في بيروت حيث أقمت مدة ست سنين عاكفًا على درس العلوم، وأخيرًا نلت البكلوريا، وكنت إذاك في الثامنة عشرة من العمر، فخرجت من المدرسة والآمال توسع لي مجال الرزق والأماني ترتفع بي إلى ذروة المجد، ولم أشأ الرجوع إلى لبنان؛ لأني وجدت نفسي أعظم من أن تسعها تلك السهول القاحلة والروابي الجرداء.

فلبثت في بيروت أخبط في أسواقها، وأتقرب من أعيانها وتجارها، وأنا كلما طال عليَّ الوقت تحققت كساد التجارة، وقلة وسائل الترقي، فاتخذت مهنة التعليم أرتزق منها ريثما يمن الله عليَّ بشغل آخر يكون لي منه ما أشتهي وأروم. ولبثت على هذه الحال مدة أربع سنين، إلى أنْ أتاح لي الحظ معرفة أحد التجار، وكان باحتياج إلى عميل يورد له السلع والأقمشة من فرنسا وإنكلترا، فاتفقت معه وأتيت إلى هذه البلاد بعد أنْ جلت في إنكلترا مدة سنة تقريبًا، وقمت بخدمته أحسن قيام، ولكني وجدت أخيرًا أن لا تقدم لي ولا ارتقاء ما دمت على تلك الحال، فالأفضل لي أنْ أبحث عن عمل آخر يكون فيه تقدمي وضمانة مستقبلي.

فقالت له روزه: عساك أنْ تفوز بهذه الأمنية في مصر حيث التجارة بتقدم وأبواب الاستخدام في دوائر الحكومة مفتوحة لمن كان نظيرك.

– هذا جل ما أقصده يا سيدتي، فقد قرأت اتفاقًا في إحدى الجرائد عن احتياج الدولة الإنكليزية إلى تراجمة يصحبونهم في الحملة التي تسير بقيادة غوردون باشا إلى السودان، فانفصلت عن شغلي، وها أنذا ذاهب إلى مصر الآن؛ لأعرض نفسي في مقدمة الطالبين.

وكانت روزه محدقة إلى جليسها تسمع حديثه معجبة بحسن أسلوبه ورقة ألفاظه، فرأت في جملة هيئته وحركاته ما ترتاح إليه النفس، ويميل لاستحسانه الذوق، فلما أتى على آخر عبارته خامرها بغتة بعض الاهتمام بأمره، وتنبهت فيها شعائر القلق والخوف على حياته فقالت له: ألا تخشى الخطر في اقتحام هذا السبيل؟

– إنَّ الأمل بالنجاح يمحو الخوف ويزيل الجزع، وإنْ كان لا بدَّ من الموت فهو واحد مهما تعددت الأسباب، فعار عليَّ أنْ أحيا فقيرًا خاملًا ما دام لي سبيل للتقدم والنجاح في معترك هذه الحياة.

وهكذا سار بهم القطار، وهم يتنقلون من حديث إلى آخر حتى وصلوا إلى مرسيليا، فنزلوا في أحد فنادقها، ولبث الشاب واسمه الأمير عزيز برفقتها متظاهرًا أنَّ عليه بعض مهمات تستدعي بقاءه أيامًا في تلك المدينة.

وهكذا تسهل له سبيل الاجتماع بها، وتمكن من معاشرتها وسبر غور آدابها، فرأى من باهر صفاتها ولطف مشاعرها ما أدهش عقله، وأخذ بمجامع قلبه، وشعرت هي أيضًا بميل إلى مجالسته، ولذة باستماع أحاديثه التي دلت على نزاهته وكرم أخلاقه.

وما هي إلَّا أيام حتى انضمت إليهم أسرة حبيب، وكان يوسف قد أنهى أعماله، فسافروا جميعًا على أول باخرة أقلعت إلى الإسكندرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤