الفصل الأول

لو شاء شاعرنا؛ وهو ابن البحبوحة واليسار، ووارث المجد التليد، وصاحب العقل الراجح، والذكاء النادر، وطلب المناصب والوظائف، لطال أعلاها ونال أسماها. ولكنه جاء خير خليفة لأبيه «دافند راناث» الذي قضى الشطر الثاني من عمره معتزلًا دنياه، خاليًا إلى نفسه، قانعًا مما أوتيه من بسطة الجاه وسعة العيش، بشجرتين أختين، في برية موحشة، كان يفيء إلى ظلهما، ولا دأب له إلا التأمل والتفكير بحثًا عن «الحقيقة».

بيد أنه على خلوه من المطامع الدنيويَّة، والمآرب النفسانية، لم ينهج منهج النسَّاك المتقشفين الذين ينقطعون عن العالم ويضربون بينهم وبين الناس حجابًا صفيقًا، بل ذهب إلى أن لقاء «الحق» في كل مكان «أقرب إلى التقوى» وأن الحسنة يأتيها، والمعروف يأمر به، أدل على الورع من معاناة الوحدة وشظف العيش.

ثم إنه شغفته الطبيعة حبًّا، فهو يرى إلى الله إذ ينظر إلى محاسنها وبدائعها. وقد علمتُ من ذويه أنه قد يدخل الحديقة فيذهل عن نفسه، ويلبث الساعات الطوال يناجيها ويغازلها. وقد رأيتُه شيد معهده العلمي بين أشجار غرسها، وزهور زرعها.

وحبذا ذكر ما تقدم من أمره عند قراءة هذه النبذة الأولى التي جعلها عنوان الكتاب وديباجته:

الخادم : رحمةً بعبدِك!١
الملكة : لقد ارفضَّ المجلسُ، وانفرط عِقدُ الأعضاء. فعلامَ لَمْ تحث خطاك إلى مُناك، يا هذا؟
الخادم : إنما توانيت حزمًا لا عجزًا، وتدبيرًا تأخرتُ لا تقصيرًا. فإذا علَّ الشاربون ونهلوا، وسكروا وثملوا وعافت النفس سؤرًا في الكأس، فذلك السؤر هو رحيقي وسلسبيلي، وبتلك الثُّمالة شفاءُ عِلَّتي وارتواء غليلي.
أجلْ مولاتي، هذه ساعتي وهأنذا.
الملكة : وماذا عسى أن يكون مطمح أبصارك من هذا القصر؟
الخادم : إنني لأقنع بالبقيَة الباقية، وكعبة أمالي، وجنة أمانيَّ أن ترفعيني بأن تخفضيني، فتولِّيني الحديقة لا غيرها.
الملكة : يا لحمقك يا هذا؟
الخادم : رويدَكِ يا ربَّة التاج: إنني خالعٌ بين يديكِ مقاليد المناصب الخطيرة التي طوَّقتِ بها عنقي، وأثقلتِ كاهلي؛ فأما سيوفي فأسدُّ بها خلل الجدران المتداعية، وأما رماحي فأغرسها في السَّماد. ولا يكن من عطفِك عليَّ بعد اليوم أن تنتدبيني لإقامة موازين العدل في المحاكم القاصية، ولا أن تكلفيني شنَّ الإغارة، وفتح البلاد، وتدويخ القبائل العاصية، بل هبي لي أن أكون بستانيَّ٢ الحديقة؛ وحسبي.
الملكة : وكيف تخدمنا كبستاني؟
الخادم : إذا خَلَت يداكِ من الصولجان، كنتُ بينهما أَطوع من بنان، فإذا لاح الفجر، أو بدت طلائعه، وباكرتِ أختَكِ مليكةَ النهار، إلى حديقة الأزهار، كان مسحب أذيالك الأُرجوانيَّة بين أعشابٍ نديَّة، تتصوَّب وتتصعَّد تأهيلًا بك وترحيبًا، وتتثَنَّى وتتمايل حولَيك جَيْئةً وذهوبًا، وتنشر أريجها ثناءً عليكِ، وتترامى على مواطئ قدمَيكِ، متفانيةً تفتديكِ، توَّاقةً إلى الموت بين عينيك.
وإذا ملَّ جَنْباكِ الأَريكةَ الوثيرة، ونَبَتْ لحاظُك عن زبرجدِها الموَّاج، وعسجدها الوهَّاج، فجئتِ واستلقيتِ في الحديقة إذن، فواجباتي كبستانيٍّ ذي حظوةٍ في عين ربَّة القصر، أن أُناسق بين أنينِ الأرجوحة٣ وحفيفِ الأوراق، وبين مَيْداتِها وميساتِ الأغصان، رحمةً بالبدر الهائم في عرض السماء يناضل الظلمةَ والغيومَ ليبعثَ إليكِ من خلال الأفنان بقُبلات التجلَّة والوقار، وما تلك إلَّا ما يرتسم من بياض سناه على أهداب بُردِك الأنيق.

ويكون من وظيفتي أيضًا أن أُفعم بالزَّيت المطيَّبِ المعطَّرِ ذلك السراج٤ المحسود الذي يحرس سريرَك ويسهر عليك؛ وأن أُزخرف مسندَ رجلَيْكِ بالصَّندل والزعفران متفنِّنًا مُبدعًا ما شاءَ التفَنُّن والإِبداع.
الملكة : وجزاؤكَ على ذلك؟
الخادم : وجزائي أن تسمحي ليديَّ هاتين بضمِّ أناملك النَّواضر كالنيلوفر٥ لأطوِّق معصمَيْكِ بسلاسل الزهر؛ وأن أخضِب قدمَيْكِ بدم العَشَقة.٦
الملكة : حاجةٌ مقضيَّة.

تنبيه

عساني وفِّقتُ في التعريب إلى تخيُّر المأنوس المألوف من الألفاظ دون غريبها ووحشيِّها. ولذلك فقد اكتفيت في الشرح بالإشارة إلى المراد من اللفظة في مكان أخاله مظنَّة للالتباس، أو بالإلماع إلى العادة أو الحالة من عادات الهند وأحوالها، وما إلى ذلك، مما لم يمر به المطالع العربي، وأخاله داخلًا في باب «العلم بالشيء ولا الجهل به».

هوامش

(١) انظر الجزء الأخير من شرح (٤).
(٢) البستاني نسبة إلى البستان، وهذه اللفظة فارسية الأصل آتية من «بو» للرائحة و«ستان» للمكان. ولعل «ستان» — وعلى الأقل «تان» — مردودة إلى السنسكريتية قياسًا على «شانتي نيكوتان» التي يقال في تعريبها «دار السلام» وحرفيتها مكانه. وإن صح ذلك فاسم هذا الكتاب المعرب يمت إلى أصله الهندي بنسب. وإلا فهو على كل حال سمي المعرب. وهو اتفاق غريب.
ومما يجدر بنا ذكره في هذا المقام، أن استعارة العرب لهذه اللفظة من اللغة الفارسية دلالة صادقة على أنهم في جاهليتهم وأول أمرهم لم يكونوا يعرفون الحدائق ليصفوها، ولم يطرقوا هذا الباب إلا بعد عصر الفتوح إذ عشق شعراؤهم الزهر والخمر فيما أصابوه من أسباب الترف، فنفحونا بزهريَّاتهم وخمريَّاتهم المعهودة. أما الأمة الهندية فإنها نشأت وترعرعت في الغاب والغياض لا في البوادي والقفار، فكانت من أول عهدها إلى يومها هذا تعرف للشجر والنبات قيمًا ومزايا جمة، ومن ثم عشق الهنود للطبيعة، ومن ثمة أيضًا تعويلهم على النبات قوتًا ومأكلًا دون الحيوان. ولا غرو إذن أن يتخذوا الحدائق ويعنوا بأمرها. بل حسب الشجر مكانة من قلوبهم أن قدسوا بعضه فعبدوه، وتبركوا بورقه، وتضرعوا لأغصانه.
«والبستاني» عندهم رجل يتقن هذه الصناعة، أو المهنة، سمِّها ما شئت، ويرتزق بها ويتعيش. وهو ساذج أمي لا يكاد يعرف من دنياه إلا مضخة للري ومعولًا للحرث، ومقراضًا للتهذيب، ويُعد في الدنيا من طبقاتهم. فهو إذن غاية في الدعة والتواضع، ومضرب المثل في الرضى والقناعة. إذا مررت به بادرك بالسلام طلق المحيا، وإذا رقابته وجدته كثير العمل قليل الكلام. ثم إنه على حقارة شأنه بين الناس، لا يعدم دالة على أرباب الحديقة، تخوله من حبهم فيه، ورضاهم عنه، سعادة وهناءً قلما يفوز بهما من سواه. فإنه يدخل على سيده وسيدته في الصباح والمساء ومتى شاء، بشفاعة الزهر التي لا ترد، أو بحجة واجبة من الواجبات التي أشار إليها شاعرنا في هذه القطعة.
(٣) الرجاحة بفتح الجيم وتشديدها معًا وبالأول فقط أو الأرجوحة «حبل يُعلَّق وتركبه الصبيان» كذلك في اللغة، وهي معروفة. على أن أهل الهند، كبارهم كصغارهم، يتخذون الأراجيح في المنازل والحدائق، ويجعلون لها شبه صندوق بشكل كرسيين متقابلين يسع الشخص أو الشخصين على السواء. وذلك أن إقليم البلاد من الحرارة على شدة معلومة، ولا يخفى أن الأرجوحة بميداتها كالمروحة بخطراتها مجلبة للهواء.
(٤) نحن اليوم من التمدن — والحمد لله — بحيث نحتاج إلى «معجم لغوي» نطلب فيه لفظة «السراج» لنعلم «أنه إناء من الخزف تلقى فيه الفتيلة في الزيت ويلهب طرفها البارز ليستضاء به» أو إلى «مجمع لغوي» يكون له من السلطان والسيطرة على العربية، ما يبتر به لسان من يقول «اللمبة» ويريد هذا الإناء.
وكان الفينيقيون في زمانهم يصنعون السرج من الزجاج الملون، ويصنعها الهنود منه ومن أي المعادن الصالحة وهي في هياكلهم بمثابة الشموع في كنائس بعض النصارى.
وقد يتبادر إلى الذهن أن الهند في عصر الشاعر، وهو القرن العشرون لا تعرف الكهرباء وأنوارها، أو أن نور الزيت لا يليق بقصور الملوك، فنقول: إن حواضر الهند وكبرى مدائنها منارة بالكهرباء وهي — ولا سيما الأحياء الجديدة منها — على أحدث طراز وغاية ما يكون من النظام والنظافة. ثم إن شاعرنا — على ما يلوح لي — كنى بالملكة عن الأمة، وبالخادم عن شخصه. والهند اليوم كأمة لا تزال معولة على السراج مبعثًا للنور. وكأنه يريد أن يكون مصداقًا لقول اليازجي في رثاء «البستاني» («بطرس» صاحب محيط المحيط ودائرة المعارف … إلخ).
خدم البلاد وليس أشرف عنده
من أن يسمى خادمًا لبلاده
وما هذه القصائد، التي شرَّف بها الحب، ودعا إلى الفضيلة، إلا أكاليل أزهار ضفرها وجعلها تاج فخر لأمته وآدابها.
(٥) النيلوفر: ضرب من الرياحين ينبت في المياه الراكدة، له أصل كالجزر وساق أملس، يطول بحسب عمق الماء، فإذا ساوى سطحه أورق وأزهر وإذا بلغ يسقط عن رأسه ثمر داخله بزر أسود. وهي كلمة أعجمية قيل مركبة من «نيل» وهو الذي يصبغ به و«فر» وهو اسم الجناح، فكأنما قيل مجنح بنيل؛ لأن الورقة مصبوغة الجناح (عن محيط المحيط).
وهو أنواع وألوان في بلاد الهند، وذكره كثير جدًّا في الشعر السنسكريتي القديم، وأشعار اللغات الهندية الحية. وبزهره تشبَّه العيون، فهو كالنرجس عند الفرس والعرب، من هذا القبيل. وبورقه تشبَّه غضارة الأطراف ونضارتها لخضله وكثرة مائه. فيقولون: نيلوفري اليد والقدم. وقد ورد في شعر العرب، وصحفوه، فقالوا: النَّوفر والنوفر بتشديد النون مع فتحها أو ضمها.
(٦) العَشَقَة شجرة تخضرُّ ثم تدق وتصفر، كذلك في القاموس. واللفظة في الأصل «أشوقه» ولست على ثقة من أن الاسمين العربي والهندي للشجرة عينها وقد يكون ذلك. وقد رأيت الشجرة الهندية بينا هي مخضرة الورق، إذا بها محمرة الزهر، ثم لا تلبث أن يصفرَّ ورقها وزهرها جميعًا. وكأنني أذكر أن عثرت مرة على خبر «العشقة» في أحد كتب العرب، في سياق كلام عن العشق، وقرأت أنها شجرة هندية، وعلى كل حال فالعشق في زعم بعضهم مشتقٌّ من العشقة، لأنه مرض أعراضه تدفق ماء في الوجه، وهو ما يقابل جري الماء في عود الشجرة واخضرارها، ثم نحولٌ يقابلها دقها، وسقم يضارعه اصفرارها. والمراد بدم العشقة عصارة زهرها، ولونها حمرة ضاربة إلى صفرة وأشبه شيء بالحناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤