الطبول!

قضى الشياطين الأربعة و«كالنجانو» صباح اليوم التالي يُجهِّزون السيارة الجيب وأدوات الرحلة إلى «رونزوري»، وحرص «أحمد» على أن يحملوا معهم مسدساتهم، وبعض الأدوية للإسعافات العاجلة. وفي المساء اجتمعوا حول خريطة الرحلة … كانت «كمبالا» تقع على الساحل الشمالي لبحيرة «فيكتوريا»، أكبر بحيرات أفريقيا، حيث ينبع نهر النيل. وكانت رحلتهم إلى «رونزوري» في طريقٍ يتجه إلى الشمال الغربي من البحيرات العظيمة، في طُرق تُغطيها الغابات والمستنقعات. وبعد أن وضعوا الخطوط العريضة لرحلتهم ناموا جميعًا مبكِّرين.

في فجر اليوم التالي أخذت السيارة الجيب القوية تنزلق على الأرض المبتلَّة من أثر المطر المنهمر، يقودها «أحمد» … وبعد ساعة كانوا قد خرجوا من المدينة إلى الغابات الكثيفة، واختفى ضوء النهار، وأضاء «أحمد» كشَّافات السيارة القوية، ومضى يشق طريقه ببطء تحت الأشجار الملتفَّة، وبين حين وآخر كانت تعترض طريقهم بعض الحيوانات المتوحِّشة … تنظر إليهم في دهشة … ثم تمضي في طريقها. وحتى منتصف النهار كانوا قد قطعوا مسافةً لا بأس بها، وتوقَّفوا بجوار شجرة ضخمة، ونزلوا يتناولون غداءهم. كان الجو خانقًا من أثر الرطوبة المرتفعة … وكان المطر ينفذ خلال أفرع الأشجار الكثيفة وينساب في مجارٍ صغيرة تسيل حولهم في كل مكان. وأخذت طيور الغابة تُرسل أغنياتها المرحة فخفَّفت من أثر الجو المقبض عليهم … وفجأةً صرخت «زبيدة» وقفزت إلى الأمام. ووقف الأصدقاء ينظرون إليها في دهشة … ومالت «زبيدة» إلى الأمام تحك ساقها … وسقطت حشرة ضخمة تُشبه الصرصار من فتحة البنطلون الذي كانت ترتديه.

وقال «كالنجانو» مبتسمًا: قملة الغابة. إنها غير مؤذية!

زبيدة: ولكنها قرصتني.

كالنجانو: نعم. لها قرصة موجعة، ولكن لحسن الحظ ليست سامة. إن ما يجب أن تخافي منه حقًّا هو ذبابة «تسي تسي» المرعبة.

أحمد: فعلًا … إنني أخشاها أكثر من الرصاص!

كالنجانو: إنها ليست منتشرةً هنا كثيرًا … فهي تكثر في المستنقعات الشمالية بعد «رونزوري».

بو عمير: هل المسافة الباقية في الغابة طويلة؟

كالنجانو: إذا سرنا بنفس السرعة فسنصل إلى نهاية الغابة قرب المساء، وبعدها نُغادر السيارة ونستقل قاربًا في نهر «كاتونجا» الصغير … إنه نهر سريع الجريان، يحفل بالتماسيح، ونرجو أن نقطعه بسلام.

أخرجت «زبيدة» ترمسًا وتناولوا بعض أقداح الشاي، ثم عادوا إلى السيارة، وأدار «أحمد» المحرِّك وانطلق. مضت السيارة تزحف في الطريق المتعرِّج داخل الغابة. كانوا صامتين جميعًا يُفكِّرون في هذه المغامرة الغريبة التي لم يمرُّوا بها من قبل. عندما سمعوا وسط أصوات الغابة التي اعتادوا عليها صوتًا غامضًا لطبول تدق، وسرعان ما تنبَّه «كالنجانو» وأصبح كالقط المتوحِّش … وبدت في عينَيه نظرة لامعة، وطلب من «أحمد» أن يوقف السيارة.

توقَّف الموتور، وسكنت السيارة مكانها، وخيَّم صوت ثقيل لا تقطعه سوى أصوات الطيور والحيوانات، ولكن «كالنجانو» فتح نافذة السيارة وأطل في الظلام المخيف وأخذ يستمع، واستمع معه الأصدقاء. وأخذ صوت الطبول يرتفع تدريجيًّا: بم بم، بم بم، طم، طم، طم طم طم … بم بم.

قال «كالنجانو» مسرعًا: سنُغادر السيارة. إننا نتعرَّض لهجوم!

وقفز الشياطين، وقال «كالنجانو»: تعالَوا خلفي.

وساروا خلفه، وكان الشاب الأسمر يختفي أحيانًا في ظلمة الغابة … وكذلك «عثمان»، ولكنهم كانوا يجتمعون في النهاية. ثم أشار «كالنجانو» لهم بالوقوف. وكان صوت الطبول قد ارتفع حتى أصبح يصم الآذان. وأشار «كالنجانو» إلى مجموعة من النباتات النامية فاستلقَوا خلفها، وحرَّك «كالنجانو» بعض الأغصان، وعلى الفور شاهدوا ساحةً متسعةً من الأرض المنبسطة، في وسطها دائرة من النيران المشتعلة، وفي قلب الدائرة رُمح ضخم قد ثُبِّت بالأرض، وحول الدائرة وقف أكثر من ستين رجلًا يتحرَّكون إلى الأمام والخلف على وقع الطبول المخيف، وهم يضربون الأرض بأقدامهم في وقع رتيب قوي … ويرفعون أصواتهم في غناء كالأمواج الهادرة … وفي أيديهم الرماح ترتفع وتهبط … والنصال الحديدية المصقولة تبعث ومَضات كأشعة الشمس عندما تسقط عليها أضواء النيران.

قال «كالنجانو» بصوت مرتجف: إنها رقصة الحرب.

بو عمير: ومن سيحاربون؟

كالنجانو: نحن.

بو عمير: لماذا؟!

كالنجانو: لقد كانت الطبول تحمل رسالةً إليهم. إن هناك غرباء في الغابة.

أحمد: وهل يُحاربون كل الغرباء؟

كالنجانو: لا … إن الطبول قالت إن هناك غرباء في طريقهم إلى «رونزوري»، وإنهم سيعتدون على معبد «الكاباكا» المقدَّس.

أحمد: ولكننا لا ننوي الاعتداء على أحد!

كالنجانو: إن عدوًّا لنا أرسل لهم معلومات كاذبةً عنَّا.

زبيدة: ولكن نحن لا أعداء لنا!

فكَّر «أحمد» لحظات ثم قال: يبدو أن الرسالة التي أطلقها «ميجيا» قد التقطها بعض جواسيس شركة «ك»، وأن الشركة تُريد منعنا من الوصول إلى «رونزوري».

كالنجانو: هذا معقول جدًّا.

زبيدة: وما العمل؟

كالنجانو: لن نعود إلى السيارة؛ إنهم سيعرفون طريقها بسرعة.

أحمد: ولكننا نحتاج إلى الأسلحة وبعض الأدوات الضرورية.

كالنجانو: فلْيذهب أحدكم وسنبقى للمراقبة.

عثمان: سأذهب مع «بو عمير».

وانطلق الاثنان إلى السيارة، بينما بقي «كالنجانو» و«أحمد» و«زبيدة» يراقبون المشهد المثير؛ الطبول والرماح والرقص والأصوات الوحشية التي يُطلقها الرجال وهم يرقصون حول النيران المشتعلة.

مضت نصف ساعة والرقصة المرعبة مستمرة. وعاد «عثمان» و«بو عمير» يحملان الأسلحة وبعض الأطعمة والملابس، فوزَّعاها سريعًا، وقال «كالنجانو»: سنسير في خطٍّ متعرِّج ونعود إلى «كامبالا».

قال «أحمد»: ما رأيك أن نُدير محرِّك السيارة ونطلقها وحدها. إن هذا سوف يلفت أنظارهم، ويمنحنا بعض الوقت للهرب.

كالنجانو: إنها فكرة مدهشة يا صديقي!

أحمد: ولكننا لن نعود إلى «كمبالا» يا «كالنجانو» … سوف نستمر في طريقنا إلى «رونزوري». لقد قمنا من أجل هدف معيَّن … ولا بد من تحقيق الهدف.

فكَّر «كالنجانو» لحظات فقال «أحمد»: إن معنا الخريطة ونستطيع السير بها، وأنت في إمكانك أن تعود فلسنا نُحب أن نُعرِّضك للخطر معنا.

قال «كالنجانو»: كيف تُفكِّر بهذه الطريقة يا صديقي؟ إنني لا أخشى الخطر على نفسي، إنني أخشاه عليكم.

ابتسم «أحمد» ومدَّ يده وصافح الفتى الأوغندي الشجاع، وأسرع إلى السيارة وأدار المحرِّك، ثم أطلقها تجري في طريق الغابة … وأسرعوا يشقُّون طريقهم في اتجاه الشمال الغربي كما أشار «كالنجانو» … وخلفهم كانت الطبول تُدوِّي، تملأ الغابة بالخوف والرعب.

ظلُّوا يجرون في الغابة حتى أحسُّوا بالتعب، وكانت أصوات الطبول قد ابتعدت، وعاد السكون يسود الغابة، ونظر «أحمد» إلى ساعته؛ كانت قد تجاوزت الخامسة مساءً، وزحف ظلام كثيف على الغابة … وبدأت الفراشات المضيئة تظهر كالنجوم الصغيرة وهي تطير حولهم.

قال «كالنجانو»: لن نستطيع بلوغ النهر اليوم، ومن الأفضل أن نقضي الليلة هنا فوق أشجار الماهوجني.

واختاروا مكانًا جافًّا تحت شجرة ضخمة، وتمدَّدوا جميعًا على الأرض؛ فقد كانت أقدامهم تضج بالتعب وأجسادهم منهكةً من الرحلة الصعبة، واستسلموا للنوم سريعًا … ومضت فترة من الوقت قبل أن يستيقظ الجميع على طلقٍ ناري، دوَّى في سكون الغابة … وقفزوا على أقدامهم وشاهدوا «عثمان» يقف كالشبح في الظلام … وأصوات عويل قريبة … ثم سكن الصوت وقال «عثمان»: لقد كان أحد الفهود. استيقظتُ على أنفاسه الحارة تلفح وجهي. ولحسن الحظ أنني أصبته من أول رصاصة وإلَّا فتك بي.

قالت «زبيدة»: هل كان هذا العويل صوته؟

عثمان: نعم … إنه يلفظ الروح الآن.

كالنجانو: إنني آسف … كان يجب ألَّا أترككم تنامون في هذا المكان؛ فالغابة تعج بالحيوانات المتوحشة، والثعابين السامة. يجب أن نُشعل نارًا.

أحمد: لقد ارتحنا مدةً كافية، وسنقوم بعمل نوبات حراسة.

وأشعل الشياطين الأربعة بطارياتهم، ثم أخذوا يبحثون عن أغصانٍ جافَّة حتى جمعوا كومةً أشعلوا فيها النيران، وجلسوا حولها يتحدَّثون.

قال «أحمد»: هل تعرف إلى أي قبيلة ينتسب هؤلاء الراقصون الذين شاهدناهم يستعدون لمطاردتنا؟

كالنجانو: نعم … إنهم من «التشوكو» … وهم فرع من قبيلة «الأيبو» الكبيرة المنتشرة في أفريقيا كلها. وقد كانوا يعملون قديمًا في تجارة الرقيق، وهم اليوم يقومون بعمل المرتزقة ويتعاملون مع شركة «ك».

وكانت «زبيدة» منهمكةً في إعداد بعض الأطعمة للعشاء، ثم انضمَّت إليهم وقالت: إنني لا أريد أن أُثير فزعكم، ولكنني أُحسُّ أن هؤلاء «التشوكو» قريبون منا. إنهم يحيطون بنا. قلبي يُحدِّثني بهذا.

صمت الشياطين الثلاثة، وقال «كالنجانو»: ليس هذا بمستبعد. إنهم يسيرون بسرعة الريح … ويشمُّون رائحة الفريسة على بُعد كبير، ويتحرَّكون في خفة الفهود والنمور.

ونظر الجميع إلى «أحمد» الذي بدا هادئًا تمامًا ثم قال: في هذه الحالة فإنني أرى أن نتحرَّك بدلًا من بقائنا جالسين فريسةً سهلةً لهم. سنتحرَّك في خطٍّ مستقيم؛ «كالنجانو» في البداية، ثم «بو عمير»، ثم «زبيدة»، ثم «عثمان» … وأنا في النهاية … حتى إذا سقط أحدنا نجا الآخرون.

وتناولوا عشاءهم على عَجَل، ثم بدءوا يُطفئون النار وفجأةً صرخ «كالنجانو» متأوِّهًا وهو يُمسك بذراعه … وعلى ضوء النيران الخافتة بدا سهم مغروس في كتف الشاب الأسمر، وفي نفس اللحظة أطلق «أحمد» مسدسه، وسمع صرخة ألم عميق، ثم ساد السكون.

أسرعت «زبيدة» تنزع السهم برفق من ذراع «كالنجانو»، وأخرجت من الحقيبة التي تحملها على ظهرها ضمادات، بينما وقف «أحمد» و«بو عمير» و«عثمان» في شكل قوس وهم يُوجِّهون مسدساتهم إلى جوف الغابة المظلم … وقد أحسُّوا بنذير الخطر.

وقال «كالنجانو»: لنتحرَّك سريعًا.

ومضَوا بعد أن أكملت «زبيدة» تضميد جراح «كالنجانو» … ولحسن الحظ كانت الإصابة خفيفة … وكان «أحمد» يسير في نهاية الصف … وبين فترة وأخرى كان ينظر خلفه … وسمع صوتًا فوق رأسه … ثم سقوط شيء من فوق … ثم أحسَّ بذراعَين قويتَين تُحيطان به وتجذبانه بعيدًا عن بقية الزملاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤