الفصل الثامن

المرحلة الأخيرة (١٩٨٠–١٩٩٠)

شهدت أواخر الثمانينيات أبرز التغيرات في البناء الإجمالي للسياسة العالمية منذ الأربعينيات؛ التي بلغت ذروتها مع النهاية المفاجئة وغير المتوقعة تمامًا للصراع الأيديولوجي والجيوسياسي الذي حدد العلاقات الدولية طيلة ٤٥ عامًا. وقعت تلك التطورات المدهشة بطريقة وبسرعة لم يتوقعهما أحد، أو حتى ظنهما ممكنتين. لماذا انتهت الحرب الباردة على النحو الذي انتهت عليه؟ كيف لنا أن نتفهم العقد الذي بدأ بحرب باردة سريعة الاحتداد وانتهى بتقارب سوفييتي أمريكي تاريخي، واتفاقيات حد من التسليح غير مسبوقة، وانسحاب للقوات السوفييتية من أوروبا الشرقية وأفغانستان وغيرها من الأماكن، إضافة إلى التوحيد السلمي لشطري ألمانيا؟ يتناول هذا الفصل تلك الأسئلة من خلال دراسة التقلبات الجامحة التي شهدتها الحرب الباردة في مرحلتها الأخيرة.

عودة الحرب الباردة

أكمل الغزو السوفييتي لأفغانستان تحول جيمي كارتر غير المرجح إلى أحد صقور الحرب الباردة. ومع أن الروس اعتبروا تدخلهم العسكري عملًا دفاعيًّا يستهدف الحيلولة دون ظهور نظام معادٍ على حدودهم، فإن الرئيس كارتر وأغلب خبراء السياسة الخارجية البارزين لديه نظروا إليه كجزء من هجوم جيوسياسي جريء. كانوا مقتنعين بأن الدولة السوفييتية الواثقة بنفسها ذات النزعة التوسعية كانت تسعى لانتزاع المبادرة الاستراتيجية من الولايات المتحدة التي أضعفتها فيتنام و«ووترجيت» وأزمة الرهائن الإيرانية والصدمات الاقتصادية المتنوعة، وأن الهدف النهائي هو الهيمنة على منطقة الخليج العربي وحرمان الغرب من نفطها. ردًّا على هذا صدق كارتر على زيادة ضخمة في الإنفاق الدفاعي الأمريكي، وطالب بمبلغ ١٫٢ تريليون دولار كنفقات مرتبطة بالجانب العسكري على مدار السنوات الخمس التالية. وفرض حظرًا للغلال على الاتحاد السوفييتي وأمر بمقاطعة رمزية للألعاب الأوليمبية الصيفية لعام ١٩٨٠ والمقرر إقامتها في موسكو، وأعاد نظام التجنيد الإجباري، وأعلن عن «عقيدة كارتر» جديدة تعد بصد أي جهود تبذلها قوة خارجية للسيطرة على الخليج العربي «بأي وسيلة ممكنة، بما في ذلك القوة العسكرية». مارست إدارة كارتر ضغوطًا إضافية على السوفييت من خلال تقوية العلاقات الوليدة مع الصين، الشريك الاستراتيجي لأمريكا، عن طريق بيع معدات وتكنولوجيا عسكرية متقدمة لها. وبدعم أمريكي قوي، مضى حلف شمال الأطلسي هو الآخر إلى إصدار قرار في ديسمبر ١٩٧٩ بنشر الصواريخ متوسطة المدى الجديدة من طراز بيرشنج ٢ وصواريخ كروز النووية في أوروبا الغربية ردًّا على الصواريخ السوفييتية من طراز إس إس ٢٠.

عادت عقلية الحرب الباردة إلى الدوائر السياسية بواشنطن بكل قوة، وهو ما أزال تمامًا أي ذكريات عالقة عن الوفاق. يقول جورج إف كينان في فبراير ١٩٨٠ وقد استشعر الخطر: «لم يحدث قط منذ الحرب العالمية الثانية أن اصطبغ الفكر واللغة في العاصمة بمثل هذه الصبغة العسكرية الشاملة. وأي غريب غير منتبه لما جرى يجد نفسه في وسط هذا الأمر لا بد أن يستنتج أن آخر أمل في الحلول السلمية غير العسكرية قد استنفد، وأنه من الآن فصاعدًا وحده السلاح، بصرف النظر عن طريقة استخدامه، هو ما يهم.»

بكل تأكيد كان رونالد ريجان، الذي اكتسح كارتر الهش في انتخابات نوفمبر ١٩٨٠ الرئاسية، يقف قلبًا وقالبًا مع من يؤمنون بأن القوة العسكرية وحدها هي التي تهم في الصراع الدائر بين القوتين العظميين. وخلال حملته الانتخابية أصر الممثل السينمائي وحاكم كاليفورنيا السابق على أن الولايات المتحدة يجب أن تعيد بناء دفاعها كي تغلق «نافذة الضعف» التي انفتحت نتيجة نمو القدرات العسكرية السوفييتية في السبعينيات. ظل ريجان — أكثر رئيس محافظ وملتزم أيديولوجيًّا بين الرؤساء الأمريكيين بعد الحرب العالمية الثانية — على عدائه الذي لا يلين للشيوعية، محملًا بكراهية عميقة للنظام الذي كان يعتبره نظامًا غير أخلاقي لأنه يتسم بالخيانة وغير جدير بالثقة. وقد تحدث ريجان خلال حملته الانتخابية قائلًا: «دعونا لا نخدع أنفسنا. إن الاتحاد السوفييتي يقف خلف كل القلاقل الدائرة. ولو لم يكن منخرطًا في لعبة الدومينو هذه لما وجدت مناطق الصراع هذه في العالم.» لقد رفض من البداية نهج «معاملة الاتحاد السوفييتي كقوة عادية» الذي اتبعه نيكسون وفورد وكارتر في أوائل أيامه. وفي أول مؤتمراته الصحفية كرئيس حدد ريجان الشكل العام لفترته الرئاسية الأولى من خلال اتهام موسكو باستخدام الوفاق «كطريق أحادي الاتجاه … للسعي خلف أهدافها الخاصة»، بما فيها «تشجيع الثورات في العالم وخلق دولة اشتراكية أو شيوعية عالمية واحدة». وأدان الرئيس الأمريكي الجديد القادة السوفييت ووصفهم بأنهم «يحتفظون لأنفسهم بحق ارتكاب أي جريمة، والكذب والخداع، من أجل تحقيق هدفهم».

صارت هذه اللغة الملتهبة علامة مميزة للحرب الباردة التي أعادت إدارة ريجان إحياءها. وقد مثلت هذه اللغة عنصرًا أساسيًّا لاستراتيجية الاحتواء الأمريكية المتجددة، وذلك إلى جانب النمو العسكري الضخم والجهد المقصود الهادف لتقليل القوة السوفييتية من خلال الدعم والتشجيع المتزايد للحركات المناهضة للشيوعية في أرجاء العالم. فمن خلال توظيف اللغة التي أعادت للأذهان سنوات حكم ترومان، انتقد ريجان كلًّا من الدولة السوفييتية والأيديولوجية التي تقوم عليها. وفي عام ١٩٨٢ أعلن في ثقة خلال خطاب له أمام البرلمان البريطاني أن الماركسية اللينينية محكوم عليها بالانتهاء «إلى مذبلة التاريخ». وفي العام التالي، وأمام «الرابطة الوطنية للإنجيليين»، وصف ريجان الاتحاد السوفييتي بأنه «مركز الشر في العالم الحديث». وقد طلب من مستمعيه مقاومة «الدوافع العدوانية لإمبراطورية الشر»، مؤكدًا أن الصراع ضد الشيوعية هو في جوهره صراع أخلاقي «بين الحق والباطل، وبين الخير والشر». إن إعادة صياغة الحرب الباردة على هذه الصورة بوصفها معركة حق بين قوى النور والظلام أوحت بعدم وجود مساحة للتهادن، أو المخاطرة بتسويات كتلك التي جرت إبان حقبة الوفاق.

كان ريجان عازمًا على التوسع في قدرات الدولة العسكرية، التقليدية والنووية، قبل الدخول في أي محادثات جادة مع السوفييت. وقد صار الشعار المفضل له ولمخططي الدفاع هو «السلام من خلال القوة»، وقد ساعد هذا الشعار على إضفاء العقلانية على نهج الإدارة المفكك في البداية حيال مفاوضات الحد من التسليح. وبالرغم من الأدلة الكثيرة التي تشير إلى العكس، فإن الرئيس الجمهوري وكبار مستشاري السياسة الخارجية كانوا مقتنعين بأنه عبر العقد الماضي قلت القوة الأمريكية مقارنة بقوة الاتحاد السوفييتي. وقد زعم ألكسندر إم هيج، أول وزير خارجية في عهد ريجان، أنه حين تولى منصبه في يناير من عام ١٩٨١ كان الاتحاد السوفييتي «يملك قوة عسكرية أكبر من تلك المملوكة للولايات المتحدة، التي تدهورت قدراتها العسكرية على نحو منذر بالخطر حتى قبل أن يعجل الانسحاب من فيتنام من وتيرة هذا التدهور».

لقلب تلك النزعة المضعفة المفترضة، حدد ريجان هدفًا للإنفاق الدفاعي قدره ١٫٦ تريليون دولار؛ أي ما يزيد بأربعمائة مليار دولار عن الزيادة الكبيرة التي طلبها كارتر في عامه الأخير بالبيت الأبيض. كان ذلك أكبر نمو تسليحي في وقت السلم في تاريخ الولايات المتحدة بأكمله. وقد تحدث ريجان إلى البنتاجون قائلًا: «ليس الدفاع من البنود الخاضعة للميزانية. أنفقوا ما تحتاجونه.» ومن ضمن الأولويات الأخرى، راجع ريجان برنامج القاذفات بي ١ المكلف، ووافق على تطوير القاذفات بي ٢ (الشبح)، وتسريع تطوير الصواريخ إم إكس (الصواريخ التجريبية) المثيرة للجدل إلى جانب نظام صواريخ الغواصات الثلاثي المعقد، ورفع عدد القطع البحرية من ٤٥٠ إلى ٦٠٠ سفينة، ورصد ميزانية جديدة ضخمة لأعمال وكالة المخابرات الأمريكية لدعم عمليات التسليح السرية. ومع أن ريجان قدم توسعه العسكري بوصفه حافزًا لاستعادة «هامش الأمان» لأمريكا، فإنه في حقيقة الأمر كان محاولة لإعادة ترسيخ التفوق الاستراتيجي الأمريكي، وهي المكانة التي لم يكن ريجان ولا العديد من أترابه المحافظين مستعدين للتنازل عنها في المقام الأول.

من غير المثير للدهشة أن حكام روسيا صاروا أكثر تخوفًا من هذه اللغة المشاكسة والسلوك الحازم من طرف أكثر الإدارات الأمريكية التي واجهوها عبر العقدين الماضيين عدوانية. كان المسئولون الدفاعيون السوفييت متيقظين كنظرائهم الأمريكيين عند تقييم قدرات خصمهم الرئيسي ونواياه، ومن ثم فقد تخوفوا من احتمالية أن تسعى الولايات المتحدة إلى تطوير القدرة على إلحاق ضربة أولى مدمرة ضد أماكن إطلاق الصواريخ والمراكز الصناعية. تزايدت تلك الشكوك بعد كشف ريجان عن «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» في مارس عام ١٩٨٣. فقد أعلن الرئيس الأمريكي في خطاب عام أنه أمر «بالسعي الشامل المكثف» من أجل «البحث عن سبل لتقليل خطر الحرب النووية» من خلال تطوير درع دفاعي ضد الصواريخ. رسم ريجان صورة مثالية لمستقبل خالٍ من الخطر النووي قائلًا: «ماذا لو استطاع الأحرار العيش في أمان وهم يعلمون أن أمنهم لا يستند إلى التهديد برد فعل أمريكي فوري لردع الهجوم السوفييتي، وأننا سنتمكن من اعتراض الصواريخ البالستية الاستراتيجية وتدميرها قبل أن تصل إلى أراضينا أو أراضي حلفائنا؟»

آمن أغلب الخبراء أن إقامة درع شامل ضد الصواريخ أمر غير ممكن من الناحية التكنولوجية. ومع هذا فقد أثارت المبادرة إمكانية وجود نظم دفاعية محدودة أكثر يمكنها في النهاية أن تجعل هيكل الردع المتبادل السائد عديم الجدوى. وقد آمن خبراء كبار على غرار وزير الدفاع السابق ماكنمارا بأن السوفييت لهم الحق في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة تسعى من خلال مبادرة الدفاع الاستراتيجي إلى تطوير قدرتها على توجيه الضربة الأولى. وهذا بالضبط ما آمن به السوفييت. وقد قال يوري أندروبوف، الذي صار القائد السوفييتي بعد موت بريجينيف في نوفمبر ١٩٨٢، إن إدارة ريجان كانت تسير في «طريق خطير للغاية». واستنكر رئيس المخابرات الروسية السابق مبادرة الدفاع الاستراتيجي بوصفها «محاولة لنزع سلاح الاتحاد السوفييتي في مواجهة التهديد النووي الأمريكي».

خلال النصف الثاني من عام ١٩٨٣، وصلت العلاقات السوفييتية الأمريكية إلى أدنى مستوياتها. ففي الأول من سبتمبر ١٩٨٣، أسقط الدفاع الجوي الروسي طائرة كورية مدنية قادمة من أنكوراج بألاسكا، دخلت المجال الجوي السوفييتي دون قصد، ما تسبب في مقتل ٢٦٩ مسافرًا، منهم ٦١ أمريكيًّا. في اليوم التالي ظهر ريجان على شاشة التليفزيون الوطني يستنكر ما وصفه بأنه «مذبحة الطائرة الكورية» معلنًا أنها «جريمة غير مبررة ضد الإنسانية». ووصف الحادث بأنه «عمل بربري، مولود من رحم مجتمع يتجاهل في استهتار الحقوق الفردية وقيمة الحياة البشرية». تسببت الشكوك السوفييتية غير المبررة بأن الطائرة كانت في مهمة تجسس وعدم إظهارهم لأي بادرة ندم تجاه الحادث المأساوي بالتوازي مع رد الفعل المبالغ فيه من طرف إدارة ريجان؛ في إذكاء التوتر بشكل أكبر. وقد شكا أندروبوف، ذو الحالة الصحية المتدهورة بشدة وقتها، من «الخلل العقلي الشديد المصطبغ بالنزعة العسكرية» السائد في واشنطن. بعد ذلك، وفي أوائل نوفمبر، باشر حلف شمال الأطلسي تدريبًا عسكريًّا مخططًا من قبل أثار تخوف المخابرات السوفييتية حتى إنهم تشككوا في أن يكون مقدمة، وغطاء، لضربة نووية شاملة ضد الاتحاد السوفييتي. أمر الكرملين الجيش بالتأهب، وعلمت المخابرات الأمريكية أن طائرات قادرة على حمل رءوس نووية وضعت على أهبة الاستعداد في قواعدها بألمانيا الشرقية. لقد آمن القادة الروس حقًّا أن إدارة ريجان كانت قادرة على شن حرب نووية وقائية. وفي ديسمبر، انسحب المندوبون السوفييت من مفاوضات الحد من التسليح الجارية في فيينا، التي كانت غير مثمرة إجمالًا. كانوا معترضين على النشر الحديث للدفعة الأولى من صواريخ بيرشنج ٢ الأمريكية وصواريخ كروز في أوروبا الغربية. وللمرة الأولى منذ خمسة عشر عامًا، لم يعد المفاوضون الروس والأمريكان يتحدث بعضهم إلى بعض في أي منتدى.
fig17
شكل ٨-١: ثوار من المجاهدين الأفغان مع أسلحة سوفييتية مستولى عليها، قرب ماتون (خوست)، ١٩٧٩.1

لكن مع كل هذا الوعيد البلاغي والميزانيات الضخمة، فقد عملت إدارة ريجان قدر جهدها من أجل تجنب أي مواجهة عسكرية مباشرة مع الاتحاد السوفييتي. التدخل الكبير الوحيد للقوات المسلحة الأمريكية حدث ضد جزيرة جرينادا الصغيرة، الموالية للاتحاد السوفييتي، في أكتوبر ١٩٨٣. فقد أرسلت الولايات المتحدة قوة قوامها ٧ آلاف جندي لغزو الجزيرة والإطاحة بالنظام القومي الماركسي الذي اعتلى سدة الحكم مؤخرًا في تلك الجزيرة الواقعة في الكاريبي عن طريق انقلاب دموي، وفي الوقت ذاته إنقاذ العشرات من طلاب الطب الأمريكيين الذين يفترض أنهم معرضون للخطر. اجتاحت القوات الأمريكية جيش جرينادا المكون من ٦٠٠ جندي إضافة إلى عمال البناء الكوبيين البالغ عددهم ٦٣٦، وهو ما سبب تذمرًا واسعًا في أرجاء الولايات المتحدة. إلا أن أكثر ما ميز نهج إدارة ريجان، وما كان له الأثر الأكبر على استراتيجيتها في الحرب الباردة، هو زيادة المساعدات الموجهة، على نحو سري في المعتاد، إلى الميليشيات المعادية للشيوعية التي تقاتل الأنظمة التي تحظى بالدعم السوفييتي في جميع أنحاء العالم الثالث. ووفق ما صار يحمل اسم «عقيدة ريجان»، عمدت الولايات المتحدة إلى تقليل القوة السوفييتية من الأطراف من خلال استخدام المتمردين القوميين المعادين لليسار كمحاربين بالوكالة؛ خاصة في أفغانستان ونيكاراجوا وأنجولا وكمبوديا. وفي خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه ريجان في يناير لعام ١٩٨٥، تحدث قائلًا: «علينا ألا نخل بوعودنا تجاه من يخاطرون بحياتهم — في كل قارة، من أفغانستان إلى نيكاراجوا — لدرء العدوان المدعوم من السوفييت.» لكن إذا نحينا الخطب الرنانة جانبًا، فسنجد أن أحد أبرز جوانب الجهد الأمريكي لتحدي الحكومات المدعومة من الاتحاد السوفييتي في العالم الثالث كان إحجام الإدارة عن المخاطرة بحياة الجنود الأمريكيين النظاميين أو بإمكانية حدوث صدام مباشر مع الاتحاد السوفييتي.

ضغوط معادلة

لقي نهج إدارة ريجان العدواني حيال الحرب البادرة المعارضة ليس فقط من دائرة الحكم السوفييتية التي فقدت أعصابها، بل داخل الغرب بالمثل. فقد أحجم الشركاء المحوريون في حلف شمال الأطلسي عن مشاركة الولايات المتحدة في موقفها الذي اعتبروه مبالغًا في العدوانية وشديد الخطورة. يقول المؤرخ ديفيد رينولدز: «شهد النصف الأول من عقد الثمانينيات نمطًا متكررًا؛ إذ كانت الولايات المتحدة على خلاف مع الاتحاد السوفييتي، وعلى خلاف أيضًا مع حلفائها الأوروبيين.» اتسم الرأي العام داخل أوروبا الغربية، بل داخل الولايات المتحدة نفسها، بعدم ارتياح عميق حيال العواقب الكارثية المؤكدة للحرب النووية التي بدت فجأة غير مستبعدة كما كانت على امتداد جيل كامل تقريبًا. عمل الضغط الصادر من الحلفاء ومن الرأي العام على معادلة توجه إدارة ريجان الجامح، وأعادها إلى طاولة المفاوضات مجددًا في منتصف الثمانينيات، حتى قبل أن يظهر نظام ميخائيل جورباتشوف للنور بوصفه شريكًا لين العريكة حريصًا على التفاوض.

بالطبع لم يكن الشقاق الذي دب بين حلفاء الأطلسي بالأمر الجديد. فقد فتَّتِ النزاعات بين الحلفاء في عضد حلف شمال الأطلسي منذ أيامه الأولى، وذلك حول قضايا إنهاء الاستعمار والسويس وفيتنام والمشاركة الدفاعية وكثير من القضايا ذات التأثير العريض على استراتيجية الحرب الباردة. إلا أن شدة المصادمات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وصلت إلى درجات غير مسبوقة خلال فترة ريجان الرئاسية الأولى. مثلت بولندا أحد مصادر الصراع على نحو خاص. ففي ديسمبر ١٩٨١، فرضت حكومة الجنرال فويستيخ ياروزيلسكي المدعومة من الاتحاد السوفييتي الأحكام العرفية على مواطنيها الغاضبين، وحلت اتحاد العمال المستقل غير الشيوعي المعروف باسم «التضامن». قاوم حلفاء أمريكا الأوروبيون ضغوط ريجان لفرض عقوبات واسعة النطاق على موسكو عقابًا لها على إطلاق «قوات الطغيان» ضد بولندا، وكانوا قانعين بحظر معتدل على الائتمانات الجديدة الممنوحة للحكومة البولندية. استشاط صقور إدارة ريجان غضبًا، وانتقدوا في السر الدول الأوروبية بوصفها دولًا مهادنة لا مبدأ لها، غير مستعدة للإقدام على أي فعل من شأنه تعريض علاقاتها التجارية المربحة مع الكتلة الشرقية للخطر. وكوسيلة للضغط، استخدمت إدارة ريجان الأحداث في بولندا ذريعة لتقويض صفقة مزمعة لمد خطوط الغاز الطبيعي بين الاتحاد السوفييتي وعدد من دول أوروبا الغربية، وهو ما سبب صراع مصالح أخطر بكثير بين الأوروبيين والأمريكيين.

سيرًا على نهج ألمانيا الغربية، وافق عدد من الدول الأوروبية على المساعدة في تشييد خط أنابيب بطول ٣٥٠٠ ميل يربط بين حقول الغاز الطبيعي في سيبيريا والأسواق الأوروبية الغربية. من شأن مشروع خط الأنابيب الضخم البالغ تكلفته ١٥ مليار دولار أن يقلل من اعتماد الأوروبيين على مصادر الطاقة الآتية من منطقة الشرق الأوسط غير المستقرة وفي الوقت ذاته سيعزز الروابط التجارية بين الشرق والغرب ويوفر وظائف ثمة حاجة لها في أوروبا التي يعمها الكساد. لكن لتخوف الإدارة الأمريكية من أن يتسبب خط الأنابيب هذا في اعتماد أقرب حلفائها اقتصاديًّا على الاتحاد السوفييتي بدرجة أكبر مما ينبغي، ومن ثم تصير أضعف في مواجهة أحد أشكال الابتزاز الاقتصادي، أعلن ريجان عن حظر بيع تكنولوجيا خطوط الأنابيب للاتحاد السوفييتي بعد أسابيع من إعلان بولندا الأحكام العرفية. وفي يونيو ١٩٨٢، مارس الرئيس ضغوطًا أكبر؛ إذ أمر كل شركة أوروبية تستخدم التكنولوجيا أو المعدات المرخصة من جانب الولايات المتحدة، إضافة إلى أي شركة فرعية تعمل في أوروبا، بفسخ كل العقود المرتبطة بأعمال خط الأنابيب. أثار الفعل الأمريكي المباغت غضب الزعماء الأوروبيين. أعلن وزير الخارجية الفرنسي غاضبًا أن الولايات المتحدة قد أعلنت بهذا «الحرب الاقتصادية على حلفائها»، وحذر من أن هذا قد يكون «بداية النهاية لحلف شمال الأطلسي». وبحدته المعروفة، تحدث المستشار الألماني هيلموت كول في غضب قائلًا: «من جميع الأوجه، اتخذت السياسة الأمريكية شكلًا يشير إلى نهاية علاقة الصداقة والشراكة.» وحتى رئيسة وزراء بريطانيا مارجريت ثاتشر، أكثر حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين ولاءً وأكثر زعماء أوروبا السياسيين معاداة للشيوعية، ثار غضبها بسبب تعنت ريجان الشديد. قالت في هذا الصدد: «القضية هي ما إذا كان بمقدور دولة قوية واحدة أن تمنع الوفاء بالعقود القائمة بالفعل. وأعتقد أنه من الخطأ فعل ذلك.»

تراجعت إدارة ريجان في مواجهة هؤلاء المعارضين الأقوياء. وفي نوفمبر ١٩٨٢، وبعد ستة أشهر من المفاوضات العصبية، تخلت عن سياسة العقوبات. أكد هذا الموقف لصانعي السياسات في واشنطن تردد الأوروبيين الغربيين الكبير في تحطيم الوفاق الأوروبي السوفييتي الذي يتسم بالشعبية والمنفعة الاقتصادية في الوقت ذاته. فبالرغم من انتهاء الوفاق السوفييتي الأمريكي مع نهاية عقد السبعينيات، فإن النسخة الأوروبية منه ظلت محافظة على زخمها. ومع بداية الثمانينيات، كان قرابة نصف مليون وظيفة بألمانيا الغربية مرتبطة بالتجارة مع الشرق، علاوة على ذلك، بدت صفقة خط الأنابيب كمنحة من السماء لدول أوروبا الغربية المعتمدة على الطاقة. وقد تساءل الدبلوماسيون والسياسيون ورجال الأعمال عن السبب الذي قد يدعوهم إلى التخلي عن معاملات تجارية مربحة مع الكتلة السوفييتية من أجل إرضاء حليف استأنف بنفسه مؤخرًا بيع الغلال إلى الاتحاد السوفييتي وفاءً لوعد قطعه ريجان على نفسه نحو المزارعين الأمريكيين. انزعج الأوروبيون من ذلك الرياء الأمريكي بقدر ما ضايقهم الصلف الأمريكي. وبالمعنى الأوسع، لم ينظر مخططو الدفاع الأوروبيون إلى التهديد السوفييتي بنفس المنظور الكارثي الذي نظر به نظراؤهم على الجانب الآخر من الأطلسي.

مثل نشر جيل جديد من الصواريخ النووية الأمريكية قصيرة المدى في أوروبا الغربية أكثر القضايا إثارة للحساسية بين الولايات المتحدة والأوروبيين. فهذا الأمر لم يسبب الشقاق بين الولايات المتحدة وحكومات أوروبية معينة وحسب، بل سبب الشقاق أيضًا بين بعض هذه الحكومات وشعوبها. بدأت المشكلة في عام ١٩٧٧ حين نشر الروس الصواريخ المتحركة ذات القواعد البرية من طراز إس إس ٢٠ في الجزء الأوروبي من روسيا، وأغلبها موجه نحو ألمانيا. اقترحت إدارة كارتر في البداية مواجهة النشر السوفييتي الجديد بسلاح إشعاعي محسن يدعى القنبلة النيوترونية. وحين قرر كارتر في عام ١٩٧٨ عدم نشر القنبلة النيوترونية المثيرة للجدل أثار غضب المستشار شميدت الذي كان بالفعل يتذمر من عدم وفاء الأمريكان بمسئولياتهم. وقد جاء قرار حلف شمال الأطلسي، قبل أسبوعين فقط من الغزو السوفييتي لأفغانستان، بإرسال عدد ٥٧٢ صاروخًا من صواريخ بيرشنج ٢ وصواريخ كروز إلى ألمانيا وبريطانيا العظمى وإيطاليا وبلجيكا وهولندا بالأساس؛ نتيجة فشل القنبلة النيوترونية. إلا أن هذا القرار كان مشروطًا بأمر آخر؛ إذ جاء مصحوبًا بالتزام في الوقت ذاته بمواصلة محادثات الحد من التسليح الجديدة مع السوفييت والهادفة إلى تحقيق توازن مستقر للأسلحة النووية في أوروبا، وهو ما أطلق عليه «المسار المزدوج». ولو نجح الأمر، كما كان يأمل كثير من الأوروبيين، فربما تغني هذه المحادثات عن الحاجة إلى مواصلة عمليات نشر الصواريخ التي تعد بها الولايات المتحدة. وقد تعهد ريجان عقب اعتلاء سدة الحكم بالمضي على وجه السرعة في نشر القوة النووية متوسطة المدى، لكن ازدراءه المعلن لاتفاقات الحد من التسليح كان يعني أن المباحثات المتواصلة مع السوفييت لن تحقق أي نتيجة.

أثار النشر الأمريكي المتوقع للأسلحة النووية على الأراضي الأوروبية، إلى جانب الجمود المعلن في العلاقات السوفييتية الأمريكية والخطاب المتشدد المعادي للشيوعية من جانب البيت الأبيض؛ أعمق مستويات الاهتمام الشعبي بسباق التسلح النووي منذ عقود. ومن ثم، ساعد النشر الوشيك للصواريخ بيرشنج وكروز على انطلاق حركة سلام ضخمة واسعة النطاق في جميع أنحاء أوروبا الغربية. ففي ألمانيا الغربية، سريعًا ما حصل «التماس كريفيلد» في نوفمبر ١٩٨٠، والمقدم من كبرى الجماعات الدينية والسياسية، على أكثر من ٢٫٥ مليون توقيع لدعم بنده الرئيسي وهو: «الموت النووي يهدد الجميع، لا للأسلحة النووية في أوروبا.» وفي أكتوبر ١٩٨١، شارك ملايين الأوروبيين في مسيرات احتجاجية ضد نشر الصواريخ الأمريكية والسوفييتية. وقد شهدت كل من بون ولندن وروما مسيرات شارك في كل واحدة منها ما لا يقل عن ٢٥٠ ألف متظاهر. وفي الشهر التالي، شارك نصف مليون شخص في مسيرة احتجاجية في أمستردام هي أكبر مسيرة جماعية في تاريخ هولندا. سكب ريجان الزيت على النار دون دراية منه حين رد على سؤال لأحد الصحفيين، قبيل مسيرات السلام مباشرة، قائلًا إن تبادل القصف بالأسلحة النووية في ميدان المعركة قد يحدث دون «أن يدفع أيًّا من القوتين العظميين لضرب إحداهما الأخرى». ظهر التعليق في عناوين صحفية مثيرة للمشاعر في أوروبا؛ نظرًا لأن أوروبا هي التي ستكون «ميدان المعركة» الذي ألمح إليه ريجان عرضًا. وحين زار الرئيس الأمريكي فرنسا وألمانيا الغربية في يونيو ١٩٨٢، قوبل بمظاهرات عارمة، منها تجمع سلمي لأكثر من ٣٥٠ ألفًا من المحتجين على الأسلحة النووية احتشدوا على ضفتي نهر الراين في بون وحشد صاخب لأكثر من ١٠٠ ألف محتج في برلين الغربية. جاء التجمع الأخير احتجاجًا على الحظر الذي فرض على كل المظاهرات خلال زيارة ريجان، وهو ما تسبب في أعمال شغب واسعة. وفي أكتوبر ١٩٨٣، نزل ملايين الأوروبيين إلى شوارع لندن وروما وبون وهامبورج وفيينا وبروكسل ولاهاي وستوكهولم وباريس ودبلن وكوبنهاجن والعديد من المدن الكبرى الأخرى في محاولة أخيرة شجاعة، وإن كانت غير مثمرة، للحيلولة دون نشر الصواريخ النووية متوسطة المدى.

حظيت حركة السلام الأوروبية بدعم عريض. ومنذ أوائل عام ١٩٨٣ وصاعدًا وقف أكبر حزبين للمعارضة في بريطانيا العظمى وألمانيا الغربية — حزب العمال والحزب الديمقراطي الاشتراكي — ضد نشر صواريخ بيرشنج وكروز. وتحركت الاتحادات العمالية والكنائس والجماعات الطلابية في كل أنحاء أوروبا الغربية ضد قضية الأسلحة النووية. ووفق استطلاع للرأي أجري عام ١٩٨٢، حظيت حركة السلام في كبرى دول حلف شمال الأطلسي بدعم يتراوح من ٥٥٪ إلى ٨١٪. وبعد مراجعة بيانات الاستطلاع، قال المفاوض الأمريكي في مفاوضات التسليح بول نيتز في اجتماع لوزارة الخارجية: «لدينا مشكلة سياسية في أوروبا.»
fig18
شكل ٨-٢: متظاهرون ضد الأسلحة النووية في بروكسل يحملون تمثالًا ساخرًا للرئيس ريجان، أكتوبر ١٩٨١.2
fig19
شكل ٨-٣: مظاهرة ضد الأسلحة النووية في مدينة نيويورك، ١٢ يونيو ١٩٨٢.3

واجهت إدارة ريجان مشكلة سياسية بالداخل أيضًا، حيث نتج عن الوعي الشعبي المتزايد بمخاطر الحرب النووية أكبر حركة داعية للسلام منذ حرب فيتنام. وكما هو الحال في أوروبا الغربية، لعبت الكنائس دورًا كبيرًا في هذه الحركة. وقد نادى «المجلس العالمي للكنائس» ذو التأثير الواسع بوقف سباق التسلح، وهو ما نادى به أيضًا أساقفة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية المهتمون بالشأن السياسي بالولايات المتحدة. وفي رسالة كهنوتية من ١٥٠ صفحة صدرت عام ١٩٨٣، أكد الأساقفة الكاثوليكيون على موقفهم قائلين: «إننا أول جيل منذ التكوين يملك القدرة على تدمير خلق الرب.» وأعلنوا، في معارضة صريحة لسياسة الإدارة الأمريكية، أن «السعي للحصول على التفوق النووي يجب أن ينبذ». انضمت أصوات علمية وطبية إلى الجدل، مؤكدة على عواقب الحرب النووية الكارثية على البشرية. تحدث بعض العلماء عن «الشتاء النووي» الذي سيعقب أي صراع نووي ضخم، والذي سيتسبب في تبريد حرارة الأرض إلى الدرجة التي ستفنى معها أغلب الحياة النباتية والحيوانية. ولتوضيح التأثير على مدينة أمريكية عادية، روجت مجموعة «أطباء من أجل المسئولية الاجتماعية» لما سيحدث عند ضرب وسط مدينة بوسطن بقنبلة نووية زنة واحد ميجا طن: أكثر من مليونَيْ حالة وفاة، ومحو منطقة وسط المدينة تمامًا، مع ترنح الضواحي المجاورة من شدة الانفجار والتأثيرات الإشعاعية المصاحبة له. وضعت مجلة «ديترويت فري برس» علامة تصويب على صورة لمدينة ديترويت في ملحق لعدد يوم الأحد من المجلة، مع مقالة إخبارية عن مستويات الموت والدمار المرعبة التي سيسببها هجوم نووي على المدينة. واحتوى كتاب جوناثان شيل صاحب أعلى المبيعات بعنوان «مصير الأرض» (١٩٨٢) على تفاصيل واقعية مروعة عن آثار الحرب النووية. أما أكثر الأعمال تأثيرًا فكان الفيلم التليفزيوني الذي أنتجته شبكة إيه بي سي بعنوان «اليوم التالي»، الذي شاهد عرضه الأول أكثر من مائة مليون من الأمريكيين والذي صور على نحو نابض بالحياة الأثر الذي يخلفه هجوم نووي على مدينة لورنس بكنساس. شعر ريجان بالانزعاج من التأثير الثقافي الذي أحدثه هذا الفيلم حتى إنه جعل وزير الخارجية جورج بي شولتز يظهر على شبكة إيه بي سي بعد عرضه على الفور في محاولة لتغيير رد فعل الجمهور.

كانت حركة التجميد النووي، التي بلغت أوجها بين عامي ١٩٨٢ و١٩٨٤، هي الثمرة السياسية الرئيسية للوعي المتنامي ضد الأسلحة النووية بين جماهير الشعب الأمريكي. وفي الثاني عشر من يونيو ١٩٨٢ تظاهر ما يقارب المليون شخص في سنترال بارك بنيويورك دعمًا لتجميد الترسانة النووية لكل من القوتين العظميين. وإلى الآن لا تزال هذه المظاهرة هي الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة. حظيت الحركة بدعم قوي من الكونجرس أيضًا. وفي الرابع من مايو ١٩٨٣ وافق مجلس النواب على قرار بالتجميد النووي بأغلبية حاسمة قدرها ٢٧٨ مقابل ١٤٩. سجلت استطلاعات الرأي معدلات موافقة تصل إلى ٧٠ بالمائة مؤيدة لحركة التجميد النووي خلال تلك السنوات. تقدم استطلاعات الرأي أيضًا أدلة قوية على عدم ارتياح الرأي العام حيال السياسات العسكرية لإدارة ريجان. فوفق أحد الاستطلاعات، رأى ٥٠ بالمائة من العينة المختارة من المواطنين الأمريكيين أن دولتهم ستكون أكثر أمنًا إذا قضى قادتها وقتًا أطول في التفاوض مع السوفييت ووقتًا أقل في بناء القوة العسكرية، وعارض هذا الرأي ٢٢ بالمائة فقط. وعلى نحو مشابه، أفاد استطلاع أجرته مؤسسة جالوب في ديسمبر ١٩٨٣ بأن ٤٧ بالمائة من الأمريكيين يرون أن التعزيز العسكري لإدارة ريجان جعل الولايات المتحدة «أقرب إلى الحرب» وليس «أقرب إلى السلام»، فيما عارض هذا الرأي ٢٨ بالمائة فقط.

استجابة لتلك الحقائق السياسية، عمدت إدارة ريجان إلى التخفيف من لهجتها مع بداية عام ١٩٨٤. نجح بعض أقرب المستشارين السياسيين للرئيس في إقناعه بأن قضايا السياسة الخارجية تعد من أكبر هموم الناخب الأمريكي في انتخابات الرئاسة لذلك العام، وأن من شأن اتباع النهج التوفيقي مع الاتحاد السوفييتي أن يقوي فرصه في إعادة الانتخاب. وضغط وزير الخارجية شولتز بقوة أيضًا من أجل إعادة التواصل مع الروس. ومن ثم، وفي خطاب قوي ألقاه في يناير من ذلك العام، مد ريجان غصن الزيتون لموسكو، وأطلق على عام ١٩٨٤ «عام فرص السلام» وأعلن عن استعداده لتجديد المفاوضات. وفي خاتمة هذا الخطاب، الذي وضع ريجان بنفسه مسودته، رسم الرئيس صورة حية لزوجين عاديين من الأمريكيين والروس — «جيم وسالي» و«إيفان وآنيا» — يتوقون لحلول السلام بين بلديهم. وفي الرابع والعشرين من سبتمبر، وسط الحملة الانتخابية، اقترح ريجان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة تأسيس إطار عمل سوفييتي أمريكي جديد من شأنه أن يجمع تحت مظلة واحدة ثلاث مباحثات للتسليح النووي: تلك الخاصة بالقوة النووية متوسطة المدى، والخاصة بالحد من التسليح الاستراتيجي، والخاصة بالأسلحة المضادة للأقمار الصناعية.

احذروا الدب

من أكثر الإعلانات التليفزيونية التي أذاعتها حملة ريجان خلال انتخابات ١٩٨٤ تعلقًا بالذهن ذلك الإعلان الذي يصور دبًّا بنيًّا كبيرًا مخيف المظهر يسير في عنف محطمًا أغصان الغابة، ويقول المعلق في وقار: «هذا دب في الغابة. يسهل على بعض الناس رؤيته، ولا يراه آخرون على الإطلاق. بعض الناس يقولون إنه أليف، ويقول آخرون إنه شرير وخطير. بما أنه ما من سبيل لمعرفة من المحق، أليس من الذكاء أن تكون قويًّا كالدب، تحسبًا لوجود الدب بالفعل؟» كان هذا الإعلان الاستعاري يهدف بالطبع إلى تذكير الناخبين بأن ريجان ظل غير مستعد للمخاطرة بأمن الأمة بأن يجعلها تتخلى عن حذرها في الوقت الذي يجول فيه الدب الروسي — الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله — حرًّا طليقًا.

بعد فوز ريجان الساحق في انتخابات الفترة الثانية في نوفمبر بوقت قصير، وافقت موسكو على المشاركة في المفاوضات تحت إطار العمل ذاك. فقد وافق قسطنطين تشيرنينكو، الذي ارتقى لمنصب الأمين الأول للحزب الشيوعي في فبراير ١٩٨٤ بعد وفاة أندروبوف، على استئناف المحادثات. بدأت المحادثات في مارس ١٩٨٥، بيد أنها سريعًا ما وصلت إلى طريق مسدود، وكانت العقبة الرئيسية هي برنامج الدفاع ضد الصواريخ الأثير لدى ريجان، الذي اعتبره السوفييت مخلًّا بالاستقرار بدرجة كبيرة. وقد تصادف بدء المحادثات مع تطور سوفييتي داخلي سيكون له أعظم الأثر في المستقبل؛ فبعد ما يزيد قليلًا عن عام واحد في السلطة، توفي تشيرنينكو المريض وحل محله زعيم سوفييتي آخر من نمط مختلف اختلافًا جذريًّا.

جورباتشوف ونهاية الحرب الباردة

يعد ارتقاء ميخائيل جورباتشوف في مارس ١٩٨٥ لمنصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي نقطة التحول الأهم في المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة؛ إذ إنه كان العامل الأهم، دون منازع، الذي عجل بنهاية الحرب الباردة وما صاحبها من تحول جذري في العلاقات السوفييتية الأمريكية. لقد قدم الزعيم السوفييتي النشيط البالغ من العمر ٥٤ عامًا كل التنازلات الكبرى التي أدت إلى اتفاقيات التخفيض النووي التاريخية في أواخر الثمانينيات. ومن خلال سلسلة من العروض والتنازلات غير المتوقعة بالكامل، والأحادية الجانب في المعتاد، نجح هذا الزعيم في تغيير اتجاه العلاقات السوفييتية الأمريكية بالكامل، وفي النهاية تخليص الولايات المتحدة من العدو الذي ظلت تسعى لإحباط خططه التوسعية المزعومة طيلة السنوات الخمس والأربعين الماضية. ودون هذا الشخص الاستثنائي، لصار من المستحيل تقريبًا استيعاب التغيرات المذهلة التي وقعت بين عامي ١٩٨٥ و١٩٩٠.

ناصر جورباتشوف ووزير خارجيته، إدوارد شيفرنادزه، أفكارًا جديدة ثورية بشأن الأمن والأسلحة النووية وعلاقة الأمرين بأهم أولوياتهما: الإصلاح الداخلي، وإعادة تجديد الاشتراكية. وبفضل تأثرهما بالبيئة الفكرية في الاتحاد السوفييتي، والمشكلة في جزء منها على يد العلماء السوفييت وخبراء السياسة الخارجية ذوي التعرض الواسع للغرب والعلاقات الوثيقة بنظرائهم الغربيين، أدخل جورباتشوف وشيفرنادزه «فكرًا جديدًا» إلى كل من دائرة القيادة المحافظة بالكرملين والحوار السوفييتي الأمريكي المتوقف. يقول أناتولي تشيرناييف، مساعد جورباتشوف، عن رئيسه في أوائل ١٩٨٦: «انطباعي عنه أنه قرر على نحو حاسم إنهاء سباق التسلح بصرف النظر عن تكلفة الأمر. وهو مقدم على هذه «المخاطرة» لأنه يتفهم أن الأمر ليس فيه مخاطرة على الإطلاق؛ لأنه لن يقدم أحد على مهاجمتنا إذا تخلينا عن سلاحنا بالكامل. ومن أجل بناء البلاد على أساس متين من جديد، علينا أن نخلصها من عبء سباق التسلح، الذي يستنزف ما هو أكثر من الاقتصاد.» (هذا الاقتباس وغيره من الاقتباسات التالية، إلى جانب أغلب التحليل المقدم في هذا القسم، مأخوذ من مقال غير منشور كتبه ملفن بي لفلر بعنوان «بداية النهاية: الزمن، والسياق، والحرب الباردة» في كتاب «الحرب الباردة في الثمانينيات» تحرير أولاف نيولستاد (لندن، يصدر قريبًا).)

وصل جورباتشوف وشيفرنادزه إلى قناعة مفادها أن سباق التسلح يعود على بلدهما بالضرر، وأنه لا يضيف شيئًا إلى أمن الدولة الحقيقي وفي الوقت ذاته يثقل اقتصادها المترنح بالفعل. يقول شيفرنادزه: «إن الأفكار التقليدية المعتنقة منذ قرون عن الأمن القومي بوصفه الدفاع عن البلاد ضد التهديدات العسكرية الخارجية تزعزعت بفعل تحولات بنيوية ونوعية عميقة في الحضارة الإنسانية، وهو ما تحقق نتيجة للدور المتنامي للعمل والتكنولوجيا وازدياد الاعتماد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعلوماتي المتبادل بين دول العالم.»

أكد جورباتشوف على أن الأمن الحقيقي لا يمكن توفيره إلا «بالوسائل السياسية» لا العسكرية، وأن «الاعتماد المتبادل» بين دول العالم «مهم حتى إن شعوب العالم صارت أشبه بالمتسلقين المربوطين بحبل واحد على جانب جبل. وبإمكانهم أن يتسلقوا معًا إلى القمة، أو أن يهووا معًا إلى الهاوية». وعلق في مناسبة أخرى قائلًا: «أي محاولة للتفوق العسكري تعني الدخول في حلقة مفرغة.» ولاقتناع جورباتشوف وشيفرنادزه بأنه لن يستخدم شخص عاقل، أو دولة عاقلة، الأسلحة النووية، وبأن الاتحاد السوفييتي يملك على أي حال ترسانة من الأسلحة النووية تكفي لأغراض الحماية القومية، رأى الزعيمان الجديدان أن الهدف الأسمى للسياسة الخارجية السوفييتية ينبغي أن يكون تشجيع التخفيض المشترك للأسلحة النووية والتقليدية مع الولايات المتحدة. وقد آمنا أن هذا من شأنه أن يحض على وجود بيئة دولية أكثر أمنًا وفي الوقت ذاته يحرر الموارد المطلوبة من أجل الإصلاحات الداخلية التي تأخرت كثيرًا لنظام بلادهم الاقتصادي المأزوم بشدة. وهكذا ارتبطت سياستا جورباتشوف الداخليتان، البيروسترويكا (إعادة البناء) والجلاسنوست (الانفتاح)، على نحو وثيق من البداية بعزمه على وقف سباق التسلح مع الولايات المتحدة والإنهاء الفوري لعلاقة العداء المسموم التي نمت بين القوتين العظميين منذ نهاية حقبة الوفاق.

أصاب تسلسل الأحداث السريع للغاية بين عامي ١٩٨٥ و١٩٩٠ واضعي السياسات الحكوميين وخبراء السياسة الخارجية والمواطنين العاديين في كل أرجاء العالم على حدٍّ سواء بالذهول. إلا أن هذه الأحداث، كما يتضح لنا الآن، كانت مسبوقة ومشروطة بفكر جديد عن الأمن والأسلحة النووية والاحتياجات الداخلية وقف خلف كل تعاملات جورباتشوف مع الولايات المتحدة وأوروبا الشرقية والعالم أجمع. وقد وجد رونالد ريجان، أكثر زعيم أمريكي معادٍ للشيوعية عبر حقبة الحرب الباردة كلها، قائدًا سوفييتيًّا يقبل بالحد من التسليح بكل سهولة، ويمضي نحو «نزع الأيديولوجية» عن سياسة موسكو الخارجية، ويقدم تنازلات أحادية الجانب بشأن القوات المسلحة التقليدية، ويتعهد بإخراج القوات السوفييتية من أفغانستان. وإحقاقًا للحق، فقد كان ريجان في البداية مستعدًّا لتخفيف — ثم التخلي تمامًا عن — قناعاته الشخصية العميقة بشأن الطبيعة الخبيثة للشيوعية، وبهذا سمح بحدوث هذا التقارب الحقيقي.

تقابل الرجلان خمس مرات بين عامي ١٩٨٥ و١٩٨٨، ووثقا علاقاتهما أحدهما بالآخر. فبعد قمة تعارف عقدت في جينيف في نوفمبر ١٩٨٥ نتج عنها القليل من الأفعال الملموسة، لكنها حسنت بقدر كبير من أجواء العلاقة السوفييتية الأمريكية، أقنع جورباتشوف ريجان بحضور اجتماع رتب له على عجل في ريكيافيك، أيسلندا، في أكتوبر ١٩٨٦. وهناك، كان الزعيمان على وشك اتخاذ قرار بالخلاص من جميع الأسلحة الاستراتيجية. لكن في نهاية المطاف، أدى إصرار ريجان على مواصلة مبادرة الدفاع الاستراتيجي إلى سحب الزعيم الروسي عروضه المبهرة من طاولة التفاوض. إلا أن هذا الإخفاق في ريكيافيك كان عارضًا. فبعد وقت قصير، تخلى جورباتشوف عن إصراره على تخلي الولايات المتحدة عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي ومضى لقبول «الخيار صفر» الذي قدمه المفاوضون الأمريكان في عام ١٩٨١؛ الذي كان وقتها مجرد حيلة دعائية لأنه يحابي الجانب الأمريكي على نحو واضح.

أدت تنازلات جورباتشوف إلى إتمام معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، التي وقعت في ديسمبر ١٩٨٧ في قمة واشنطن. اعتاد ريجان أن يكرر في أحاديثه العامة ما سماه بالقول الروسي المأثور الذي يقول: doveryai no proveryai، بمعنى «ثق، لكن تحقق». قدم الزعيم الروسي رؤية أكثر سموًّا. إذ يقول جورباتشوف: «لقد صار الثامن من ديسمبر ١٩٨٧ محفورًا في كتب التاريخ؛ تاريخًا يمثل خطًّا فاصلًا بين حقبة الخطر المتعاظم من الحرب النووية وحقبة إنهاء السيطرة العسكرية على الحياة البشرية.» أدت هذه المعاهدة، التي سريعًا ما صدق عليها مجلس الشيوخ الأمريكي، إلى تدمير ١٨٤٦ سلاحًا نوويًّا سوفييتيًّا و٨٤٦ سلاحًا نوويًّا أمريكيًّا في غضون ثلاث سنوات، مع سماح الطرفين بعمليات تفتيش غير مسبوقة على المواقع النووية لكليهما. وللمرة الأولى في الحقبة النووية، لم يُقَلِّص أحد أصناف الأسلحة النووية وحسب، بل قُضِيَ عليه نهائيًّا.
كانت زيارة ريجان إلى موسكو في ربيع عام ١٩٨٨ دليلًا أقوى على التحول الدائر في العلاقات السوفييتية الأمريكية، والحرب الباردة ككل. بات واضحًا أن زعيمي القوتين العظميين يعامل أحدهما الآخر كشريك حميم، لا كعدو. بل إن الرئيس الأمريكي تخلى عن تصويره السابق للدولة السوفييتية على أنها إمبراطورية الشر. فحين سأله أحد المراسلين عما إذا كان لا يزال يفكر في الاتحاد السوفييتي بهذه الصورة أجاب ريجان: «كلا، كنت أتحدث عن وقت آخر، عن حقبة أخرى.» وفي تصريحاته العامة قبيل مغادرة موسكو، طلب الرجل الذي وجه أعنف سهام النقد للدولة السوفييتية منذ بدء الحرب الباردة من جورباتشوف أن يخبر «شعب الاتحاد السوفييتي عن مشاعر الصداقة العميقة» التي يكنها هو وزوجته نانسي، والشعب الأمريكي تجاهه. وقد عبر عن «الأمل في بدء عهد جديد من التاريخ الإنساني، عهد من السلام بين الدول والأفراد». ومن المؤكد أن صور ريجان وجورباتشوف وهما يسيران متأبطي الذراعين عبر الميدان الأحمر والرئيس الأمريكي يتحدث بكاريزميته الأبوية المعهودة لطلاب جامعة موسكو الحكومية، أمام تمثال نصفي للينين نفسه؛ توضح الكثير عن التحول المذهل الذي حدث.
fig20
شكل ٨-٤: ريجان وجورباتشوف يسيران معًا عبر الميدان الأحمر بموسكو إبان زيارة ريجان في مايو ١٩٨٨ إلى موسكو.4

في ديسمبر ١٩٨٨، زار جورباتشوف الولايات المتحدة مرة أخرى لمقابلة ريجان، للمرة الأخيرة، وفي الوقت ذاته لإجراء مباحثات مع الرئيس المنتخب جورج بوش (الأب)، والتعرف عليه. تصادفت الزيارة مع خطاب مهم ألقاه الزعيم السوفييتي في الأمم المتحدة كشف فيه عن نواياه تقليل القوة المسلحة السوفييتية، بشكل أحادي الجانب، بواقع ٥٠٠ ألف جندي. تحدثت المقالة الافتتاحية لصحيفة نيويورك تايمز بحماس عن الأمر قائلة: «ربما لم يحدث منذ أن قدم وودرو ويلسون نقاطه الأربعة عشر في عام ١٩١٨ أو منذ أن أعلن فرانكلين روزفلت وونستون تشرشل عن ميثاق الأطلسي في عام ١٩٤١ أن أظهرت شخصية عالمية الرؤية التي أظهرها ميخائيل جورباتشوف بالأمس في الأمم المتحدة.»

نتج عن عرض جورباتشوف تخفيض كبير للوجود السوفييتي في أوروبا. وأشار، في سلسلة من التصريحات السرية والعلنية، إلى أن قيادة الكرملين قد تخلت عما يسمى بعقيدة بريجينيف؛ القائلة إن الاتحاد السوفييتي سيستخدم القوة، لو لزم الأمر، للحفاظ على سيطرته على كل دولة عضو بحلف وارسو. ومع تراخي القبضة السوفييتية، ابتهج مواطنو أوروبا الشرقية، وارتعد الشيوعيون المحافظون من أعضاء التنظيم الإداري للحزب الشيوعي. تبع ذلك بسرعة مذهلة عدد من الثورات الديمقراطية الشعبية أطاحت بكل الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بداية من بولندا في منتصف ١٩٨٩، حيث شكلت حركة التضامن المحظورة من الحكومة، وانتهاءً بالإطاحة العنيفة لنظام نيكولاي تشاوشيسكو في رومانيا مع نهاية العام. بيد أن أكبر الأحداث تجسيدًا لانهيار النظام القديم كان فتح جدار برلين في التاسع من نوفمبر. لقد كان هذا الحاجز الخرساني الشهير البالغ طوله ٢٩ ميلًا رمزًا ليس فقط لتقسيم العاصمة الألمانية السابقة وحسب، بل أيضًا لانقسام أوروبا ككل. ومع هدم الجدار، انتهى بالمثل انقسام أوروبا بين شرق وغرب. كتب أناتولي تشيرناييف في مذكراته قائلًا: «كان التفكيك الشامل للاشتراكية كظاهرة عالمية يسير على قدم وساق. وقد حرك رفيق عادي من ستافروبول عجلة هذه العملية.» ولسعادة إدارة بوش، التي اختارت في حكمة ألا تحتفي بانهيار دول أوروبا الشرقية الشيوعية، ترك جورباتشوف — ذلك الرفيق العادي من ستافروبول — الأمور تسير في مجراها دون تدخل.

من جوانب عدة، كان هدم جدار برلين وما تبعه من انهيار ليس فقط لحكومات أوروبا الشرقية الشيوعية وحسب، بل أيضًا للنظام الذي قام عليه حلف وارسو بالكامل؛ يعني انتهاء الحرب الباردة. لقد انتهى الصراع الأيديولوجي. ولم تعد الشيوعية أو الدولة السوفييتية تمثل خطرًا على أمن الولايات المتحدة أو حلفائها. ومن ثم، يعتبر العديد من المراقبين عام ١٩٨٩ بمنزلة نهاية الحرب الباردة. لكن حتى ذلك التاريخ ظلت نقطة أساسية دون حل؛ ألمانيا. علاوة على ذلك، كانت تلك القضية عينها بصعوبتها وأهميتها هي التي بدأت الشقاق بين السوفييت والأمريكيين عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة.

بمجرد هدم الجدار بدأ المستشار الألماني هيلموت كول في الضغط لتوحيد ألمانيا مجددًا، وهو ما وضع الكرملين في معضلة استراتيجية ليست بالهينة. كان جورباتشوف قد قرر أن أمن الاتحاد السوفييتي لم يعد يعتمد على الاحتفاظ بأنظمة تابعة موالية له في أوروبا الشرقية. إلا أن وضع ألمانيا كان مختلفًا. فألمانيا المقسمة مثلت عنصرًا جوهريًّا في السياسة الأمنية السوفييتية منذ حكم ستالين. يقول شيفرنادزه: «لقد دفعنا ثمنًا باهظًا لهذا، وإنهاؤه بجرة قلم أمر يستحيل تصوره. كانت ذكرى الحرب أقوى من المفاهيم الجديدة بشأن حدود أمننا.» لكن في النهاية، تقبل جورباتشوف في منتصف عام ١٩٩٠ حتمية إعادة توحيد ألمانيا. وقد وجد الزعيم السوفييتي، العازف عن استخدام القوة للتصدي للزخم المستحيل مقاومته، عزاءه في تأكيدات بوش بأن ألمانيا ستظل جزءًا لا يتجزأ من النظام الأمني الغربي. كان أعظم مخاوف جورباتشوف هو أن تصير ألمانيا الطليقة ذات القدرات الجديدة تهديدًا مستقبليًّا للأمن الروسي، ويجدر بنا التأكيد على أن هذا هو التخوف ذاته الذي كان يكمن خلف نهج ستالين حيال المشكلة الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة. إلا أن سجل الديمقراطية الألمانية على امتداد أربعة عقود هدأ من هذه المخاوف. وقد ساعد الإصرار الأمريكي على بقاء ألمانيا جزءًا من حلف شمال الأطلسي، وليست مستقلة عنه، المصحوب بذلك السجل من السلام والاستقرار والحكم الرشيد الديمقراطي؛ جورباتشوف على التخلص من مخاوفه.
fig21
شكل ٨-٥: هدم جدار برلين، نوفمبر ١٩٨٩.5

بحلول صيف عام ١٩٩٠، وافق السوفييت والأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون والألمان على أن تتحد الألمانيتان في دولة واحدة مستقلة ذات سيادة تظل جزءًا من حلف شمال الأطلسي. ومع استمرار القوة الألمانية كجزء من التحالف الغربي، اختفى أحد أعظم المخاوف التي أقضَّت مضاجع المسئولين الأمريكيين؛ وجود ألمانيا موحدة موالية للاتحاد السوفييتي. ومن ثم، تبدو عبارة برنت سكوكروفت، مستشار بوش للأمن القومي، الموجزة التي قال فيها: «لقد انتهت الحرب الباردة لحظة قبول السوفييت بوجود ألمانيا موحدة تحت لواء حلف شمال الأطلسي» صحيحة في جوهرها. إن عام ١٩٩٠، وليس ١٩٨٩، هو العام الذي انتهت فيه الحرب الباردة فعليًّا. ويعد تفكك الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٩١، الذي نتج عن حراك القوى التي أطلقت إصلاحات جورباتشوف لها العنان وصار من المستحيل السيطرة عليها؛ حدثًا تاريخيًّا مهمًّا في حد ذاته، لكنه جاء بعد الانتهاء الفعلي للحرب الباردة. وبحلول الوقت الذي تفكك فيه الاتحاد السوفييتي، كانت الحرب الباردة نفسها قد صارت صفحة طواها التاريخ.

هوامش

(1) © Setboun/Sipa/Rex Features.
(2) © Henry Ray Abrams/Corbis.
(3) © Bettmann/Corbis.
(4) US National Archives and Records Administration.
(5) © Raymond Depardon/Magnum Photos.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤