الفصل السادس

الحرب الباردة بالداخل

كان تأثير الحرب الباردة على بنية السياسة الدولية والعلاقات بين الدول عميقًا ومتعدد الأوجه حتى إنه صار من المتعارف عليه تسمية الفترة بين عامي ١٩٤٥ و١٩٩٠ باسم «حقبة الحرب الباردة». هذه التسمية تصير أكثر ملاءمة حين نتدبر الأثر القوي الذي خلفه الصراع السوفييتي الأمريكي من أجل السيطرة على العالم وإعلاء الأيديولوجية «داخل» العديد من دول العالم ذات السيادة، وهو موضوع هذا الفصل. بالطبع لا يمكن ربط كل تطور كبير جرى بين عامي ١٩٤٥ و١٩٩٠ بالحرب الباردة. وعلى المنوال نفسه فإن الكثير من التطورات تأثر بالحرب الباردة وتشكل وفقها، حتى إنه ليس بوسعنا تدوين تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين دون أن ندرك على نحو منهجي التبعات القوية، المشوِّهة في أحيان كثيرة، للصراع بين القوتين العظميين على دول العالم ومجتمعاته.

نالت التبعات الداخلية للحرب الباردة من اهتمام الباحثين المنهجي قدرًا أقل بكثير مما نالته العلاقات الدولية. وهذا الفصل يقدم مسحًا عامًّا غير تفصيلي لهذا الموضوع الضخم. وهو يعرض بعضًا من الطرق التي أثرت بها الحرب الباردة على مجموعة القوى الداخلية بالعالم الثالث وأوروبا والولايات المتحدة.

العالم الثالث: إنهاء الاستعمار، وتكوُّن الدول، وسياسات الحرب الباردة

لم يتصادف ظهور عشرات الدول ذات السيادة المستقلة حديثًا في شتى أرجاء العالم الثالث، وما صاحبه من عملية إنهاء للاستعمار اتسمت بالدموية أحيانًا وبالصراع دائمًا، مع الحرب الباردة من الناحية الزمنية وحسب، بل إن الحرب الباردة نفسها هي التي رسمت ملامح هذه العملية. ففي الواقع، أدى الصراع الشامل على القوة والنفوذ العالميين بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وحلفائهما إلى إيجاد مصطلح «العالم الثالث». إن هذا المصطلح السياسي الملائم، الذي ضم على نحو فضفاض مناطق العالم الفقيرة غير البيضاء وغير المنحازة، كان يشير ضمنًا إلى مناطق التنافس بين الغرب والشرق، أو ما يسمى بالعالمين الأول والثاني. في بعض الأحيان صعبت ضغوط الحرب الباردة الانتقال من الاستعمار إلى الاستقلال، وفي أحيان أخرى سهلتها. ومع أن التأثير المحدد للحرب الباردة تباين على نحو عظيم من أحد طرفي الصراع الاستعماري إلى الآخر، فإن التنافس بين القوتين العظميين لاح دومًا كعامل خارجي محوري. وأي تأريخ لعملية إنهاء الاستعمار لن يكون تامًّا إذا لم يتقصَّ السبل العديدة التي أثر بها الصراع بين القوتين العظميين على هذه العملية؛ من حركات التحرر في جنوب آسيا وجنوب شرقها في أواسط الأربعينيات وأواخرها، التي افتتحت حقبة إنهاء الاستعمار، وصولًا إلى مقاومة الأفريقيين للحكم الاستعماري البرتغالي في أوائل السبعينيات وأواخرها، الذي اختتم هذه الحقبة.

أيضًا جاء تكون الدول الجديدة لما بعد الحقبة الاستعمارية في أغلب أنحاء آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، وأجزاء من الكاريبي كذلك، على خلفية صراع الحرب الباردة ذي الحضور الدائم. فقد تأثر شكل وتماسك وحيوية تلك الدول، أو ترتيبات السلطة داخلها، أو قدرتها على جذب الانتباه الدولي والتمتع بالمكانة، أو قدرة قادتها على تأمين الموارد الخارجية ورأس المال والدعم التقني من أجل الوفاء بأولويات التنمية الاقتصادية أو حشد الدعم العسكري لتعزيز الاحتياجات الدفاعية؛ على نحو بالغ بالحرب الباردة. وفي مناح عدة، يستحيل تدوين تاريخ عملية تكون دول العالم الثالث في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية — على غرار تاريخ عملية إنهاء الاستعمار — دون الانتباه الحريص المنهجي لذلك العامل الخارجي المحوري.

طرحت الحرب الباردة أمام قادة العالم الثالث الطموحين نطاقًا معقدًا من المشكلات والتحديات والفرص. صار هذا واضحًا في البداية خلال الصراعات ضد الاستعمار في جنوب شرق آسيا عقب الحرب مباشرة. التمس كل من هو تشي منه وسوكارنو دعم الولايات المتحدة عقب استسلام اليابان مباشرة، واعتمدا في التماسيهما في إطار دعم أمريكا التاريخي لحق تقرير المصير. لكن سريعًا ما خاب أملهما حين أدركا أن التزام إدارة ترومان لحلفاء الحرب الباردة في أوروبا له الأولوية، وهو ما حال مبدئيًّا على الأقل دون أي التزام دبلوماسي أو عسكري لحركتي الاستقلال اللتين يمثلانهما. اتجه هو، عميل الكومينترن المخضرم والعضو المؤسس للحزب الشيوعي بالهند الصينية، إلى الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الشعبية طلبًا للدعم، وبالفعل بدأ في تلقيه مع بدايات عام ١٩٥٠. على العكس، أثبت سوكارنو معاداته للشيوعية من خلال قمع محاولة شيوعية داخلية للسيطرة على حركة الاستقلال الإندونيسية الأكبر. وبعد قمع تمرد ماديون في عام ١٩٤٨، أظهر القوميون الإندونيسيون الطبيعة المعتدلة لحركتهم، وهذا الفعل القوي شكل جزءًا من استراتيجية واعية إلى حد بعيد تهدف إلى السعي لنيل دعم الغرب، وخاصة دعم أمريكا. وفي النهاية حققت هذه الاستراتيجية هدفها حين ضغطت إدارة ترومان على هولندا في العام التالي لمنح الاستقلال لإندونيسيا التي رأت أنها تتمتع بقيادة معادية للشيوعية يمكن الاعتماد عليها.

يوضح المساران المتباينان تباينًا جذريًّا لمطلبي الحكم الذاتي القومي من جانب القوميين الفيتناميين والإندونيسيين بجلاء أهمية ديناميكيات الحرب الباردة «داخل» مجتمعات العالم الثالث. تلقي هاتان الحالتان أيضًا الضوء على الاختيارات المختلفة المتاحة لرجال الدولة القوميين خلال سعيهم لخوض غمار سياسات القوتين العظميين. وفي أقصى الحالات تطرفًا، تمكن هؤلاء القادة من التماس الدعم الأمريكي من خلال إظهار قناعاتهم المعادية للشيوعية وشخصياتهم المعتدلة وميولهم الموالية للغرب، أو على النقيض، كان بمقدورهم التماس الدعم السوفييتي أو الصيني بإظهار ميولهم الثورية المعادية للغرب.

في ذلك العالم ثنائي القطب الذي تعين على جميع حركات الاستقلال بالعالم الثالث من أواسط الأربعينيات حتى أواسط السبعينيات أن تواجهه، كان من الصعب تحاشي ضغط الاصطفاف إلى جانب أحد المعسكرين الأيديولوجيين وما صاحبه من نظام تحالف عسكري، خاصة أن المنافع المادية يمكن أن تتدفق، أو تُحجب، نتيجة الخيار المتخذ. وكلما اشتد السعي لنيل الاستقلال، زادت حاجة طالبي الاستقلال لدعم أي كتلة من الكتلتين. علاوة على ذلك، حين انهارت الائتلافات المعادية للاستعمار، كما حدث في الكونغو في عام ١٩٦٠ وأنجولا في عامي ١٩٧٤ و١٩٧٥، كانت العصب المتناحرة تعجز عن مقاومة إغراء طلب دعم إحدى القوتين العظميين لها. وقد أسهمت الرؤى الخاصة التي امتلكها الزعماء القوميون للمستقبل، والتي عادة ما تضمنت تحولات اقتصادية اجتماعية عسيرة المنال داخل بلادهم، في تعقيد الخيارات التي تفرضها عليهم ضغوط الصراع بين القوتين العظميين. فاللجوء للكتلة الغربية، بما تحمله من شكوك مترسخة حيال من يميلون للاستجابة لنداءات الاشتراكية، يمكن أن يقلص عدد المسارات التنموية والسياسية الأهلية، ويخاطر بتجريد النخب القومية المؤسِّسة من حرية الاختيار التي تتحرق إليها دائمًا. وعلى النقيض، من المؤكد أن يؤدي اللجوء للكتلة الاشتراكية إلى تقليل، أو استبعاد، خيار الحصول على الدولارات والدعم من أغنى دولة في العالم وأقوى دولة، وهي الولايات المتحدة.

مع الاستقلال، واجهت دول العالم الثالث الجديدة مجموعة كبيرة من المعضلات. سعى بعضها بنشاط لأخذ جانب الولايات المتحدة لأن الالتزام الرسمي مع الغرب بدا المسلك الأكثر توافقًا مع الاحتياجات الداخلية المحورية. ففي حالة باكستان، مثلًا، سعت النخب الحاكمة لتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة بكل قوة منذ الأيام الأولى للدولة الوليدة، وصارت حليفًا رسميًّا في وسط الخمسينيات من خلال التفاوض على اتفاقية أمنية ثنائية مع واشنطن وعضوية حلفين متعددي الأطراف. كان من شأن العلاقة مع الولايات المتحدة أن توفر لباكستان الحماية من الهند، غريمتها الإقليمية، أكثر من الاتحاد السوفييتي، أو هكذا ظن كبار واضعي السياسات الباكستانيين. وبهذا وفرت هذه العلاقة السبيل للمساعدة في ضمان بقاء أكثر تجارب بناء الدولة تقلقلًا، وذلك في ضوء بناء باكستان السياسي المنقسم عرقيًّا ولغويًّا وجغرافيًّا، وفي الوقت ذاته عملت على تقوية الموقف المهيمن داخل دولة جماعة البنجاب العرقية تلك، الذي كان يضغط بقوة طلبًا للمساعدة الأمريكية والتحالف مع الغرب. وعلى مدار العقد ونصف العقد التاليين، شكلت التزامات باكستان الخاصة بالحرب الباردة، إلى جانب المساعدات العسكرية والاقتصادية التي نتجت عنها، مجموعة القوى الداخلية بالبلاد. دعم التحالف مع الولايات المتحدة النخبة البنجابية، والجيش الباكستاني تحديدًا، وذلك على حساب منافسي السلطة الداخليين الآخرين، وهو ما أخل بالتوازن السياسي للبلاد منذ ظهورها للنور تقريبًا.

مثال دامغ آخر يأتينا من تايلاند، حيث سعى قادتها لإرساء علاقة مع الولايات المتحدة لخليط مشابه من الأسباب. كان جزء من استراتيجيتهم القومية الراسخة منذ زمن يقوم على وجود راعٍ خارجي، وذلك خوفًا من الصين، جارتها الضخمة التي قد تسبب لها الخطر، سواء أكان هذا الراعي شيوعيًّا أم لا. وفرت الحرب الباردة للنخبة التايلاندية سبيلًا لتأمين تلك الرعاية الخارجية نظرًا لأن احتياجاتهم تصادف أنها توافقت مع بحث أمريكا عن حلفاء من العالم الثالث. وشأن نظرائهم في باكستان، سعى القادة العسكريون التايلانديون أيضًا لتوثيق العلاقة مع الولايات المتحدة وما ينتج عنها من تدفق للأموال بغرض إحكام قبضتهم الداخلية على السلطة وإسكات الأصوات المنشقة. ونتيجة لذلك، تغير تاريخ تايلاند الحديث على نحو عميق.

مع أن كل ظرف بعينه يكشف بطبيعته عن سمات فريدة، يظهر نمط عريض جلي في ظله اختارت بلدان العالم الثالث تلك التحالف مع الغرب بدافع من أسباب داخلية، لا بسبب خوفها من الشيوعية، وفي ظله تأثرت التطورات الداخلية في هذه البلدان على نحو عميق. فكل دولة من هذه الدول المتنوعة — ومن بينها العراق وإيران والسعودية وتركيا وباكستان والفلبين وسيلان وكوريا الجنوبية وتايلاند، وهذه فقط أبرز الدول لا جميعها — وجدت أن أولوياتها الداخلية ومواردها المتاحة وتوازن القوى الداخلي كلها تأثرت على نحو بالغ بقرار قادتها بالتحالف على نحو رسمي أو غير رسمي مع الغرب. بطبيعة الحال بعض هذه الدول كان ناشئًا، وجاء بعد صراع من أجل الاستقلال، لكن بعضها كان دولًا أقدم بكثير تعرضت مكانتها ككيانات مستقلة للتهديد، لكنها لم تخضع قط على نحو تام للاستعمار الغربي. ومع ذلك، بالرغم من هذا التباين التاريخي، فالبصمة القوية التي خلفتها الحرب الباردة على كل دولة تظل واضحة أشد الوضوح.

راقت استراتيجية عدم الانحياز المصطنع لمجموعة أخرى من قادة دول العالم الثالث، الذين آمنوا أن الأهداف القومية المهمة يمكن تحقيقها على نحو أكثر فعالية من خلال تحاشي أي التزام رسمي سواء للشرق أو للغرب. وقد جاهد كل من سوكارنو في إندونيسيا وجمال عبد الناصر في مصر وكوامي نكروما في غانا وجواهرلال نهرو في الهند، من بين آخرين، لاستقلال دولهم عن طرفي الصراع في الحرب الباردة على السواء. العوامل المعقدة الكامنة خلف حسابات نهرو في تبني مسلك غير منحاز تلقي الضوء على هذا الأمر. فقد حذر نهرو قائلًا: «بمجرد أن تخرج العلاقات الخارجية من أيدينا لتصير تحت إمرة شخص آخر، فإلى هذا الحد ووفق هذا المعيار لم نعد مستقلين.» كان نهرو — أول رئيس وزراء للهند — مقتنعًا بأن دولته الفتية يمكنها تعظيم مكانتها ونفوذها الدوليين في مجالس العالم من خلال تبني دور القوة الثالثة في شئون العالم. علاوة على ذلك، سيتمكن حزب المؤتمر الحاكم بهذا من تجنب عزل بعض القوى السياسية المؤثرة داخل الكيان السياسي الهندي شديد التنوع الذي كان يحدث على نحو حتمي كنتيجة للالتزام الرسمي تجاه الشرق أو الغرب. إضافة إلى ذلك، بالحفاظ على الاستقلال عن نطاق النفود الأمريكي والسوفييتي، رأى المخططون الهنود أنهم سيتمكنون من اجتذاب المزيد من المعونات التنموية من كلا المعسكرين. وقد أسرَّ نهرو الواقعي إلى أحد معاونيه قائلًا: «حتى فيما يخص قبول المساعدة الاقتصادية، ليس من الحكمة أن تضع كل البيض في سلة واحدة.» ومن المؤكد أن كلًّا من سوكارنو وعبد الناصر ونكروما كانوا يتفقون تمامًا مع وجهة النظر هذه. ومع أن هذا سبب الضيق للساسة الأمريكيين إبان الحرب الباردة، الذين تعاملوا دائمًا بمنطق «إذا لم تكن حليفًا فأنت عدو»، فإنهم كانوا مجبرين في الواقع على التنافس على ولاء دول العالم الثالث غير المنحازة، أو المحايدة.

إجمالًا، علينا الإقرار بالدور الذي لعبته دول العالم الثالث وهي تحاول تسخير الواقع الدولي السائد في عصرها؛ أي الحرب الباردة، في تعظيم مكاسبها المحتملة، أو على الأقل تقليل خسائرها المحتملة. لكن يجب أيضًا أن ندرك أن العديد من عواقب الحرب الباردة على شعوب العالم الثالث ومجتمعاته كانت غير متوقعة، مثلما كانت أيضًا خارجة عن سيطرة أي دول بعينها. وفي هذا النطاق، يجدر بنا أن نعيد التأكيد على أن العالم الثالث ظهر للوجود كساحة الصراع الرئيسية للحرب الباردة منذ عام ١٩٥٠. وقد صارت الصراعات ذات الجذور المحلية — شأن كوريا والكونغو وفيتنام وأنجولا وأفغانستان ونيكاراجوا — أكثر تكلفة بكثير لأن الصراع بين القوتين العظميين خلف بصمته عليها. ويجدر بنا هنا أن نتذكر أن السواد الأعظم من العشرين مليون شخص الذين يعتقد أنهم لقوا حتفهم في الحروب التي استعرت في أرجاء العالم بين عامي ١٩٤٥ و١٩٩٠ كانوا ضحايا لصراعات بالعالم الثالث، وأغلب هذه الصراعات كان مرتبطًا ولو على نحو غير مباشر بالحرب الباردة.

تأثير الحرب الباردة داخل أوروبا

يضرب تأثير الحرب الباردة داخل أوروبا أروع صور التناقض. فإذا أمكن إلقاء اللوم على الصراع السوفييتي الأمريكي لإشاعته الكثير من الحروب والخراب وعدم الاستقرار في الدول البازغة بين عامي ١٩٤٥ و١٩٩٠، فإن له على العكس من ذلك الفضل الأكبر في إرساء حقبة غير مسبوقة من السلام والرخاء والاستقرار في أوروبا. ومن قبيل المفارقة أن النزاع الأيديولوجي والجيوسياسي الذي بدأ صراعًا على مصير أوروبا لم ينتهِ به الحال في الواقع إلى الابتعاد عن أوروبا وحسب، بل إلى إرساء الأساس الجوهري لأطول حقبة ازدهار اقتصادي في التاريخ الأوروبي. صاحب هذه الحقبة من الازدهار، بل تسبب في وجودها، السلام الدائم المنتشر في ربوع القارة والتحرك السريع نحو التكامل السياسي والاقتصادي داخل أوروبا الغربية، وهما الأمران اللذان ساعدت الحرب الباردة على تحقيقهما. وقد تزامن «العصر الذهبي» للتوسع والإنتاجية الرأسماليين، الذي امتد من أواخر الأربعينيات وحتى أوائل السبعينيات، مع أول عقدين ونصف العقد من الحرب الباردة، وقد تعزز من نواح عدة بهذه الحرب عينها. شهدت تلك السنوات «أكثر الثورات تأثيرًا وسرعة وعمقًا في التاريخ الإنساني المدون»، وذلك وفق التقييم الملائم للمؤرخ إريك هوبسباوم. ويضيف المؤرخ دون يونج قائلًا: «في نظر الكثيرين الذين عايشوا الكساد العظيم والحرب، بدت أوروبا الغربية أرض الميعاد.»

عززت الاتجاهات الاقتصادية والسياسية والأمنية بعضها بعضًا في أوروبا خلال حقبة الحرب الباردة. لا ريب أن الثلاثة عشر مليار دولار التي ضُخت في أوروبا الغربية بموجب مشروع مارشال الأمريكي للمساعدة بين عامي ١٩٤٨ و١٩٥٢ قد ساعدت في دفع الازدهار في فترة ما بعد الحرب، حتى مع استمرار المؤرخين الاقتصاديين في الجدل بشأن الثقل المحدد الذي يمكن تعيينه لهذا الإسهام الأمريكي. أيضًا لعبت المظلة الأمنية الأمريكية والدعم الأمريكي الذي شجع كلًّا من اندماج ألمانيا الغربية في أوروبا الغربية وتحركها الموازي نحو التكامل الإقليمي الأوسع دورًا كبيرًا في هذا الأمر. وأحيانًا ما حذا رجال الدولة الأوروبيون حذو أمريكا، لكن كثيرًا ما تولوا زمام أمورهم بأنفسهم وانتهزوا الفرص التي قدمتها لهم الحرب الباردة واحتلال ألمانيا والاهتمام الأمريكي الجديد بالشئون الأوروبية لصياغة التغيرات الإقليمية والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية التي رأوا أنها ضرورية. وقد أدركوا هم ومساندوهم الأمريكان منذ البداية، كما يذكر المؤرخ هيرمان جوزيف روبيبر «أنهم لو رغبوا في تحقيق الديمقراطية والرخاء في النصف الغربي من القارة الأوروبية المقسمة، فعلى أوروبا الغربية، بمساعدة أمريكا وحمايتها، أن تتحرك صوب نظام سياسي وعسكري واقتصادي متكامل». أيضًا كان قادة الدول الأوروبية الكبرى على وعي كبير بأن مشكلة ألمانيا، التي أقلقت أمن القارة لأجيال، كانت بحاجة للحل حتى يمكن تسخير القدرة الإنتاجية الألمانية لمصلحة التعافي الاقتصادي لأوروبا، لكن دون أن تبزغ ألمانيا من جديد كخطر عسكري.

عمل القادة بابتكارية وبعزم شديد من أجل العثور على حلول لتلك المشكلات. وفي يوليو ١٩٥٢، شكلت فرنسا وإيطاليا وجمهورية ألمانيا الاتحادية وبلجيكا وهولندا ولكسمبورج «الجماعة الأوربية للفحم والصلب». وفي مارس ١٩٥٧، وفي خطوة أكثر جرأة وأهمية على سبيل الوحدة، وقعت الدول الست عينها على اتفاقات روما المؤسسة لكل من «الجماعة الاقتصادية الأوروبية» و«الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية». سهل التقارب التاريخي بين فرنسا وألمانيا من إنشاء تلك المنظمات الناجحة المتجاوزة لنطاق الدول. وكما قال المستشار الألماني كونراد أديناور فإن «ألمانيا وفرنسا جارتان شنتا الحرب إحداهما على الأخرى مرة تلو الأخرى على مر القرون. ويجب وقف هذا الجنون الأوروبي على نحو تام». وقد أظهرت معدلات النمو المبهرة للجماعة الاقتصادية الأوروبية، التي كانت في طليعة الازدهار الاقتصادي لأوروبا الغربية كلها، المزايا الملموسة لاستبدال التعاون الاقتصادي بالتنافس العسكري. وبحلول عام ١٩٦٠، أسهمت «مجموعة الست» مجتمعة بربع الإنتاج الصناعي وخمسي إجمالي التجارة الدولية.

كان المواطنون الأوروبيون العاديون هم المستفيدين الأساسيين من تلك التطورات. فقد وفر لهم النمو الاقتصادي المستدام أجورًا أعلى، وساعات عمل أسبوعية أقل، ومنافع اجتماعية سخية، وأحدث تحسنًا في الصحة والتعليم. أيضًا أسهم نجاح الصيغة الإنتاجية — والقائمة في جوهرها على فكرة تحقيق ازدهار اقتصادي كبير ومن ثم يعود النفع على الجميع — في الاستقرار السياسي، وقلل من التوتر التقليدي بين العمال وأصحاب رأس المال، وقلل من شعبية الأحزاب الشيوعية بأوروبا الغربية. اختفت البطالة بالكامل تقريبًا؛ إذ لم يتجاوز متوسطها ٢٫٩٪ في كل أنحاء أوروبا الغربية في عام ١٩٥٠ و١٫٥٪ فقط في الستينيات. وبالمقارنة بالماضي، كانت أوروبا الغربية وقت الحرب الباردة جنة حقيقية للمستهلكين، وكسبت الطبقتان العاملة والوسطى على نحو متزايد دخولًا تكفيهم لشراء السلع التي كانت في الماضي مقصورة على الأثرياء وحسب. ففي إيطاليا، مثلًا، قفز عدد الأفراد الذين يقتنون سيارات خاصة من ٤٦٩ ألف شخص عام ١٩٣٨ إلى ١٥ مليون شخص عام ١٩٥٧. وفي بريطانيا قفزت نسبة من يملكون ثلاجات منزلية من ٨٪ فقط عام ١٩٥٦ إلى ٦٩٪ عام ١٩٧١. وبحلول عام ١٩٧٣ كان ٦٢٪ من الأسر الفرنسية يأخذون إجازات سنوية، وهي ضعف النسبة في عام ١٩٥٨. ومما يشهد على هذا أن رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان تقرب للناخبين في الانتخابات العامة لعام ١٩٥٩ بالشعار اللافت «لم يسبق لنا أن مررنا بهذا الرخاء».

خلال العقود القليلة التالية على الحرب العالمية الثانية، أغلق المستهلكون الأوروبيون على نحو كبير الفجوة التي طالما فصلت بينهم وبين نظرائهم الأمريكيين. وبحلول الستينيات، صار المجتمعان يتسمان بالسمات التي يطلق عليها ديفيد رينولدز السمات الجوهرية للمجتمعات الموجهة للمستهلك وهي: «السلع المنزلية المنتجة إنتاجًا ضخمًا، والزيادة في عدد السكان ذوي الدخول المرتفعة، والائتمان الأكبر، والإعلان الأقوى». وبما أن الحرب الباردة كانت أيضًا معركة على قلوب وعقول ومعدة المواطنين الكادحين، فإن النجاح المبهر للاقتصاديات الرأسمالية خلال الربع الثالث من القرن العشرين عزز على نحو كبير الادعاءات السياسية والأيديولوجية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

إن مواطن القصور المجتمعة للاقتصاديات الشمولية التي سارت على النموذج السوفييتي في أوروبا الشرقية، التي عانت من أجل الوفاء بالاحتياجات الأساسية لمجتمعاتها، عززت ادعاءات التفوق الغربية بشكل أكبر. ومن الستينيات فصاعدًا، انفتحت فجوة متزايدة الاتساع بين الظروف المادية في نصف أوروبا الشرقي ونصفها الغربي. في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مرت أغلب المجتمعات الزراعية شرق نهر الألب بتحول مباغت من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وذلك تحت الإشراف المباشر لستالين. شرعت الأحزاب الشيوعية الحاكمة في أوروبا الشرقية، التي تحاكي على نحو وثيق النموذج السوفييتي، في تبني سياسات للتصنيع السريع القسري وفي الوقت ذاته إخضاع الدوافع القومية لواجبات «الأممية البروليتارية»، كما حددتها موسكو. لا شك أن المواطنين الطبيعيين تمتعوا ببعض المنافع؛ إذ تحسنت الرعاية الصحية، والغذاء، وانخفضت نسب الوفيات، وزادت فرص التعليم، وتحقق التوظيف الكامل. بيد أن تلك المكاسب تحققت بتكلفة مرتفعة للغاية في البلدان التي صار فيها القمع السياسي والاضطهاد الديني وكبت الحريات الفردية وفرض الامتثال الأيديولوجي أمورًا طبيعية، مثلما كان الحال لفترة طويلة داخل الاتحاد السوفييتي ذاته. سجلت الاقتصاديات الشمولية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي تقدمًا مبهرًا حتى نهاية الخمسينيات، بل إنها فاقت اقتصاديات أوروبا الغربية من ناحية معدلات النمو السنوية. لكن بحلول الستينيات، تباطأ هذا النمو على نحو بالغ؛ إذ اتضحت على نحو متزايد المشكلات الكامنة في نماذج التخطيط الهرمية، إلى جانب عجز دول الكتلة الشرقية عن الوفاء بطلبات المستهلكين المتزايدة.

عقيدة بريجينيف

قرر المكتب السياسي السوفييتي استخدام القوة لسحق التعددية السياسية النشطة في تشيكوسلوفاكيا بسبب الخوف من تفشي الليبرالية في أرجاء أوروبا الشرقية، مما قد يؤدي إلى تقويض سلطة الكرملين هناك. وفي السادس والعشرين من سبتمبر ١٩٦٨، أصدرت الصحيفة الرسمية «برافدا» ما صار يعرف بعد ذلك بعقيدة بريجينيف لتبرير هذا الغزو. قضت هذه العقيدة أن بإمكان القادة الوطنيين اتباع مسارات تنموية مختلفة، لكن فقط لو أن تلك المسارات لا تضر بالاشتراكية داخل الدولة ولا تسبب الضرر للحركة الشيوعية الأوسع. بعبارة أخرى، سيحدد الكرملين حدود التنوع داخل أوروبا الشرقية.

واجهت الجهود الدورية الرامية إلى تحرير النظم السياسية والاقتصادية داخل دول حلف وارسو المنفردة الفشل المتواصل خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين. كان الاتحاد السوفييتي، سواء تحت زعامة ستالين الصارم أم خروشوف الأكثر مرونة أم بريجينيف العنيد، غير مستعد ببساطة للتسامح مع أي إصلاح هيكلي حقيقي أو السماح بأي تنوع سياسي حقيقي داخل نطاق نفوذه. وقد أرسى ازدهار «ربيع براج» لعام ١٩٦٨ ونهايته السريعة حدود التحرر على نحو واضح ومؤلم. ففي يناير من ذلك العام، اعتلى ألكسندر دوبتشيك، الزعيم الشيوعي ذو التوجه الإصلاحي، سدة الحكم في تشيكوسلوفاكيا. وقد جاهد للوفاء بالمطالبات الشعبية الصاخبة بالمزيد من الإصلاحات السياسية والإصلاحات الاقتصادية ذات المغزى وفي الوقت نفسه الحفاظ على دعم الاتحاد السوفييتي والوحدة داخل حزبه الشيوعي الحاكم. لكن تبين أن هذا التوازن مستحيل. وفي ليلة العشرين من أغسطس ١٩٦٨ دخلت الدبابات السوفييتية تشيكوسلوفاكيا وسحقت تجربة التعددية السياسية الواعدة، تمامًا كما حدث في المجر قبلها باثني عشر عامًا. وفي حكمة، اختار التشيكيون عدم المقاومة، وهو ما حافظ لا ريب على أرواح الآلاف. ومن تلك النقطة فصاعدًا، لم يعد هناك من شك في أن السيطرة السوفييتية على أوروبا الشرقية استندت في النهاية إلى القوة الصريحة، وعلى الاستعداد لاستخدامها.

شهد عام ١٩٦٨ نقطة تحول مهمة في التاريخ الداخلي لأوروبا الغربية في حقبة الحرب الباردة أيضًا. ففي مايو من ذلك العام، نظم الطلاب والعمال في باريس سلسلة من المظاهرات التي كادت تطيح بحكومة ديجول. كانت الاحتجاجات الفرنسية هي الأكثر تأثيرًا في سلسلة التحديات التي واجهت بُنى السلطة السائدة واجتاحت أوروبا الغربية والولايات المتحدة في عام ١٩٦٨. وبالرغم من تمتع كل حركة بسماتها المحلية الخاصة، فإن ازدهار ثقافة الشباب، و«اليسار الجديد»، والروح المعادية للتقاليد السائدة والسلطة داخل أغلب الديمقراطيات الغربية يوحي بوجود روابط مشتركة بينها. ويبدو أن نجاح الحرب الباردة في أوروبا الغربية هو ما أنتج جيلًا جديدًا أخذ الثمار الرئيسية لذلك النظام — السلام والاستقرار والسعة المادية والمنافع الاجتماعية المتزايدة والفرص التعليمية — كأمور مسلم بها. وفي فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية، وغيرها من البلاد، بدأ هذا الجيل الجديد، المدفوع جزئيًّا بالتدخل الأمريكي المغضوب عليه شعبيًّا في فيتنام، في التشكيك في بعض حقائق الحرب الباردة. هل احتواء الشيوعية يستلزم بالضرورة التدخلات الدموية في العالم الثالث؟ هل لا يزال الاتحاد السوفييتي يمثل تهديدًا؟ هل وجود القوات الأمريكية والأسلحة النووية على الأراضي الأوروبية له ما يبرره؟ هل يمكن لسياسات غربية بديلة أن تقلل من فرص وقوع حرب نووية مهلكة؟ ومن ثم، بدأ الإجماع حول السياسات الخارجية والعسكرية الخاصة بالحرب الباردة في التفتت داخل أوروبا الغربية المزدهرة حديثًا، ولاقى النظام السياسي الذي دعمه المصير ذاته.

تأثير الحرب الباردة داخل الولايات المتحدة

أيضًا خلفت الحرب الباردة بصمة لا تمحى على الدولة والمجتمع داخل الولايات المتحدة. ففي الواقع، لم يفلت أي منحى من مناحي الحياة الأمريكية من قبضتها. كنتيجة مباشرة للمخاوف الأمنية النابعة من التهديد الشيوعي/السوفييتي، اضطلعت الحكومة الفيدرالية بقدر أكبر من السلطة والمسئولية، وتبوأت «الرئاسة الإمبراطورية» بؤرة الاهتمام، وصارت الزيادة البالغة في الإنفاق الدفاعي ملمحًا دائمًا للميزانية الفيدرالية، وترسخت العقدة العسكرية الصناعية داخل المجتمع الأمريكي. وقد كان التحول الواسع في الأنماط السكانية والهياكل الوظيفية في البلاد في حقبة ما بعد عام ١٩٤٥، بدرجة كبيرة، منتجًا جانبيًّا للحرب الباردة أيضًا. والأمر عينه يسري على تخصيص الابتكارات العلمية والتكنولوجية للأغراض العسكرية وما صاحبه من تحول العديد من كبرى الجامعات إلى مواقع رائدة للأبحاث تحت الرعاية الحكومية. وعلى نحو مشابه تشكل العديد من الأولويات الداخلية المحددة، وفي بعض الحالات بُررت على نحو واضح، بواسطة الحرب الباردة: بداية من نظام الطرق السريعة الرابط بين الولايات الذي اقترحه أيزنهاور، مرورًا بالإنفاق الفيدرالي على التعليم، ووصولًا لاستكشاف الفضاء. وحتى مسار حركة الحريات المدنية تأثر بالصراع السوفييتي الأمريكي، وإن كان هذا على نحو متناقض. ففي البداية حاول دعاة الفصل العنصري إعاقة حركات الكفاح من أجل حرية السود من خلال وصم مؤيديها بأنهم مؤيدون للشيوعية. بيد أن هذه المحاولات فشلت في نهاية المطاف، مع إقرار إدارتي أيزنهاور وكينيدي بأن الاستمرار في نظام الفصل العنصري الذي يتبعه الجنوب وإنكار الحقوق الأساسية للأمريكيين من أصول أفريقية لطخ الصورة الأمريكية حول العالم، ومن ثم مثَّل عبئًا من غير المقبول تحمله أثناء الحرب الباردة.

من الناحية السياسية والثقافية، بل النفسية أيضًا، غيرت الحرب الباردة وجه الحياة الأمريكية بطرق عدة. أدى التطابق الأيديولوجي الذي طالبت به العديد من النخب السياسية بالدولة إلى تضييق حدود الخطاب السياسي المسموح بها، ووضعت العديد من الحركات الإصلاحية في موقف المدافع، وتركت بعض الليبراليين عرضة للاتهام بالراديكالية وعدم الولاء. صار الاتهام بالشيوعية ورمي التهم جزافًا أسلوبًا شائعًا، وإن كان باعثًا على الأسى، في الانتخابات المحلية والقومية والنقابات العمالية، كم شاع التحقيق مع الموظفين الحكوميين والمعلمين وأعضاء صناعة السينما وغيرهم. يلوم المؤرخ ستيفن جيه وايتفيلد الحرب الباردة على «خنق الحرية والحط من كرامة الثقافة ذاتها» في الولايات المتحدة، خاصة في الخمسينيات. وهو يرى أن هذا عزز من القمع الذي «أضعف إرث الحريات المدنية، وانتهك معايير التسامح والعدالة، ولطخ صورة الديمقراطية نفسها». يرى زميلاه بيتر جيه كوزنيك وجيمس جيلبرت أن أكبر تأثيرات الحرب الباردة كان داخل نطاق علم النفس الاجتماعي المترامي، إذ يقولان إنها «أقنعت ملايين الأمريكيين بتأويل عالمهم على ضوء فكرة الأعداء الغادرين بالداخل والخارج الذين كانوا يهددونهم بالإبادة النووية وغيرها من أشكال الإبادة». باختصار، يعد الخوف الواسع من الهلاك ومن الأعداء الخارجيين هو الإرث الجوهري للحرب الباردة.

من الواضح أن الخوف المنتشر على نطاق المجتمع بأسره حيال الخطر الشيوعي المحتمل الماثل «داخل» الولايات المتحدة يعد من أكثر تأثيرات الحرب الباردة المباشرة واللافتة للنظر بالداخل. احتضنت هذا الترقب مجموعة من النخب وسخرته لأغراضها الخاصة. بالفعل كان هناك شيوعيون داخل الولايات المتحدة، بل يمكن القول إنه كان هناك الكثيرون منهم. كان الحزب الشيوعي الأمريكي يتفاخر بعضوية ٣٢ ألف شخص في عام ١٩٥٠، وهو العام نفسه الذي دشن فيه نائب ويسكونسن الشهير المناهض للشيوعية جوزيف مكارثي حملته الواسعة ضد حشود الشيوعيين المفترضة الذين يسكنون، حسب زعمه، أروقة الحكومة الأمريكية نفسها. لوضع هذا الرقم في إطاره السليم نقول إن عدد أعضاء الكنيسة اللوثرية التبشيرية الفنلندية في عام ١٩٥٠ كان مماثلًا لعدد أعضاء الحزب الشيوعي. كان هناك بالفعل شيوعيون، أو متعاطفون مع الشيوعية، داخل الفرع التنفيذي للحكومة، لكن كان عددهم قليلًا. وأبرز الأمثلة على هذا الأمر حالة ألجر هيس، المسئول الحكومي الأوسط السابق بوزارة الخارجية الذي تجسس بالفعل لمصلحة الاتحاد السوفييتي وأدين بالشهادة الزور في محاكمة حظيت بالاهتمام البالغ في عام ١٩٤٨.

إلا أن مكارثي وغيره من السياسيين الموالين له بالغوا عن عمد في المشكلة، واستغلوا خوف العامة كي يدفعوا مستقبلهم المهني للأمام. ويكفي تمكن مكارثي من تشويه سمعة جورج مارشال تحديدًا، وهو من هو، في مرحلة ما كدليل على حيل النائب المتجرد من المبادئ والخداع المتأصل فيه. فقد أعلن مكارثي أن الجنرال ووزير الخارجية والدفاع السابق الذي يحظى باحترام شديد كان جزءًا من «مؤامرة ضخمة وشريرة على نحو مخز حتى إن أي مؤامرة أخرى عبر تاريخ البشر تتضاءل إلى جوارها». ولم يكن مكارثي الوحيد الذي يكيل الاتهامات السخيفة من أجل إبقاء خصومه السياسيين في موقف دفاعي. فعلى سبيل المثال، يدين عضو مجلسي الشيوخ والنواب عن كاليفورنيا ريتشارد إم نيكسون، ممثل الادعاء الأساسي ضد هيس، بشعبيته القومية إلى السمعة التي اكتسبها من ملاحقته للمخربين الشيوعيين بضراوة غير معتادة. وعند ترشحه كنائب للرئيس أيزنهاور في انتخابات عام ١٩٥٢، انتقد المرشح الرئاسي عن الحزب الديمقراطي أدلاي ستيفنسون بشدة ووصفه بأنه «مهادن» حصل على «درجة الدكتوراه من كلية دين أتشيسون الوضيعة للاحتواء الشيوعي».

على الرغم من كل الاهتمام المستحق الذي حظيت به المكارثية — وغيرها من حركات مناهضة الشيوعية التي كانت المكارثية الفصيل الأكثر تطرفًا بها — من الباحثين فإن التأثيرات الداخلية الأخرى للحرب الباردة كانت واسعة النطاق بالفعل. يستحق النمو الضخم في الإنفاق الدفاعي، مع ما له من تأثيرات بالغة على اقتصاد الدولة العام والفرص الوظيفية والتحولات السكانية، الإقرار بكونه أبرز عوامل التغير داخل الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة. فخلال العقدين الأولين من الحرب الباردة استثمرت الحكومة الفيدرالية ٧٧٦ مليار دولار في الدفاع القومي، وهو ما يساوي قرابة ٦٠٪ من إجمالي الميزانية الفيدرالية. بل ستصير تلك النسبة أعلى لو أدرجنا الإنفاق غير المباشر المرتبط بالدفاع. وسريعًا ما هيمنت احتياجات الدفاع على الأبحاث والأولويات التنموية للدولة وتدافع العلماء والمهندسون الجامعيون والمستقلون من أجل الوفاء باحتياجات الحكومة، والحصول على عقود مربحة كذلك. توسعت صناعات جديدة بالكامل وأخرى استعادت حيويتها، على غرار صناعات الاتصالات والإلكترونيات والطائرات والحاسبات واستكشاف الفضاء، مع مرور سنوات الحرب الباردة، وغالبًا ما حدث هذا بسبب هذه الحرب. بعض هذه الصناعات، حسب الوصف الملائم للاقتصادية آن ماركوسين «كان من شأنها تغيير الاقتصاد الأمريكي والمشهد الوظيفي والإقليمي على نحو تام». ومن أعظم ثمار الإنفاق الدفاعي الذي حركته الحرب الباردة كان بناء المصانع في جنوب وغرب الدولة على حساب القاعدة الصناعية الأقدم للدولة في الشمال الشرقي والغرب الأوسط. تلقت كاليفورنيا وحدها أكثر من ٦٧ مليار دولار من العقود الدفاعية بين عامي ١٩٥١ و١٩٦٥، وهو ما يساوي نحو ٢٠٪ من إجمالي قيمة هذه العقود، وعززت الحرب الباردة من نمو المنطقة المسماة بحزام الشمس. وقد حفزت الحرب الباردة، على نحو متكرر تحولًا ديموجرافيًّا كبيرًا للسكان الأمريكيين نحو الغرب والجنوب وأعادت ضبط ثقل موازين السلطة السياسية داخل الكونجرس وداخل نظام الأحزاب، وكلا الأمرين كان من العلامات المميزة لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

إن متطلبات الميزانية الواسعة والالتزامات العسكرية المتعددة التي فرضتها الحرب الباردة على الشعب الأمريكي استلزمت حشد المواطنين والتزامهم. وقد عمل الرؤساء الأمريكيون — بداية من ترومان وصاعدًا — بكل مثابرة على حشد إجماع داخلي مؤيد لدور الأمة الجديد بوصفها الحامي اليقظ للعالم ضد أي علامة لعدم الاستقرار أو العدوان تقف خلفه الشيوعية. وقد تمكنوا من هذا بكل مهارة ونجاح خلال منتصف الستينيات، وقد ساعدهم في هذا الأدلة المؤكدة على مغامرات السوفييت والصينيين غير المسئولة في كل من أوروبا الشرقية وبرلين وكوريا وتايوان وكوبا. لكن مع دخول الحرب الباردة عقدها الثالث، بدأ هذا الإجماع في التفتت. فقد أثبتت حرب فيتنام للأمريكيين التكلفة العالية — وفي نظر عدد متزايد غير المقبولة — لهيمنة دولتهم العالمية. إن هذه الحرب، التي تمخضت عنها أكبر حركة سلام في التاريخ الأمريكي، أطلقت جدلًا داخليًّا عنيفًا حول ثمن العولمة الأمريكية. وقد استعر هذا الجدل على نحو شديد في أواخر الستينيات، فارضًا عملية إعادة تقييم على أعلى مستويات الحكومة الأمريكية لاستراتيجية الحرب الباردة العالمية التي جعلت البلاد تمد نطاق نفوذها على نحو مؤلم، منقسمة على ذاتها بعمق في الوقت ذاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤