الفصل الخامس

من المواجهة إلى الوفاق (١٩٥٨–١٩٦٨)

في نهاية الخمسينيات دخلت الحرب الباردة أخطر مراحلها على الأرجح؛ الوقت الذي بلغ فيه خطر الحرب النووية الشاملة ذروته. فقد كادت سلسلة من الأزمات، بلغت ذروتها عام ١٩٦٢ بالمواجهة التاريخية بين واشنطن وموسكو حول وجود الصواريخ الروسية في كوبا، أن تسفر عن مواجهة نووية عالمية. وفي كلا المعسكرين، بلغ الخطاب مستويات من المجازفة والحدة لم يُشهَد مثلها منذ أواخر الأربعينيات.

بث الزعيم السوفييتي خروشوف في المراقبين الأمريكيين شعورًا بالإحباط بتباهيه بشأن القوة الاقتصادية والتكنولوجية السوفييتية وتعليقه الشهير الذي قال فيه إن الاتحاد السوفييتي سينتج عما قريب الصواريخ كما ينتج النقانق. وفي يناير ١٩٦١ تعهد خروشوف بأن تمد موسكو يد العون لحروب التحرر الوطني؛ تلك الحروب التي قال إنها «ستستمر ما دام للإمبريالية والاستعمار وجود». وكان الزعيم الروسي مغرمًا بالقول إن العالم الشيوعي مقدر له أن يدفن الغرب.

ولعدم التخلف عن غريمه، ناشد الرئيس المنتخب حديثًا جون إف كينيدي الكونجرس في أول رسالة عن حالة الاتحاد في الشهر ذاته توفير التمويل الكافي من أجل «قوة عالمية حرة تجعل قوتها أي عدوان موجه إليها عديم الجدوى دون شك». وقد قال إن الاتحاد السوفييتي والصين «لم تتخليا عن طموحاتهما للسيطرة على العالم». قدم الرئيس الجديد نظرة كئيبة عن الوضع العالمي، مشيرًا إلى أنه كان يتحدث «في ساعة خطيرة من عمر الأمة» ومعلنًا أنه «من غير المؤكد على الإطلاق» أن تتمكن الأمة من اجتيازها. وقد أكد كينيدي على أنه «مع كل يوم تتضاعف الأزمة، ومع كل يوم يصير الحل أصعب. ومع كل يوم نقترب أكثر وأكثر من ساعة الخطر الأعظم، مع انتشار الأسلحة وازدياد القوى المعادية قوة».

يستكشف هذا الفصل الأحداث والقوى التي جعلت من أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات فترة أزمات دائمة. ويتعرض للتقارب الجزئي بين واشنطن وموسكو الذي بدأ في عام ١٩٦٣ والتورط الأمريكي المتزايد في فيتنام الذي هدد بإفشال ذلك التقارب.

أعوام «الخطر الأعظم»: ١٩٥٨–١٩٦٢

شهدت الفترة بين عامي ١٩٥٨ و١٩٦٢ سلسلة غير مسبوقة من المواجهات بين الشرق والغرب، والعديد منها تضمن المجازفة باستخدام الأسلحة النووية. شهد عام ١٩٥٨ وحده تدخلًا استخباراتيًّا سريًّا في إندونيسيا، وانقلابًا دمويًّا أطاح بالحكومة الموالية لأمريكا في العراق، وما استتبعه من إرسال للجنود الأمريكان إلى لبنان، وسلسلة من الصدامات الخطيرة بين واشنطن وبكين حول تايوان وبين واشنطن وموسكو حول برلين.

في السابع عشر من يوليو ١٩٥٨، بعد يومين فقط من إنزال قوات البحرية الأمريكية في لبنان، أمر ماو تسي تونج ببدء الاستعدادات لمواجهة الولايات المتحدة في مضيق تايوان. وقد هدف إلى «إلزام المستعمر الأمريكي حدوده، وإثبات أن الصين تدعم حركات التحرر الوطني في الشرق الأوسط ليس فقط بالأقوال، بل بالأفعال أيضًا». اعتقد الرئيس الصيني أن هذه الجرأة من شأنها أن تسفه موقف خروشوف المعتدل الجدير بالازدراء ومن ثم تمنح الصين دورًا قياديًّا بين قوى العالم الثالث الثورية، وفي الوقت ذاته تساعد على حشد الشعب الصيني خلف سياساته الداخلية المتطرفة. وفي الثالث والعشرين من أغسطس، بدأت قوات ماو في قصف جزر كيموي وماتسو قبالة ساحل الصين، وهي الجزر التي كانت تحت سيطرة قوات شينج كاي شيك القومية. تشكك أيزنهاور ودالاس على الفور، كما حدث سلفًا في أزمة عامي ١٩٥٤-١٩٥٥ أن القصف المدفعي قد يكون تمهيدًا لغزو شامل لجزيرة تايوان، التي كانت الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عنها بموجب معاهدة. وكرد فعل، وضع أيزنهاور القوات الأمريكية في حالة تأهب كامل، وبعث بأسطول بحري ضخم إلى مضيق تايوان، وأمر بإرسال قوات إضافية مزودة بالسلاح النووي إلى المنطقة. كان يأمل، بالأساس، في ردع العدوان الصيني بواسطة استعراض للقوة الساحقة مصحوبًا بإعلان واضح تمام الوضوح عن نواياه.

في أوائل سبتمبر، بعث خروشوف بوزير خارجيته، أندريه جروميكو، إلى بكين في محاولة لنزع فتيل الأزمة. ذُهل الضيف الروسي مما سمعه من تبجح متكرر من الصينيين، وأخبره مضيفوه أنهم يدركون أن أفعالهم قد تؤدي إلى «حرب إقليمية» مع الولايات المتحدة، لكنهم أيضًا «مستعدون لتلقي كل الضربات القاسية، بما في ذلك القنابل الذرية ودمار مدنهم». في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة تجهز ردًّا نوويًّا بالفعل. حث المستشارون الرئيس أيزنهاور على استخدام قنابل نووية محدودة التأثير ضد المنشآت العسكرية الصينية، وهو الأمر الذي أقروا أن من شأنه التسبب في سقوط ملايين الضحايا من المدنيين. زاد خروشوف من خطورة الموقف بخطاب وعيد أرسله إلى الرئيس الأمريكي في التاسع عشر من سبتمبر أكد فيه أن موسكو أيضًا «تملك أسلحة نووية وهيدروجينية». وقد حذر الأمريكان من أنهم إذا استخدموا مثل هذه الأسلحة ضد الصينيين، فإن هذا «من شأنه إشعال حرب عالمية»، وهكذا «سيلوح خطر الموت المؤكد لأبناء الشعب الأمريكي».

انتهت الأزمة حين أعلن ماو في السادس من أكتوبر من طرف واحد أنه سيوقف قصف كل من كيومي وماتسو مدة أسبوع، شريطة مغادرة السفن الحربية الأمريكية لمضيق تايوان. وبالرغم من انتهاء هذا الحدث على نحو هادئ، وليس بصدام كبير، فإنه يوضح عددًا من الملامح الرئيسية عن هذا المنعطف المتوتر على نحو استثنائي في مسار الحرب الباردة؛ أولًا: خاطر ماو عن علم بمواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة كان بمقدورها التسبب في ضربات نووية ضد بلاده، ويظهر تهوره هذا الدور الخطير غير المتوقع للصين في سياسات الحرب الباردة. ثانيًا: تظهر مواجهة مضيق تايوان استعداد الولايات المتحدة لاستخدام السلاح النووي مجددًا، حتى ولو من أجل جزيرة صغيرة تافهة. رأت إدارة أيزنهاور في مقامرة ماو اختبارًا جديًّا لمصداقية الولايات المتحدة، وهو ما تطلب منها استجابة صارمة، ونظرًا لأنه لم يكن بالإمكان الدفاع عن تايوان بالأسلحة التقليدية وحدها، باتت الأسلحة النووية والتهديد باستخدامها هي سبيل الردع. ولو لم يتراجع ماو — لو اختبر بالفعل التهديد الأمريكي — فما من سبب يدعو للاعتقاد بأن أيزنهاور لم يكن ليصدر الأمر باستخدام الأسلحة النووية ضد الصين. وأخيرًا، تؤكد الأزمة على أهمية وضع التوترات الصينية السوفييتية في إطار ديناميكيات الحرب الباردة الأكبر حجمًا. فانعدام الثقة والمنافسة بين العملاقين الشيوعيين، وكل منهما مصمم على إثبات صلابته وإخلاصه الأيديولوجي طلبًا لزعامة العالم الشيوعي، شكل عاملًا مقلقلًا متزايدًا في العلاقات الدولية.

كان خروشوف هو من أشعل الأزمة الكبيرة التالية من أزمات الحرب الباردة، وهو ما رجع في جزء منه إلى الرغبة في درء الاتهام بأن الاتحاد السوفييتي صار ضعيفًا ومترددًا مقارنة بالغرب. اختار الزعيم السوفييتي، الذي لا يقل في الإقدام على المجازفات عن ماو، برلين ليضرب ضربته. وفي العاشر من نوفمبر ١٩٥٨ أعلن على نحو مفاجئ عن نية موسكو التوقيع على معاهدة جديدة مع ألمانيا الشرقية من شأنها إلغاء اتفاقات الحرب العالمية الثانية التي أجازت الاحتلال المشترك للعاصمة الألمانية السابقة الذي لا يزال ساريًا. وفي إعلان لاحق أكد خروشوف على ضرورة تحويل برلين إلى «مدينة حرة» منزوعة السلاح، وأمهل القوى الغربية ستة أشهر، حتى السابع والعشرين من مايو ١٩٥٩، للتفاوض مباشرة مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية إذا رغبت في الحفاظ على وجودها داخل برلين وحق المرور عبرها. آمن الحاكم السوفييتي، الذي بنى حساباته على أن الولايات المتحدة ستكون عازفة عن المخاطرة بالحرب من أجل مدينة تبعد أكثر من مائة ميل عن الحدود الألمانية الغربية؛ بأن بمقدوره إعادة تجديد قوة وجرأة السياسة الخارجية السوفييتية. وقد هدف أيضًا إلى دعم ألمانيا الشرقية المضطربة المعتمدة عليه التي كان قاطنوها يتدفقون منها إلى ألمانيا الغربية من خلال حدود برلين. وبأسلوب متبجح ليس بالمستغرب منه جعل خروشوف وزير خارجيته جروميكو يسلم رسالة إلى الولايات المتحدة تهكم فيها بقوله إن «المجانين فقط هم من سيخاطرون بشن حرب أخرى من أجل الحفاظ على امتيازات المحتلين في برلين الغربية».

ضرب التحدي السوفييتي الغرب في أكثر جوانبه ضعفًا. كانت الولايات المتحدة وكبار شركائها في حلف شمال الأطلسي متفقين على أن التنازل عن حقوقهم في برلين، أو منح الشرعية لنظام ألمانيا الشرقية من خلال التفاوض مباشرة معه، سيكون بمنزلة طعنة غادرة لنظام أديناور في ألمانيا الغربية، الذي يضع توحيد ألمانيا هدفًا ساميًا نصب عينيه. ومع ذلك، كما أدرك السوفييت دون شك، فإن قضية الحرب على رقعة غربية صغيرة بعيدة يستحيل الدفاع عنها ومعزولة وسط نطاق النفوذ السوفييتي من شأنها أن تنشر بذور الشقاق داخل الصفوف الغربية. وفي الواقع، أخبر رئيس الوزراء البريطاني خارولد ماكميلان في صراحة المسئولين الأمريكيين أن البريطانيين «ليسوا مستعدين لمواجهة الفناء من أجل مليوني ألماني من قاطني برلين الغربية، أعدائهم السابقين». لكن إدارة أيزنهاور، إيمانًا منها بأن كلًّا من مصداقيتها وحياة التحالف الغربي على المحك، اختارت مجددًا الرد بقوة، مخاطرة بالتصعيد حتى الحرب النووية. كان أيزنهاور ودالاس وهيئة الأركان المشتركة مدركين جيدًا أنه من المحال الدفاع عن برلين الغربية بالوسائل العسكرية التقليدية، ونظرًا للأهمية الرمزية الضخمة للمدينة، فقد كانوا مستعدين لاستخدام الأسلحة النووية للدفاع عن الحقوق الغربية هناك.

ترك خروشوف الموعد النهائي، السابع والعشرين من مايو، ينقضي حين أيقن أن التصميم الأمريكي على الحفاظ على الوضع القائم لا يلين، حتى لو أدى هذا إلى نشوب نزاع. غير الزعيم الروسي القوي نبرة الحديث واقترح عقد اجتماع لوزراء خارجية القوى الأربع العظمى لمناقشة قضية برلين وغيرها من الأمور التي تفصل الشرق عن الغرب، مع احتمال عقد اجتماع قمة لرؤساء الحكومات في أعقابه. جدير بالذكر هنا أن التفوق الساحق للترسانة النووية الأمريكية هو ما بث الجرأة في نفوس الأمريكيين في أزمتي برلين وتايوان في أواخر الخمسينيات، وحين احتدمت الأمور، أُجبر السوفييت على التراجع في وجه المجازفة النووية الأمريكية.

استجابة لدعوة أيزنهاور، زار خروشوف الولايات المتحدة في خريف عام ١٩٥٩، وهو ما أدى إلى فترة من الدفء في العلاقات السوفييتية الأمريكية سماها الصحفيون ﺑ «روح كامب ديفيد». لم يتمكن الزعيمان من حل قضية برلين المعلقة، لكنهما اتفقا على حضور اجتماع قمة في باريس في الربيع التالي. لكن قبيل افتتاح أعمال قمة باريس، تعرضت العلاقات السوفييتية الأمريكية لضربة قاصمة حين أسقط الروس طائرة تجسس أمريكية تحلق على ارتفاعات عالية من طراز يو ٢ فوق جبال الأورال. كانت الرحلات الاستطلاعية لهذا النوع من الطائرات، التي تجريها الولايات المتحدة منذ عام ١٩٥٦، تمد أيزنهاور بمعلومات حساسة عن برنامج الصواريخ السوفييتي، ومواطن قصوره. وبدلًا من التقليل من شأن الأمر، اختار خروشوف استغلاله إلى الحد الأقصى دعائيًّا، وفي حركة استعراضية أظهر الطيار الأمريكي فرانسيس جاري باورز بهدف إحراج أيزنهاور بعد أن أنكر الأخير علنًا هذه الرحلة. بعد ذلك غادر خروشوف قمة باريس قبل بداية الجلسات الرسمية. وهكذا، صارت العلاقات بين واشنطن وموسكو مع انتهاء فترة أيزنهاور الرئاسية الثانية أكثر فتورًا مما كانت عليه مع بداية فترته الأولى قبل ثمانية أعوام. وسرعان ما شهدت المزيد من التدهور.

في يونيو ١٩٦١، أعاد خروشوف إشعال أزمة برلين المضطرمة خلال اجتماع عاصف مع الرئيس الأمريكي الجديد جون إف كينيدي في فيينا. أخطر الزعيم السوفييتي الجامح نظيره الأمريكي بأنه ينوي التوقيع على معاهدة سلام منفصلة مع ألمانيا الشرقية في غضون ستة أشهر ما لم يحدث تغيير في وضع برلين. وقد هدد بأنه إذا ما رغبت الولايات المتحدة في خوض حرب حول برلين، «فليس في وسع الاتحاد السوفييتي ما يمكنه عمله حيال ذلك … وسيكون التاريخ الحكم على أفعالنا». آمن الزعيم الأمريكي عديم الخبرة — وقد ضايقته بشدة نبرة التهديد البادية في حديث خروشوف — بأن مصداقية دولته ومصداقيته الشخصية كانتا عرضة للتحدي المباشر. رأى كينيدي أن إظهار الصلابة هو الأمر الوحيد الذي يمكن عمله، وأن التراجع لن يؤدي إلا لتشجيع السوفييت على العدوان في مكان آخر. ومن ثم فقد تعهد في خطابه الذي ألقاه في الخامس والعشرين من يوليو قائلًا: «لن نسمح للشيوعيين بطردنا من برلين، سواء بالتدريج أو بالقوة.» ولإضفاء القوة على خطابه العام الجريء، طلب الرئيس من الكونجرس زيادة الميزانية الدفاعية بمبلغ ٣٫٢ مليارات دولار، وأن يخوله في استدعاء قوات الاحتياط، ومبلغ ٢٠٧ ملايين دولار إضافية للبدء في برنامج وقاية من الغبار النووي لإعداد الشعب الأمريكي لأي هجوم نووي مستقبلي.
fig9
شكل ٥-١: كينيدي وخروشوف يحيي أحدهما الآخر في بداية قمة فيينا في يونيو ١٩٦١.1

خلف تحدي خروشوف العدواني للغرب كانت تكمن قنبلة موقوتة للكتلة السوفييتية، وتحديدًا المعدل المقلق لفرار مواطني ألمانيا الشرقية من بلدهم. فبين عامي ١٩٤٩ وأواسط الستينيات فر قرابة ٢٫٧ مليون ألماني شرقي إلى الغرب — وهو ما يكافئ عدد سكان جمهورية أيرلندا — وأغلبهم فر من خلال برلين. تلك المشكلة المحرجة قوضت على نحو بالغ من أهلية حكومة ألمانيا الشرقية التابعة لموسكو وزعيمها فالتر أولبريشت. ومع تزايد معدل الفرار يوميًّا في منتصف صيف عام ١٩٦١ بدأت ألمانيا الشرقية فجأة في بناء حاجز من الأسلاك الشائكة للفصل بين القطاع السوفييتي من العاصمة الألمانية السابقة والقطاعات الغربية منها. وسريعًا ما تحول الحاجز المؤقت الذي بني في الثالث عشر من أغسطس إلى جدار دائم، عامر بالحراس المسلحين، وصار رمزًا قبيحًا مشئومًا لانقسام أوروبا إلى كتلة غربية وأخرى شيوعية. تم تجنب نشوب الحرب، لا ريب، وتمكن خروشوف من دعم جمهورية ألمانيا الديمقراطية على نحو مكنها من البقاء، لكن هذه الإنجازات تحققت بتكلفة سياسية ودعائية كبيرة تكبدها الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية. وقد علق كينيدي الواقعي بقوله: «إنه ليس بالحل اللطيف، لكن الجدار أفضل بكثير من الحرب.» ولحسن حظ الرئيس الأمريكي فإنه لم يكن مجبرًا على مواجهة السؤال الجوهري: هل برلين تستحق الدخول في حرب من المؤكد أن تحصد أرواح عشرات الملايين أم لا؟

تنافس العديد من بؤر الاهتمام العالمية على اهتمام واضعي السياسات في موسكو وواشنطن خلال تلك الفترة المليئة بالأزمات، وكثير منها ظهر في العالم الثالث الذي يموج دومًا بالحراك العنيف. ومع أن إنهاء الاستعمار في أفريقيا مضى على نحو سلس نسبيًّا، مع حصول ١٦ دولة على الاستقلال في عام ١٩٦٠ وحده، فإن إنهاء الوضع المعقد للحكم البلجيكي في الكونغو في ذلك العام تسبب في إشعال مواجهة كاملة أخرى بين القوتين العظميين. فحين أرسل السوفييت الفنيين والعتاد لدعم نظام باتريس لومومبا الوليد، أرسل الأمريكان فرق الدعم في محاولة غير ناجحة للتخلص من لومومبا المتأهب للمعركة؛ ذلك القومي المتحمس الذي صنفه الأمريكيون خطأ كثوري متطرف وذريعة للتدخل السوفييتي. وفي عام ١٩٦١ قتلت قوات كونغولية موالية للأمريكيين لومومبا، محققة بذلك ما فشلت المخابرات المركزية نفسها في تحقيقه، وفي الوقت ذاته ظهر جوزيف موبوتو، المرشح الذي يفضله الأمريكيون، بوصفه الشخصية المهيمنة في الحكومة الكونغولية الجديدة. وهكذا تمكنت الولايات المتحدة من وأد الطموح السوفييتي مؤقتًا في أفريقيا الوسطى، وإن كانت تكلفة هذا فرض سياسة الحرب الباردة على مستعمرة سابقة فقيرة مزقتها الصراعات.
figure
خريطة ٤: أفريقيا عام ١٩٤٥.2
figure
خريطة ٥: أفريقيا عام ٢٠٠٠ (مع تواريخ الاستقلال).3

في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات عادت الهند الصينية مجددًا إلى بؤرة الضوء كمنطقة صراع ساخن. ففي فيتنام الجنوبية كان نظام نجو دينه ديم المدعوم من الأمريكيين يحارب حركة تمرد واسعة النطاق توجهها جبهة التحرير الوطني التي هددت بقاءه، وذلك بدعم قوي من فيتنام الشمالية الشيوعية. وفي عامي ١٩٦١ و١٩٦٢ زاد كينيدي من حجم الدعم العسكري الأمريكي لنظام ديم بدرجة كبيرة؛ مرسلًا أكثر من عشرة آلاف مستشار أمريكي في محاولة للمساعدة في سحق ما سمي بعصابات «الفيت كونج» المسلحة التي كانت وقتها تسيطر على نصف أراضي وسكان فيتنام الجنوبية. في الوقت ذاته بدت حركة باثيت لاو ذات القيادة الشيوعية في لاوس المجاورة، بدعم لوجستي من فيتنام الشمالية والاتحاد السوفييتي، على وشك انتزاع السلطة بقوة السلاح في العاصمة فينتيان. وفي ديسمبر ١٩٦٠، أخبر أيزنهاور الرئيس المنتخب كينيدي خلال اجتماع انتقالي عقد في البيت الأبيض بأن لاوس تعد «المفتاح الحالي لمنطقة جنوب شرق آسيا بأسرها». وقد حذر متشائمًا من أنه قد تكون هناك حاجة لإرسال قوات أمريكية في المستقبل القريب للحيلولة دون انتصار حركة باثيت لاو.

وجهًا لوجه: أزمة الصواريخ الكوبية وتبعاتها

غير أن أكثر المناطق إثارة لقلق الولايات المتحدة في ذلك الوقت كانت كوبا؛ تلك الدولة الجزيرة الواقعة على بعد ٩٠ ميلًا من الطرف الجنوبي لفلوريدا. كان كاسترو، الثائر الوطني المتحمس ذو الشخصية الكاريزمية، قد شق طريقه إلى السلطة في هافانا بقوة السلاح، وذلك انطلاقًا من قاعدة ميليشياته المسلحة في جبال سييرا مايسترا القاسية. وبعد الإطاحة بالديكتاتور عديم الشعبية فولهنسيو باتيستا، الحليف القديم للولايات المتحدة، وإجباره على الفرار من البلاد بحلول أول أيام عام ١٩٥٩، أطلق كاسترو على الفور برنامجًا ثوريًّا طموحًا مصممًا لتحرير كوبا من اعتمادها الاقتصادي والسياسي التاريخي على الولايات المتحدة. ومن البداية، نظرت إدارة أيزنهاور إلى الثائر الشاب الملتحي بقلق، وقاومت بقوة هجوم الثورة الكوبية على الممتلكات الأمريكية. تحول كاسترو إلى الاتحاد السوفييتي، وهو ما يرجع في جزء منه إلى عدائه للولايات المتحدة وفي جزء آخر إلى ميوله الأيديولوجية، ورحب بدعمه الدبلوماسي والاقتصادي. ومن جانبه، انتهز خروشوف ما بدا له فرصة سانحة لمزاحمة غريمه الأساسي في تلك المنطقة القريبة للغاية منه. وفي صيف عام ١٩٦٠، عقب إرساء روابط دبلوماسية وتجارية وثيقة بين موسكو وهافانا، فرضت إدارة أيزنهاور حظرًا تجاريًّا على كوبا، وعلقت الامتيازات التي تخول للسكر الكوبي دخول السوق الأمريكية، ودبرت المؤامرات من خلال وكالة المخابرات المركزية لاغتيال كاسترو. وافق أيزنهاور أيضًا على تسليح مجموعة من المنفيين الكوبيين وتدريبهم من أجل استخدامهم مستقبلًا كقوة غزو.

خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام ١٩٦٠ شدد كينيدي بقوة على مشكلة كوبا. وقد أطلق على كاسترو «مصدر الخطر العظيم» وأدان بشدة كلًّا من أيزنهاور ونائبه ريتشارد إم نيكسون، وهذا الأخير هو منافسه على الرئاسة، من أجل سماحهما بظهور «تابع شيوعي على عتبة بابنا». وعقب انتصار كينيدي في انتخابات نوفمبر، شجع أيزنهاور كينيدي على التوسع في برنامج المنفيين. وانتقامًا من كاسترو لتأميمه الشركات الأمريكية وتعميق صلاته بالاتحاد السوفييتي، قطعت إدارة أيزنهاور في أواخر أيامها العلاقات الدبلوماسية مع كوبا في يناير عام ١٩٦١.

عازمًا على الخلاص من كاسترو على نحو نهائي، أعطى كينيدي الضوء الأخضر في أبريل لتلك العملية الكارثية التي صارت تعرف باسم غزو «خليج الخنازير». بُنيت العملية على فكرة أن كاسترو لا يحظى إلا بشعبية قليلة بين العامة، وأنه بمجرد رسو المقاتلين الذين دربتهم وكالة المخابرات المركزية، وعددهم ١٤٠٠ مقاتل، فإن الشعب الكوبي سينتفض ويطيح بحكم الديكتاتور الشيوعي. اتضح أنها خطة هزلية، وفي غضون يومين طوقت قوات كاسترو عصبة المنفيين الصغيرة، موجهة بذلك ضربة سياسية محرجة لكينيدي في بداية رئاسته. لكن بالرغم من هذا الإذلال، لم يسع الرئيس الديمقراطي التكيف مع حقيقة الوجود السوفييتي المتواصل في تلك النقطة الحصينة بنصف الكرة الغربي. ومن ثم، فقد أمر بحملة سرية أخرى لبث القلاقل في حكم كاسترو وتخريبه، في الوقت الذي أطلقت فيه وكالة المخابرات المركزية، بموافقة البيت الأبيض، سلسلة من الخطط الغريبة لاغتيال «الزعيم الأعظم» لكوبا. ومن العسير الاختلاف مع عبارة كاسترو التي يقول فيها بعد انقضاء الأحداث إنه «لو لم تكن الولايات المتحدة مصممة على الخلاص من الثورة الكوبية، لم تكن أزمة أكتوبر لتقع من الأساس».
fig12
شكل ٥-٢: دليل فوتوغرافي لموقع للصواريخ البالستية متوسطة المدى في سان كريستوبال، كوبا، أكتوبر ١٩٦٢.4

تعد أزمة أكتوبر، الشهيرة بأزمة الصواريخ الكوبية، أخطر مواجهة سوفييتية أمريكية على امتداد الحرب الباردة بأسرها؛ أزمة شارفت فيها القوتان العظميان — والعالم أجمع — على الوقوع في هوة الحرب النووية. اندلعت الأزمة في الرابع عشر من أكتوبر ١٩٦٢، حين التقطت طائرات الاستطلاع يو ٢ صورًا فوتوغرافية لمواقع صواريخ متوسطة المدى لا تزال تحت الإنشاء في كوبا. بعدها بيومين، قدمت المخابرات للرئيس الأمريكي أدلة فوتوغرافية لا تقبل الجدل تؤكد نصب الاتحاد السوفييتي لصواريخه في كوبا. رسمت هذه الأدلة صورة منذرة بالخطر: إذ تلقت كوبا بالفعل ما بين ١٦ و٣٢ صاروخًا بالستيًّا متوسط المدى من الاتحاد السوفييتي مداها يصل إلى ٢٢٠٠ ميل، وأخرى ذات مدى أقصر يبلغ ١٠٢٠ ميلًا. قدرت المخابرات المركزية أن هذه الصواريخ ستكون جاهزة للإطلاق في غضون أسبوع أو نحو ذلك، وبمجرد تحميلها برءوس نووية ستكون قادرة على إيقاع ما يصل إلى ٨٠ مليون ضحية إذا أطلقت على المدن الأمريكية الكبرى. اعتبر كينيدي أن هذا التطور المروع يمثل تهديدًا خطيرًا لأمن الولايات المتحدة، ومن ثم أنشأ لجنة تنفيذية من مجلس الأمن القومي لإمداده بالنصح وحشد الإجماع خلف القرارات المؤلمة التي عرف أنه سيتخذها عما قريب. كان الرئيس ودائرته المقربة متفقين من البداية على عدم القبول نهائيًّا بوضع صواريخ نووية في كوبا، ومن ثم الحاجة إلى إزالتها فورًا. لكن السؤال المخيف الذي كان محور اجتماعات اللجنة التنفيذية على مدار الساعة كان يتعلق بالوسائل الأجدر بتوظيفها لتحقيق هذه الغاية؛ دون إشعال صراع نووي.

لماذا أقدم خروشوف على مثل هذه المجازفة المستفزة؟ تقترح الأدلة المتاحة الآن أنه في مايو ١٩٦٢ قرر الزعيم الروسي الإقدام على المناورة الخطيرة لنشر الصواريخ النووية في كوبا بدافع من عدة أسباب. كان يسعى، أولًا، لمنع الولايات المتحدة من غزو كوبا، ومن ثم يوفر الحماية لنظام اختار أن يأخذ جانب الاتحاد السوفييتي. وبهذه الخطوة يستطيع تفادي التحدي الذي تفرضه الصين المتزايدة في العدوانية واستعادة الموقع التاريخي للكرملين بوصفه القِبلة العسكرية والأيديولوجية للقوى الثورية الاشتراكية في العالم. بالإضافة إلى ذلك، وهو العامل الأهم على الأرجح، رأى خروشوف في الثورة الكوبية المحاصَرة فرصة سانحة لرأب فجوة الصواريخ العريضة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وقد قال لاحقًا: «لقد أحاط الأمريكان بلدنا بالقواعد العسكرية وهددونا بالأسلحة النووية، والآن سيدركون ما يعنيه أن تكون صواريخ العدو موجهة صوبهم، لن نفعل شيئًا سوى أن نذيقهم القليل من كأسهم.»

في ضوء الفجوة الضخمة في أواسط عام ١٩٦٢ بين الأمريكيين والسوفييت من حيث الرءوس النووية القادرة على ضرب أهدافها — وهي نسبة ١٧ إلى ١ تقريبًا — فإن صواريخ خروشوف الكوبية كان من شأنها أن تضاعف مرتين أو حتى ثلاث مرات من عدد الرءوس السوفييتية القادرة على ضرب أهداف أمريكية، حتى وإن لم يتغير التوازن الإجمالي. ومن الناحية النفسية والسياسية، إن لم تكن الاستراتيجية أيضًا، كان من شأن هذه الصواريخ أن تغير من آليات العلاقة بين القوتين العظميين في غير مصلحة الولايات المتحدة.

بعد موافقة كوبا على عرض الكرملين في يونيو، بدأ السوفييت خلسة في إدخال قوة عسكرية ذات ثقل إلى الجزيرة. وبالإضافة إلى نصب نوعي الصواريخ متوسطة المدى المخطط له، قدمت موسكو صواريخ أرض جو لحماية تلك المواقع، و٤٢ من القاذفات الخفيفة من طراز آي إل ٢٨، و٤٢ طائرة اعتراضية من طراز ميج ٢١، و٤٢ ألف جندي. وما كان يجهله المحللون الأمريكيون في ذلك الوقت أيضًا أن القوات السوفييتية في كوبا كانت مسلحة أيضًا بأسلحة نووية تكتيكية قصيرة المدى، كان لدى قادة المواقع تصريح باستخدامها حال تعرض الجزيرة للغزو الأمريكي. وحين علم ماكنمارا، بعدها بعقد، أن تسعة أسلحة نووية تكتيكية كانت موجودة في كوبا في أكتوبر ١٩٦٢ قال: «هذا أمر مرعب. فهذا معناه أنه لو نُفِّذ الغزو الأمريكي … لكان احتمال نشوب حرب نووية محققًا بنسبة ٩٩ بالمائة.»

في الواقع، كان الغزو أحد الخيارات التي وازنت لجنة كينيدي التنفيذية بينها في الأيام الأولى للأزمة. ومع أن الغزو الأمريكي الشامل لكوبا كان له مناصروه، ومن بينهم هيئة الأركان المشتركة، شأنه شأن الضربة الجوية المحدودة للقضاء على الصواريخ، فإن كينيدي اختار مسارًا أكثر حصافة وأقل مخاطرة بكثير. فقد قرر حصار كوبا بحريًّا لمنع وصول أي شحنات عسكرية إضافية للجزيرة. وفي الثاني والعشرين من أكتوبر ظهر الرئيس على التليفزيون الوطني لتوضيح مدى خطورة التهديد، وقراره بالحصار البحري، للشعب الأمريكي. وقد أكد كينيدي على أنه لو أطلق أي صاروخ من الأراضي الكوبية نحو أي هدف في نصف الكرة الأرضية الغربي فإن الولايات المتحدة ستعتبر هذا «هجومًا من جانب الاتحاد السوفييتي على الولايات المتحدة يستلزم ردًّا انتقاميًّا كاملًا على الاتحاد السوفييتي». وفي الرابع والعشرين من أكتوبر، تنفس واضعو السياسات الأمريكيون الصعداء حين توقفت السفن السوفييتية قبيل خط الحصار، وبهذا تجنبت مواجهة يخشاها الجميع. وقد علق وزير الخارجية الأمريكي راسك على هذا الموقف بعبارة شهيرة قال فيها: «وأنت تنقل كلامي هذا تذكر هذا: إننا عندما تواجهنا وجهًا لوجه، فإنهم هم من تراجعوا أولًا.»

ومع هذا لم تنقض الأزمة. فقد استمر العمل في مواقع الصواريخ، وتجمعت قوة غزو قوامها ١٤٠ ألف جندي في جنوب فلوريدا، ووضع كينيدي القوى النووية الاستراتيجية الأمريكية على أهبة الاستعداد. وفي خطاب مرسل إلى كينيدي في السادس والعشرين من أكتوبر أظهر خروشوف استعداده للتسوية، وبالرغم من إدانته للحصار الأمريكي ووصفه إياه بالقرصنة البحرية، فإنه أبدى استعداده لإزالة الصواريخ من كوبا في مقابل التعهد الأمريكي بعدم غزو الجزيرة. وفي انعطاف مثير للأحداث أظهر خروشوف في اليوم التالي خطابًا آخر أكثر عداوة موجهًا إلى كينيدي، رفع فيه الحاكم الروسي على نحو مفاجئ من ثمن التسوية، وطالب ليس فقط بالتعهد بعدم الغزو بل بإزالة صواريخ جوبيتر الأمريكية من تركيا. تلك الصواريخ، التي صارت جاهزة للعمل في ذلك العام، كانت رمزًا مريرًا لتدني المنزلة النووية للسوفييت، مع أن المختصين النوويين الأمريكيين كانوا يعدونها ذات قيمة استراتيجية ضئيلة.

في الثامن والعشرين من أكتوبر، في اللحظة ذاتها التي بدا فيها الموقف خارجًا عن السيطرة، توصل المفاوضون الأمريكان والسوفييت إلى حل مؤقت. وقدمت الولايات المتحدة تسوية لإنهاء الموقف، لعب فيها شقيق الرئيس النائب العام روبرت إف كينيدي دورًا محوريًّا؛ مبنية بالأساس على خطاب خروشوف الأول، وهو ما قبلته موسكو. وبهذا وافق السوفييت على إزالة صواريخهم من كوبا، فيما تعهد الأمريكان من جانبهم بعدم غزو الجزيرة. كشف خروشوف على الفور عن الخطوط العريضة للاتفاق في خطاب إذاعي. وفي ملحق إضافي، لم يُنشر للعامة وقتها، أشار خروشوف في خطاب شخصي إلى كينيدي عن تفهمه أن الإزالة المستقبلية لصواريخ جوبيتر من تركيا تمثل أيضًا عنصرًا أساسيًّا بالصفقة، وذلك كما وعد روبرت كينيدي المندوب السوفييتي من قبل. لكن تحت إلحاح الولايات المتحدة، لم يُربط على نحو مباشر بين إزالة صواريخ جوبيتر والأزمة الكوبية لأن الصواريخ التركية كانت تقع من الناحية التنظيمية تحت سيطرة حلف شمال الأطلسي، لا السيطرة الأمريكية.

طوال الأربعة عقود الماضية تجادل الباحثون ومحللو السياسات والمسئولون الحكوميون السابقون بقوة حول كل جانب من جوانب هذا الموقف الذي كاد يفضي إلى كارثة، وعادة ما تتباين أحكامهم المبنية على التأويل بشكل كبير. فبينما أثنى البعض على إدارته الحصيفة للأزمة واحتفاظه برباطة جأشه في ذروتها، ألقى آخرون باللوم على الرئيس الأمريكي لاستعداده أن يشن حربًا نووية، ومن ثم المخاطرة بحياة عشرات الملايين من الأمريكيين والسوفييت والكوبيين والأوروبيين، بسبب وضع بعض الصواريخ التي لم تغير في نهاية المطاف على نحو جوهري من التوازن النووي القائم. وفي وقت لاحق عزا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق دين أتشيسون، الذي كان حاضرًا اجتماعات اللجنة التنفيذية، نجاح كينيدي في أزمة الصواريخ الكوبية إلى «الحظ الصرف». ربما كانت هذه هي الخاتمة الأنسب لهذه الأزمة برمتها، خاصة حين ندرك إلى أي مدى كان العالم على شفا حرب نووية في أكتوبر ١٩٦٢. وعلى نحو مشابه، علينا الإقرار بأن حذر وحصافة كينيدي الغريزيين، في وجه الضغط العاصف من جانب مستشاريه العسكريين الداعي لتبني استجابة أكثر عدوانية، لعبا دورًا كبيرًا في الإنهاء السلمي لتلك الأزمة المحفوفة بخطر لا نظير له.

بالتأكيد توضح أزمة الصواريخ الكوبية محورية عدم التوازن النووي في هذه المرحلة من الحرب الباردة، وذلك كسابقتيها في مضيق تايوان وبرلين. شعر صناع القرار الأمريكيون بثقة مفرطة في قدرتهم على إرغام السوفييت على التراجع في أي مواجهة، ومن هذا المنطلق مثل تفوق دولتهم النووي الورقة الرابحة المؤكدة، وهي حقيقة حياة العصر الذري التي أدركتها تمام الإدراك كل من موسكو وواشنطن. ومع ذلك أدرك كلا الجانبين أيضًا أن التفوق الأمريكي الكبير في الرءوس النووية القادرة على ضرب أهدافها كان ظاهرة وقتية. فقد توقع الخبراء الأمريكان أن يتمكن السوفييت من تحقيق تكافؤ نووي نسبي في المستقبل القريب، ومن جانبهم كان مخططو الدفاع السوفييت عازمين على رأب الفجوة في أسرع وقت ممكن. وبكلمات تعبر عن مزيج من المرارة والعزم الذي لا يلين المتغلغلين بين صفوة الكرملين، حذر نائب وزير الخارجية الروسي فاسيلي كوزنتزوف أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في أعقاب أزمة الصواريخ بوقت قصير بقوله: «لن تستطيعوا أن تفعلوا هذا بنا مجددًا أيها الأمريكيون.»
fig13
شكل ٥-٣: خروشوف وكاسترو يتعانقان في الأمم المتحدة، سبتمبر ١٩٦٠.5

صار هذا التعهد أساس السياسة السوفييتية فيما بعد. انخرطت موسكو في جهد مشترك لزيادة ترسانتها النووية، وتعزيز أسطول طائراتها، وتحسين برنامج صواريخها النووية في أعقاب مواجهة الكاريبي. وفي غضون سنوات قلائل طور السوفييت جيلًا جديدًا من الصواريخ البالستية متوسطة المدى منحهم ما لم يملكوه منذ أرغم كينيدي خروشوف على الانسحاب بسرعة من كوبا: القدرة شبه المؤكدة على إيقاع الضرر البالغ بالأراضي الأمريكية في أي صراع نووي. هذا الإنجاز الذي تأكد في وسط الستينيات بَشَّرَ بتغيير دائم في معادلة التسليح النووي، وما استتبعه من تغير في طبيعة الحرب الباردة. وبمجرد أن امتلك الطرفان القدرة على إيقاع ضرر غير مقبول بالآخر، أو إلى هذا ذهب تفكير المحللين الاستراتيجيين النوويين، عندئذٍ لن يقدم أي من الطرفين على المخاطرة بنشوب صراع نووي. وفق هذا المنطق المتفائل، الذي سريعًا ما سمي بعقيدة التدمير المتبادل المؤكد، فإن امتلاك كل قوة عظمى لمخزون ضخم من الأسلحة النووية عزز الأمن العالمي بأن جعل الصراع النووي مدمرًا للذات على نحو غير منطقي من منظور كلا الطرفين.

تستحق أزمة الصواريخ الكوبية أن توصف بأنها إحدى نقاط التحول في الحرب الباردة لأسباب أخرى أيضًا، فبعد أن لاح أمامهم شبح الحرب النووية، أدرك القادة الأمريكان والسوفييت الحاجة إلى تجنب المواجهات المستقبلية على نمط الأزمة الكوبية، وبدءوا في أخذ بعض الخطوات الجادة في هذا الاتجاه. في يونيو ١٩٦٣، ربط «خط ساخن» بين الكرملين والبيت الأبيض لتسهيل التواصل المباشر في أوقات الأزمات. وفي أغسطس ١٩٦٣، وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على معاهدة حظر التجارب النووية، التي تمنع التجارب النووية كافة عدا تلك التي تجري تحت الأرض. وبعدها بشهرين، صدق الطرفان على قرار للأمم المتحدة يمنع إطلاق الأسلحة النووية من الفضاء. وحتى لغة الخطاب بين الطرفين هدأت على نحو ملحوظ، مع امتداح خروشوف لخطاب كينيدي الاسترضائي في الجامعة الأمريكية في يونيو ١٩٦٣، الذي قال فيه الرئيس الأمريكي إنه يجب توجيه المزيد من الاهتمام «إلى مصالحنا المشتركة وإلى الوسائل التي يمكن بها تسوية خلافاتنا».
fig14
شكل ٥-٤: القائد العسكري والزعيم السياسي الفرنسي شارل ديجول.6

كان لأزمة الصواريخ الكوبية تأثيرها على التحالف الغربي أيضًا. فقد تعلم بعض شركاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، وعلى الأخص فرنسا وألمانيا الغربية، الدرس غير المريح الذي مفاده أن واشنطن تتصرف على الدوام بدافع من مصالحها الخاصة في أي مواجهة مع الاتحاد السوفييتي، حتى لو كانت الأرواح الأوروبية على الخطوط الأولى للمواجهة. وبالرغم من الانحياز التام للولايات المتحدة خلال الأزمة، وابتهاجها بالتهدئة التي شهدتها العلاقات بين الشرق والغرب بعد ذلك، فإن هذه الدول تزعزعت ثقتها بنفسها بسبب قرار إدارة كينيدي بإعلامها بأفعال الولايات المتحدة بدلًا من التشاور معها بشأنها. وقد خشي الرئيس الفرنسي شارل ديجول من أن فرنسا قد تواجه في يوم ما «الفناء دون أن يؤخذ برأيها». ولاقتناعه بأن أمن دولته، وأمن أوروبا ككل، سيتعزز أكثر بواسطة سياسة خارجية فرنسية أكثر استقلالًا، عمد ديجول إلى تطوير القوة النووية الفرنسية المستقلة، وأبعد فرنسا عن الهيكل العسكري لحلف شمال الأطلسي الخاضع للسيطرة الأمريكية، ووطد العلاقات بين باريس وبون. كل هذه النزعات حملت تبعات عميقة على العلاقة الثلاثية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وحلفاء أمريكا الأوروبيين القلقين. والأمر عينه ينطبق على أطول صراعات حقبة الحرب الباردة وأكثرها دموية وإثارة للجدل.

شارل ديجول

تولى ديجول — الجنرال الفرنسي الذي ترأس الحكومة الفرنسية في المنفى خلال الحرب العالمية الثانية — رئاسة فرنسا عقب تحرير البلاد مباشرة، وعاد إلى السلطة مجددًا عام ١٩٥٨. وكرئيس لفرنسا من عام ١٩٥٨ وحتى تقاعده في عام ١٩٦٩، جاهد ديجول المعتز اعتزازًا كبيرًا بذاته وبقوميته لتطوير دور قيادي لفرنسا داخل أوروبا من شأنه أن يكون مستقلًّا عن المحور الأنجلو أمريكي. كانت المعاهدة الفرنسية الألمانية للتعاون والدعم المشترك والتنسيق الاستراتيجي التي بادر بها ووقعت في يناير ١٩٦٣ حجر الأساس لخطط ديجول لخلق كتلة قارية نشطة. وفي عام ١٩٦٦ سحب ديجول فرنسا من هيئة الأركان المشتركة لحلف شمال الأطلسي، لكن ليس من الحلف ذاته.

فيتنام: العرض الجانبي المأساوي للحرب الباردة

تطرح حرب فيتنام أمام دارسي الحرب الباردة مفارقة كبيرة. فمن ناحية، بدا أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يتحركان صوب علاقة أكثر استقرارًا وأمانًا في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية. بدأ الجليد يذوب بين الطرفين. لكن في اللحظة نفسها التي بدأ يحدث فيها نوع من الوفاق المبدئي، كانت الولايات المتحدة تقترب من حرب في جنوب شرق آسيا البعيدة، وذلك لأسباب مرتبطة قطعًا بالحرب الباردة. وباغتيال كينيدي في عام ١٩٦٣، كانت الولايات المتحدة قد أرسلت ١٦ ألف مستشار عسكري إلى فيتنام الجنوبية، وسمحت لهؤلاء المستشارين بالانخراط في عمليات عسكرية ضد متمردي الفيت كونج، ودشنت عمليات استخباراتية سرية ضد فيتنام الشمالية، وعمقت على نحو كبير التزامها بالحفاظ على نظام غير شيوعي في فيتنام الجنوبية. وحين غادر ليندون بي جونسون البيت الأبيض بعدها بخمس سنوات، كان قرابة نصف مليون جندي أمريكي يتمركزون في فيتنام، عالقين في حرب ضروس منهكة ضد عدو مراوغ عازم على تحقيق أهدافه، يتلقى الدعم الدبلوماسي والمادي من كل من موسكو وبكين. ووقتها كان البيت الأبيض في عهد جونسون لا يواجه الحكومة الأمريكية المنقسمة بشدة حول فعالية حرب فيتنام وأخلاقيتها فقط، بل أيضًا حلفاء من «العالم الحر» كانوا منقسمين بالمثل. وبنهاية الستينيات، وفي بعض الحالات قبلها بوقت طويل، شكك عدد من الحلفاء المهمين على غرار كندا وفرنسا وبريطانيا العظمى وألمانيا وهولندا وإيطاليا واليابان علانية في علاقة تلك الجهود الأمريكية المكلفة في الهند الصينية بمصالح وسياسات الحرب الباردة العامة.

بيد أنه ليس من العسير تبين الأسباب الكامنة وراء قرار واشنطن المصيري بالتدخل في فيتنام بهذه القوة العسكرية الهائلة، حتى إن بدت هذه الأسباب مغلوطة من منظورنا الحالي. وهذه الأسباب مرتبطة بالأساس بمخاوف الحرب الباردة. فعلى النطاق الأشمل، نتج التدخل الأمريكي عن عزم الولايات المتحدة على احتواء الصين وأن تثبت في الوقت ذاته، للحلفاء والخصوم على السواء، مصداقية القوة الأمريكية ووفاءها بالتزاماتها إلى أبعد حد. ومن الصعب أن نختلف مع تقييم المؤرخ جورج سي هيرينج حين قال: «كان التورط الأمريكي في فيتنام عملية نمو طبيعية، إن لم تكن حتمية، لنظرة وسياسة عالمية — سياسة الاحتواء — تقبلها الأمريكيون داخل الحكومة وخارجها دون تشكك كبير لأكثر من عقدين.» ويجب التأكيد على أن هذه السياسة كانت لا تسعى لاحتواء الاتحاد السوفييتي وحده، بل الصين أيضًا، وأي حركات ثورية من العالم الثالث، خاصة تلك التي تميل إلى معاداة الغرب بقوة، يكون من المرجح أن تتحالف مع إحدى الدولتين الشيوعيتين الرائدتين أو كلتيهما.

مع بداية الستينيات كانت الصين قد حلت محل الاتحاد السوفييتي في جوانب عدة بوصفها أكثر غريم يخشاه الأمريكيون. فقد بدت الصين، أحد العملاقين الشيوعيين، الأكثر عداوة وغطرسة واتسامًا بالنزعة العسكرية. إن فترة ما بعد أزمة الصواريخ الكوبية، التي أشاعت الدفء في العلاقات الأمريكية السوفييتية، لم تشهد أي انفراجة في العلاقات الأمريكية الصينية المتوترة. في الواقع، أعاد دخول الصين في حرب سريعة مع الهند في أكتوبر ١٩٦٢ تأكيد المخاوف الأمريكية بشأن النزعات العدوانية لبكين. وقد كان مخططو الأمن القومي بإدارتي كينيدي وجونسون مقتنعين بأن الانقسام العدائي المتزايد بين الصين والاتحاد السوفييتي بث المزيد من الجرأة في نفوس قادة بكين، وهو ما جعلهم أكثر عدوانية ومغامرة واستعصاء على التنبؤ بأفعالهم، لا أقل. وقد أوضح القادة الأمريكيون، في مناسبات عدة، الارتباط بين نزعات الصين التوسعية المفترضة وحاجة الولايات المتحدة للتدخل في فيتنام. وقد قال جونسون في خطاب مهم ألقاه في أبريل ١٩٦٥: «فوق هذه الحرب — وفوق آسيا كلها — يخيم واقع آخر؛ شبح الصين الشيوعية المتعاظم. إن الصراع في فيتنام جزء من نمط أوسع للأغراض العدوانية [الصينية].» وعلق وزير الدفاع ماكنمارا في جلسة غير رسمية مع الصحافة في الشهر نفسه قائلًا إن بديل الحرب في فيتنام هو أن تهيمن الصين على جنوب شرق آسيا، وهو ما سيعني أن تكون «آسيا حمراء». وإذا انسحبت الولايات المتحدة من فيتنام، فسيحدث تحول كامل في ميزان القوى العالمي.

إن عزم الولايات المتحدة على إظهار مصداقيتها كقوة عظمى تقابل العدوان بعزم لا يلين وتحترم التزاماتها نحو حلفائها اتحد على نحو سلس مع النزعة المعادية للصين في السياسة الأمريكية. وفي تقييم تقليدي، حذر مستشار الأمن القومي ماك جورج بوندي الرئيس جونسون في أوائل عام ١٩٦٥ قائلًا: «المنزلة الدولية للولايات المتحدة، وجزء كبير من نفوذها، معرضان للخطر في فيتنام.» وقد كان جونسون وكبار مستشاريه، شأن جيل كامل من محاربي الحرب الباردة الأمريكيين، مقتنعين بأنه يجب الحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة بأي ثمن؛ إذ إن هذه المصداقية هي الرابط الذي لا غنى عنه لضم أجزاء نظام التحالف الأمريكي في الحرب الباردة بعضها إلى بعض إلى جانب كونها الرادع الرئيسي ضد العدوان الشيوعي.

أثرت متطلبات السياسة الداخلية بالمثل على القرارات السياسية الأمريكية. ففي بداية فترة رئاسته، تحدث كينيدي إلى أحد الصحفيين عن الوضع المتدهور في فيتنام قائلًا: «لا يمكنني التخلي عن أرض كهذه للشيوعيين ثم أتوقع من الشعب الأمريكي أن يعيد انتخابي.» خشي كل من كينيدي وجونسون من أن تتسبب خسارة فيتنام الجنوبية لمصلحة الشيوعيين في إضرام عاصفة سياسية بالداخل يكون من شأنها إصابة البلاد بالشلل، وإفساد فترتيهما الرئاسيتين. يرى المستشار السياسي جاك فالنتي أن جونسون كان مقتنعًا بأن الجمهوريين والديمقراطيين المحافظين «سيمزقونه إربًا» لو فشل في الصمود في وجه الشيوعية في جنوب شرق آسيا. وقد خشي أيضًا من تعرض برنامج الإصلاح الداخلي لإعاقة الكونجرس في حال وقوع هزيمة مذلة أمام الفيتناميين خلال فترة رئاسته.

لكن إذا كانت القوى التي تدفع الولايات المتحدة نحو الحرب في الهند الصينية قوية، فإنها لم تكن مستحيلة المقاومة بأي حال من الأحوال. فإدارة جونسون، التي عبرت نقطة اللاعودة في بداية عام ١٩٦٥ بقراريها المتلازمين بشن حملة قصف شاملة ضد فيتنام الشمالية وإرسال قوات مقاتلة إلى فيتنام الجنوبية، كان بمقدورها أن تختار عوضًا عن ذلك أن تتفاوض من أجل التسوية، مثلما فعلت إدارة كينيدي في لاوس في عامي ١٩٦١ و١٩٦٢. حثت كتل ضخمة من المناصرين، خاصة داخل الكونجرس ووسائل الإعلام الرسمية، إلى جانب أصوات رائدة من عواصم الحلفاء، كينيدي أولًا ثم جونسون على تبني هذا السبيل تحديدًا. وفي أغسطس ١٩٦٣ نادى الرئيس الفرنسي شارل ديجول علانية بتحييد فيتنام، وهو ما منح الولايات المتحدة حلًّا ينقذ ماء وجهها. لكن لم يكن كينيدي أو جونسون ليقبلا بحل دبلوماسي بديل، هذا الحل هو والهزيمة سواء. أظهر الزعيمان الأمريكيان موقفهما المتعنت في فيتنام الجنوبية بوصفه أمرًا متسقًا تمام الاتساق مع التزامات الحرب الباردة السابقة. وقد أصر جونسون في خطاب ألقاه في أغسطس من عام ١٩٦٤ على أن «التحدي الذي نواجهه في جنوب شرق آسيا اليوم هو التحدي نفسه الذي واجهناه بشجاعة والذي تصدينا له بقوة في اليونان وتركيا وبرلين وكوريا ولبنان والصين». وكثيرًا ما أكد وزير الخارجية الأمريكي راسك على أن الدفاع عن سايجون كان مماثلًا في الأهمية لأمن «العالم الحر» للدفاع عن برلين الغربية.

من البداية دب الشقاق بين أهم أعضاء حلف شمال الأطلسي. فأغلب الدول لم تر في انتصار القوات الشيوعية في فيتنام أمرًا كارثيًّا مثلما رأت شريكتها الولايات المتحدة. وخلافًا لواضعي السياسات في واشنطن، كانوا ينظرون إلى جنوب شرق آسيا كمطلب هامشي للأمن الغربي، مقللين من أهمية التهديد الإقليمي الصيني الذي أقلق الأمريكيين على هذا النحو، واختلفوا حول علاقة نظام فيتنام الجنوبية الغارق في الفساد وعدم الكفاءة بالموقف الإجمالي للغرب في الحرب الباردة. وقد تهكم حلفاء أمريكا من محاولات الأمريكيين إظهار الدفاع عن سايجون كأمر مماثل للدفاع عن برلين، بالرغم من عدم التعبير عن هذا التهكم علانية.

باختصار، لم يكن من يعارض تحرك جونسون نحو الصراع ذي النهاية المفتوحة في الهند الصينية سيجد نفسه خارجًا على اتفاق الرأي بين أطراف الحرب الباردة الذي كان سائدًا سواء داخل المجتمع الأمريكي أو داخل الدول والمجتمعات التي تؤلف التحالف الغربي الأوسع. لم يكن ديجول المتغطرس شديد الاستقلالية وحده هو من عارض هذا التدخل، بل كان هذا رأي رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون ورئيس الوزراء الكندي لستر بيرسون وغيرهما من قادة الدول الحليفة المخلصة. إلا أن الولايات المتحدة اختارت عدم الإنصات لتلك الأصوات الداعية للحيطة وضبط النفس. وخوفًا من العواقب — الاستراتيجية والنفسية والسياسية — للهزيمة في فيتنام، اختار جونسون ومستشاروه عن وعي الحل الحربي بدلًا من الدبلوماسي.

وبين عامي ١٩٦٥ و١٩٦٨ أرسلت إدارة جونسون الموارد والرجال إلى فيتنام الجنوبية بسخاء، وذلك في محاولة عقيمة لسحق حركة التمرد ذات الشعبية، وفي الوقت ذاته دعم سلسلة متعاقبة من الحكومات غير ذات الشعبية وغير الفعالة في سايجون. ومن جانبهما، أمدت موسكو وبكين هانوي بالمساعدات العسكرية والخامات التي كانت تحتاجها بشدة، وبهذا عقدت مهمة الولايات المتحدة أكثر وجعلت في الوقت ذاته الصراع يأخذ قالب الصراع بين الشرق والغرب. ومع استمرار الحرب على نحو غير حاسم، ازداد الشقاق — سواء داخل الولايات المتحدة أو بالخارج — وبدأ إجماع الآراء من أطراف الحرب الباردة الذي عضد التزامات الولايات المتحدة عبر البحار على مدار العقدين الماضيين في التصدع. وقد كشف «هجوم تيت» الذي شنه العدو في رأس السنة الفيتنامية في بدايات عام ١٩٦٨ على نحو سيئ عن تناقضات في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في فيتنام، والأهم من ذلك أنه كشف حدود القوة الأمريكية.

مثَّل العقد الذي بدأ بأزمتي مضيق تايوان وبرلين عام ١٩٥٨ وانتهى بهجوم تيت عام ١٩٦٨ تحولًا كبيرًا في مسار الحرب الباردة. لقد وصل الصراع بين الشرق والغرب إلى أكثر منعطفاته خطورة بين عامي ١٩٥٨ و١٩٦٢، وبلغ ذروته مع أزمة الصواريخ الكوبية. بعد ذلك، شهدت العلاقات الأمريكية السوفييتية بعض الدفء، لكنه ما لبث أن انتهى مع التصعيد الأمريكي في فيتنام. ومع هذا، بالرغم من حرب فيتنام، تمكنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي من تحاشي أي مواجهة كبرى أخرى بينهما في وسط الستينيات وأواخرها، مع الحفاظ في الوقت ذاته على قدر من الزخم الإيجابي الذي ولده التقارب الحادث في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية. وبحلول عام ١٩٦٨، كانت القوتان العظميان في الواقع تقتربان من اتفاق تاريخي بشأن الحد من التسليح الاستراتيجي. وقد ساعدت الطبيعة المتغيرة لديناميكيات الحرب الباردة الداخلية — في كل من الشرق والغرب — على جعل هذا الإنجاز ممكنًا.

هوامش

(1) US National Archives and Records Administration.
(2) From Paterson et al., American Foreign Relations, 5th edn., © 2000 Houghton Mifflin Company, used with permission.
(3) From Paterson et al., American Foreign Relations, 5th edn., © 2000 Houghton Mifflin Company, used with permission.
(4) © United States Department of Defense/John Fitzgerald Kennedy Library, Boston.
(5) © Corbis.
(6) Photos12.com/Bertelsmann Lexicon Verlag.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤