«كالنجانو»!

استيقظ الشياطين الأربعة مبكِّرين … كان المطر ما زال يهطل فوق المدينة الخضراء «كمبالا». وقرَّروا شراء معاطف بلاستيك للمطر … ثم اتجهوا إلى مقر شركة «ك. وراء البحار» … كانت الشركة تشغل عمارةً ضخمة … ويقف على بابها حارسان من الأوغنديين في ملابس حمراء … ووقف أمامها عدد من السيارات الفاخرة، وسيارات النقل والدراجات النارية «الموتوسيكلات». وكان واضحًا للأربعة دون أي حديث أن اقتحام هذه القلعة الحصينة هو ضرْب من المستحيل.

وقفوا بعيدًا يرقبون المبنى الشامخ تحت المطر … وفي أذهانهم عشرات الأفكار عن المهمَّة المكلَّفون بها. وخرج أحد الرجال من الشركة. كان يرتدي ملابس تُشبه إلى حدٍّ كبير ملابس الجنود، ويحمل حقيبةً صغيرة، وقفز إلى إحدى الدراجات النارية وضغط على المحرِّك، فأطلقت طرقعاتها الداوية.

ثم استدار وانطلق مسرعًا … ومرَّ بالشياطين الأربعة فقال «بو عمير»: إنه ساعي البريد.

ردَّد «أحمد» الكلمتَين بصوت مسموع: ساعي بريد.

ثم استدار إلى الشياطين وقال: ساعي بريد … هل سمعتم؟ إن هذا يعني شيئًا كثيرًا.

وهزَّ الشياطين رءوسهم بالموافقة … كان هذا يعني بالنسبة لهم شيئًا مهمًّا فعلًا، وقال «أحمد»: هيَّا بنا.

وقبل أن يتحرَّكوا برز من جانب الشركة ولد في مثل سنهم يحمل مجموعةً من التماثيل الأفريقية المصنوعة من الخشب … واتجه إليهم سريعًا وهو يبتسم فيكشف عن صفَّين من الأسنان البيضاء اللامعة، وتقدَّم منهم قائلًا: صباح الخير. مطر كالمعتاد.

ردَّ «أحمد»: هل ستظل تُمطر؟

ردَّ الولد: نعم؛ إننا في موسم الأمطار.

ثم مدَّ يده بأحد الأقنعة الأفريقية وقال: خذ قناعًا يا صديقي. إنه قناع «كوانجا»، وهو يجعلك إنسانًا محبوبًا.

ثم ابتسم الولد ومدَّ يده بسوار إلى «زبيدة» قائلًا: خذي هذا يا آنستي … إنه سوار «نسيبي» وعليه تعاويذ وأدعيات قام بها ساحر الغابة ليحميك من عيون الحاسدين.

ابتسمت «زبيدة»، ثم مدَّت يدها إلى السوار المزركش وأخذته قائلة: المهم ألَّا يكون ثمنه مرتفعًا؟

وضحك الشياطين وهم يُراقبون «زبيدة» تلبس السوار وتدفع الثمن راضية، وقال «أحمد» للولد الأوغندي: ما اسمك يا صديقي؟

ردَّ الولد: «كالنجانو» في خدمتك!

أحمد: هل تعمل هنا منذ فترة طويلة يا «كالنجانو»؟

كالنجانو: نعم، منذ أن عرفت كيف أتحدَّث … فقد ورثت هذه المهنة عن أبي الذي مات … ومن أرباحي القليلة أُنفق على أسرتي.

تردَّد «أحمد» لحظات ثم عاد ليسأل الولد: هل دخلت شركة «ك. وراء البحار» يا «كالنجانو»؟

كالنجانو: طبعًا يا صديقي؛ فأحد أقاربي يعمل هناك. وكلما طلبوا شراء شيء من الأقنعة أو التماثيل أو أدوات الزينة الأفريقية أرسل لي قريبي «بوسو» لأزوِّدهم بما يطلبون. وأنا أعرفهم فردًا فردًا تقريبًا.

أدرك الشياطين الأربعة أهمية معلومات «كالنجانو» بالنسبة لهم، ولكن «أحمد» فضَّل أن يكون حذرًا في البداية فقال ﻟ «كالنجانو»: إننا الأربعة نقوم بسياحة في المنطقة، هل يمكن أن تجد لنا مرافقًا؟

ردَّ «كالنجانو» متحمِّسًا: أستطيع أن أرافقكم أنا يا صديقي … فالسوَّاح قليلون في موسم الأمطار، وقد مضى يومان لم أبِع فيهما قطعةً واحدة.

أحمد: إننا نُقيم في فندق «انترناشونال»، وسننتظر حضورك بعد ساعة فعندنا زيارة صغيرة الآن.

قال «كالنجانو» متحمِّسًا: سأكون عندكم في الموعد يا صديقي.

واستدار الأربعة واتجهوا مسرعين إلى الفندق … سأل «عثمان»: ما هي الزيارة التي سنقوم بها الآن؟

ردَّ «أحمد» مبتسمًا: هل صدَّقت هذه الكذبة الصغيرة؟! لقد قصدت فقط أن نعقد اجتماعًا عاجلًا لنُناقش فيه خطتنا بعد أن تعرَّفنا على «كالنجانو» …

عثمان: ولكنه يبدو طيبًا، ويمكن الثقة به.

أحمد: لا بد من اختباره أولًا لمدى ثقتنا فيه … لقد وضعته الصدفة في طريقنا، ولكن يجب أن نكون على حذر.

ووصلوا إلى الفندق، وجلسوا في أحد أركان الصالة ودار بينهم حديث طويل عن «كالنجانو» والمعلومات التي يعرفها عن الشركة، وقريبه «بوسو» الذي يعمل بها … واستقرَّ رأيهم على أن يعرفوا منه أكبر قدر من المعلومات بطريق غير مباشر، دون الإشارة إلى مهمَّتهم الأصلية.

ووصل «كالنجانو» تسبقه ابتسامته الواسعة … فأدار في الصالة نظرةً مستطلعة، ثم اتجه إلى الأصدقاء الذين استقبلوه بحرارة وطلبوا له شيئًا ليشربه، ثم أخذوا يتحدَّثون معه عن المصنوعات التي يبيعها، وعن أرباحه. وكان «كالنجانو» ظريفًا، أثار ضحكاتهم بحديثه عن حياته وأسرته الصغيرة.

وبدأ «أحمد» يُوجِّه أسئلته الذكية إلى «كالنجانو».

سأله: هل الاتصال بين «كمبالا» والعالم سهل؟

كالنجانو: طبعًا … إن عندنا نظامًا ممتازًا للاتصالات، سواء بالبريد أو البرق أو التليفون.

أحمد: ولكن يبدو أن لكل شركة نظامًا خاصًّا.

كالنجانو: كيف؟

أحمد: لقد شاهدت ساعيًا للبريد يخرج من شركة «ك. وراء البحار» يحمل رسائلها لعله سيوصلها إلى مكتب البريد.

ابتسم «كالنجانو» قائلًا: إن لشركة «ك. وراء البحار» نظامًا خاصًّا فعلًا؛ فعندها عدد من سُعاة البريد يركبون الدراجات النارية لتوصيل البريد نهارًا وليلًا.

أحمد: ليلًا!

كالنجانو: نعم … فقد شاهدتهم مرارًا يخرجون في الظلام يحملون رسائل إلى مناطق متفرِّقة خارج المدينة … ليس فقط رسائل، هناك سيارات نقل أيضًا تخرج ليلًا تحمل البضائع إلى الغابة.

بدا حديث «كالنجانو» مثيرًا جدًّا للشياطين.

قال «أحمد»: ولكن لمن في الغابة يُرسلون هذه البضائع؟

كالنجانو: لا أدري. ولكن الطريق الشمالي إلى الغابة يمر بكوخ «ميجيا» … ويمكننا سؤاله.

أحمد: «ميجيا»! … من هو «ميجيا»؟

كالنجانو: إنه الأب، حارس الغابة وعرَّافها العجوز.

أحمد: هل يعرف «ميجيا» شيئًا عن بريد شركة «ك. وراء البحار»؟

كالنجانو: إنه عرَّاف الغابة، ولا بد أنه يعرف كل شيء، ولكن لا بد أن تأخذوا له بعض الهدايا.

وضع «أحمد» يده في جيبه وأخرج بعض النقود أعطاها ﻟ «كالنجانو» قائلًا: خذ هذا المبلغ واشترِ ﻟ «ميجيا» ما يُحبه، وخذ موعدًا لنا معه.

كالنجانو: بعد الغروب سأمرُّ عليكم ونذهب معًا.

وخرج «كالنجانو»، والتفت «أحمد» إلى الشياطين فقالت «زبيدة»: لقد أدرت الحديث بمهارة. المهم أن يكون «ميجيا» يعرف فعلًا ما نُريد معرفته.

بو عمير: وألا يشك «كالنجانو» في حديثنا؛ فلعله يسأل نفسه عن سر اهتمامنا ببريد شركة «ك. وراء البحار»؟

زبيدة: أعتقد أنه لم يشك في شيء.

بو عمير: لعله كان من الواجب أن نُحذِّره من أن يتحدَّث عنا، خاصةً إلى قريبه «بوسو» الذي يعمل في الشركة.

نظر «أحمد» إلى ساعته وقال: لعله لن يلتقي به الآن؛ فسوف يشغل نفسه بشراء الهدايا.

زبيدة: سيتضح كل شيء عندما نلتقي بالساحر «ميجيا».

هبط المساء الاستوائي سريعًا، واستعد الشياطين، ولكن «أحمد» قال: سأذهب مع «عثمان» فقط، وستبقيان هنا يا «بو عمير» أنت و«زبيدة»؛ فنحن لا ندري ما هي تطوُّرات الأحداث المقبلة؟

قال «بو عمير»: سنخرج أنا و«زبيدة» لمشاهدة المدينة، وقد نجد مكانًا نقضي فيه بعض الوقت.

أحمد: في جميع الظروف إذا تأخَّرنا لا تُخطر أحدًا قبل الصباح، وبعدها اتصل برجال الشرطة وقل لهم كل شيء، ثم أرسل برقيةً إلى رقم «صفر».

بو عمير: هل تتوقَّع شرًّا؟!

أحمد: من المفروض أن تتوقَّع كل شيء.

وعندما هبط الظلام خرجا ووقفا أمام الباب، ولم تمضِ إلَّا دقائق قليلة ثم ظهر «كالنجانو» تسبقه ابتسامته كالعادة. وبعد السلام قال «أحمد»: كيف سنذهب؟

كالنجانو: يمكننا ركوب الأتوبيس حتى طرف المدينة، وبعدها سوف نسير على أقدامنا.

أحمد: فلْنستقل تاكسيًا حتى لا نُضيع وقتًا.

وركبوا تاكسيًا، وتحدَّث «كالنجانو» إلى السائق، وانطلقت السيارة تحت المطر، فقطعوا الشوارع المضيئة في وسط المدينة، و«أحمد» ينظر إلى ساعته بين لحظة وأخرى محاولًا معرفة كل مسافة يقطعونها واتجاههم. ثم وصلوا إلى طرف المدينة الشمالي بعد نصف ساعة تقريبًا، ونزلوا معًا.

كان الظلام مخيِّمًا على المكان الذي نزلوا فيه، عدا ضوء أخير كان في طرف الشارع، وقال «كالنجانو»: اتبعاني.

ومشى الثلاثة محاذرين، فقطعوا منطقةً مكشوفة، ثم وصلوا إلى طرف الغابة، وبعد خطوات قليلة دخلوا في عمق الأشجار الملتفَّة، وأخذت أصوات الحشرات والحيوانات تنطلق حولهم، وأخرج «أحمد» بطاريةً صغيرة أطلق أشعتها الرفيعة أمامهم، فكشفت عن طريق مترَّب في وسط الغابة الكثيفة، ومضوا صامتين.

وكلما توغَّلوا في الغابة ارتفعت أكثر وأكثر أصوات الأسود البعيدة، وأصوات الطيور، وبين مسافة وأخرى كانوا يلتقون بأكواخ صغيرة من الطين والأغصان تُضيئها المشاعل، ويجلس حولها عدد من المواطنين في شكل حلقة … بينما كان عدد منهم يرقص على دويِّ الطبول العميق الموحش، فتتجاوب به جنَبات الغابة المظلمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤